الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحن إلي خبز أمي

عطا درغام

2018 / 11 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أحن إلي خبز أمي ، وإلي قهوة أمي
كلمات رائعة للشاعر الفلسطيني محمود درويش تُشعرنا بالحنين إلي ما هو جميل في الزمن الماضي، حينما نحن إلي الخضرة والجمال والأراضي الزراعية بلونها الأخضر الجميل تشعر معه بجو القرية وأصالتها. حل مكانها كتل أسمنتية ومسخ مصمت لا جمال فيه، ضاعت معها ملامح الزمن الجميل وعبق الماضي؛ فأصبحت محاصرًا بمسوخ في كل مكان لا تجد متنفسًا يحميك من زيف المدنية المزعومة.
نحن إلي الخبز بأشكاله المميزة: (حنون- أبوري- شقة عيش كماج- فطير- بتاوي- قرص- رقاق-) من أفران طينية لا يحلو بيتًا منها في القرية. تتصاعد منها الأدخنة عبر أنحاء القرية، وكان هذا الأمر شيئًا عاديًا جدًا، أما الآن إذا وجدت دخانًا ينبعث من أحد المنازل فيوحي لك للوهلة الأولي أن هناك حريقًا في في منزل فلان، وذلك لاختفاء هذه الأفران- اللهم إلا عدد قليل منها ، قلما يُعتمد عليها لاستبدالها بأفران الغاز.
ومما يدعو للأسف الآن أن نجد ازدحامًا في القرية والقري المحيطة أمام أفران الخبز..... القرية تنتظر من يمن ويتعطف عليها بالخبز المدعم، بدلًا من خبزه في المنازل.
من أين للقرية بالقمح الي ستعتمد عليه في خبيزها.......؟ ومعه اختفت جميع الأراضي الزراعية حتي جبانة القرية ، وكذا حتي شريط القطار في الناحية الأخري.
إنها سبة ووصمة عار في تاريخ القرية المصرية أن تضيع الثروة التي كنا نفخر بها أمام دول العالم ، من خصوبة الدلتا وصلاحيتها للزراعة، لتظهر علي جانبي النيل أعظم حضارة شهدتها مصر. تجعل هيرودوت يقول:" مصر هبة النيل" ، فلم يعد هناك نيل ولا أرض زراعية ، بل أشباه نيل وأشباح أراضي. وسلة القمح أصبحت مثقوبة ،عسي أن ينتبه أصحابها إلي الكارثة التي ستحل بهم في السنوات القادمة.
بكل أسف خرجت عن نطاق الموضوع الأصلي( الخبيز زمان) ، ووجدتني مدفوعًا للحديث عن أمر ليس ببعيد عما أكتب فيه ، وسأرجئه لوقته- إن شاء الله-.
من منا لم يعاوده الحنين إلي الخبز الجاف ( العيش الناشف الفلاحي)، ويبلله بالماء ويضع عليه السكر، أو يمرر عليه قطعة جبن أو بعضا من المش؛ لتتذوق ألذ طعام نسد به جوعك بعد عناء عمل أو عند شعورك بالجوع.
يوم الخبيز من الأيام الشهيرة في القرية التي لا تُنسي، فتتجمع النسوة اللواتي تُوجه لهن الدعوة ؛ليشكلن أوركسترا كبيرة تعزف أحلي سيمفونية أمام الفرن وتنتج لنا أحلي وأطعم خبز تتذوقه في حياتك.
يمر يوم الخبيز بالعديد من المراحل، حيث تبدأ المرحلة الأولي ب( الطحين) ، عندما يُجهز جوال( شوال) القمح( الغلة) للطحين، وتحميله علي الدابة( الحمار غالبا)، ونقله إلي ماكينة رحمو ؛ فيستقبلك الشيخ إبراهيم الشناوي أو أحد أولاده، ويقوم بوزن الجوال، ويحدد قيمته المالية ، وترفعه إلي أعلي ومعك رقم دورك في الطحين.
وعندما ياتي دورك ترفع الجوال إلي الفتحة العليا للطاحونة وتفرغه ، ثم تعطي الجوال النظيف للجالس أسفل ، وغالبا كان الحاج فوزي سالم ، ثم تبعه بعد ذلك أحمد شكري عباس، وتظل تطرق علي رأس الطاحونة لتسرع في إنزال الدقيق. وعندما يمتليء الجوال تتبعه بآخر .
وتحمل حمولتك لتبدا مرحلة جديدة من الخبيز وهي مرحلة( النخل) ، وتشمر الأم عن ساعدها ، وتنخل الدقيق بالمنخل وينتج عنه الدقيق النظيف الخالي من الرد في طشت كبير ، والرة في طشت آخر.
والمرحلة الثالثة من الخبيز هي مرحلة ( العجينن ) ، وتأخذ الأم في عجن الدقيق بعد وضع الخميرة ، وتظل تعجن وتقلب الدقيق وتضع مقادير الماء المطلوبة حتي يصبح الدقيق عجينًا لينًا تمامًا، ثم تتركه فترة ليختمر، وتعرف ذلك بانتفاخ الدقيق إلي أعلي عن مستوي الطشت حتي يفيض علي الأرض.
وتأتي مرحلة ( التقريص) ، وهو عمل العجين علي شكل كرات صغيرة ، وتغطيها بشاشة أو قماشة بيضاء كبيرة مبللة.
وبعد ذلكن تجهز ربة البيت القش والحطب اللازمين للوقود، وتقوم بتجهيزه قطع صغيرة ( يغيب اسمها عن ذهني)، ثم تجهز الفرن بوضع بعض قطع القش في فتحته السفلية( تسمي باسم مؤخرة الإنسان مرتبطة بالفرن) ، ثم تاتي بخرقة مبللة وتنظف بها صاجة الفرن لتستقبل العجين.
تتوافد النساء اللواتي توجه إليهن الدعوة للمشاركة في الخبيز، وتجهز المطارح الخشبية التي سيخبزون عليها.
تصطف النساء في دائرة ، واحدة توزع القطع المكورة علي باقي الخابزات ليضعنها علي المطرحة، ويأخذن في التبطيط ( طرق خفيف بإحدي اليدين ، ثم بمقدمة الأصابع) ، ويظل الرغيف يكبر تماما مع التبطيط حتي ترققه لنهاية المطرحة في شكل دائري كبير .
السيدة التي تنتهي من رغيفها ترسله إلي السيدة الجالسة أمام الفرن( وغالبا ما كانت تجلس علي كرسي خشبي صغير ، لتكون في مستوي فتحة الفرن حتي تري الخبز جيدا، وتتابع مستوي إنضاجه)، وتكون صاحبة المنزل أو إحدي النساء الخبيرات بشئون الخبز.
قبل أن تضع الرغيف في فتحة الفرن كانت تشقه نصفين بسكين معها، وكانت تتحكم في جودة وشكل الرغيف، سواء أكان شقة أو رغيفًا كاملًا.
إذا كان طريًا لا تتركه ينتفخ وتسحبه بحديدة الفرن،إذا أرادته جافًا تركته ينتفخ ثم تسحبه للخارج، وتضع الخبز في جانب مخصص لذلك.. الجاف في جانب والطري في مكان آخر.
لم يكن هناك يوم محدد للخبيز، هذا حسب اقتراب انتهاء خزين الأسرة من الخبز، ويكون الخبيز بعد العصر وأحيانًا في المساء ، وقد تحدده ربة الأسرة حسب ظروفها. وكانت النسوة يسلين أوقاتهن بالحكايات أو الأغاني الشهيرة ، وربما بعض المووايل المنتشرة وكنا نسمع منها الروائع من نسوة كن يبرعن فيها.
كان يطيب لهن أن يأكلن المرغولة( خليط من الملوخية الجافة مضافًا إليها بعض الماء والملح وقطع من البصل)، وربما البامية أو مش الحلبة يأكلنها في سعادة ورضا.
كان الفضول يدفعنا إلي الالتفاف حول دائرة النساء الخابزات واللعب بالعجينن، وكنا غالبًا ما نتوق إلي عمل أشكال متنوعة من العجين ، كتشكيل عروسة .. حصان .. نجمة ...أو أي شكل آخر و، ونضعها في الفرن ثم نأكلها.
وأحيانًا كنا نصنع بأيدينا بعض الفطائر السريعة بوضع بعض السمن والسكر علي العجين لتخرج لنا فطيرة رائعة.
وفي نهاية الخبيزن وبعد عمل العيش المدور والشقق النصفية يتم عمل أشكال أخري من الخبز تسمي ( الأبوري)، ولا يختلف في شكله عن الخبز العادي الذي نراه الآن غير أنه أكثر سمكًا .
وقبل انصراف السيدات المعاونات في الخبيز تحمل كل سيدة معها ما تجود به ربة المنزل مما خُبز في رضا وسعادة. وتوجه الدعوة لربة المنزل للخبيز عند سيدة أخري، وهذه عند تلك ، وهكذا.....!!!!
وهناك أشكال أخري ليوم الخبيز ، ولكن بصورة فردية تقوم بها ربة المنزل بمفردها أو مع بناتها . وذلك بعمل أشكال أخري من الخبز تكفي لأيام قليلة.
من هذه الأشكال ( الكماج) ،وكان يصنع من الدقيق الأبيض النقي ، وأحيانًا يُضاف إليه بعض السمن واللبن ، ويُطلي وجهه بالزيت أحيانًا .
والفطير المشلتت ،وبالطبع يختلف عن فطير الحلوني الرقيق جدا، ويختلف أنه أكثر سمكًا مضافًا إليه السكر أو العسل الأسود وربما الجبن.
وفطير ( دقيق الذرة)، ويصنع من الزيت ودقيق الذرة ، وغالبًا ما يؤكل مع السمك الصغير( السمك الشر) ويحلو لهن تغميسه في ماء السمك... وكانت الأمهات يفضلن أكله مع السمك ما بين العصر والمغرب في جلسة نسوية ساعة صفا.
البتاوي( البتاو)، معجون من دقيق الذرة ويختلف أنه أكثر سمكا من الفطير ، ويفضل اكله مع السريس والجبن الأبيض، وكان يغمس في الشاي، وأحيانًا في عمل الفتت.وهناك القرص باللبن والسخانيات..
استخدمت ربات البيوت البرسيم ،وكذا أوراق الخس في الحفاظ علي طراوة وليونة الخبز الطري والكماج ، وذلك بوضعها فوق الخبز فيظل بحيويته مدة ولا يتعفن.
تلك كانت إحدي مفردات الحياة في جديدة المنزلة زمان، في فترة اكتفت فيها الأسرة ذاتيًا من الخبز بأشكالهن بدلًا من تسوله من الأفران الحديثة؛ فضاعت معها هيبة القرية وأصبحت مسخًا يقلد المدينة بصورة زائفة أضاعت ملامحا وأصالتها التي عبر عنها التاريخ.
..............................................................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ذكرى
ماجدة منصور ( 2018 / 11 / 22 - 02:54 )
إنها ذكرى جميلة تتذكرها أيها المحترم...لقد (فعصتنا) الرأسمالية بأبشع صورها..فضاع الزمن الجميل و خبز جدتي و أمي0
أحن لخبز أمي...وأحن لزمن الطيبين...و يأخذني العشق لمطارح البراءة الأولية...و أعشق زمن النخوة و الشهامة و الرجولة...حينما كان الأحرار على صهوة جيادهم0
أين نحن الآن!!!؟؟
نحن في زمن الزعران و السراقين و الحرامية و قطاع الطرق.0
لنمت مع ذكريات الزمن الجميل
احترامي لك

اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على