الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقاومة المدنية كفن للعيش!

فؤاد بلحسن الخميسي
كاتب وباحث

(Belahcen Fouad)

2018 / 11 / 18
المجتمع المدني


«يمر المستقبل عبر المقاومة»
إدغار موران


أمام تراجع السرديات الصلبة الكبرى (الأيديولوجيات اليمينية واليسارية والدينية)، نسجل بروز وسيادة سردية كبرى جديدة تحت قيادة الشركات الكبرى (العابرة للحدود والوطنية)، بدعم من أنظمة نيو-ليبرالية وإمبريالية. فهذه الشركات، من خلال¬ إمكانياتها العلمية الهائلة ورأسمالها الكبير وقدراتها على التخطيط ونفوذها الإعلامي الواسع وتأثيرها السياسي العميق، تبدو أنها هي الوحيدة التي تعي ذاتها وقوتها وتعرف ما تريده وكيف تجعله واقعا. وهكذا، فإنها، بتواطؤ مع الأنظمة المذكورة واستدراج الأنانيات التي ما فتئت تتضخم (تفكير الفرد في مصلحته ومصيره حصرا)، أسَّسَت لأيديولوجية توجيه القطيع نحو الاستهلاك. وتَـعود خطورة هذه الأيديولوجية الجديدة في أنها لا تصنِّف الناس إلى معي أو ضدي، بل هي تُناور بنفَس طويل وتُراهن على الوقت، عبر سياسة تقسيطية، إلى أن يمتلئ المستهلك بأيديولوجيتها ومنتجاتها على حد سواء.
هكذا، وبسبب هذه الهيمنة للرأسمال على الفضاء العمومي والإدراك الفردي، نسجل تفكيكا تدريجيا لعديد من السلط؛ سلطة الدولة، سلطة الجماعة، سلطة المثقف، سلطة الحقيقة، سلطة الأخلاق... لفائدة سلط جديدة؛ سلطة المصلحة، سلطة النرجسيات، سلطة التسطيح، سلطة المغالطة،...
بدون وعي الأفراد لذواتهم يفقدون الكثير من قدراتهم على السيطرة على مصيرهم. أيديولوجية توجيه القطيع تُغذي سلسلة من الاستجابات (ردود الأفعال) الهدامة للأفراد والجماعات على حد سواء. ولا عجب من حديث البعض عن الانتحار النفسي الجماعي. وهذا بالضبط ما كانت تقوم به الديكتاتوريات على مر التاريخ: إلغاء الإرادة الحرة للأفراد والجماعات. والاختلاف البسيط بين الأمس واليوم، هو أنه في عصر الأنفوسفير (الغلاف المعلوماتي) -والمصطلح للفيلسوف لوتشيانو فلوريدي- ما عاد هذا الإلغاء يستدعي إكراها بدنيا أو عنفا عاريا، بل يكفي امتلاك ناصية المعلومة والتدليس على العقل. لذا لا غرابة من جعل المعلومة اليوم، جمعاً وتخزينا وتصريفا وإدارة وتوزيعا، موضوعا لحرب ضَروس بين الكبار، بالطريقة التي تجعل من الأفراد مجرد موارد في لعبة محددة الأدوار والرابحين.
تراهن القوى المتحكمة في حركية العالم اليوم (الشركات ودول الاستكبار العالمي) على المعلومة بعد أن صار همها الأول والأخير هو الخلق القسري "للحقائق" التي من المفروض أن تشكل وعي ولاوعي الفرد والجماعات في عصر الاستهلاك وتحويل كل شيء إلى أرقام اقتصادية، حتى لو اقتضى الأمر استعمال المغالَطة والتزييف والتسطيح وتدمير الأذواق الثقافية وتفكيك البنيات الاجتماعية وتحطيم الكيانات السياسية وخيانة العقل.
إن اليأس والإدمان وانعدام الرؤيا وعدم الصبر وضعف المبادرة وقلة الإبداع وفساد النخب وتفكيك مؤسسات التضامن الاجتماعي وتحييد القيم من الفضاء العمومي وتبخيس الأخلاق على مستوى الفضاء الخاص للأفراد، تُغذي وتخلُق إنسانا تابع وغير فعال يسير بقدميه مفتوح العينين في اتجاه حتفه. إننا أمام محاولة حثيثة لتعرية الكائن من كل مقومات الصمود والثقة في الذات والاستمتاع بالحياة.
وفي الحقيقة إن شلل الإرادة والفعل هو أسوء ما قد يصيب الفراد والمجتمعات. فحينما يمسي الكسل والانتظار السلبي والتواكل ثقافةً يصير الواقع مَعْرِضا لأبشع الانحرافات المجتمعية. وهو ما يزيد استفحالا بسبب هذا التجريف المتواصف للأطر الثقافية بكل ما تحمل من قيم العيش المشترك والاحترام المتبادل والحب اللامشروط والتضحية لمصلحة الجماعة و الغير.
أمام هذا التدهور الكبير في الواقع وفي الإدراك والنفسية الجمعِيَـيْن؛ وبسبب أن الناس فقدوا الكثير من المعايير الاجتماعية لدرجة أمسوا لا يعرفون ما هو متوقع منهم ويجدون من الصعب تشكيل أفعالهم طبقا للمُوَجهات الاجتماعية السابقة (الشعورهم باللامعيارية كما تحدث عنه السوسيولوجيون )؛ أمسى شلل الإرادة والفعل أكبر شاهد على عُقَدتنا المرضية المزمنة. يتذمر الشعب باستمرار وبلا طائل من غياب مؤسسات الدولة في وقت يستطيع هو أن يعوض هذا الغياب في أكثر من موقع ومجال، وتكتفي الكثير من النخب بالبحث عن الخلاص الفردي عبر صفقات مربحة. بينما أمسى أنصاف المثقفين جزءا من المشكل عوض أن يكونوا جزءا من الحل...
وبقدر ما تفسد النخب يتكرس شك المجتمع في الإصلاح والمؤسسات، بل ويصير هو نفسه أكثر قابلة للتنصل من جميع القيم (النزاهة، الاستقامة، الشعور بالكرامة، رفض الظلم، التعاون،...) حتى تلك التي تعود عليه بالنفع (كالتضامن، قول الحقيقة، مقاومة التطبيع مع الفساد ومناهضته عمليا،...). يكرس الفساد الشعور بعدم الثقة بين الشباب والنخب، بين الناس والمجتمع المدني، بين الناخب والسياسي، بين الخاضعين للقوانين والقوانين نفسها،... وتنتهي السلسلة بأن يعدم المواطن في نفسه الاستعداد للتضحية ويقطع رباط الوفاء بينه والوطن (أي بينه والدولة كمؤسسة جامعة وبينه والحكام كمسؤولين عن رعايته). وهل للأمم أن تنهض بدون شرعية ومشروعية؟ !!
عمليا، تجري معارضة هذه التوجهات الدراماتيكية بصورة متباينة. ففيما يخص الشبان والشابات، الفئة المعنية أكثر بمستقبل البلاد، مثلا. نجد أنهم قد جعلوا من شاشاتهم الصغيرة منصات للانتقاد والفضح، فيما يَعتبرونه طريقا لإسماع صوتهم وتغيير الوضع. لكن هل فعلا يقدم هؤلاء عرضا مقنعا على هذا الصعيد؟ بلا شك، تحوَّل الشباب إلى مؤسسة رقابة على الحكم وتدبير الشأن العام. وفعلا، سمحت هذه الرقابة برفع منسوب الوعي السياسي لدى هذه الفئة، بيد أنها لم تثبت فعاليتها إلا في حالات قليلة. النقد مفيد، لكن أن يتحول إلى مجرد "نْــڭِير عجائز" لا يفيد على المدى الطويل. قضايا الإصلاح من بين المسائل التي تحتاج إلى إعادة النظر في تكتيكات النقد الشبابي. الاكتفاء بالنقد عبر مواقع التواصل الاجتماعي يعطي للساسة وأصحاب النفوذ وحتى المفسدين، مع الوقت، اطمئنانا من جهة الشباب. ما نفع كلب الحراسة الذي ينبح باستمرار ولا يعض أبدا!؟
إن التغذية السلبية لنرجسية الشباب على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي يسحب من تحت أقدام هؤلاء القوة الحقيقية، قوة الفعل في الميدان. فالاكتفاء بتداول المعلومة لا يُؤَسِّس فوارق كبيرة على الأرض إلا بالقدر الذي يقرر الفاعلون الحقيقيون – أي الساسة ورجال الاقتصاد من فئة الكبار - الاستجابة على الأرض لِــما يُتداول على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي. كما أن الاحتجاج على طول خط العمل المدني غير كاف، لأن الاحتجاج معلوماتيا وحده لا يبني. هذا مع العلم أن خصوم الإصلاح باتوا موجودين هم أيضا على مستوى المواقع التفاعلية، وهم يدفعون بآرائهم ويخلقون رأيا عاما منافسا من خلال إدارة عديد من الصفحات واسعة الانتشار. وما هو مؤكد، في الأمد القصير، هو أن جبهة مقاومة الاصلاح ستُمسي أكثر قوة ونفوذا على مستوى هذه المنصات التفاعلية جنبا إلى جنب مع الشباب وجبهة الإصلاح عموما. فجبهة مقاومة الإصلا ليست مغفلة إلى الدرجة التي تُخلي هذا الفضاء الجديد للتعبير وصناعة الرأي حكرا على الشباب والمعارضين للوضع القائم وللإصلاحيين عموما.
حينما تُطرَح المقاومة المدنية كفن للعيش، فلأنها أمست سورَنا الأخير في وجه الفظاعة والسقوط الجماعي. المقاومة المدنية أمل الإنسان في استعادة إنسانيته وتحكمه في مصيره وضمانه لحريته.
ومفهوم المقاومة هنا لا يعيد بالضرورة أفكارا سابقة آمنت بالصراع كمحرك للتاريخ والفعل أو لبلوغ التقدم. المقاومة هنا تأخذ، أولا، معنى التفكير المبدع خارج إسار إكراهات الواقع بما يعطي معنى جديدا للعيش، وثانيا معنى الفعل الجماعي الذي يخلق حركيات جماعية جديدة تصون الإنسان من السقوط في شلل الإرادة والفعل. أي المقاومة كفن للعيش بأقل ضرر ممكن للروح وبأكبر تفكير وعمل ممكنين في الفضاء العمومي خدمة للجماعة.
لطالما أرعبت دينامية الجماعات المستقلة الديكتاتوريات والسلطويات الرخوة والصلبة في السابق ومازالت. يُؤوَّل العمل الجماعي كتهديد لكل سلطة مــهَيْمنة على الموارد الرمزية والمادية التي تعود للشعوب. لاحظ مسيرات العودة السلمية في فلسطين وكيف تواجَه بالرصاص الحي لتَرى كيف يخاف المحتل من العمل الجماعي المقاوم الذي يُذكِّر العالم بالحقيقة التاريخية (تهجير السكان الأصليين) ويُعري سلطة الزيف! ولاحظ حملة مقاطعة بعض المنتوجات في المغرب وكيف شرع المتضررون منها في تسخير أدوات الدولة للتقليل من أهمية الفكرة وتهديد من يقف وراءها أو يشارك فيها بصورة أو بأخرى، لترى كيف يخاف الرأسمال من كلمة «كفى / باراكا» حين تصير استثمارا معنويا في الإرادة الجماعية الحرة... وانظر كيف يُمنع بعض المثقفين من عرض آراءهم لترى كيف يخاف صناع الزيف من الكلمة المسؤولة التي تخلق وتنشر الوعي بالكرامة الإنسانية...
تجري المعركة الآن على مستوى العقل. حتى أنهم خلقوا مؤسسات قانونية وأذاعوا تسميات علمية وسياسية لتعمية الكثير من مواقفهم وسلوكياتهم وأهدافهم المناهِضة للحرية والكرامة الإنسانية والحق في الحياة (صندوق النقد الدولي، Neuromarketing، تطوير الاقتصاد من خلال تعزيز الطلب، الإجماع الدولي، التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، الأسلحة الدقيقة، العقوبات الموجَّهة، الأسلحة الانتقائية التي تُجَنِّب المدنيين، وغيرها من العبارات التي تُخفي غابة أيديولوجية همها تدمير الإنسان في صمت!!!).
من دون أن نختفي وراء الكلمات، نقول ونكرر أن الرهان السياسي (أو المعركة السياسية) بات يدور حول العقل أكثر من أي وقت مضى. إن هذا التسطيح في الطروحات والكذب الواسع وخلق الإشاعة وتشويه الإحساس ونشر المغالطة وتكريس الوعي الزائف والتكرار الببَّغاواتي للمواقف المغشوشة، ما هي إلا أدوات للسيطرة على العقل، وبالتالي توجيهه لخدمة أصحاب المصلحة (الفاعلون الكبار في السياسة والاقتصاد، وطنيا ودوليا).
ومن حسن الحظ أن جميع الكتل الأيديولوجية التقليدية أمست واعية أكثر بأبعاد هذه المعركة، سواء تلك التي تعاني من تداعياتها أو تلك التي وجدت نفسها منخدعة بها بعد غفلة (اليسار اليوم أكثر وعيا بأن ما كان يعده مبنى فوقيا [الوعي والأيديولوجيا أو المظهر الكاذب بمصطلح القوم] ولا قيمة له، مقارنة بالـمَبنى التحتي، أمسى رهانا أساسيا في معركة الهيمنة الثقافية-السياسية [تنظيرات غرامشي التي أعادت الاعتبار للوعي على سبيل المثال] . واليمين المحافظ أمسى أكثر وعيا بخطورة القوة الناعمة، الأمريكية بالخصوص، وخطورة الشركات العابرة للحدود على الثقافات القومية والأوطان ومصالح الأمم الحيوية. والإسلاميون أيضا أمسوا أكثر وعيا بخطورة الأفكار وبأن التدين لا يجب أن يكون عدوا للعقلانية وإلا صار المتدين إما خطرا على نفسه وغيره وإما أداة بلهاء في استراتيجيات القوى الكبرى].
إذن، تدور المعركة بالعقل وحوله ومن أجل الهيمنة عليه. وخيانة العقل أمست رهانا سياسيا واقتصاديا لفائدة فئات بعينها. هذا بالضبط ما يجري اليوم وبصورة فاضحة ووقحة في أحيان كثيرة.
بلغت خيانة العقل أقصاها في مرحلة الميغا-إمبريالية. انتهت الامبريالية التي تبحث عن أسواق لبيع سلعها، لتظهر نسختها الأكثر كثافة وبشاعة التي يجري البحث فيها عن جغرافية اللاتنمية واللااستقرار والحروب لشراء الموارد الرخيصة وبيع السلع والأسلحة وتعديل التوازنات الديمغرافية وتوريط المستهلك بل والاختيار نيابة عنه. أيُّ خيانة للعقل أكبر من هذه؟!
تُطرح المقاومة المدنية كفن للعيش بصورة تنأى بها عن أي منظورٍ صراعي أو مسلح أو عنيف أو إقصائي. المقاومة المدنية فعل يؤسس لمجتمع سليم أكثر منها رد فعل مُدَمر. إنها تؤسس للفعل الجماعي الواعي والخَيِّر من خلال التوقع والتخطيط والبِناء والصمود والمثابرة والإيثار، بعيدا عن ردود الفعل الارتجالية والعَفوية والنقد الهدام والتيئيس. والمقاوم الحقيقي هو الذي يؤهل نفسه بتصور أخلاقي جامع مُعزَّز بمناعة ذاتية ضد السقوط والوصولية والانتهازية والنرجسية قبل مواجهة موضوعه/غيره بالقول أو الفعل أو رد الفعل. والمجتمع المدني المقاوم، باعتباره طليعة المجتمع المقاوم، لا ينتظر وقوع الكارثة حتى وإن كان يتوقعها؛ لأن المجتمع الذي ينتظر الكارثة مجتمع يستحقها بالفعل وهي ستَحِل فوق رأسه لا محالة! المجتمع المدني المقاوم يقوم على فكرة التعلم الخلاق الذي يعتبر الإخفاقات السابقة مدرسة، والمستقبل ورشة للتجريب. يقوم وعي المجتمع المدني المقاوم على إنضاج التفكير المركب الذي يجمع بين الثقة في الإنسان وفي قدراته من جانب والعمل الجماعي من جانب آخر؛ بقصد ترميم الواقع في أفق إعادة تشكيله وترويض المستحيل. يعمل المجتمع المدني المقاوم مع الطفل حتى يرهن مستقبله للأمل. ويعمل مع الشباب لجعل حيويته استثمارا إيجابيا لصالح المجتمع ككل. ويسعى المجتمع المدني أيضا أن يجعل من العمل الاستباقي أساسا لعمله، عملا بقاعدة الوقاية خير من العلاج. وإذا كان المجتمع المدني المقاوم يلحظ بعين فاحصة ثغرات التدبير الحكومي وفساد النخب، فإنه لا يقف عند "ويل للمصلين" بل يتحمل مسؤوليته كاملة وزيادة في سد بعض الحاجات المجتمعية، خاصة فئاته التي في وضعية صعبة أو هشة أو الفقيرة أو الأمية؛ من خلال تعبئة الجهود التضامنية. ولا ينس المجتمع المدني المقاوم معركة المعارك في عصر الشطح الفكري والتدليس، أي معركة الوعي. يكرس المجتمع المدني الكثير من مجهوداته من أجل التأثير إيجابا في البنى الثقافية والتفاعلات السوسيو-ثقافية والوعي العام. لذا، يحتاط من المعلومات والأفكار والمبادرات الرائجة، ويعيد، باستمرار، ترتيب مساحات الجدل بين الخصوصي والكوني. وفي الوقت الذي يتصالح المجتمع المدني المقاوم مع المجتمع الذي يشتغل فيه من خلال تقدير هويته، يعمل بيقظة بالغة على أن يجعل من هذه الهوية هوية مفتوحة على العصر وعلى أسئلته.
والحديث عن المقاومة المدنية يفترض أن يمتد هذا الوعي المديني المبدع إلى القرى. إننا نسجل كيف يزحف الرأسمال ويتسابق من أجل السيطرة على وعي الإنسان القروي في مجالات الفلاحة والإعلام والاستهلاك. وانظر كيف أصبح منتوجنا الفلاحي منتوجا رأسماليا حقيرا بامتياز؛ حيث ما عدنا نميز بين مذاق فاكهة الخوخ ومذاق البطاطس، بين الغذاء والسموم! أصبح الاستهلاك هدفا في حد ذاته لا صحة ومصلحة المستهلك. ولهذا، فإن هذه البؤر المقاوِمة الجديدة التي بدأت تظهر هنا وهناك في القرى، وتحظى بتأييد من لدن سكان المدن، رافعة شعار الزراعة الطبيعية، تمثل خلخلة مبدعة للعقل الجمعي الذي جرى تنويمه لسنوات بفعل الصور المبتذلة للوفرة الإنتاجية والدعاية المدلِّسة لشركات المبيدات والسماد الزراعي.
وينظر المجتمع المقاوم بثقة وإعجاب لكفاءات النساء من دون أن يعتبر المسألة منحة لفائدتها. بل شرطا لكل مجتمع سليم. تفترض المقاومة وجود خطوط دفاع متينة، ولا وجود لخطوط دفاع من هذا القبيل في غياب المرأة. يُقوي المجتمع المدني المقاوم جبهته الداخلية من خلال توسيع خيارات المرأة وزيادة فرصها في التعبير والاقتراح والعمل وتحمل المسؤولية وممارسة الرقابة صونا لحقوقها وتمكينا لوجهات نظرها. يثق المجتمع المدني المقاوم في المرأة لأنها مصدر فعلي للحيوية والرؤى التجديدية والكثير من القيم الاجتماعية التي يفتقدها الرجال (الميل نحو السلام والتدبير السلمي للخلافات في مقابل الخشونة، التضامن والتآزر في مقابل المركزة والمنافسة السلبية، الرقة المفضية إلى نتائج متوافق بشأنها في مقابل الصراع وإثبات الذات والفرعنات التي تسوق الأعمال للفشل وتبديد الجهود). فمنظورات النساء لا شك أنها ستدعم القوة الداخلية لتنظيمات المجتمع المدني .
كمجتمع مقاوم، يتعين ألا نستسلم للاستدراج والتدجين لأن هذا بالضبط ما يبتغونه. ولو استطاعوا لَوَضعوا على رؤوسنا قرونا وأمرونا بقول "بااااع"! يقول سيرج لاتوش بهذا الصدد: «وقد رأينا على مستوى الدول-الأمم إلى أية هاوية انتهى الامتثال الذي أفضت إليه مماثلةُ شروط المواطنين وتحويلهم إلى كتلة متجانسة مُصْمَتَة. ذلك أن الشمولية تُـــؤْثِر المتماثل، كما أن الممتثِل يُفضي إليها مباشرة ».
أوْغَـلوا في الوقاحة فلنوغل في المقاومة المدنية!
قولوا "لا" تسْلموا ! واعملوا في الميدان مع كل المتطلعين إلى العمل الجماعي الخيِّر...
لا تترددوا في التفاعل إيجابيا مع أي فكرة تدعوكم إلى النزول للميدان، بين الشعب ومعه! اخدموا محيطكم وسيتغير كل شيء!
المقاومة وسيلتنا لنتَحرر من الرؤى التي تُحاك ليلا وتُنفَّذ من دون اعتبار لرأينا.. المقاوَمة وسليتنا لنبني عالما يليق بنا وينسجم معنا...
المقاومة المدنية ليست موقفا فحسب، المقاومة فن للعيش وخيار وجودي وتفكير وعمل مستمرين مع الآخرين في الواجب والممكن...
القراءة مقاومة، التعاون مقاومة، التضامن مقاومة، التفكير في مصلحة غيرك مقاومة، الكتابة مقاومة، محاربة الأمية مقاومة، الكلمة الطيبة مقاومة، المحافظة على البيئة مقاومة، إغاثة الناس مقاومة، التربية مقاومة، التفكير الحر مقاومة، النقاش الجاد مقاومة، رفض الظلم مقاومة، التربية مقاومة، التخلق مقاومة،...
قاوموهم بكلماتكم بسخريتكم بصفِيركم بإهداء كتاب بتعلم العزف بتنظيف زقاق بغرس شجرة بزيارة المرضى بتأسيس جمعية بالعمل مع شباب الحي بالانخراط في مبادرات جماعية،...
فإن أسوء شيء يجب أن نخشاه في حياتنا هو أن يسلبنا هذا العالم روحيتنا وقِيَمَنا وبهجة الحياة وحب الآخر التي بها تتقوَّم إنسانيتنا. ولذا وجب الحذر من حياة الخِفة والنزق والخواء، أو على حد تعبير الفيلسوف إدريس هاني: «إن الولوغ في التّفاهة يسلبنا مَلَـــكة السُّموّ».
قاوموا الغطرسة الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تتدثر بأكثر من دثار: الحداثة الجوفاء، الرجعية الطائشة، النفعية الوقِحة، النزعة الاقتصادية التي تكرس فينا البلَه، الفردية التي تخلق منا وحوشا منعزلة،...
المقاومة المدنية حق وواجب !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضامناً مع الفلسطينيين في غزة.. عشرات الطلاب يتظاهرون بالموت


.. ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين: ما رأيته في غزة ي




.. آلاف اليمنيين يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة


.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل




.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون