الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا الدولة العلمانية؟

شاهر أحمد نصر

2018 / 11 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لماذا الدولة العلمانية؟
شاهر أحمد نصر
تواجه الإنسانية والفكر الإنساني، في بداية الألفية الثالثة، أسئلة وتحديات تحتاج إلى تضافر جهود مؤسساتية حثيثة لفك ألغازها ومعالجتها بالسبيل القويم... ولعل أهمها البحث في أسباب تراجع العلمانية في معاقلها، وعدم إبداع فكر وأساليب حكم وحياة جديدة، تعزز من حضورها، أو تتجاوز ثغراتها، بل على العكس نجد العلمانية تتراجع أمام فكر غيبي منغلق... مما يخلق وعياً فكرياً يساعد في نمو التطرف والعدائية... ولعل ذلك ناتج عن الأزمة التي تعيشها البنى السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية في الدول التي يزعم أنّها تنتهج نهجاً علمانياً...
ويتجلى تراجع العَلمانية في معاقلها في الدول المتقدمة صناعياً، ناهيك عن الأطراف، في ذلك الخبل الفكري الذي أخذ يعم تلك البلدان والعالم، منذ أواخر القرن العشرين، الذي عزّز صعود التيارات الدينية والفكر الغيبي، في مختلف أنحاء العالم بما فيها الدول الصناعية المتقدمة، والذي مهد لظهور التطرف، وولادة المنظمات الإرهابية في مختلف أصقاع العالم: من اليابان، والهند الصينية، وشبه القارة الهندية، إلى أوربا، وأمريكا والشرق الأوسط... مع تراجع دور الفكر العقلاني التنويري، وتقلص مساحات تأثير هذا الفكر عالمياً، ومع انتشار وسائل الإعلام التي يتحكم بها رأس المال المتوحش، وانطفاء جذوة الفكر والفلسفة، وغياب أو تغييب المفكرين والفلاسفة، إن وجدوا، عن دائرة الفعل والتأثير... لقد أصبحت الإنسانية في حاجة ماسة إلى مصباح ديوجين، حاجتها إلى العقل... إنّ البشرية في حاجة إلى فلاسفة ومفكرين كبار... علّهم يستطيعون إقناع رجال الحكم والسياسة، بمن فيه حكام أكبر وأقوى الدول المتطورة علمياً وصناعياً، والتي تحكم بلدانها بموجب دساتير علمانية، بأنّ ممارستهم الطقوس الغيبية - كأنّ يذهبوا إلى جدران الهياكل والمعابد ويدسوا رسائلهم الورقية إلى الله في شقوق جدرانها، أو أن يمارس علماؤهم وكهانهم طقوساً غيبية عند تدشين مصنع طائرات، أو إطلاق سفينة فضائية - تتناقض مع الفكر العلماني، وتمهد لانتشار الفكر الغيبي الحاضنة اللازمة والضرورية للتعصب والتطرف.
مما لاشك فيه أنّ هذه الظواهر تعبر عن أزمة تعيشها المجتمعات البشرية... ولم يكن الهجوم المتعصب ضد العَلمانية ليجد "صدى له لو أنّ الحضارة الصناعية، وهي مهد العَلمانية، لم تكن هي نفسها تعاني من أزمة ـ أخلاقية، واجتماعية، وفكرية ـ ولم تعد تقدم نموذجاً جذاباً يحفز بقية العالم... وفي اللحظة التي أخذ عصر الصناعة يمضي نحو أزمته هوجمت فلسفته العَلمانية المسيطرة من الداخل، ومن الخارج في آن واحد، في حين استعادت النزعة الأصولية والدين مركزها الأول".(1)
عرفت المجتمعات البشرية في أوربا في بداية القرن العشرين مركزين أساسيين للدول العلمانية، عرفا بالمعسكرين الشرقي والغربي، (الاشتراكي، والرأسمالي) إلاّ أنّ هذين المركزين عاشا حالة صراع تناحري، فانغلق كلّ معسكر على بنيته الفكرية والسياسية، واحتدم الصراع فما بينهما، مما زعزع عملية صعود الفكر العلماني، فعانى من الانكفاء نتيجة الصراع الذي شهده العالم إبان الحرب الباردة، بين هذين المعسكرين، وتسعر الصراع بين الطبقتين العاملة، والبرجوازية، اللتين يفترض أن تكونا حاملتي الفكر العلماني، كما تمت معاداة تيار بكامله في الفلسفة؛ هو الفلسفة المادية، التي هي حامية فكرية أساسية للعلمانية، وبانكفاء هذه الفلسفة كان لا بد أن يعبئ الفكر الغيبي مكانها، وقد وجد في بعض الفلاسفة المثاليين حماة له...
إنّ تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية والفكرية الخانقة التي عصفت ببلدان ما عرف بالمنظومة الاشتراكية العَلمانية، وعدم تمكنها من معالجتها وإيجاد الحلول المناسبة لها، أوصلت مجتمعاتها، ومن سار في فلكها إلى طريق مسدود، ووجه ذلك ضربة إلى أحد أشكال تطبيق النهج العلماني على الصعيد الإنساني عموماً، كما أنّ المجتمعات الرأسمالية في أوربا وأمريكا واليابان لم تستطع معالجة مشاكل الاستغلال والتمييز في داخلها، وأخذت تطغى وتهيمن فيها مرحلة تقانة المعلومات على المرحلة الصناعية، وما يتركه ذلك من أثر على الوعي الاجتماعي، كلّ ذلك، فضلاً عن استمرار معاناة شعوب العالم الثالث من مخلفات الاستعمار والاستغلال، والاحتلال... مما خلق الظروف المناسبة لزعزعة ثقة الناس بالعَلمانية، ومهّد السبيل للبحث عن بدائل أخرى...
وهكذا أخذت تظهر على الصعيد العالمي حركات تعبر عن الأزمة التي تعيشها الإنسانية: فظهرت حركة عبدة الشيطان، والحركة الهيبية التي شنت هجوماً عنيفاً على منجزات العَلمانية، وعلى ثقافة المجتمع الصناعي، وانتشر التصوف، والمخدرات، والتنجيم، والإيمان بأديان تكاد لا تكون معروفة... وأخذت الحركة الهيبية تبشر بالعودة إلى ماضٍ أسطوري مليء بالمفاتن، يلتصق بالأرض بعيداً عن بهارج المجتمع الصناعي.
وأخذت دول علمانية تشجع رسمياً الفكر اللاعلماني، ففي اليابان، على سبيل المثال، أصدرت وزارة التربية في عام 1989 قراراً مثيراً للجدل يقضي بأن يتعلم التلاميذ احترام الإمبراطور الذي هو الكاهن الأكبر للشنتو. ومع بدء عملية الإصلاحات في الاتحاد السوفيتي (السابق)، ورفع القيود، وتنفس نسيم الحرية بدأ لهيب الأصولية الدينية الإسلامية، والمسيحية يلفح البلاد، وأخذ الأذريون المسلمون والأرمن المسيحيون يتذابحون في القوقاز، ثم نشبت حرب الشيشان، وتأججت النزعات المتطرفة والغيبية والدينية المتطرفة بعد سبعين سنة من الحكم الشيوعي العلماني، وأخذت ظواهر الفكر الغيبي تتغلغل وتؤثر في سلوك شخصيات ذات مواقع هامة في مفاصل السلطة الحاكمة.
وقد شنّ الأصوليون المتدينون، عموماً، حرباً مضادة ضد العَلمانية...
وهكذا تكاتفت قوى كثيرة، بعضها من أصول علمانية لتوجيه سهامها إلى هذا النهج العقلاني في الحياة والحكم...
فهل تستطيع العلمانية، والدولة العلمانية الصمود، وهل لا تزال حية، وتقدم الحلول المناسبة لمعالجة التناقضات الاجتماعية، خاصة في المجتمعات متعددة الأعراق، والمذاهب، والأديان، وتفتح آفاقاً أمام تقدمها؟ وما علاقة الدولة الحديثة بالعلمانية؟ وهل يمكن للدولة العلمانية أن تؤدي وظيفتها في عصر المعلوماتية؟

في تاريخ نشوء الدولة العلمانية
تتطلب مسألة تحديد أسس بناء الدولة في الألفية الثالثة بحثاً جديداً، ينسجم مع التطور الذي حصل في البنية الاجتماعية، خاصة في مجتمعات انتاج واستثمار تقانة المعلوماتية، وأثر تقانة المعلوماتية على المنظومة الفكرية الجديدة الناجمة عنها، وتوحيدها العالم بشبكة الأنترنت، ودور ذلك في صياغة بنية جديدة للدولة الحديثة...
ومما لا شكّ فيه أنّه ينبغي لبنية الدولة الحديثة أن تستقيد من البنى السابقة، وتتجاوزها... ولتجاوز أي بنية من الضروري التحرر من تقديسها، والابتعاد عن عدّ أي صيغة كاملة وتامة وناجزة ونهائية...
وهذا يتطلب ضرورة تجاوز رؤية الغربيين للدولة؛ تلك الرؤية القائمة على تقديس الدولة وتمجيد ثباتها، على العكس من رؤية ابن خلدون؛ الذي يؤكد أنّ الدولة ليست دائمة؛ وأنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم ودولهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر.(2) وقد أثبتت مسيرة تطور الدولة في المجتمعات البشرية، صحة رؤية ابن خلدون تلك. كما أنّ دراسة تاريخ نشوء وتطور الدولة العلمانية يثبت نظرية ابن خلدون هذه، ويفيد في البحث عن صيغة عصرية لأسس بناء الدولة الحديثة في عصر المعلوماتية...
قيام الدولة العلمانية في الغرب
يرى كثير من المؤرخين أنّ تفاقم التناقضات، واحتدام الصراع على خلفية الإصلاح الديني بين البروتستانت والكاثوليك قاد أوربا إلى حرب الثلاثين عاماً التي انتهت بتوقيع معاهدة وستفاليا ـ عام 1648، وتعد هذه المعاهدة أهم أركان ولادة الدولة السيادية، "إذ تم الاعتراف بموجب تلك المعاهدة باستقلال وسيادة كل دولة من دول (الإمبراطورية المقدسة) استقلالاً تاماً وناجزاً، وتقرر أيضاً منع كلّ اضطهاد ديني، ونصت المعاهدة على أنّ ديانة كلّ دولة يجب أن تحددها ديانة حاكمها. وبموجب هذه المعاهدة انتقل ولاء الناس من الولاء للكنيسة، إلى الولاء للوطن، وأن تكون علاقة الفرد بالكنيسة علاقة تحكمها الإرادة الحرة والاقتناع، وليست علاقة خضوع بالقوة، أو حاكم ومحكوم، وبذلك تم الفصل تاريخياً بين الدين والدولة، بين العقيدة والسياسة، وكان هذا المبدأ "أول تأسيس رسمي في التاريخ للعلمانية".(3)
ويرى مؤرخون آخرون أنّ السلطة الكنيسة في أوربا عندما أعلنت في حوالي عام 1120م تحررها من سيطرة السلطة الدنيوية وتخلصها من التدخل في تعيين رجال الدين وإدارة شؤونهم، بعد معركة فكرية وقانونية؛ ساهمت في وضع أول نظام قانوني شمولي هو القانون الكنسي (قوانين الكنيسة لغريشن 1140م... وخلقت بذلك "أول نظام قانوني غربي حديث". كما أدى هذا التعديل الثوري إلى مولد سلطة قريبة في الشكل من سلطة الدولة الغربية ـ وكان المثال الأول عليها هو الكنيسة نفسها (وليس الدولة العلمانية) ـ مع ما في ذلك من مفارقة مارست الكنيسة منذ ذلك التاريخ كل الوظائف القانونية لسلطة تشبه سلطة الدولة، طبقت لنفسها قوانينها ونظامها الهرمي وحكم البابا من خلال ممثليه. أي إنّ الكنيسة أقامت مثالاً تحتذي به الحكومات الدنيوية لتنظيم أمورها وتأسيس محاكمها واختيار موظفيها وتنفيذ قوانينها من أجل أن تحكم في حقولها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد مهد انفصال البابوية عن السلطة الدنيوية لتطور البنى القانونية الدنيوية المماثلة وشجع عليها. وبينما كانت السلطة البابوية تميل إلى توسيع مجال عملها والتأكيد على سيطرتها على مساحات واسعة من الأمور المدنية والعائلية كالزواج والعائلة والإرث والطلاق وما إلى ذلك، فإنّ السلطة المسيطرة على هذه الأمور كانت تستند إلى العرف والقانون الروماني أكثر من استنادها إلى الأوامر الكتابية (نسبة إلى الكتاب المقدس). وهذا أحد الأسباب التي جعلت السلطة البابوية مضطرة فيما بعد للتنازل عنها للسلطات الدنيوية. ويتضمن القانون الكنسي أموراً دينية دنيوية، تتضمن عناصر من القانون الشعبي الألماني والقانون الروماني.
وفي المجال النظري لعبت نظرية القانون الطبيعي. هذه النظرية التي تقابل حالة الطبيعة بحالة المجتمع وتدعو لإعطاء الإنسان الحرية كحق من حقوقه الطبيعية، والتي تبناها طليعة المفكرين الغربيين كـ هوبز (1588-1679) ـ لعبت دوراً رئيساً في إرساء الأساس النظري للدولة العلمانية الجديدة، التي ظهرت أجنتها بعد معاهدة ويستفاليا عام 1648، ومهدت للفكر الجديد في أوربا الذي تمخضت عن شرعة حقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي عند جان جاك روسو.
أي إنّ الترتيبات المؤسسية الجديدة في أوربا في تلك القرون خلقت مناخاً لم يكن بالإمكان تصوره في الشرق الأوسط مناخاً اقتصادياً، علمياً، واجتماعياً تجري فيه الدراسة الطليقة، والنقاش العلني للفلسفة، والعلوم الطبيعية في مؤسسات معترف بها قانونياً. وسواء أكان الأوربيون القروسطيون على دراية تامة بمعنى ما عملوه أم لا فإنّهم أوجدوا مؤسسات مستقلة للمجتمع تدير نفسها بنفسها... وهذه أحد أهم شروط ظهور وانتشار الفكر العلماني في المجتمع.
كانت دولة الحق والقانون، والدولة العلمانية، في أوربا نتيجة مخاض تاريخي كبير عرفته المجتمعات الأوربية في عصر نهضتها الاقتصادية، والثقافية التي تميزت بصراع العقل والعلم مع الأفكار الغيبية التي كانت تغذيها الكنيسة، والتي انتهت بالقطيعة المعرفية مع ما يعيق التطور والحداثة، بما في ذلك التصور الديني للعالم والحياة، مع ظهور وتجذر طبقات ثورية صاعدة في المجتمع هي البرجوازية والطبقة العاملة ومفكروهما...
واستمر الباحثون والمفكرون يبحثون في أسباب نشوء الدول، وسبل تطورها، ويعد كتاب انجلس "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" من أهم المصادر للتعريف بنشأة الدولة، والذي يؤكد فيه النظرة الماركسية، الشبيهة بنظرية ابن خلدون، القائلة إنّ "إنتاج الخيرات المادية وتجديد إنتاج الحياة المباشرة هو العامل الحاسم في التاريخ".(4) إذ استدعى تطور العملية الإنتاجية وجود مؤسسة لحماية الثروات التي اكتسبها الأفراد، وحل النزاعات بين الجماعة البشرية، (استدعى) وجود مؤسسة يُعترف بها من قبل المجتمع على العموم، وقد ظهرت هذه المؤسسة وعُرفت باسم الدولة.(5)
ويرى الفلاسفة الماركسيون أنّ الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات الاجتماعية، وبما أنّها قد نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصادياً والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسياً أيضاً وتكسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستثمارها. فالدولة القديمة كانت دولة مالكي العبيد لقمع العبيد، والدولة الإقطاعية هيئة النبلاء لقمع الفلاحين التابعين والأقنان، كذلك الدولة البرلمانية التمثيلية الحديثة هي أداة استثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. ومع ذلك فثمة كحالات استثنائية مراحل تبلغ فيها الطبقات المتصارعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعاً من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما...(6)
ولقد ثار الناس على مرّ العصور على سلطات الدول التي لم تعد تتجاوب مع متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري في تلك المجتمعات... وكانت تلك الثورات تعبيراً عن حاجة المجتمعات البشرية إلى صيغة جديدة في الحكم وسلطة الدولة، أي الحاجة إلى بناء دولة جديدة... ولقد تطورت قوانين وأنظمة ودساتير بناء الدولة عقب تلك الثورات... وما يزال الصراع الفكري حول أنظمة الحكم يتركز بين مذهبين أساسيين:
- مذهب الحكم المطلق في الدولة الثيوقراطية: الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض... وقد سارت الحكومات الشيوعية في القرن العشرين، ومن سار في فلكها على هذا النمط، على الرغم من تبنيها العلمانية في دساتيرها، وكانت في أغلبها أشبه بالحكم الثيوقراطي المطلق، وهذا ما أوصلها إلى طريق مسدود، وزاد من تناقضها مع العلمانية، فأضرت بالعلمانية تاريخياً...
- مذهب "العقد الاجتماعي" في الدولة العلمانية: الذي يدعو إلى بناء الدول على أساس التعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... ومن محاسن العقد الاجتماعي في الدولة العلمانية أنّه يمكن تعديله، وتطويره بما ينسجم مع تطور الحياة، وهذا يكسب السلطة في الدولة العلمانية مرونة، تتجاوز تقديس الحاكم والدساتير، وتقبل كلّ ما هو جديد في الحياة، ومعالجة التناقضات الاجتماعية كيلا تتحول إلى تناقضات تناحرية تودي ببنية المجتمع والدول. فإحدى أهم مهام الدولة هي معالجة التناقضات في المجتمع.
لكنّ المجتمعات البشرية شهدت بعد تدشين عصر الدولة العلمانية عدة ثورات، وهذا يدلّ على عجز السلطة فيها على معالجة تلك التناقضات، ويعبّر عن قصور تلك السلطة عن تلبية متطلبات التطور الاقتصادي الاجتماعي السليم... وجاءت بعض الثورات الكبرى في مراحل معينة من التاريخ لتعبر ليس عن قصور السلطات في مجتمعاتها وحدها، وليس عن حاجة مجتمعاتها وحدها إلى سلطة أو صيغة حكم جديدة، فحسب، بل ولتعبر عن حاجة الكثير من المجتمعات البشرية لهذه الصيغة الجديدة المنسجمة مع المرحلة الجديدة من التطور الاقتصادي الاجتماعي...
فالثورة الفرنسية عام 1798 لم تكن تعبيراً عن حاجة المجتمع الفرنسي وحده، الذ أنهكه فساد واستغلال الإقطاع، وبطانية الأسرة الملكية الحاكمة بالتواطؤ مع رجال دين، إلى صيغة حكم جديدة فحسب، بل وتعبيراً عن حاجة المجتمعات الأوربية عموماً في فترة انتقالها من الإقطاعية إلى الصناعة، إلى صيغة حكم جديدة تتجاوب مع متطلبات ذلك العصر، ومتطلبات التطور والتقدم الاقتصادي والعلمي والثقافي، في أوربا، والارتقاء في صيغة العقد الاجتماعي لتلبي متطلبات حقوق الإنسان، فالثورة الفرنسية كانت حاجة عالمية أيضاً لاعتماد صيغة حكم جديدة، أو عقد اجتماعي جديد يكرس حقوق الإنسان في العصر الحديث، وكذا الأمر بالنسبة إلى الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا التي لم تكن تعبّر عن حاجة المجتمع الروسي وحده، الذي أنهكه فساد واستغلال الحكم القيصري المتحالف مع رجال الدين، إلى صيغة حكم جديدة، فحسب، بل جاءت نتيجة لنضال الطبقة العاملة الأوربية، وعبّرت عن حاجة المجتمعات الأوربية والعالم إلى صيغة حكم جديدة تكرس العدالة الاجتماعية في المجتمع في القرن العشرين...
وتبين دراسة التاريخ الحديث أن المجتمعات البشرية تحتاج كل فترة من تطورها (تقارب قرناً من الزمان) إلى صيغة جديدة من أسلوب الحكم (أو ما عرف بالسلطة) تتجاوز أساليب الحكم السابقة وتلبي متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي بلغته البشرية... أي إنّ البشرية في الألفية الثالثة في حاجة إلى صيغة حكم أو سلطة جديدة في الدولة العصرية، تعالج أزمات السلطة وتناقضاتها، وقصورها عن تلبية متطلبات المجتمع في عصر المعلوماتية والانترنت...إذ وصلت صيغتا الحكم العلمانيتان الأساسيتان اللتان عرفتهما المجتمعات البشرية صيغة الحكم البلشفي الاشتراكي، وصيغة الحكم الليبرالي المتوحش إلى طريق مسدود... ففي عصر المعلوماتية وتشابك العلاقات بين شعوب العالم، من غير المنطقي أن تبقى صيغة حكم الشعوب، وبناء الأحزاب كما كانت في القرن التاسع عشر أو العشرين، واختزال خيارات المجتمع في حزبين اثنين أو ثلاثة، وإجبار شعوب أكبر وأقوى الدول العلمانية على اختيار رئيساً لها من بين اثنين سيئين، أي اختيار الأكثر سوءاً، أو الأقل سوءاً، من بين مرشحين سيئين اثنين، وهذا أكبر تعبير عن الأزمة العالمية في أساليب الحكم المعاصرة...
وأدت التناقضات التناحرية التي عرفتها المجتمعات العربية إلى براكين اجتماعية تطالب بصيغة حكم جديدة، ومن هنا يمكن عدّ ما جرى في البلدان العربية في العقد الثاني من الألفية الثالثة أفضل تعبير عن حاجة هذه البلدان والعالم إلى صيغة حكم جديدة، ولا تقل تلك البراكين أهمية، ولا شأناً عن الثورتين الفرنسية، والاشتراكية في روسيا... ونظراً للحصار الشامل الذي لاقته القوى العلمانية في العالم العربي، فإنّها لم تستطع أن تفرز مفكرين علمانيين على مستوى الأسئلة والتحديات التي يطرحها العصر، لإبداع واعتماد صيغة حكم علماني جديدة تستفيد من الصيغتين العلمانيتين السابقتين (الاشتراكية، والليبرالية) وتتجاوزهما نحو صيغة حكم في الدولة العصرية الجديدة... ويحتاج ابتكار هذه الصغية إلى تضافر جهود مفكرين كبار، ولو استطاع المفكرون العرب ابتداع هذه الصيغة الجديدة للحكم العلماني التي يتطلبها عصر المعلوماتية، لساهموا مساهمة هامة في صنع التاريخ؛ ويوجد من يتساءل بحق: وهل يسمح لهم بذلك؟ ولعل ذلك يفسر ذلك الهجوم المضاد من مختلف قوى وأدوات العالم القديم ضدهم.
ونعود إلى سؤالنا الرئيس، لماذا نحن نحتاج إلى صيغة أو أسلوب الحكم العلماني؟ وهل العلمانية ماتزال تحمل طاقة تؤهلها لأن تكون صيغة مناسبة في الألفية الثالثة، وما هي الشروط المطلوبة لتتجاوز الثغرات التي شابتها، وتشوبها خاصة في المجتمعات المتقدمة. وهذا يقودنا إلى التعرف والبحث في مفهوم العلمانية.
في العلمانية
العلمانية من Secularity اللاتينية وСветский الروسية، تعني الدنيوية، أو الزمنية، وهي مفهوم يصف ممارسة شؤون الحياة وفق متطلباتها الزمنية، وعدم تقييدها بالقيود الدينية، كالسفر واستخدام وسائل المواصلات يوم السبت، خلافاً للقيود الدينية اليهودية، أو تقييد الاستحمام وأساليب وأنواع الأكل وعدم حضور دروس الأحد في الكنيسة، أو دروس الجمعة في الجامع، وقص الشعر يوم الاثنين، وتنظيف المنزل من الأوساخ ليلاً...الخ. وكان أحد أسباب ظهورها وانتشارها تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين، ووقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها محاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة... مثال على ذلك تحريمها كتاب حركات الأجرام السماوية لكوبرنيكوس الذي نشر عام 1543م... وتعود أجنة التفكير العلماني في أوربا إلى القرن السابع عشر، فكان من الداعين إليها فولتير (1694- 1713) وروسو، وليسنغ (1729- 1781) وجون لوك (1632- 1714) وهوبز ( 1577- 1679). وتطورت على يد فيورباخ، والماركسية.
والعلماني المتنور يضع الدين في مكانة إنسانية ذاتية سامية، مع اعتقاده بأن من المتعذر إدارة شؤون الحياة اليومية وفق التشريعات الدينية، ومواكبة متطلبات العصر بما تقتضي من تشريعات جديدة واستحداث قوانين تنظم شؤون الحياة اليومية التي لم تكن موجودة في النصوص الدينية، كتنظيم الإعمال التجارية والشركات، والمنظمات الاجتماعية، والجامعات التي تتصف بالزمنية أي (العلمانية) فضلاً عن سن القوانين العصرية الملائمة لحقوق الإنسان وفق المعايير الدولية الحديثة، لذلك ولغيره من الأسباب يعتقدون بوجوب عزل الدين عن السياسة. ونتيجة لذلك ظهرت الحكومات العلمانية التي تتبع القوانين المدنية...
ويخطئ من يعتقد أن علاقة العلمانية بالدين علاقة سلبية، وأنّ العلمانية تفرض إقامة الحياة بعيدا عن الدين، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة. ومخطئ من يعتقد أنّ الإسلام يرفض العلمانية من ألفها إلى يائها، فقد دعا كثيرون من المفكرين المسلمين إلى الأفكار العلمانية، فكان الشيخ رفاعـة رافع الطهطاوي، على سبيل المثال، من أوائل الداعين إلى الأفكار العلمانية في مصر، بعد اطلاعه على كتب المفكرين الفرنسيين، وترجمته للعديد منها، ومعاينته الحياة الفرنسية وسعيه لتطبيق المفيد منها في بلاده. فكان من أوائل الداعين إلى (تحرير المرأة)، وساهم في بزوغ وعي وطني بمفهوم حديث، فـ «كان هو الأول في تمييز (الوطن) عن (الأمة الإسلامية)... كما ساند محمد علي على (إصلاح) التعليم فشرع في تأسيس المدارس النظامية والمعاهد المتخصصة، وسعى لتقليص نفوذ القضاء الشرعي، وشجع على سن القوانين العصرية...
وكما أنّ العلمانية ليست معاديةً للدين، فهي ليست مرادفة للإلحاد، بل البعض يعزز ضرورتها وأهميتها استناداً إلى قول السيد المسيح "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، وفي هذا السياق من المفيد التمعن في المسائل التالية:
هل قارب يسوع المسيح مسألة الخطيئة مقاربة دنيوية (علمانية) عندما قال «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»؟
وهل قارب الرسول العربي محمد بن عبد الله المسائل الاقتصادية الزراعية مقاربة دنيوية (علمانية) عندما قال لأهل المدينة "أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، بعد قصة تأبير النخيل؟
وهل قارب على بن أبي طالب مسألة التربية مقاربة دنيوية (علمانية) عندما قال: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم أباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"؟
وهل قارب عمر بن الخطاب مسألة بناء الدولة مقاربة دنيوية (علمانية) عندما قال "دون الدواوين"؟ علّها تبين لنا أنّ العلمانية لا تتناقض مع الدين، ولا مع موروثنا الفكري النبيل المتحضر، وأنّها أحد سبل خروجنا من أزماتنا"؟
إن العلمانية كمفهوم وكفكر هي نتاج إنساني عام... وعلى الرغم من أنّها وجدت وطبقت في الغرب أولاً، فلا يعني ذلك أنّها حكراً على الغرب، وأننا لسنا في حاجة إليها، أو أنها غريبة عنا... فكما أن الفكر الإنساني العام ليس غريباً عن أي شعب من الشعوب فهي ليست غريبة عنا، بل مثلها مثل الديمقراطية، والاشتراكية، فكرة، وقيمة إنسانية عامة تهم البشرية جمعاء.
ويؤكد البحث العلمي في تاريخ تطور الحضارة العربية إبان العصر الوسيط والتنقيب المجرد عن الهوى في الواقع الموضوعي الذي عرفه العرب، مع انتقالهم إلى المجتمع الطبقي منذ عصر الدولة الأموية، أنّ أسس بناء الدولة أخذت تتناقض عملياً، مع الأيديولوجيا الغيبية... وبدأ العرب ببناء الدولة على أسس أقرب إلى الزمنية العقلانية، منها من الغيبية، وأخذت تتطور نزعات فلسفية تقارب العقلانية، وأكد بعض المفكرين كالمعري أن "لا إمام سوى العقل... وكلّ ذلك يدل على أن للعلمية والعقلانية، وللزمنية (العلمانية) جذور في الفكر العربي الإسلامي، وهي ليست غريبة عن مجتمعاتنا، ولا عن شعوبنا، أو فكرنا... ولولا تلك النزعات العلمية، وبعض الأسس التي استندت على مقومات زمنية (عَلمانية) لم يستطع العرب بناء دولة يصل إشعاعها إلى أوربا والصين...
والعلمانية سلاح فعال في يد الشعوب لتوحيدها في النضال في وجه الاحتلال ومقامة التخلف، وأكبر مثال على ذلك، دور الأفكار القريبة من العَلمانية في توحيد نضال الشعب السوري ضد الاستعمار الفرنسي، عندما وحدت تلك الأفكار الثوار وقادتهم حول هدف وطني دنيوي شامل... فكان قادة الثورة السورية مؤمنين ورعين حقيقيين، ودنيويين (علمانيين) في تعاملهم مع مسائل النضال الدنيوي ضد الاحتلال.
لقد وحد سلطان باشا الأطرش مجاهدي الوطن، ومختلف قيادات الثورة من مختلف الأديان، والطوائف، والمذاهب، ومن مختلف المناطق بإجماع وطني منقطع النظير، عندما أطلق شعاره العلماني «الدين لله، والوطن للجميع»... وعبرت مواقف المناضل الشيخ صالح العلي عن نهج وطني يعلو على الطائفية والمذهبية والإقليمية، وتجلى ذلك في معاركه ضد المحتل، وفي التنسيق الذي حصل بينه وبين الشريف حسين، كما تجلى في قرارات المؤتمر الذي عقد بناء على دعوته في الشيخ بدر مسقط رأسه في 15/10/1918 والذي طالب بضم الساحل السوري إلى سوريا الداخلية، والتنسيق مع الملك فيصل. وعرف المجتمع السوري عدداً كبيراً من الشخصيات الوطنية كالشهبندر، وهنانو، وفارس الخوري، والجابري، والأشمر، وغيرهم الذين تميزوا بتاريخهم الوطني العريق، وبنشاطهم ومواقفهم وفكرهم المتنور الداعي لتجاوز الطائفية والمذهبية، والنهضة بالفكر والشعب والوطن، ودعوا إلى بناء الدولة على أسس دستورية معاصرة، وهي مواقف عَلمانية بينة، ساهمت في تحرير البلاد، وإقامة حكم وطني جامع لجميع مكونات الشعب السورية العرقية والدينية، وهذه أحد ميزات العلمانية.
واقع العَلمانية في الوطن العربي
وعلى الرغم من الدور الإيجابي الذي لعبته العلمانية في بلداننا، إلاّ نّ هذا المشروع لم ينجح، ويلاقي معارضة ومقاومة شديدة من قبل قوى وشرائح مختلفة في بلداننا، ويبقى السؤال مطروحاً بإلحاح: لماذا نجح المشروع العلماني نسبياً في الغرب، ولم ينجح في البلدان العربية؟ وما السبل لنجاحه؟
لم ينجح المفكرون العرب في غرس الفكر العلماني في المجتمعات العربية، ولعلّ أسباب ذلك تعود إلى عوامل ذاتية، وعوامل موضوعية في البنية المجتمعية. ومن أسباب ذلك أنّ الفكر الأوربي، إبان، وبعد نهضته، قام على جملة من الأمور المتكاملة أساسها العقل والعقلانية، أمور تشمل العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والميكانيك وعلم القانون والمنطق، والفلسفة بمختلف اتجاهاتها العقلانية والتجريبية غير غافل لقوانين الطبيعة.. وتم له ذلك في كنف نهضة اقتصادية وصناعية واجتماعية.. في حين اكتفى العقل العربي بمقولات عامة مترجمة وشبه لفظية، ولم يتعرض بعمق لأسباب الانحدار والانحطاط، وابتعد عن دراسة بنية المجتمع والأمة، لمعرفة الأسباب الكامنة في البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية لهذا الانحطاط التي ولد في كنفها..
ويكمن الخلل الجوهري المسبب لتعثر انتشار الفكر العلماني في بلداننا في نشاط الأحزاب اليسارية والعلمانية وعدم إعارتها الاهتمام الكافي لمسائل الديمقراطية، والحرية، والمجتمع المدني، وعدم تمكن تلك الأحزاب التي استلمت السلطة في تحقيق النهضة الشاملة في كافة المجالات التنموية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وأساس هذه النهضة هو البنية السياسية السليمة...
وترافق تعثر المشروع النهضوي التنويري مع هجوم شرس ضد العلمانية في بلداننا، وخاصة في نهاية القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة... وهذا يستدعي دراسة تلك الظواهر الفكرية والاجتماعية، التي أخذت تنتشر في العقد الثاني من الألفية الثانية في بلداننا وظهور قوى وأحزاب، في داخل السلطات الحاكمة وخارجها، تدعو وتعمل على تحطيم كل ما له علاقة بالعلمانية في وعي أبناء المجتمع، ليسهل لها التجييش الطائفي الغريزي، وهذا ما يساهم في تحطيم أسس بناء الدولة... وأخذت ترتفع في كثير من المناطق أصوات تترافق بممارسات تحارب العلمانية، وفرض مجموعة من القيود التي تحد من الحرية، وحقوق الإنسان... وتجد هذه التصرفات مرجعاً فكرياً لها في أيديولوجيا الكثير من التنظيمات الدينية... تجلى ذلك، على سبيل المثال، في مطالبة العديد من المشاركين في اجتماع ممثلي الأحزاب، والتنظيمات، والشخصيات الإسلامية الذي عقد في القاهرة في ربيع عام 2013 باعتماد موقف صريح معاد للعلمانية... كما أنّ تطور الأحداث ودخول قوى متطرفة من خارج المجتمعات العربية إلى بلداننا، وتدخل دول لا تأبه بمستقبل شعوبنا، أخذ يشكل خطراً على مستقبل العلمانية، حتى إنّ بعض المثقفين والباحثين، الذين يزعمون أنهم يتبنون العلمانية نهجاً في تفكيرهم - وبعضهم كانوا قياديين في أحزاب قومية علمانية وشيوعية - أخذوا يبحثون عن الذرائع، والحجج ليبرروا لتلك القوى والمجموعات المتطرفة سلوكها، وانشغل البعض منهم في الهجوم على ما يسمى بالأقليات، وأخذوا يتهمونها بالإباحية، وما شابه من الصفات المنفرة... ومن الممكن أن تجد في صفوف المسلحين المتطرفين وأنصارهم، من كان منتمياً إلى الأحزاب التي تزعم تبني العلمانية... ويدل ذلك على الخلل الكبير في عمل تلك الأحزاب، وفي النشاط الثقافي، والسياسي بشكل عام...
ومن المخاطر التي تهدد المجتمع تقييد حريات النشاط الفكري والثقافي العلماني، وفي الوقت نفسه إصدار المراسيم والقوانين التي تفسح المجال للتنظيمات الدينية بأن تتدخل في شؤون الناس الفكرية والثقافية... وتمكينها من امتلاك الكلمة العليا في النشاط الاجتماعي والثقافي والفكري في المجتمع... وهذا أكبر دليل على أنّ العلمانية في بلداننا في خطر، وحيثما تكون العلمانية في خطر تكون الأوطان والدول في خطر... فما السبيل لمعالجة هذا الخطر؟
لماذا الدولة العلمانية؟
لا تزال فكرة "الغاية تبرر الوسيلة" لمكيافلي هي المسيطرة في ذهن السلطات في مختلف دول العالم، بما فيها العلمانية، كما أنّ تلك السلطات في أكثر الدول العلمانية تطوراً تعتمد فكرة مكيافلي، في دور الدين في قوة الدولة، والتي تقول: "لا تستطيع أي دولة ضمان أمنها إلاّ إذا اعتمدت على الدين وشجعته"(6)، وكأنّه يعد الدين من الناحية السياسية مجرد أداة يمكن للدولة استخدامها لإقناع الجماهير بعمل ما تريده هي منهم...
ومع تطور الحياة ودخول البشرية في الألفية الثالثة عصر المعلوماتية ينبغي أن تتطور نظرتها إلى الدين، وإلى أسس بناء وقوة الدولة، ووظيفتها في عصر المعلوماتية تتجاوز رؤية مكيافلي، فضلاً عن أن دراسة تاريخ ظهور وتطور الدولة تبين أنّ الدول التي بنيت على أسس ثيوقراطية لم تعد تلبي متطلبات العصر، وليس لها أفق، كما أن التطور الذي تشهده البشرية في مختلف المجالات العلمية والتقنية وهيمنة عصر المعلوماتية والانترنت، يجعل من عملية بناء الدولة مسألة لها أبعاد عامة إنسانية تتعلق بعلاقة الشعوب فيما بينها، وعدم إمكانية انعزالها في بنى مغلقة، وتتجاوز البنى الدينية... والصيغة المجربة التي تستطيع معالجة التناقضات الداخلية في المجتمع، وتأمين تلاحم بنيته، وخاصة في المجتمعات متعددة القوميات والديانات، هي العلمانية، فضلاً عن أن هذه الصيغة تؤمن علاقة سليمة للدولة وأبنائها مع مختلف دول العالم... وتكمن قوتها في قيامها على أسس سليمة، تساعد المجتمع في معالجة أمراضه، وتفتح أمامه آفاق التقدم، ومن هذه الأسس:
- بناء المجتمع والدولة على أسس حضارية حديثة تنسجم مع متطلبات العصر، باعتماد بنية سياسية تعددية تداولية دستورية عادلة، توفر ظروف التنمية الاقتصادية العادلة... وفق عقد اجتماعي يلبي تطلعات أبناء المجتمع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية التي تكرس انقسام المجتمع... وتنسجم الدولة العلمانية مع متطلبات العصر بانفتاحها على جميع أبناء المجتمع من مختلف الانتماءات، وتوفيرها المعلومة والتواصل المباشر معهم، لأن عصر المعلوماتية هو عصر الشفافية، وعدم إمكانية حجب المعلومة...
- إنّ البلدان متعددة الديانات والقوميات في حاجة إلى حكم علماني يوحد نسيجها الاجتماعي على أسس حضارية مجربة سليمة... لأنّ السلطة العلمانية تحقق درجة من توازن القوى بين جميع طبقات ومكونات المجتمع المتعددة والمختلفة، وتلعب دور الوسيط بينها، وتعالج التناقضات في المجتمع كيلا تصل إلى الحالة التناحرية، وتساعد في بناء مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني المستقلة التي تدير نفسها بنفسها، وتعمل على تحقيق متطلبات بناء الدولة العصرية الحديثة، والتحقق دائماً منها، وأهمها:
- رضا أبناء المجتمع وقبولهم بها،
- تحقق الدولة العلمانية المساواة القانونية والحرية والتنوير لجميع أبنائها...
- وتؤمن الدولة العلمانية الحرية وعدم طغيان أي فكر ديني، أو دنيوي علماني، أو تنظيم على المجتمع، وتتم معالجة هذه المسائل في دستور في الدولة العلمانية، بما في ذلك معالجة مسألة طغيان الأغلبية في الأنظمة الديمقراطية على الحياة السياسية في الدولة، بوضع مواد ونصوص تتضمن أسس ومبادئ لتحقيق المساواة والحرية لجميع أبناء الشعب، وعدم طغيان أي فكر أو قوة سياسية على المجال والفضاء الاجتماعي السياسي والاقتصادي في الدولة. ووضع عتبات دنيا وعليا لتمثيل الأحزاب والقوى السياسية في البرلمان، ومؤسسات الدولة.
- وتؤمن الدولة العلمانية، على عكس الدولة الثيوقراطية فصل السلطات، وحصر المناصب الحكومية الأساسية في الدولة وأعضاء المحكمة الدستورية والقضاة، ومناصب المدراء بمهنيين مستقلين (تكنوقراط)، وإبعاد الصفة الحزبية عنهم، وعدم احتكارها من قبل حزب الأغلبية...
- ومن أسس بناء الدولة العلمانية التداول السلمي للسلطة،
- العدالة الاقتصادية الاجتماعية هي أساس العدالة القانونية، في الدولة العلمانية، وتسعى سلطة الدولة العلمانية باستمرار لتحقيق هذه العدالة، ولتأمين شكل من العدالة الاجتماعية تُعتمد نصوص دستورية تحدد نصيب المركز والأقاليم من الدخل الوطني، وتحدد نسبة الشباب والنساء في البرلمان والمؤسسات الحكومية... وتتطور الدولة عندما تحصل المرأة على حقوقها بالتعادل والمساواة مع الرجل.
- ومن محاسن عصر المعلوماتية أنّه سيلزم الدولة العلمانية بوجود مؤسسات رقابية موازية لمؤسسات الدولة، ومنها وجود برلمان وحكومة إلكترونية، ومؤسسة رئاسة الكترونية ومؤسسات الكترونية أخرى موازية تعمل على إيصال أصوات المواطنين إلى المؤسسات الحكومية، ومراقبة وتصويب عمل مؤسسات الحكومة... وينبغي أن تؤمن مؤسسات الدولة العلمانية، بما فيها الإلكترونية، أوسع مشاركة لأبناء الشعب في اتخاذ القرارات التي تتعلق بشؤون حياتهم، ومن حق كلّ مواطن أن يشعر بكيانه الذي لا يقل شأناً عن أي مسؤول في الدولة، مما يساهم في إيجاد مناخ اجتماعي صحي سليم يساهم في تطوير قوانين وأسس بناء الدولة...
- إنّ أهم ميزات العلمانية أنّها لا تقدس القوانين الوضعية، وبالتالي تبقي مواد الدستور، والقوانين سهلة التطوير والتعديل بما ينسجم مع متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يطرأ على المجتمع، وهي تؤمن تكاتف وتعاضد جميع أبناء المجتمع، وتعمل باستمرار على معالجة أسباب التناقضات التناحرية في المجتمع... ومن هنا يدعو العلمانيون إلى مقارعة الفكر بالفكر، والحجة بالحجة...
ومما لا شك فيه أنّ مسألة الدولة العلمانية تبقى مسألة مفتوحة للنقاش، وتحتاج إلى ندوات وأبحاث مستمرة ومفتوحة في مختلف المنابر الفكرية والثقافية...
ويبقى تآلف العلمانيين والمتدينين المتنورين وسيلة ضرورية لتقدم الحضارة الإنسانية، وعاملاً مساعداً في خروج الإنسانية من أزمتها ومن الخبل الذي يفرض على وعي أبنائها... ومن الطبيعي أن يوجد من يعترض على هذه الأفكار، وعلى هذا التآلف، واصفاً مثل هذه الأفكار بالطوباوية بحجة أنّ رجال الدين كانوا وما زالوا يعملون على "احتكار العقول"، وهم بذلك يسدون جميع سبل الاعتراف بالآخر العلماني، ولكن عقلانية العلمانيين تجعلهم يؤكدون دائماً على ضرورة وأهمية الحوار مع الجميع بمن فيهم المتدينين، لإيجاد الحلول المناسبة لمعالجة التناقضات، والأزمات التي تعيشها المجتمعات البشرية، وإيجاد أفضل صيغة للارتقاء بإنسانية الإنسان كأسمى هدف للدولة العلمانية...
طرطوس 10/11/2018
الهوامش
( 1)ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ ترجمة حافظ الجمالي ـ أسعد صقر ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ـ ص 673:680
(2) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي ـ مقدمة ابن خلدون ـ دار القلم ـ بيروت - الطبعة الرابعة 1981. ص41
(3) علم الدين عبد اللطيف ــ المقدس والدولة - دار الحوارـ اللاذقية - 2016- ص103ص104
(4) انجلس ـ أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ـ مختارات ـ دار التقدم ـ موسكو ـص171
(5) المصدر السابق. ص409 -410
(6) نيقولا مكيافلي – مطارحات مكيافلي – تعريب خيري حماد – دار الاتفاق الجديدة – بيروت 1979








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح