الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بداية ونهاية

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2018 / 11 / 18
الادب والفن


في البداية، يموت الأب فجأة، فتهبط أسرة كامل أفندي علي من شقتها في الطابق الثاني؛ من الشقة التي يدخلها النور والهواء، إلى شقة في الدور الأرضي بمستوى الفناء الترب؛ محرومة من الشمس والهواء، ويعشش فيها البؤس والظلام. يهبط ورثة كامل أفندي علي من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا؛ إلى طبقة الفقراء والشحاذين. ولا يشفع للأسرة أن الأب، وهو العائل الوحيد لها، عمل موظفاً في وزارة المعارف لأكثر من 30 عاماً. فمعاشه بعد هذه الخدمة الطويلة هو خمسة جنيهات فقط، لا تكفي بالكاد إلا لوقاية أفراد أسرته الخمسة من الموت جوعاً.
نحن في منتصف الثلاثينيات. في نهاية عام 1935. لأن حسين يذكر في افتتاحية الرواية (بداية ونهاية، 1949) أنه شارك في المظاهرات المنددة بـ "تصريح هور". وتصريح هور هو البيان الذي ألقاه السير صامويل هور؛ وزير خارجية بريطانيا، في 9 نوفمبر 1935، مدعياً فيه أن دستور 1923 لا يصلح لمصر، وأن مصر لا تستحق الحكم الدستوري ولا الحريات العامة. كان ذلك في عهد وزارة توفيق نسيم؛ الذي بدوره ألغى العمل بدستور 1930، دون أن يعيد دستور 1923. التهبت المشاعر الوطنية حينئذ، بالتزامن مع الاحتفال بعيد الجهاد المصري في 13 نوفمبر، وشهدت مصر مظاهرات عارمة منددة بتصريح هور، ومطالبة بالحرية والدستور، ومنادية بسقوط وزارة نسيم باشا. خرج طلاب الجامعة وتلاميذ المدارس المصرية في مظاهرات في القاهرة والأسكندرية والمنصورة وشبين الكوم وبورسعيد والزقازيق وطنطا. وفي القاهرة، حدث الصدام الشهير بين الطلبة والبوليس عندما حاول الطلبة اجتياز كوبري عباس، فأطلق البوليس عليهم النار، وسقط العديد منهم ما بين شهيد وجريح.

هشاشة وضع الطبقة الوسطى في الثلاثينيات والأربعينيات
تاريخياً، الطبقة الوسطى هي ابنة "الدولة" المصرية وعمودها الفقري، وكانت دائماً ما تقف مع الدولة وتدافع عنها. ومنها كان تحالف الأفندية والضباط الذي قاد الثورة العرابية، ومنها كانت شريحة الأفندية والحقوقيين التي أشعلت ثورة 1919، وهي نفسها الشريحة التي أوجدت الحقبة الليبرالية الأولى في مصر ودافعت عنها. ولم تبدأ الطبقة الوسطى في الوقوف في وجه الحكومات إلا بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر، وبعد تواطؤ بعض حكومات أحزاب الأقلية مع الاحتلال والقصر، في تعطيل الدستور والمماطلة في تحقيق الاستقلال والحرية.
ويبدو أن المحتل الإنجليزي قد فهم الدور الحيوي الذي تلعبه الطبقة الوسطى في الدفاع عن مصر، فحاول إضعافها. ومن ضمن محاولاته إلغاءه لمجانية التعليم وجعله برسوم، لمنع غير القادرين على مواصلة التعليم، بعد أن كانت مجانية التعليم هي السياسة الأولى لمحمد علي في تأسيسه للطبقة الوسطى، التي كان يهدف إلى الاعتماد عليها في بناء مصر الحديثة. ومن أجل ذلك أنشأ المدارس المدنية، في موازة الأزهر والتعليم الديني، وجعل التعليم فيها بالمجان، وكان يعين من ينتهي منهم من دراسته في الدواوين الحكومية، ويرسل المتفوقين منهم إلى البعثات في الخارج. لذلك سنجد أن كثيراً من أبطال محفوظ في فترته الواقعية ينعون حظهم في عدم قدرتهم على استكمال تعليمهم على النحو الذي كانوا يأملونه، بسبب الفقر. أحمد عاكف وعدم قدرته على دخول كلية الحقوق في (خان الخليلي، 1946)، وحسين وعدم قدرته على استكمال تعليمه في (بداية ونهاية)، ومعاناة محجوب عبد الدائم في استكمال تعليمه بسبب فقر الأب في (القاهرة الجديدة، 1945)، على سبيل المثال.
هشاشة وضع الطبقة الوسطى في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ملحوظ على نحو بيّن في أعمال نجيب محفوظ في الفترة الواقعية؛ أي أعماله الممتدة من (القاهرة الجديدة) حتى (السكرية، 1957)، والتي تتوج (بداية ونهاية) و(الثلاثية) فيها قمة الواقعية في أدبه. يكفي أن يتوفى العائل حتى تهبط أسرته إلى الفقر. ولا يقتصر الأمر على أسرة كامل أفندي علي في (بداية ونهاية)، ولكننا نراه أيضاً في طرد الأب من العمل في (خان الخليلي)، وشلل الأب وتوقفه عن الكسب في (القاهرة الجديدة). بل ونلمس ذلك بشكل واضح حتى في أفلام نجيب الريحاني في تلك الفترة: (سي عمر، 1941)، (أحمر شفايف، 1946)، (أبو حلموس، 1947)، (غزل البنات، 1949). إن طرد ابن الطبقة الوسطى؛ الموظف أو المحاسب أو المدرس من عمله كفيل بأن يلحقه بطبقة الشحاذين.
وعلينا أن نتذكر أن نجيب محفوظ في فترته الواقعية كان يهتم برصد تفاصيل البيئة والمجتمع بدقة أكثر من اهتمامه بحشد الشخصيات والأحداث حول فكرة مركزية يؤمن بها أو يتوق إلى عرضها. نقرأ تصريحاً لنجيب محفوظ (مجلة الكاتب، فبراير 1964) يقول فيه: "حين كنت مشغولاً بالحياة، كان أنسب أسلوب لي هو الأسلوب الواقعي الذي قدمت به أعمالي لسنوات طويلة. كانت التفاصيل، سواء في البيئة أو الأشخاص أو الأحداث، على قدر كبير من الأهمية. وهو أسلوب يعكس الحياة في جملتها. وقد تنبثق منه الأفكار بطريقة غير مباشرة. أما، حين بدأت الأفكار والإحساس بها يشغلني، لم تعد البيئة هنا ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها. الشخصية صارت أقرب إلى الرمز أو النموذج، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية". ولا ينبغي مع ذلك الموافقة على الشطط في القول بأن المرحلة الواقعية عند محفوظ هي سجل اجتماعي تاريخي يتخذ شكل السرد الروائي. فأعمال محفوظ الواقعية ليست تسجيلاً تاريخياً بقدر ما هي صور أدبية تجري في سياق تاريخي محدد. عملية خلق وتشكيل فني، يعي صاحبها تماماً السياق المجتمعي الذي تجري فيه. إن أدب محفوظ في فترته الواقعية، هو صور فنية تحمل بصمات المناخ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، كما تحمل لوحة زيتية ملامح الفترة التاريخية التي رسمت فيها.
وبالإضافة إلى إدراك المحتل الإنجليزي لما يمثله وجود طبقة وسطى مصرية قوية من خطر على مصالحه، وبالتالي عمله على إضعافها؛ بفرض رسوم على التعليم، ورفع الأسعار، وتقليص دور الحكومة في توفير الضمان الاجتماعي. فإن هناك سبب آخر لهشاشة وضع الطبقة الوسطى، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وهذا السبب يرجع إلى رغبة المحتل الإنجليزي في تحويل مصر إلى سوق لتصريف منتجاته الصناعية. وربما لهذا السبب حاول منع تطور الاقتصاد المصري الصناعي والزراعي في تلك الفترة، فبدأ أبناء الطبقة الوسطى يعانون، ولأول مرة في تاريخهم منذ عهد محمد علي، من البطالة والفقر وشظف العيش. إن عمومية معاناة أفراد الطبقة الوسطى تظهر في تعليق الأم في الرواية على شكوى ابنها حسنين، حين يشتكي من عدم حصوله، هو وأخيه، على مصروفه اليومي: "سنكون التلميذين الوحيدين اللذين يخلو جيبهما من مصروف..". ترد الأم بحدة: "إنك واهم، والمصائب كثيرة، والتلاميذ المصابون لا حصر لهم.. ولو أنك فتشت جيوب التلاميذ جميعاً لوجدت أكثرها فارغاً".
وإذا كان الاحتلال الإنجليزي قد حاول ما في وسعه سد الطريق أمام تمكين الطبقة الوسطى، فإن الباب الأخير، والشريف، الذي ظل مفتوحاً أمام أبناء هذه الطبقة للترقي، كان هو الالتحاق بالجيش. ذلك أنه ظل هناك باباً خلفياً يلجأ إليه الوصوليون للترقي في السلم الاجتماعي والقفز على الحوائل الطبقية بالمصاهرة: كمحاولة حسنين الزواج من ابنة القريب الثري، أو محجوب عبد الدائم في (القاهرة الجديدة) بالاقتران بصديقة الوزير، أو رضوان في (السكرية) وآفته التي يستغلها في التقرب من الوزير الوفدي للترقي وظيفياً. وقد لاحظ غالي شكري مبكراً (المنتمي: دراسة في أدب نجيب محفوظ، 1969) أنه في المرحلة الواقعية من أدب محفوظ، تكون الكارثة في انتظار ابن الطبقة الوسطى حين يخرج باحثاً عن حل فردي لأزمته الشخصية، بعيداً عن الحل الاجتماعي العام.

الارتقاء عن طريق الجيش
إذن يظل الجيش هو الباب الشريف الوحيد في الترقي وتحسين الوضع الاجتماعي. صحيح أن المحتل الإنجليزي، والقصر، قد وضعا من القيود على سياسة الالتحاق بالجيش ما يحد كثيراً من فرص أولاد الطبقة الوسطى لدخوله. لكننا نعلم أن الحال لم يكن كذلك قبل الاحتلال الإنجليزي، وأن محمد علي حين أراد تأسيس جيش مصري على الطراز الأوروبي الحديث، جند له أساساً أبناء الفلاحين، الذين تدربوا ونظموا على يد الكولونيل الفرنسي سليمان باشا الفرنساوي. ويذكر كلوت بك (أنطوان بارتيليمي كلوت، 1793-1868) في كتابه (لمحة عامة إلى مصر، القاهرة: مطبعة أبي الهول، 1840، تعريب/ محمد مسعود) أن محمد علي حين استتبت أموره في الداخل، بدأ يعد العدة لبناء جيش مصري على الطراز الأوروبي الحديث، ولكنه وجد مقاومة من جنوده الأتراك والألبانيين. فأخذهم بالحيلة، وأرسلهم في حملات لفتح الجزيرة العربية، وسنار وكردفان؛ اللتان سقطتا في يد مصر عام 1820، وهكذا تخلص منهم، وبدأ في برنامجه الضخم لبناء الجيش المصري على الأساس الحديث، فاختار أسوان مركزاً لتدريبه تحت قيادة الكولونيل الفرنسي سيف (سليمان باشا الفرنساوي)، وجند له أبناء الفلاحين. ويستنتج لويس عوض في كتابه (تاريخ الفكر المصري الحديث، 1969) أن اختياره لأسوان كان لعزل الجيش الوليد عن المؤامرات السياسية في العاصمة القاهرة. كذلك بنى محمد علي أسطولاً بحرياً ضخماً.
يذكر كلوت بك أن القوات المسلحة المصرية؛ من برية وبحرية، قد بلغت في تلك الفترة 277200 جندياً مصرياً (قُدِّر عدد سكان مصر عام 1800 بـ 2,5 مليون نسمة). منهم 130 ألفاً من القوات البرية النظامية، و42 ألفاً من القوات البرية غير النظامية، و48 ألفاً من الحرس الأهلي، و41 ألفاً من رجال البحرية وعمال الترسانة، و15 ألفاً من عمال المصانع الحربية الفنيين، و1200 من طلبة المدارس الحربية. وقد دربوا ونظموا جميعاً (وجلهم من الفلاحين) على الأسس المعمول بها في الجيش الفرنسي والبحرية الفرنسية، ومن تلك الأسس نظام التجنيد الإجباري، بدلاً من الاعتماد على الإنكشارية المرتزقة، مما جعل قوام جند الجيش المصري من المصريين.
وكان التجنيد الإجباري للفلاحين في مصر، جنباً إلى جنب مع إنشاء المدارس المدنية الحديثة وجعل التعليم فيها بالمجان، هما الدعامتان اللتان تأسست عليهما الطبقة الوسطى المصرية الحديثة؛ والتي رغب محمد علي في الاعتماد عليها لتأسيس مصر الحديثة. وكان قد فطن مبكراً إلى أنه لن يصلح لقيامها وإدارتها النخب المجتمعية التقليدية المهترئة. ولهذا ركزت سياساته الاقتصادية والإدراية والتنموية في تأسيسه للطبقة الوسطى على التجنيد الإجباري للفلاحين من ناحية، والتعليم الحديث الذي أمد الدولة بموظفي الجهاز الإداري والتنفيذي من بين أبناء تلك الطبقة؛ التي تعلمت في مدارس الدولة، وتوظفت في دواوين الدولة، وحملت مشعل النهضة المصرية الحديثة، قبل أن يضع المحتل الإنجليزي أمامها العوائق: بإلغاء مجانية التعليم، وتحجيم الالتحاق بالجيش المصري وجعله قاصراً على أبناء الطبقة العليا.
ولكن بمنتصف حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي شهدت تلك السياسة للمحتل الإنجليزي تغيراً حاداً. فلأنه كان يتوقع، ويستعد، لنشوب الحرب العالمية الثانية، قرر السماح، بل وتشجيع، الحكومة المصرية على توسيع الجيش المصري، وزيادة عدده، ورفع مستوى أسلحته، وكفاءته التدريبية. حتى أنه في منتصف الثلاثينيات، كثيراً ما تكررت مسألة فتح الباب استثنائياً لقبول دفعات في الكلية الحربية من تلاميذ المرحلة الثانوية الذين لم يستكملوا بعد الحصول على التوجيهية. فكان يتم استكمال دراستهم الثانوية داخل الكلية الحربية نفسها، ليتخرجوا ضباطاً حاصلين أيضاً على التوجيهية العسكرية. ويذكر خالد محي الدين في مذكراته (الآن أتكلم، 1992) أنه دخل الكلية الحربية بهذه الطريقة عام 1938، بعد حصوله على شهادة الثقافة العامة (الصف الرابع الثانوي، بعد الابتدائية. أي حين كان يبلغ من العمر ستة عشر عاماً، ليتخرج بعد عامين ملازماً ثان في سلاح الدبابات).
كانت هذه هي الفترة التي شهدت أكبر التحاق لأولاد الطبقة الوسطى بالجيش المصري: جمال عبد الناصر، ويوسف صديق، وزكريا محي الدين، وعثمان فوزي، وأحمد عبد العزيز، ولطفي واكد، وثروت عكاشة، وصلاح سالم، وكمال الدين حسين، وعبد اللطيف بغدادي، وحسن إبراهيم، ومجدي حسنين، وصلاح هدايت، وحسن عزت، وأحمد مراد، وعدنان الصلح، وأحمد مظهر، وأنور السادات، وغيرهم الكثيرون. يقول خالد محي الدين في مذكراته: "في عام 1936، وبعد توقيع المعاهدة البريطانية-المصرية (التي نصت على انتقال القوات البريطانية من المدن إلى قناة السويس والأسكندرية، والتزام الحكومة المصرية بتقديم المساعدة والدعم في حالة دخول بريطانيا الحرب)، اتجهت النية لزيادة عدد الجيش، ومن ثم زيادة عدد الضباط. ولعل الإنجليز أدركوا احتمال الاحتياج إلى قوات مصرية في صدامهم المرتقب مع هتلر، فقرروا زيادة الجيش وزيادة تسليحه، وتحويله إلى جيش حقيقي. وقبل 1936، كانت الكلية الحربية لا تقبل إلا عدداً محدوداً من الضباط، كلهم من أبناء الفئات العليا المصرية، وكانت الدراسة بها شكلية، تُخرج ضباطاً ليس مطلوباً منهم أية واجبات قتالية أو عسكرية حقيقية. وفي الفترة من 1936- 1938، تدفق إلى الكلية الحربية كثيرون من أبناء الطبقة الوسطى، وربما من الفئات الدنيا منها (صغار الموظفين، متوسطي وصغار الملاك، التجار المتوسطين..وهكذا)، وأصبحت البرامج أكثر جدية، وسرعان ما ذخرت الكلية؛ أساتذة وطلاباً، بموجة وطنية عالية."
إن دخول حسنين إلى الكلية الحربية قد تم في هذه الظروف. ولذلك تنجح مساعيه في الترقي الاجتماعي السريع وانتشال أسرته من براثن الفقر، في خلال عام واحد من قبوله في الكلية الحربية (وقد تخرج وعمره 19 عاماً لظروف الاستعداد للحرب). فتنتقل الأسرة من مسكنها الحقير في البدروم بـ "عطفة نصر الله" بحي شبرا، إلى حي "مصر الجديدة"؛ الحي الجديد الذي سينتقل إليه أبناء الطبقة الوسطى المصرية الذين نجحوا في النجاة من الأزمة الاقتصادية التي شهدتها الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. يذكر خالد محي الدين في مذكراته أن راتب الملازم ثان في بداية تخرجه في ذلك الزمن كان 12 جنيهاً مصرياً؛ ويعلق بأنه كان مبلغاً كبيراً حتى بالنسبة للضباط المتزوجين، وقادر على حل المشاكل المالية التي كانت تواجه الكثير من المصريين في ذلك الوقت.

الشر الهيكلي، والخلاص الفردي
لا تبدأ البلايا في طرق باب حسنين، الفتى الطموح، إلا بعد تمرده على طبقته، وسعيه لاقتلاع نفسه تماماً منها، توقاً إلى أن يبدأ من نقطة بكر. ليس فقط بمحاولته محو الماضي؛ وانتقاله من "عطفة نصر الله" إلى "مصر الجديدة"، وفسخه لخطبته من بهية، وتبرأه من أخيه المجرم الطريد حسن، ولكن أيضاً بسعيه الوصولي لمصاهرة "القريب" الثري والزواج من ابنته، طمعاً في مزيد من الترقي الاجتماعي وسكنى القصر الأنيق. لكن حسنين باقتلاع نفسه من الطبقة يضع نفسه وسط العواصف، فهو لن ينجح سوى في الارتطام بالسدود الطبقية، ولن يفلت من مصير طبقته، بل وستكون نهايته فاجعة.
ولا كذلك حسين ابن طبقته الواعي بالمناخ السياسي والاقتصادي في المجتمع، والذي يظل ملتزماً بوضعه الطبقي، ولا يبحث عن خلاصه الفردي خارج حدود الطبقة. هذا المحافظ، ككل الشخصيات المناظرة في أدب محفوظ، سيجني بضع قطرات من الخيرات، وقليل من المنافع الصغيرة والمؤقتية، مكافأة على وعيه بوضعه الطبقي وبهيكلية الأوضاع الاجتماعية. سيحصل على وظيفة حكومية، فيكون حاله مثل حال والده الراحل، وزيجة ممن أحبها قلبه، واحترام من الأسرة والجيران وزملاء العمل. لكن لنا أن نتوقع أن قدره سيكون محكوماً بنفس المصير المشؤوم والحتمي لكل أفراد الطبقة الوسطى طالما ظلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على حالها؛ أي أن مأساة الوالد كامل أفندي علي ستتكرر مرة أخرى في ابنه حسين؛ ليس تكرار الشوق بل تكرار العجز.
من الملفت في أعمال نجيب محفوظ، في الفترة الواقعية، وعيه بالظروف الهيكلية في المجتمع؛ أي بمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على مصير الأفراد، خصوصاً الطبقة الوسطى. فهو ليس من فئة الكتاب المدرسيين الذين يرون بأن مصدر الشر فردي؛ مسؤول عنه الفرد نفسه فقط، وبالتالي فإن الإصلاح لابد وأن يكون فردياً أيضاً؛ بصلاح النفوس البشرية والرجوع إلى الأخلاق المنسية. وقد نجد في (بداية ونهاية) تصريحاً واضحاً يعكس وعي حسين بأثر هيكلية الظروف على حاله وحال أسرته؛ إذ نسمعه يقول في تأملاته في القطار، وهو في طريقه لاستلام وظيفته في طنطا:
-"لولا الفقر لواصلت تعليمي، هل في ذلك من شك؟ الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية. لست حاقداً ولكني حزين. حزين على نفسي وعلى الملايين. لست فرداً ولكني أمة مظلومة".
لقد تخلص حسين، على عكس أخيه حسنين، من شهوة الحقد، فخف هيجان نقمته، وحل محله عمق الوعي، وحدة الألم، وحزن الاحتقار. والمؤسف أن الفيلم يهمل تأملات حسين في الرواية، وهي مهمة لفهم الشخصية، كونه يحمل عبء التعبير عن طبقته. إن حسين هو النموذج لابن الطبقة الوسطى الواعي بأن صلاح الحال الفردي لا يتم إلا ضمن إصلاح النظام السياسي والاقتصادي القائم. إنه واع بوحدة مصير طبقته. وهو وعي لمسناه من قبل لدى علي طه ومحجوب عبد الدائم في (القاهرة الجديدة)، وأحمد عاكف في (خان الخليلي)، وإن اختلفت سبل كل منهم في الحياة.
إننا نلمس إدراك نجيب محفوظ بأن السبل الفردية لمقاومة الظلم والفساد محكوم عليها بالفشل. النزوح الطبقي الفردي لن يؤدي إلا إلى كارثة. ويمكن هنا ملاحظة مصير حسن الطريد المجرم؛ الذي حاول أن يجعل من نفسه استثناءًا من البيئة القاسية التي تحيا فيها طبقته؛ بخروجه عن القانون وسيره في طريق الجريمة. إن اقتلاع الأخلاق نفسها سعياً للتحرر من السدود الطبقية لن يحل المشكلة. ونلمس ذلك أيضاً في مصير حسنين المتمرد النزق الذي حاول بالانتهازية والأنانية مصاهرة طبقة أعلى نابذاً طبقته. إن كلا السبيلين الفرديين في الإطاحة بالحاجز الطبقي ينتهي بالسقوط على نحو كارثي. ولن يوجد حل لمشكلة الأفراد بعيداً عن الحل الاجتماعي-الاقتصادي العام. ولذلك يستسلم حسين، الأكثر وعياً بهذه الحقيقة، ويذعن لمصير أشبه بمصير الوالد الراحل.
يقول حسين في تأملاته: "هيهات أن تذهب من مخيلتي صورة جثمانه. رحمة الله عليه، ليس الذنب ذنبه. كالدجاج نلتقط رزقنا بين القاذورات. ولكن لا حياة إلا بالإذعان." إن حسين هنا، ورغم "صوابه الطبقي"، إلا أنه مناقض في إذعانه لعلي طه في (القاهرة الجديدة)، فهو يخضع للظروف ولا يحاول مقاومة المصير المفروض. إن حسين يقرأ كتاباً عن الاشتراكية، ويعجب بأفكارها، ربما لأنه يجد فيها تفسيراً لشقاء طبقته المظلومة، أكبر وأعم من مجرد كونها مأساة فردية خاصة بأسرته، ولكنه لا يطور هذا الوعي بشيء من الفعل، على عكس علي طه، بل يسعى فقط إلى إصلاح حياته الخاصة هو وأسرته. لذلك سيكون محكوماً بالمصير الحتمي لأفراد الطبقة؛ أي نفس مصير الوالد الموظف، مادام النظام الاقتصادي-الاجتماعي ظل على حاله. لن ينتهي حسين بسقوط كارثي مثل شقيقيه، ولكن بأفول تدريجي، بتحلل بطيء، مثل باقي شخصيات نجيب محفوظ الأكثر وعياً بالظروف الاقتصادية-الاجتماعية على المصير الفردي.
لكن تركيز الفيلم على الأحداث الدرامية الساخنة؛ خصوصاً مسيرة حسنين حتى سقوطه، وإهماله لجانب التأملات الهامة التي تسوقها الشخصيات في الرواية؛ خصوصاً تأملات حسين لأوضاع طبقته وأمته، يحرم الفيلم من أهم جوانب القوة في الرواية، ويحصر نفسه في فخ العواطف السهلة. إن الدراما الساخنة هي أقل ما في أدب محفوظ شأناً. وما يجعل (بداية ونهاية) تتربع على عرش الفن الواقعي عند محفوظ، هي و(الثلاثية)، هي عناصر أهم بكثير من سخونة الفعل الدرامي الذي لا تحرص السينما الشعبية إلا عليه. إن أقوى ما في أدب محفوظ أعمق من الدراما؛ إنه ينبع من "فائض" الدراما.
ولذلك يظل أدب نجيب محفوظ أكثر غزارة وعمقاً من الأعمال السينمائية المعدة عن رواياته، لأنه يظل قادراً على التعبير عن ألوان متعددة في النفس البشرية، والمجتمع، بأكثر من السينما الشعبية التي لا تعكس سوى اللونين الأبيض والأسود؛ لزوم السخونة والصدمات الدرامية. وربما لذلك يفضل محفوظ منطق الأفول (أي التحلل التدريجي البطيء) لأهم شخصياته بأكثر من منطق الصدمات. أي يفضل الأكثر فنية. إن الأفول، على عكس الصدمات، يتيح ملاحظة رائحة عفونة التحلل من جهة، ويوفر الهدوء اللازم للاستيعاب، وبالتالي لتغلغل "الخبرة" إلى نفس القارئ؛ فتصبح الرواية جزءًا لا يتجزأ من حياته، أي جزءًا من خبرته.

إدانة نفيسة في الفيلم، وتخلف الفيلم عن الرواية
إننا نرى في أدب نجيب محفوظ ما وراء الخير والشر، بينما لا تعكس السينما المعدة عن أدبه سوى الخير والشر فقط، لأن اهتمامها هو الإثارة والدراما الساخنة. وأقوى ما في أدب محفوظ الواقعي لا نعثر عليه في لحظات الإثارة، بل في لحظات الاسترخاء؛ كمثل مناجاة حسين وهو في القطار إلى طنطا. أو كمثل وصفه البديع للحظة سقوط نفيسة لأول مرة: "فعاودها الذهول والتخدير والرغبة والخوف، وامتزج في صدرها القلق واللذة واليأس، ثم اشتدت الظلمة، ظلمة عميقة غريبة، كأنما تنشر أجنحتها على فضاء لا نهائي، فلا مكان ولا زمان". مثل تلك الخصوبة في الرواية، تتبخر في الفيلم الذي يركز على سخونة الفعل الدرامي وإثارته. بل وينزلق صانع الفيلم (سيناريو/ صلاح عز الدين، إخراج/ صلاح أبو سيف. إنتاج/ دينار فيلم، 1960) إلى ما يكاد يكون مناقضاً للرواية؛ حين يدين سقوط نفيسة، وبالذات في مشهد المواجهة بينها وبين سلمان البقال.
- نفيسة: الجوازة دي لازم ترفضها..
- سلمان: ماكتبنا خلاص..
- نفيسة: آه يا مجرم يا سافل يا ندل..
- سلمان: عيب يا نفيسة إحنا في السكة..
- نفيسة: إنت تعرف العيب يا كلب..
- سلمان: الله.. مابلا هوسة بقى.. أنا كنت خطفتك من الشارع مانتي اللي جاية معايا برجليكي..
- نفيسة: أنا هاخزقلك عينك يا مجرم..
- سلمان: أوعي تقربي مني والله لو مابعدتي عني لأجبلك العسكري..
يدخل بائع روبابيكيا من خلفية الكادر.
- البائع: جزمة قديمة للبيع.. بيكيا..
إننا هنا نلمس نظرة متعجرفة، تقليدية ورجعية، في تصنيف نفيسة على أنها عاهرة رخيصة. إن صوت بائع الروبابيكيا هو صوت صانع الفيلم الذي يشينها، لا صوت الحدث نفسه، لإن الحدث قد انتهى بفرار سلمان البقال من أمامها، وما يعقبه من نداء لبائع الروبابيكيا هو التعليق على الحدث من جانب صانع الفيلم. إنه وجهة نظره في نفيسة بعد السقوط. إن أسلوب السرد السينمائي، خصوصاً بعد انتهاء الحدث الدرامي، يكشف عن موقف صانع الفيلم من الشخصيات والأحداث. ويحتمل أن يكون صانع الفيلم أقل فهماً للمعالجة الحساسة لشخصية نفسية من الرواية التي تسعى لإنصافها. إن عظمة شخصية نفيسة في الرواية يكمن في اعتقادها بأن العلاقة الجسدية المأجورة أتفه من أن تؤثر في روحها. لذلك يحمل صانع الفيلم إحساساً مرتبكاً تجاه نفيسة؛ فيعرضها على أنها تستحق الشفقة في بعض المواقف، أكثر مما هي شخصية مأساوية تستدعي الاحترام.
ويمكن أن نسوق مثلاً آخر على أسلوب السرد السينمائي الذي يكشف عن الموقف الرجعي للسارد تجاه المرأة؛ صوت السارد نفسه لا صوت الحدث الدرامي. في فيلم (فيلم ثقافي، تأليف وإخراج/ محمد أمين، إنتاج/ العدل فيلم، 2000)، وفي الفاصل بين حدثين دراميين، وبعد أن انتهت بالفشل محاولات الشبان الثلاثة لمشاهدة الشريط الجنسي في المسجد، وفي انتظار تعليمات برايز الجديدة بمكان توفر فيديو يمكن أن يشاهدوا عليه الشريط، يجلس الأبطال الثلاثة على عشب الحديقة العامة متأملين حالهم. إننا هنا بإزاء صوت صانع الفيلم نفسه، وملاحظاتهم عن أحوالهم البائسة هي ملاحظات صانع الفيلم. لسنا في داخل حدث درامي، ولكنها الهدنة الدرامية التي يجد فيها السارد فرصته للتعليق على الأحداث والشخصيات. ففي هذه الأثناء، تدخل فتاة مُخَمَّرة الكادر. ونسمع التعليقين التاليين من الأبطال:
- أحمد رزق: يا سلام.. آهو كده.. لو كل الحريم بقت تلبس كده كنا اترحمنا..
- فتحي عبد الوهاب: ولَّا حتى زي التانية اللي جاية علينا دي.. آهي موضة وشيك وفي نفس الوقت حشمة.. مش مستفزة..
إننا هنا نلمس من صانع الفيلم نفس النظرة التقليدية الرجعية تجاه المرأة؛ ككائن مغو ومستفز ومثير للشهوة.

النهايات المتشائمة في مرحلة محفوظ الواقعية
يقول نجيب محفوظ في مجلة (الرسالة الجديدة، عدد 37)، معلقاً على النهاية القاسية في (بداية ونهاية): "إن خاتمة الأسرة المصرية التي تناولتها قصة (بداية ونهاية) –وهي أسرة حقيقية عرفت أفرادها جميعاً-، كانت في الواقع نهاية سعيدة. ولكني فضلت أن أعرض قصتها منتهية هكذا بمأساة، حتى أستطيع أن أشحن عواطف القراء بانفعالات كالتي بعثتني على كتابتها".
إن نجيب محفوظ هنا ينتصر على الاستثناء الفردي لصالح تعميم الفاجعة المشتركة. إن النهايات القاسية في أدبه في فترة الواقعية هي دليل على رؤيته الواعية لهيكلية الشر في المجتمع. والنهايات القاسية في (القاهرة الجديدة)، و(زقاق المدق)، و(بداية ونهاية) هي شواهد على وعيه بالظروف الهيكلية الخارجة عن إرادة الإنسان، وإدراكه لما وراء الخير والشر الفرديين، والنجاح والفشل الشخصيين. فرغم أن خاتمة الأسرة التي تناولها في (بداية ونهاية)، كانت في الواقع خاتمة سعيدة؛ بنجاح حسنين في تحقيق الانفراجة المالية للأسرة، بالتحاقه بالجيش المصري، إلا أن محفوظ قدَّر أن النجاح الفردي سيحجب المأساة الجماعية، ففضل أن يختم قصتهم بمأساة، وبفواجع متتالية ونكبات متلاحقة. فنجاح حسنين الشخصي هو نجاح فردي واستثنائي، لا ينفي مسؤولية الظروف الهيكلية (أي مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية) عن نكبات الطبقة الوسطى. إن انتهاء مصير الأسرة في الرواية بفاجعة يعني التعميم، ويعني رغبة في جعل الرواية علامة على مرحلة في تاريخ الطبقة الوسطى المصرية، لا مجرد قصة نجاح فردي في مجتمع يعاني الشقاء. تستحضر الرواية حال الطبقة الوسطى كما يستحضر حال الطبقة الوسطى الرواية. إن محفوظ هنا لا يرسم فقط صورة فنية للواقع، بل يضيف إليها ألواناً من وعيه بالمناخ الاقتصادي والاجتماعي. وهذا الوعي يجعل "محوله" حساس وهو يحول المفتت اليومي إلى قطعة مكثفة من العمل الفني.
لقد شهدت مصر في الثلاثينيات من القرن الماضي أشد الأعوام قسوة على الطبقة الوسطى المصرية، فقد عانى الاقتصاد المصري في تلك الفترة -بعد أن قام المحتل الإنجليزي بربطه بالاقتصاد العالمي- من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى (الكساد الكبير في 1929، والذي استمر طيلة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي)، وذاقت الطبقة الوسطى فوق ما تحتمل. جمدت الرواتب، وأغلق باب التوظيف، وكسدت التجارة، وخربت بيوت الفلاحين، وأغلقت ورش الصناع والحرفيين. وزاد من عمق المعاناة وثوب أحزاب الأقلية إلى الحكم، ومهادنتها للمحتل الإنجليزي وحرمان الشعب من الدستور.
وربما لأن ظروف الطبقة الوسطى في الثلاثينيات، تشبه كثيراً حال الطبقة الوسطى المصرية منذ ما بعد الانفتاح الساداتي وحتى الآن، فإن رواية (بداية ونهاية) تظل عملاً كلاسيكياً باقتدار. إن ما يجعل العمل الأدبي أو الفني كلاسيكياً هو قدرته على "السياقية"؛ أي إمكانية أن ننزعه عن سياق زمنه، ونعيد قراءته أو مشاهدته في سياق الزمن الحاضر، فنجده صامداً أمام امتحان الزمن، وأمام إعادة القراءة. ومعظم أعمال محفوظ الروائية في الفترة الواقعية تنجح دائماً في هذا الامتحان. فهي تلقي ضوءًا كاشفاً نفهم به ماضينا على نحو أفضل، بل وحاضرنا أيضاً. إننا نفهم الماضي فهماً جديداً، وجيداً، من خلال تجربتنا الآنية في الحاضر. ويكون فهمنا للماضي على نحو أفضل كلما توافرت ظروف في الحاضر تشبه تلك التي كانت في الماضي. وهذا بدوره يُعدِّل من فهمنا للحاضر نفسه. ومن هنا يكون للماضي وجود مستمر في الحاضر. إن تاريخ مصر المعاصر ليس أحداثاً متعاقبة، بقدر ما هي مُضَفَّرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - للأستاذ الفاضل/ سيد راضي
محمد الفقي ( 2018 / 11 / 19 - 12:33 )
ألف شكر يا أستاذ سيد، شرفني جداً قراءتك للمقالات، وشرفني جداً تعليقك.

اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ