الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نجيب الريحاني.. الكوميديا الذكية

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2018 / 11 / 11
الادب والفن


وإذا نعتنا لوناً كوميدياً بالذكاء فلابد أن هناك لون غبي؛ هو ما سنطلق عليه "المساخر" (من السُخْرَة: أي الهُزْء)، والتي نجحت للأسف في تكريس فكرة سلبية عن فن الكوميديا في الوطن العربي. وسيعد من قبيل إضاعة الوقت ضرب أمثلة لها، فهي منتشرة طولاً وعرضاً وعمقاً في السينما والمسرح والتليفزيون.
وقبل أن نشرع في تفصيل الفروق الكبيرة بين كلا النوعين من الكوميديا، سنشير عرضاً إلى رأينا بأن تيار الكوميديا الذكية لم يكن في وقت من الأوقات هو التيار السائد في مصر والوطن العربي. فبالرغم من أنه يقوى أحياناً، بفضل محاولات فردية جادة، كمحاولات نجيب الريحاني مع بديع خيري، ونعمان عاشور، ويوسف إدريس، وسعد الدين وهبة، وألفريد فرج، وعلي سالم، ونهاد قلعي مع دريد لحام، ولينين الرملي، وآخرون، لكنه يظل هو الاستثناء اللطيف الذي يأتي رثاءً لحال القاعدة الخربة.

"الخبرة" هي التاريخ الطبيعي لكوميديا الريحاني
والخبرة في تعريفها البسيط هي المعرفة المفيدة. وكل معرفة قائمة على التجربة. ووعي الفنان يتشكل بتأمل تجربته المعاشة، محاولاً فهم نفسه، وفهم العالم من حوله، ثم يسعى بدوره إلى التعبير عن هذا الإدراك "الموضوعي" في شكل فني. إن الخبرة هي البنية التحتية لكل فن كبير. وما قبل العمل الفني (أي الخبرة) هو ما يكشف الفنان الأصيل من المدعي، والفن الكبير من الصغير. وما يجعل المساخر شكلاً متدهوراً من الكوميديا هو استحالة حصاد أي خبرة منها. في المسخرة تنفصل الفكاهة عن التجربة، فنضحك على الافتعال والفبركة والتشويه والابتذال والفظاظة والتهافت والتهاوي.
ولاشك عندنا في أن تجربة الريحاني في الحياة هي التاريخ الطبيعي الذي ترجع إليه أعماله، مضافاً إليها درجة تطوره في الحرفية والأسلوب. فالريحاني يستخدم تجربته في الحياة كصنارة لاصطياد عنصر "التصديق" اللازم لإتمام اللعبة الفنية على نحو ناجح. فلا تفاعل مع الدراما إلا بالتصديق. والتصديق لا يتأسس على الصحيح والخاطئ، ولا على الخير والشر، ولكن على "حقيقية" التجربة الإنسانية.
ينطوي الأمر إذن على قران بين الفكاهة وتجارب الحياة المعاشة، على نحو لا يأتي معه العمل الفني تعبيراً عن تجربة واقعية صرفة، ولا خيال صرف، وإنما عملية تخييل للتجربة. وجمال العمل الفني هو في الذهاب والعودة بين هذين الحدين؛ الواقعي والخيالي.
وتبدو لنا كوميديا الريحاني عموماً وكأنها إعادة قراءة لتجربته في الحياة من خلال إعادة كتابتها. وما اختياره لحبكة ما من الهزليات الفرنسية مثلاً، لإعادة كتابتها وتقديمها في صورة ممصرة، إلا محاولة لترتيب مخزون خبرته ومادة خياله في تتابع سردي منظم. ولذلك تختلف أعماله عن أصولها الفرنسية على نحو تام وقاطع.
إننا نلمس خبرة الريحاني مجسدة في كل أعماله منذ البدايات المبكرة. إن شخصية كشكش بك العمدة الريفي الذي يفد إلى القاهرة ومعه الكثير من المال، فتلتف حوله الحسان والآفاقين ويضيعون ماله ويتركونه "على الحديدة"، ليعود إلى قريته وهو يعض بنان الندم، إن هذه الحبكة هي نفسها صدى لأحداث فعلية وقعت للريحاني نفسه. يذكر الريحاني في مذكراته أنه بعد أن فقد الأمل في أن يصبح ممثلاً تراجيدياً، واستقر به الحال في مدينة نجع حمادي كموظف في شركة السكر، استطاع أن يقتصد طوال عدة سنوات مبلغ مائتا جنيه ذهبي مصري، وعندها قرر الحصول على أجازة من عمله ليقضيها في القاهرة ويرى ما وصل إليه زملاؤه في فن المسرح. ويذكر الريحاني أنه قد "توسع في الإنفاق هنا وهناك"، حتى انتهت أجازة الشهرين وقد أتت على آخر قرش في جيبه، مما اضطره إلى اقتراض أجرة القطار للعودة إلى نجع حمادى في الدرجة الثالثة. وبعد ذلك بسنوات، يعود للقاهرة مرة أخرى، بعد أن رفت من الخدمة بالشركة، فيصرف كل ما قد ادخره من جديد (سبعون جنيهاً) في أسبوعين فقط، حتى أن فرقة جورج أبيض تستلف منه آخر ما تبقى معه من جنيهات لدفع رواتب ممثليها، ثم تسوف وتتهرب من رد المبلغ إليه، وتعامله معاملة الشحاذين. إن اسم كشكش نفسه هو الاسم الذي كانت تنادي به الريحاني صديقته لوسي، على سبيل التدليل، قبل ابتكار الريحاني للشخصية.
إن تاريخ الريحاني هو تقريباً تاريخ شخصياته: تاريخ موجز للغدر والجحود. وحبكة أعماله تسير دائماً في قوس مبتدئة من النحس والظلم، إلى السعادة وتحقق الأمل. إنه نموذج مبسط للخروج والقيامة؛ انتصر الشر بصلب المسيح لكن الأمل في قيامه. إنها تلك اليوتوبيا التاريخية البسيطة التي تربط الناس معاً في المجتمع.
وربما يكون سبب قفل أعماله بنهاية سعيدة على تحقق الأمل والسعادة، وليس بالعودة الدائرية كي يغلق القوس مجدداً على الغدر والتعاسة، هو لإدراك الريحاني بغريزته الفنية للفرق الكبير بين الكوميديا والتراجيديا.

النهايات
تأتي النهايات في الكوميديا سعيدة مرحة فرحة، على عكس التراجيديا. فأساس فن الكوميديا هو التأكيد على قدرة الإنسان على تخطي الصعاب، وبقاء الأمل في التصالح مع الحياة. أما إذا جنحت الكوميديا لتقديم الإنسان في النهاية بوصفه عاجزاً أمام القدر، أو بوصفه ليس سيداً للعالم بل سجينه، فإنها تكون قد ضحت بالأثر المضحك لصالح المعنى التراجيدي الأعمق. ومن هذا القبيل النهاية الاستثنائية لفيلم (غزل البنات، 1949).
لكن القاعدة العامة في أعمال الريحاني أن تأتي النهايات على نحو تتواطئ فيه الطبيعة مع الإنسان الصالح ذي الحظ التعس. فالرسالة التي تحملها أعماله هي أن جهد الرجل الصالح لن يضيع هباءً، وأن التربية الحسنة والأفعال النبيلة والصبر والمثابرة تقود في النهاية إلى النجاح المادي والعاطفي. قد يأتي ذلك عن طريق مكافأة تهبط من السماء بورقة ياناصيب (فيلم أبو حلموس، 1947)، أو من ثري يقدر النبل في زمن شحيح الأخلاق (فيلم لعبة الست، 1946)، أو بالاقتران بامرأة ثرية وقعت في هوى الفقير الصالح: (فيلم ياقوت، 1934)، (فيلم سي عمر، 1941)، (مسرحية الجنيه المصري، 1931- وقدمها فؤاد المهندس بعنوان: السكرتير الفني)، (مسرحية الدلوعة، 1939)، (مسرحية إلا خمسة، 1943). والمصاهرة عند الريحاني ليست مدانة كفعل وصولي للترقي الاجتماعي، كما نجدها عند نجيب محفوظ في فترته الواقعية مثلاً، حين يصورها كفعل انتهازي يسعى من خلاله ابن الطبقة الوسطى للصعود إلى طبقة أعلى ويودي به في النهاية إلى الفجيعة؛ مثل محفوظ عبد الدائم في (القاهرة الجديدة، 1945)، أو حسنين في (بداية ونهاية، 1949)، أو رضوان في (السكرية، 1957). بل على العكس، يأتي الترقي عن طريق المصاهرة في كوميديات الريحاني كمكافأة من السماء للرجل الصالح على حسن السير والسلوك.
فإذا كان منطق الواقع، المستقى من خلاصة الخبرة والتجربة، يسود أعمال الريحاني، فإن منطق الأحلام هو الذي يسود نهاياتها. إن ضربات القدر، وظلم البنى الاجتماعية، يستطيع الإنسان أن يتغلب عليهما في النهاية. يصبح اللاممكن ممكناً، وتتاح للأماني التحقق، وُتحل صراعات الواقع على نحو ناجح وفرح. باختصار؛ يحل منطق الليل محل منطق النهار، وتنتصر في النهاية الطوباوية-الحُلمية قيم الحق والخير والجمال. لكنها طوباوية ضمن نفس شروط العالم القائم، وضمن نفس نمط علاقاته (السيد/العبد).
لكن حفاظ الريحاني في أعماله على شروط الوضع القائم لا ينفي وجود رؤية متماسكة ومنسجمة نراها تتكرر باستمرار تعكس وعيه بحالة التفاوت الطبقي والظلم المجتمعي. إن اليوتوبيا التي يختتم بها أعماله هي انتصار لما يُعرف بنموذج "أخلاقيات الفروسية" أو "الأخلاقيات البدائية" على نموذج "أخلاقيات رأس المال". إن أخلاقيات "كل شيء يُباع ويُشترى" مدانة دائماً في أعماله، ومن الأمثلة البارزة على ذلك المونولوج العاطفي لحسن أبو طبق مع زوجته لعبة في (لعبة الست)، قبل أن يقوم بتطليقها مباشرة.
إن الغاية الأخلاقية في أعمال الريحاني لا تقتصر على مكافأة السماء للرجال الصالحين المثابرين، بل هي، ككل كوميديا كبيرة، تكمن في محاولة جعل حمولة الأحزان محتملة. إنها هدنة من تجربة الرعب والفوضى. فمأساة الحياة يمكن تحملها لو ألبسناها رداءً كوميدياً، عوضاً عن الاستسلام للقنوط والعزلة والجنون. وبهذا تكتسب الكوميديا عظمتها من كونها تقدم إسهامها للبشرية في زعزعة كابوسية الوجود، وتمنحنا فرصة الحفاظ على اشتعال جذوة القدرة الإنسانية على الفعل والسعي؛ تماماً كبطل الريحاني المثابر الذي لا يكف عن السعي.

البطل
البطل عند الريحاني هو الرجل الصالح الذي هو تجسيد للطيبة والحكمة البدائية. وبالرغم من أن بطله منحوس تعس يحيا كورقة جافة في مهب الريح، إلا أنه صابر على المحن. وهو نفسه أول المؤمنين بعثار حظه وابتلاء قدره، ولذلك يعفي نفسه من تعليل أسباب سوء حظه، ويكتفي بسرد وقائع سوء الحظ متسلسلة، وكأنها التجسيد على تصميم القدر على معاندته (مونولوج الأستاذ حمام مع سكرتير الباشا في "غزل البنات"). وربما لم يستطع فنان عربي أن يجسد معاني سوء الحظ والتعاسة بأقوى مما فعل الريحاني في هذا المونولوج القصير. إن القوة هنا تنبع من هذا التسلسل الزمني الدقيق والشامل الذي يظهر فيه عثار الحظ بنفس انتظام دقات الساعة. وبهذا المونولوج القصير يستوعب الريحاني مسيرة حياة الشخصية (وحياته الخاصة) كاملة.
فصورة البطل في أعمال الريحاني تصطبغ بصورته هو نفسه، ولا يمكن تأمل أعماله بشكل منفصل عن تاريخ حياته. هناك حضور كبير للمؤلف في شخصية البطل. إن الشخصية هي التي تتكلم، لكن السيرة الذاتية للريحاني نفسها هي التي تكون حاضرة. ويمكن اعتبار ذلك إحدى سمات "الازدواجية" التي نلاحظها في أعماله باستمرار، والتي اعتمد عليها كأهم أسلحة توليد الكوميديا، ورسم الشخصيات.
من ملامح تلك الازدواجية قدرته المدهشة على أن يشعرنا بأنه ممثل ومتفرج في نفس الوقت؛ وكأنه مؤلف قد انخرط في لعبته ذاتها. أو كأنه يحاكي ذاته محاكاة ساخرة. أنا وآخر في نفس الوقت. المشهد والحياة. إن تقنية السرد هنا تتأسس على الإمكانية المزدوجة للسرد بكلا الضميرين: الغائب (هو)، والمتكلم (أنا). وفي كل الأحوال فإن موقف البطل ليس موقف الناصح بقدر ما هو موقف من يعلق على الحياة؛ ليس موقف القائد، ولكن المحارب الأخير البائس الذي ُترك وحيداً بعد المعركة.
ورغم أن بطل الريحاني يتلقى ضربات القدر الواحدة إثر الأخرى، إلا أنه لا يكف عن السعي والمحاولة؛ فهو قوي الإرادة، لا يغرق في الهزيمة ولا في الظروف المعادية. صحيح أنه قد يخضع لسلطة ذوي المصالح والانتهازيين واللصوص، لأنه ذكي ومدرك لهيكلية الشر، وقوى الاستغلال المبنية على نموذج "السيد-العبد"؛ ومدرك أنها أقوى من أي جهد فردي لتغييرها، إلا أنه مع ذلك يظل واعياً بهذه الانتهازية، وينبذها في أول فرصة عندما تتغير الظروف، ليعود إلى طبيعته بوصفه الرجل الصالح. وهذا ملمح آخر من ملامح ازدواجيته.
إن البطل الصالح عند الريحاني يحتوي على رجلين لا رجلاً واحداً. هناك المتشائم الذي خبر الحياة وعرفها ويُصرح بوجهة نظره عنها. وهناك الرجل الواقعي الذي يغلق فمه ويتراجع في اللحظة المناسبة. ويتمثل الذكاء في رسم هذه الازدواجية في الآتي: إن سيادة الجانب الأول سيؤدي إما إلى التصادم مع المجتمع، أو العزوف عن الحياة. وسيادة الجانب الثاني سيؤدي إلى الخنوع والمذلة. ولن يحملنا أياً منهما على الضحك (بل سيُنتج تراجيديا). لكننا نضحك من حركة التردد البندولي للبطل بين كلا الجانبين ونحن ندرك أن كلاهما متعايشان فيه جنباً إلى جنب في شكل سلمي خال من الصراع.
ليس النبل هو ما يضحكنا في شخصية البطل، بل الشكل الخاص الذي يتخذه النبل عنده؛ أي هذه الازدواجية التي نلمسها. إنه على وفاق مع الأخلاق، وفي نفس الوقت على وفاق مع المجتمع الذي قد يفرض عليه عكس الأخلاق. ويتم ذلك بمنتهى البراءة والطبيعية. إن مصدر الضحك هنا هو هذا الاندماج العجيب بين كلا الجانبين (المثالي والواقعي)، والذي هو مألوف لنا جميعاً في حياتنا اليومية.
ورغم هذا الملمح لازدواجية البطل –والتي تحيا فيه المتناقضات سلمياً جنباً إلى جنب-، إلا أنه لا يرتدي أبداً أقنعة. ولذلك فهو هادئ رقيق وديع كالأطفال، لا يحمل قلبه حقداً ولا ضغينة، ولا يشعر بازدراء لنفسه ولا يكرهها. حتى أن نظرته التشاؤمية للحياة لا تصل إلى درجة وصمها بالعبث والعدمية، لأن هناك دائماً أمل في انتصار الخير. ولذلك لن نصادف حالات مرضية للروح؛ كالجنون، أو الفصام، ولا حتى الكوابيس.
إن بطل الريحاني شخص يلتقي فيه الإنسان العادي بنفسه. إننا نضحك معه لأنه يعرض لنا شخصاً يشبهنا. قال باسكال مرة: "وجهان متشابهان لا يُضحك أي منهما بمفرده، ولكنهما يُضحكان وهما متجاوران بسبب تشابههما." إن مشاهدتنا لتكرار تجربتنا الشخصية في الحياة، هذا التكرار هو مصدر ضحكنا. إن الكوميديا تذكرنا بالعناصر المتشابهة بين البشر، بينما تعرض لنا التراجيديا المختلفين (هاملت، راسكولنيكوف، إيفان كارامازوف) ممن لا يمكن أن يكونوا نمطاً أو قالباً.
ولذلك تصور كوميديا الريحاني الأنماط العامة القابلة للتكرار. والقضايا الإنسانية التي تعالجها هي عمومية تنطبق على البشر جميعاً، وتتوزع بين ثنائيات: الحب والخيبة، العمل والبطالة، الوفاء والخيانة، الفقر والغنى، إلخ. إن تقنية الإضحاك عنده تستهدف العام لا الخاص في الإنسان.

التقنية والأسلوب
يرسم الريحاني-خيري شخصياتهما كأنماط كاريكاتورية (الموظف الشريف الغلبان، ناظر الوقف الفاسد، الأب الغني العصبي، الابنة المخادعة، الزوجة المتطلعة، الدنجوان النصاب، إلخ)، بحيث تهيمن على الشخصية صفة واحدة على بقية الصفات، فيتعرفها الجمهور فوراً بمجرد ظهورها. وربما لهذا نتذكر شخصياته أكثر مما نتذكر أسماءها.
إن النمطية في رسم الشخصية من لوازم العمل الكوميدي؛ لأنها تساعد على إبراز الصفة المركزية أو العيب المستهجن، ونقد البنية الاجتماعية التي أفرزته (ولذلك تحمل الكوميديا -في عمقها- وظيفة اجتماعية). ومن ناحية أخرى، فإن هذه النمطية تمنع الاندماج العاطفي مع الشخصية المرسومة، بحيث يحافظ المؤلف على مسافة شعورية بينها وبين الجمهور. إن هذه المسافة لازمة لتوليد الضحك، الذي هو عملية عقلية تتوجه إلى الذكاء وتنتج من إدراك المفارقة والتناقض. وكبار ممثلي الكوميديا يدركون أن الشرط اللازم لإثارة الضحك هو انعدام الاندماج العاطفي. ليس للكوميديا من عدو أكبر من الانفعال. إننا حين ننفعل وتتحرك مشاعرنا في سعي المتسكع تشارلي لاستعادة الطفل الذي تم انتزاعه منه في (الطفل، 1921) لا نعود نضحك بل نبكي.
وقد حاول الريحاني تدريجياً صقل عمله على نحو مال معه إلى الكوميديا "العقلية" أكثر من "الجسدية"، منعطفاً بفن الكوميديا إلى عالم أكثر رقياً. فهو مثلاً لا يظهر بوصفه الكوميديان الأوحد الذي يهيمن بمفرده على الضحك ويقف على المسرح سيداً بين العبيد. إن أعماله لا تتحمل استبعاد الآخرين؛ وهو ما يمارسه النجم-الكوميديان في المساخر، بل يظهر الريحاني في أعماله كأول بين متساوين؛ واقفاً على عتبة الممثلين الآخرين المساوين له في القوة. إننا نلمس في تلك الأعمال حرصها على أن تكون "مشهداً" لا مجرد نكتة أو "إفيه". إن الإفيه فيها ليس هو وحدة العمل كما في المساخر.
فالمسخرة تركز على استدرار الضحك من عنف الحركة (كأن يضرب الممثلون بعضهم البعض)، أو شذوذ النسب الجسدية (طويل/قصير، بدين/نحيف)، أو السخرية من التشوهات الحركية للممثلين، أو ما يرتدونه من أقنعة (رجل يتنكر في زي امرأة، إلخ)، أو إباحية اللفظ. بينما ترتقي الكوميديا عند الريحاني إلى قوة المفارقة في الموقف الفكاهي، مستخدماً تقنيات درامية ذكية لخلق تلك المفارقات.
فمثلاً من التقنيات التي يستعملها لتوليد الضحك أنه يبث الحياة في الأشياء والأدوات (العصا تصبح: الحاجة زهرة- القدوم يصبح: عنكب، إلخ)، وهو عكس تشييء الإنسان الذي تقوم به المساخر؛ حيث يصبح سلوك الشخصية آلياً ميكانيكياً يوحي بالعماوة والإصرار الغبي، أو تتحول الشخصية الإنسانية إلى مسخ، أو على الأقل إلى شيء ما. إن الكوميديا الكبيرة تضفي صفة الأنسنة على الأشياء، وتعقلن الأدوات والحيوانات والأطفال، بينما تشييء الكوميديا الصغيرة الإنسان وتحوله إلى شيء أو حيوان أو مسخ. ترتفع الأولى بالأشياء إلى مرتبة أعلى، بينما تحط الثانية بالإنسان إلى أسفل. ومن ذلك أيضاً أن الكوميديا الكبيرة تصور الذكاء الذي في الرجل الغبي، بينما تصور المساخر الغباء الذي في الرجل الذكي، وهكذا.
ومن أذكى التقنيات عند الريحاني ما يمكن أن نطلق عليه "قلب الأوضاع". إن اللص في (سي عمر) هو الذي يقدم الموعظة عن الشرف للرجل الصالح، والذي ينقلب لاحقاً إلى لص، بل ويصبح أمهر منه في فنون اللصوصية، ثم ينقلب ثانية من لص إلى صاحب أملاك يحاول الحفاظ عليها من اللصوص. وبائع السمك في (السكرتير الفني) هو الذي يقدم "العلم النافع" إلى معلم المدرسة. ويتحدث مدرب الكلاب بلهجة الأسياد، بينما يبدو الباشا كبستاني (غزل البنات). ويصبح الساعي أميراً في (سلامة في خير)، والأمير نفسه حاجب عنده. والمحامي سائقاً في (إلا خمسة)، إلخ
يصبح المخدوع خادعاً، والجاهل عالماً، واللص شريفاً، والشريف لصاً، وتنقلب الأوضاع على نحو مستمر. ونضحك نحن بسبب إدراك عقلنا لنظام غير طبيعي قد دخل على نمط العلاقات واتجاهها. وأحد أشكال تحقيق هذه التقنية الكوميدية هو أن يأخذ المؤلف إحدى الشخصيات ويضعها في وسط غريب عنها تماماً. كأن يضع سلامة في وسط الأمراء ليلعب دور أمير زائف، أو المحاسب الشريف في وسط اللصوص ليصبح لصاً محترفاً، أو المعلم الفقير في وسط الباشاوات ليتورط في علاقة حب وهروب مع ابنة الباشا، أو المحامي الشاب في وسط الخدم والسائقين، إلخ
ومن التقنيات الذكية أيضاً استخدامه لعنصر "المهنية" في توليد الكوميديا. إن الضحك في مشهد الفساد في دائرة الوقف في فيلم (أبو حلموس) يتولد من كون الرجل الصالح يستخدم كل خبرته المهنية في تعليم ناظر الوقف الفاسد كيف يمارس فساده على نحو أفضل. إن الرجل الصالح ينقلب هنا إلى مشعوذ مهني. وكأن كل خبرته المهنية قد ُخلقت لأجل هذا الموقف بالذات. ونضحك في موقف آخر معكوس في فيلم (سي عمر)؛ حين يستخدم المعرفة التي اكتسبها من الفاسدين، في الوقوف للفساد بالمرصاد، حين يصبح مسؤولا عن أموال الأسرة. هنا أيضاً تبدو الخبرة المهنية كأنها قد ُخلقت لهذا الموقف بالذات.
في فيلم (أبو حلموس) أيضاً هناك شكل آخر لاستخدام "المهنية"؛ حين يحصر ألفاظ وردود أفعال ناظر الوقف داخل المنطق والمصطلحات الخاصة بالمهنة، وكأنه غير قادر على التصرف كإنسان طبيعي خارج حدود مهنته. يجبر ناظر الوقف الفاسد أبا حلموس على كتابة "كمبيالة" إثر "كمبيالة" ليجرده من ثروته المرتقبة. إنه يستخدم الخاص في العام، منطق المهنة في الحياة العامة، وهذا يولد أثراً كوميدياً ذا طبيعة راقية لأنه يبرز الجمود والتصلب الذي تحدثه المهنة في الشخصية الإنسانية.

اللغة والحوار
الإنتاج الأفضل للريحاني كان بمشاركة بديع خيري في الكتابة الدرامية والحوار. ويمكن اعتبار الكتابة لديهما نتاج حوار مشترك ومنسجم بينهما، للدرجة التي يمكن معها وصفها كانقسام مؤلف إلى اثنين، أو كالمسافة التي يتخذها المؤلف إزاء ذاته وهو يكتب (الازدواجية مرة أخرى).
إننا نلمس في حوارات الريحاني-خيري نفس الخصائص الشخصية لهما معاً (القاموس اللغوي الخاص، تركيب الجملة، نظام القيم، إلخ)، وكأن الحوار عندهما هو الوسيط الذي يربط بين خبرة حياتهما وبين المُشاهد. وربما بسبب ذلك تتجاوز دلالات الجمل والردود في أعمالهما الموقف الدرامي، فلا تظل حبيسة اللحظة الفكاهية بل تتوسع لتشمل الحياة كلها، فتصير أشبه بالعِبرْ والأمثال، أي شكلاً من أشكال التواصل ونقل الخبرة. إن اللغة عند الريحاني-خيري تصون أحد أهم واجبات الكلمة: الإبلاغ عن التجربة.
إن"الحقيقة" أو "الحكمة" أو "الفائدة" في أعمال الريحاني تولد من العلاقات الحوارية بين الشخصيات. ونسبية هذه "الحقيقة" تتأكد من خلال قوة وجهات نظر الشخصيات المتعارضة. إن الجملة قوية، والرد عليها قوي أيضاً، ويصلح كلاهما كـ "عبرة" بحسب السياق أو الغرض من الاستخدام. يصلح رد الأستاذ حمام: "أنا لو من 20 سنة بعلم كلاب كنت بقيت من الأعيان!" كعبرة. وتصلح أيضاً عبرة الجملة السابقة عليه لمدرب الكلاب: "أيوه، بس مش بالجسم الرقيق ده!". كانت التلفزيونات الغربية تنعي طيور البحر التي تنفق من تلوث مياه الخليج بالنفط الذي تسبب فيه صدام حسين وأبدى يومها أحد الأصدقاء امتعاضه قائلاً إن أطفال العراق أيضاً يموتون يومياً وبالعشرات، فعلق ساخراً صديق آخر مشيراً إلى صور طيور البحر: "أيوه، بس مش بالجسم الرقيق ده!"
إننا في أعمال الريحاني نغادر جمالية الإفيه إلى جمالية شبكة لغوية كاملة لاصطياد الفكاهة. بل إن تفاعلات الحوار مع الواقع (ومع المُشاهد)، وعبرمرور الزمن، تعيد اكتشاف معان واستخدامات أخرى غير الاستخدام الدرامي الأول للحوار. ومن هنا خلود الجمل والردود عند الريحاني. إن الكلمات في أعماله محمية من النسيان.
ونشير هنا إلى أن اللغة في أعمال الريحاني-خيري لم تكن هي النمط التعبيري الشائع للكلام في المجتمع المصري آنذاك. إن أسلوب الحوار عندهما هو طريقة مبتكرة في الكتابة تخصهما. فالجملة عندهما ليست مهمومة بإعادة ترديد المباشرة الساذجة التي يتكلم بها العامة، بل هي خاصة ومختلفة: واضحة، قوية البيان، أنيقة، تتقصى النعوت والأوصاف، وتحسن النفاذ إلى دقائق معانيها وإصابة مقاصدها. وكأن الريحاني كان يحاول أن يُرضي تطلعاته المجهضة إلى اللغة الشعرية للتراجيديا الكلاسيكية. وربما لهذا السبب وجد في الشاعر بديع خيري رفيقاً للكتابة. إن اللغة هي أحد انتصارات الريحاني-خيري.
والتقنية اللغوية في المساخر هي على العكس من ذلك؛ لأنها تقوم على التلاعب في الصيغ الكلامية الجاهزة والجمل النمطية التي نستعملها في الحياة اليومية، مع إدخال بعض التعديلات الشاذة أو اللامعقولة عليها من قبيل: قلب الكلمات، الإفيه، الردح، هفوات اللسان، التلاعب بالمعنى المادي للكلمة، التكرار المتصلب لنفس الكلمة أو الجملة الذي يوحي إما بالغباء وعدم التمييز أو بالخبث الشديد، إلخ. إن الحوار في المسخرة هو تجسيد لفكرة الذات غير المسؤولة عن كلامها. إنه نفي لفكرة وجود أخلاق للكلمة. يصبح إذن الحوار انحرافات وأكاذيب، ويصير الممثلون غير المسؤولين عن ما يلفظون أشبه بالمجتمع غير المسؤول عن ما يلفظ.
الأعمق من ذلك هو أسلوب المفارقة أو الانعكاس الذي تستخدمه الكوميديا الذكية لتوليد الضحك. يتحدث الخادم بلهجة الأسياد، ومدرب الكلاب بلهجة الباشا، بينما يتحدث الباشا ويظهر كبستاني. إن وراء الأشكال العليا من الكوميديا فكرة عميقة في السخرية من الأوضاع الاجتماعية ومن علاقاتها البينية. بمعنى أننا نسخر بينما يكون نصب أعيننا "ما ينبغي أن يكون". ولذلك تحوي الكوميديا الذكية جمل يمكن الاستشهاد بها في المواقف اليومية. عكس النكتة اللفظية في المسخرة التي لا تبالي إلا بلعبة الكلمات.
تستخدم إذن الكوميديا الذكية اللغة كوسيلة للتعبير عن المفارقات التي تعتري الوجود والتجربة الإنسانية، بينما تستهدف المسخرة اللغة في حد ذاتها كمصدر باعث على الضحك. ولذلك يمكن ترجمة الكوميديا الذكية من لغة لأخرى حتى وإن خسرت بعضاً من نكهتها لاختلاف العادات والآداب، لأن أساس التجربة الإنسانية مشترك، بينما تستحيل المساخر على الترجمة لأنها مدينة إلى بنية الجملة واختيار المفردات في اللغة المحلية.

إن مذهب الريحاني في الكوميديا لا يجد لدينا الآن من يرثه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي