الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- نقد الخطاب الاعلامي الغربي عند محمود حيدر -

عامر عبد زيد

2018 / 11 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


مدخل :
ثقافة السؤال مفتاح الحديث عن الأستاذ محمود حيدر ، هو هنا ، حول السؤال وهو ما نجده بشخصيّته خلال حديثة عن " غارودي" فيطرح سؤال : ما الذي يجعل فيلسوفاً مادياً نحا نحو الروحانيّة, ومضى في مغامرة التوحيد, وسط عالم ممتلئ بالمتناقضات والحُجُب واللاّيقين؟.
وهنا يجترح اجابة تقول لم يكن له من سلاح في تيهِهِ المعرفي غير التساؤل. فالتساؤل عنده تقوى الفكر كما كان يطيب لهايدغر أن يقول.من هذا "المنفسح" بالذات ستأخذه الحَيْرة نحو منطقة معرفيّة مفارقة لما هو مألوف لدى فلاسفة الحداثة ومفكريها المعاصرين. ما كان يهمه السؤال من أجل السؤال ؛ لكي يؤدِّي فريضة التفلسف. السؤال بالنسبة إليه مفتاح ليقين لم يُتح أن يحصِّله بعد. شقَّ عليه المكوث داخل الأطر الصمّاء لفيزياء الفكر، فما وجد إلا أن يرتحل الى الميتافيزيقا بأبعادها الغيبيّة وآفاقها الوحيانيّة. كانت له مع الشرق وروحه الانعطافة الكبرى. ( )
ثقافة السؤال سوف نبحث عنها في بعض النماذج التي كتبها الاستاذ محمود حيدر ومنها نحاول الوصول الى العتبة الثانيّة وهي نقده في مجال الاعلام وهو الهدف الذي ننشده في بحثنا هذا ، ولكن العتبة الأولى ضروريّة ؛ لأنها تبين المرجعيّات الفكريّة التي تمثل المنطلق صوب العتبة الثانية .
العتبة الاولى: المرجعيات الفكريّة لدى محمود حيدر والتي من الممكن مقاربتها من خلال ثقافة السؤال تظهر عندما يحاول أن يقارب الحداثة مقاربة نقديّة ويخضعها الى التساؤل في عنوان مقالة وهو يكتنز هذا السؤال :" الحداثة المتحيِّزة كمسار أيديولوجي" وفي هذا المقال يحدد نقدياَ العلاقة المترابطة بين الحداثة والأيديولوجيا على عكس ما تقدم نفسها على إنها معرفة بل نلمس أنه يحدد هذا الانحياز بقوله :" لا يخلو تحديد معرفي لمعنى الحداثة من حكم أخلاقي، بل سيفضي التحديد إلى ما يتعدى مثل هذا الحكم، ليجعل الحداثة مفهوماً مقيماً في ذمة الأيديولوجيا. "( ) ؛فهذا الانحياز يظهر عبر عمليّة التصنيف التي تمارسها الحداثة التي تدعي انها تقوم على أساس المشاركة الديمقراطيّة ، الا أنّها تخضع المجتمع الى آليّة تزرع الاطراب وتخلق تصنيف عنيف بين ما هو دستوري يوافق رؤيتها وما هو شمولي يخالفها أو ما هو حديث يقارب ما تريد أو ما هو تقليدي اذا خالفها وهنا يحدد الأساس في التصنيف الأيديولوجي وليس معرفياً بقوله :"قد أصبح الفرق الأساسي بين المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي، كامناً في السيطرة الكبيرة التي مارسها الإنسان الحديث على بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة." ( )
على الرغم من ادراكه لمشهديّة الحداثة في العالم العربي ؛ من خلال تصنيفه لها بقوله : ثمة بيئات متراميّة الأطراف من نخب العالمين العربي والاسلامي، لم تفارق مباغتات الحداثة في صعيديها المعرفي والتقني. وتلك حالة سارية لا تزال تُعرِبُ عن نفسها بوجوهٍ شتى: وجهٍ يتماهى مع الحداثة ومنجزاتها تماهياً ختاميًاً لا محل فيه لمساءلة أو نقد. وهو ما تبرز ظواهره على أتمِّ صُوَرِها في تأسيسات الاستشراق، وسيرورة حضوره التاريخي داخل المجتمعات العربيّة والإسلاميّة . ووجهٍ يتبدَّى على صورة معارضات انفعاليّة لا تكاد تؤتي أُكْلَها حتى تذوي إلى محابسها الأيديولوجيّة. وثالثٍ يأتينا على صورة محاولات ووعود واحتمالات جادة، ثم لا يلبث أن يظهر لنا بعد زمن، قصور هذه المحاولات، وعدم قدرتها على بلورة مناهج تفكير تستهدي بها أجيال الأمة لحل مشكلاتها الحضاريّة. تلقاء ذلك كله، لم يكن مطلباً هيِّناً بالنسبة إلينا ان نعثر على تسويغ منطقي لاعتماد مفردة «الاستغراب» اسماً وعنواناً لمشروعنا. فهذه المفردة بالذات حمّالة أوجه، وحضورها في حقل التداول يفتح على سيلٍ وفير من التأويل والتفسير وتنوع الأفهام. وبعد.. كان لابد إذاً، من الإقبال على ما عقدنا النيّة عليه. لم يساورنا الشك لحظة، من أن تحويل الاستغراب الى حدث فكري، هو عملٌ لا يخلو من مشقّة. ذلك بأننا ندرك أنّ مهمة بهذه المنزلة، يستلزم جهداً يطابق الغاية التي طرحت من أجلها. ( ) إننا نجده يقارب إحدى سمات الحداثة العلمانيّة ويقاربها من خلال سؤال عن " سرُّ العَلمانيّة وسحرها" ويأتي بتوصيف لها في تواجدها في عالمنا العربي بقوله :" كأن الخائضين في المفهوم استشعروا المستحيل بإزاء خطبٍ يصعب العثور على محل لها في الإعراب. فلاسفة ومفكرون وعلماء اجتماع صرفوا العمر حتى يجيئونا منه بخبر يقين، ولكن شقّت عليهم الخاتمة. كلّما طُرِقَ بابٌ لإدراك مغزاه تفتَّحت أبوابٌ وغُلِّقت آُخرَ. كما لو غدونا في لُجّة لا تكاد تكمل دورتها المعرفيّة، حتى تعود القهقرى إلى البدايات."( ) فهناك حالة من الاطراب مازال يكررها في ما سبق وتحدث به عن الحداثة نجده هنا يعود اليه في توصيف إحدى سماتها ثم يصف المشهد في عالمنا العربي بقوله :" من المشتغلين بالمفهوم من ظنَّ للوهلة الأولى أنه أحاط بسرِّه بما توافر له من معارف الحداثة وتجاربها. ومنهم من اعتصم بالسؤال وظل على ريب من صدق الإجابة، ومنهم من استحبَّ التساؤل ورضَي به تسديداً للعقل، وتقايّة للفكر، وترحيباً بكل تأويل.. وأما من أخذته العجلة، فقد أقرَّ المفهوم، ثم راح يفصِّله على قياس نظامه الإيديولوجي." ( )
وهنا نجد انه يحاول إعادة رسم العلاقة بين الأنا والآخر من زاوية أخرى إنها زاوية روحيّة تبتعد عن التشيئ نحو الروح "مَسْعى هذه الأمليّة مقاربة قضيّة تكاد تشكل واحدة من أدق الإشكاليات المعرفيّة وأكثرها حساسيّة وتعقيداً في حقل الاجتماع الإنساني، والديني بصفة خاصة. عنينا بها قضيّة الأنا والآخر، والكيفيّة التي ينبغي أن تُقارب فيها هذه القضيّة؛ من أجل أن يستوي نظام المعايشة في عالم الكثرة على صراط الوحي." ( ) لعل هذه المقاربة هي الأساس التي صاغت تفكير الباحث وجعلته يحاول اكتشاف أفق أكثر رحابة في مسعاه إلى وضع اجابة " عن سؤال الغيريّة كإشكالٍ مركزي في مشاغل الفكر الإنساني المعاصر. من أجل ذلك رأينا -إلى مفهوم النظير كمنفسح رحيب- أنه يتغيا بلورة “فلسفة اجتماع كونيّة” تنعقد فيها الصلة بين الأنا والآخر على نصاب الاحتكام لعناية الحق الأعلى في عالم الخلق . ( )
هكذا نستطيع تحديد أفق الرؤية التي ينطلق منها الاستاذ محمود حيدر في تحديد علاقتنا بالآخر في ظل التحولات المعاصرة وقد حاولنا ان نأخذ ببعض الأمثلة من أجل ان نقارب الأمر الثاني في بحثنا انها اطروحته النقديّة كما تجسّدت في نقده الى الخطاب الإعلامي في ما يسميه لاهوت الغلبة .وكتابه الثاني الدولة المستباحة .


أولا ً، لاهوت الغلبة ( ):
وقد توزع هذا الكتاب المهم في مقاربته النقديّة وهو يحاول كشف حضور العامل الديني بشكل مؤثر في الخطاب السياسي ، من خلال تفكيك الباحث الاطروحة الكامنة خلف الخطاب السياسي الأمريكي المتأثر بالرؤيّة الاصوليّة . "عندما قرر كريستوفر كولومبوس ان يركب البحر ويمضي في مغامرته الكبرى لاكتشاف امريكا ، كانت الإيمانيّة المسيحيّة حاضرة بقوة في وجدانه "( )
فقد تطرق في الفصل الاول إلى "طبائع امريكا الاول " نجد ان مسعى الباحث يتمركز في تحليل طبقات المعنى من خلال تحليل الملفوظ والمفاهيم الاتيّة : (فلسفة الولاء ، والتأسيس الطهراني لأمريكا ، والحرب الاهليّة الامريكيّة ، والإيمان البرغماتي والجدل الميتافيزيقي –العلماني ).اذ في " لحظة تكوين الهويّة انها انطلقت من انكلترا كحركة دينيّة ثوريّة ، وهكذا حصل اقتران الخلفيّة البريطانيّة بالوسائل السياسيّة والغايات الدينيّة ."( ) الا ان هذه الخلفيّة الدينيّة كان لها تأويل اقتصادي اذ "البرغماتيّة بوصفها لاهوتاً سياسياً ارتبط بتطور المعتقد للحركة الدينيّة في مجتمعات المستوطنين الاميركيين ولد داخل الرحم المسيحيّة البروتستانتيّة وسوف يكون لها آثارها الحاسمة في السياسة الامريكيّة المعاصرة انها البرغماتيّة ." ( )
فيما تناول في الفصل الثاني امريكا دولة دينيّة ، وهو يحفر في تكوين الخطابات السياسيّة والموجهات الدينيّة الكامنة خلفها وقد جمعت بيت الاصوليّة والليبراليّة والانجيليّة على الرغم من الخطاب الأصولي للأخيرة التي "تؤمن الانجيليّة بأن الإنسان الذي يموت من دون أن يعلن قبوله و إيمانه بتضحيّة المسيح أو الاعتراف به كمخلص سيهلك يوم الحساب ، وسوف يكون بعيد عن الله إلى الأبد " ( )، وهي على الرغم من اختلافها في المباني النظريّة الا انها تبدو متداخلة في السلوك السياسي الامريكي خصوصا مع الحركات الانجيليّة المتطرفة والمتصهينة ، وهي تشكل لاهوت القدرة ، وبه يتم أمركة الايمان من خلال ما قامت به هذه الجماعات الاصوليّة التي تمكنت من "تنظيم أوضاعها سياسياً منذ أوائل الاربعينيات من القرن العشرين ، الامر الذي مكنها من اعتلاء مكانة سياسيّة متميزة ابتداءاً من ثمانينات القرن العشرين "( ).وهو ما تجلّى في الفصل الثالث اذ حاول الباحث تناول فلسفة المكان ومارقات الهويّة القوميّة في امريكا .
وهناك علاقة قويّة ظهرت بين امريكا واسرائيل كما تجلّت في الخطاب المقدس غلى وفق القراءة التي جاءت بها الكنائس الاصلاحيّة التي شكلت استثمار المتخيل في استعادة التجربة اليهوديّة بعد انتقالهم من مصر بحسب المخيال الديني اليهودي وقد تم استثمارها في بناء امريكا كعالم جديد .ومن هنا ندرك اشارات الباحث الى اشارته الى الخطاب البروتستانتي والانجيليّة ومفهوم الاصلاح الذي حدث في الغرب وارتباطه بالحداثة من ناحيّة وبلاهوت القضاء والقدر من ناحيّة ثانيّة بهذا تحوّلت امريكا الى اسرائيل جديدة بعد أن غرقت أوربا في الحروب الدينيّة .
تركت تلك الخلفيّة الدينيّة أثراً عميقاً في الفكر الأمريكي كونه فكراً إذ يشغل المؤثر الديني الاصولي حضوراً كبيراً بكل شموليته توتاليتاريّة وهو ما يتجلى في اطروحة المحافظين الجدد . من "ضمن هذا المسار ظهرت أزمة العقل التنويري في اوروبا بالتلازم مع فشل الأنظمة الشموليّة مما سمح بولادة ما يسمى ب(ثقافة ما بعد الحداثة )، فهذه الثقافة كانت ردّة فعل حقيقيّة على اليقينيات الأيديولوجيّة ، الأمر الذي هيأ الأجواء للتخلي عن عنف الفكر الشمولي . " ( ) ، بعد استعراضه الاطروحة المرفوضة يحاول تقديم اطروحة مضادة مقاومة .
ثانيا، الدولة المستباحة ( ):
يتطرق هذا الموضوع من خلال عنوان مهم " بين نهايّة التاريخ وبدايّة الجغرافيا "، من خلال هذه المقولة يحاول ان يقارب نهايّة الشكل القديم من الدولة وبداية الشكل الجديد ، فان الدولة تعد ظاهرة حيّة في التاريخ وهي بالآتي خاضعة الى تحوّلاته وقد تحوّلت هذا الدولة بشكلها القديم (الدولة السيّدة) الى شكل جديد (الدولة المستباحة ) وقد حدث هذا التمفصل " بعد نهاية الحرب الباردة عام 1991م. يومئذٍ كان الحادث عاصفاً وشديداً. ولشدّته ضُربت أسوار القلعة واهتز بناؤها. حتى إذا حلّ زلزال الحادي عشر من أيلول 2001 م سيظهر العالم مرة أخرى على نشأة جديدة، إذ بلغت استباحة الدولة السيدة نهاياتها المدويّة." ( )
الا ان الباحث يطرح سؤالا جوهريا هو بمثابة روح البحث ومحرك اطروحة المقاومة لما يجري والسؤال : لكن هل الاستباحة قدرٌ لا رادّ له؟!
بمعنى هل الأمر جبري على وفق تصورات فلسفة التاريخ الحتميّة ، او على وفق تصورات مشيل فوكو حول الابستيم ، ام هي قابلة أن تكون مقاومة تعارض الاستباحة وتدافع عن وجودها وخيراتها كما جاءت تصورات ادوارد سعيد في رده على تصورات مشيل فوكو وطرحه خيار المقاومة .لكن يفترض على اجابة "محمود حيدر " كيف يقترح علينا اجابة عن سؤاله ، وهو ما نحاول العثور عليه من خلال كتابة الذي اشتمل على خمسة اقسام وهي : معرفيات السيّادة ، وقد بحث عن تلك السيادة في فصلين الاول كان قد تناول فيه الفقه السياسي – الفلسفي اذ اشار الى أن ( مفهوم السيادة عريقاً في القدم، كما تشير إلى ذلك مؤلفات فلاسفة اليونان، فأنّه كان أيضاً مفهوماً غامضاً، ثم أخذ يتطور بتطور التاريخ والحضارات والعلوم. ).( ) وقد تناول بعد ذلك في الفصل الثاني ، وهو المركز تناول ، دولة ما بعد الحداثة – استئناف التأويل ، وهو بهذا يقارب القراءات المعاصرة التي جاءت بتأويلات جديدة ونجد انه قسم نظري يؤسس لما بعده .كما سوف يظهر في الأقسام الأخرى ، الا اننا نجده هنا يؤكد على مفارقة في التأويلات المعاصرة انه (وكسواه من نقَّاد العولمة والمشاركين في مساجلاتها، سيضيء دانييل دريزنر على منطقة مهمة ومفارقة في آن، وتتمثل في السعي الحثيث من جانب مفكِّري "الأمركة" إلى استحضار الحجج النظريّة للماركسيّة وتوظيفها في تشكيل أفكارهم. وها هو يرى أنَّ ذلك يدعو إلى السخريّة باعتبار أنَّ القبول الأكثر قوة لمنطق ماركس جاء من الذين يوجدون في يمين الساحة السياسيّة. وفوكوياما هو الأكثر وضوحاً في الاعتراف بأنه مدين لماركس من الناحية الفكريّة، فقد لاحظ لأنَّ الشرح الذي قدمه هو "نوع من أنواع التغيير الماركسي للتاريخ، إلاَّ أنه يؤدي إلى استنتاج غير ماركسي تماماً".)( )
بعد التأسي بمفهوم جديد وتأويلات جديدة نجد في أولها القسم الثاني الذي حمل عنوان الدولة المغلولة، وهو القسم الذي سوف نتوقف عنه بالتحليل والفهم محاولين البحث عن الاطروحة التي كانت يقترحها الأستاذ محمود حيدر كأطروحة مقاومة ، وقد جاءت محتويات هذا القسم في فصلين الاول منهما تمركز حول فهم السيادة وتحولاتها بين الحرب الباردة وما بعدها ،ويربط هذا التحول بآخر اقتصادي اذ تركت آثارها في طبيعة الدولة وسلطتها (وهي أن العولمة قد نقلت السلطة المباشرة من الدولة المهيمِنة إلى الشركات العابرة للقوميات.) ( )
هذا التحول له وقع كبير على مفهوم الدولة وهو ما تطرّق إليه الباحث ؛ الا انه لم يكتفِ باستعراض التحولات بل ربطها في الفصل الثاني بـ (تحليل استراتيجيات الإعلام بعد 11 أيلول) إذ تمثل هنا إمبرياليّة الصورة والصوت فهنا هو يربط التحولات بالبعد الاعلامي الذي اضفى عليها تلك المشروعيّة .
ثم أنه في مقاربته لتلك التحولات يريد ان يبين آثارها في امريكا بين كونها فاعلة او منفعلة وهذا ما يكشفه لنا العنوان :القسم الثالث أميركا بعد زمنين الذي توزّع على ثلاثة فصول تناول في الاول الإمبراطوريّة كدولة أمنيّة عالميّة ،وهنا تبرز هذه الرؤيّة الامنيّة بقوله : ((ثمة إذاً تواصليّة في العقل الاستراتيجي الأميركي على اختلاف أحقابه وتمرحله. وهي تواصليّة تعدّ مبدأ التفوق والغلبة، سواء في حيِّز الأمن أساساً، أم في المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة أساساً لها.)) ( ) وهو يشير ايضا في هذا الفصل الى ملاحظة مهمة اذ( قامت الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً، انطلاقاً من نواة إيديولوجيّة ذات محورين: في المقام الأول، الاقتناع بأنها كانت مكلِّفة برسالة. وفي المقام الثاني، اليقين بأنَّ أداء الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم. .) ( ) وهذه الملاحظة تظهر اكثر وضوحاً في الفصل الثاني : أميركا منقودة من أهلها ، وثالثهم : المباني المعرفيّة للمحافظين الجدد ، أصحاب الرؤية الراديكاليّة التي ارتبطت بتحولات عميقة في الخطاب السياسي الامريكي ؛ فهذه التحولات المعاصرة الامنيّة والسياسيّة كان لابد لها ان ، تترك اثار من الريبة والتوجس في الحلفاء والأعداء معا ، اذ ((في نهايّة الثمانينيات ومستهل التسعينيات سوف يبدي الأوروبيون عموماً، والفرنسيون منهم بصورة خاصة، الحد الأقصى من القلق على مصيرهم بإزاء الهيمنة الأميركيّة وأحاديّة الجانب على العالم.))( )
فهذه التحولات على الرغم من ارتباطها بالعامل السياسي الا انها ايضا مرتبطة بالعامل الاقتصادي ومفهوم العولمة كل هذا ترك آثاره في تطور الفكر السياسي الامريكي اذ ((لم يعد مفهوم السيادة كما عرَّفه الفقه السياسي الكلاسيكي على حاله. فالدولة ذات السيادة – على وفق هذا التعريف – ليست فقط تلك التي تقوم على مجتمع سياسي تتوافر لدى الهيأة الحاكمة فيه كل مظاهر السلطة الداخليّة والخارجيّة. ذلك أن أمر الدولة القوميّة التي كانت مكتفية بذاتها والتي تستطيع إغلاق حدودها متى شاءت صار متعذراً، أو أقله غير ميسور تحت ظلال العولمة التكنو-اقتصاديّة.)) ( )
فالتحولات تلك سوف ترصدها في القسم الرابع ، الذي جاء ترجمة لهذه الاوضاع فحمل عنوان : وجه عالم بلا يقين ، وقد قارب الباحث اثار تلك الرؤيّة المرتابة المتوجسة في حالتين الاولى عالميّة هي الامم فجاء عنوان الفصل الاول من هذا القسم يحمل عنوان : الأمم المتحدة بين زمنين ، فيما جاء الفصل الثاني : أمميّة مستباحة – الحرب على العراق مثالاً ، فقد حاول ان يصف فيه تمظهرات الدولة المستباحة بوساطة القوى الغليضة ، الا انه يقدم تصوراً نقدياً في القسم الأخير اي الخامس بعنوان مركزي " " سياديات خائبة " وقد تلمس هذه السياسات في فصلين الاول تناول فيه: "الآسيان" مَثَلُ الدولة المستباحة فيما تناول الثاني: جدل التأخر/الاستتباع "تعريب" مستحيل للمثال الآسيوي ، وهو هنا يرصد فضلاً عمّا سبق ان ((ثمة مفارقة لافتة ظهرت ملامحها بعد انهيار نظام القطبين، وهي أن الأمم المتحدة في الوقت الذي أصابها تراجع بيَّن نتيجة اعتماد الولايات المتحدة الأميركيّة آلياتها الخاصة للسيطرة على الأمن الدولي، كانت الحاجة تزداد إلى قنواتها ودوائرها لتسوية الأزمات الإقليميّة في الشرق الأوسط وعرب آسيا وبلاد البلقان وأفريقيا. كأنما بدا أيضاً أن قيمة هذه المنظمة الدوليّة تكمن في الضعف الذي ألمَّ بها.)) ( )
وقد قاد هذا الى "أمميّة مستباحة - الحرب على العراق مثالاً ، التي بمقتضاها تحوّلت سياسة التدمير والاستباحة والاحتلال إلى أمر ممكن بل ((ما كان لأحد أن يتصوَّر مدى ما بلغته الإيديولوجيا السياسيّة الأميركيّة وهي تستعيد نظريّة الاحتلال، بصفتها فضيلة لا غنى للعالم عنها في رحلة القرن الواحد والعشرين.))( )
ثالثا : الاعلامي وصناعة الخطاب الامريكي :
بعد تأصيل الأثر الديني في لاهوت الغلبة وحضوره البارز في الخطاب السياسي والمواقف الامريكيّة من الآخر المسلم نجد ان لهذين الموقفين اثرهما في الخطاب الاعلامي الامريكي اتجاه الآخر وهو ما درسه الاستاذ محمود حيدر في كتابه الثاني و ايضا له دراسة معاصرة تظهر تحليله النقدي ولهذا سوف نبدأ بالجزء الاول وما تكلمه عن الدولة المستباحة ثم نقف بازاء دراسته الأخيرة .
اما في الجانب الاول :
لقد جاءت "الإمبرياليّة الناعمة" تعوض الإمبرياليّة الصلبة في تحقيق الهدف نفسه لكن بوسائل اكثر نعومة لكنها تنشد التضليل والتزييف للوعي اذ ((تخرق سيادات الدول ، حتى لتدخل البيوت من غير أبوابها ، وسيتلقاها الجميع بطيبة خاطر كما لو كانت عضواً حميماً في الأسرة لا مناص من الاستئناس إليه في أي وقت. وسيمكن هذا الهابط إليك من علٍ أن يشاطرك سرَك وسَترك من دون إذن. يُسمِعَك ويُرِيَكَ ما ترغب وما لا ترغب.))( ) اذ استطاع الغرب توظيف الاعلام من اجل تحقيق اهدافه في السيطرة والهيمنة على العقول اذ أخذ (( الغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركيّة بخاصة سيأخذون بناصيّة الظاهرة الإعلاميّة وجعلها القوة الأكثر سحراً في إنجاز عمليات الامتداد والسيطرة .)) اذ كان الاعلام خاضعاً الى فلسفة سياسيّة امريكيّة فهي ( أي الأساس يندرج من ضمن أولويات الاستراتيجيّة العليا لينحدر ويتوزع على استراتيجيات الحرب والاقتصاد والأمن والاجتماع الداخلي وأنظمة الأمن الإقليميّة والدوليّة .) ( ) وهذا ما يشير اليّة الكثير من الباحثين فهم يؤكدون ما يصرح به أغلب السياسيين والخبراء الامريكيين ولا يخفونه انهم ينشدون ((فرض نمط حياتهم على العالم كله. فأميركا تعتقد نفسها وتريدها شموليّة كليّة لا تضاهى.)) ( ) فهذه القوالب الجاهزة والمشبعة بالصور النمطيّة اتجاه الاخر تم توظيفها في كل اجهزة الاعلام من ((الصحافة والسينما والتلفزة والراديو، وجد الأميركيون طريقة لتصوُّر الثقافة والآداب والإعلام والسياسة واستعمال القوّة، والإملاء ولفظ اللغة الإنكليزيّة – ولاختراق الرؤوس ))( ). وهذه الصناعة الخاضعة الى المشروع الامريكي الذي احدث ترابطاً بين الارهاب والإعلام في انتاج الاحداث الارهابيّة واستثمارها من اجل تنميط السلوك الغربي اتجاه الآخر المسلم بوصفه ارهابياً او ارهابياً محتملاً وهذا ما تمارسه الدعاية والإعلام الامريكيان في خلق وتحويل الوعي وتزييفه عبر إعادة تشكيل المزاج العام في الولايات المتحدة والعالم.
فهذا الاسلوب يجد لدى خبراء الدعايّة والسياسة في ((إدارة بوش من الذين يعتقدون أنَّ قضايا العالم لا تُذلَّل ولا تُحل بالديبلوماسيّة وإنما بالقوة العسكريّة السافرة. ))(7).

اذ سوف تسعى الإمبراطوريّة الإعلاميّة تحت قيادة مواقع القرار الأساسيّة في الولايات المتحدة إلى التأسيس لحروب شاملة مفتوحة وإعطائها المسوغات "الأخلاقيّة" والثقافيّة والقانونيّة. ويأتي الاعلام من اجل تحويل تلك الافكار وجعلها واقعيّة على الرغم من كونها أفكاراً غير مقبولة من اي منطق سليم ؛ لهذا تم توظيف الاعلام في صناعة العدو وتخليقه من أجل تبرير الحرب عليه ، ومن ثمة يرى الباحث ان :(( لا يتعلق الأمر إذاً بصدام حضارات ولا بصدام أديان ، كما يتعدى بكثير الإسلام وأميركا اللذين تجري المحاولات لحصر النزاع فيهما لتوليد وهم مجابهة مرئيّة ووهم حل بالقوة. ))
اما في الجانب الثاني :
في هذا الجانب نجده يطرح سؤالاً في بدايّة مقاله : هل الميديا عالم افتراصي كما يقرر المحدثون من أهل الإصلاح ، أم هي عالم حقيقي يترجمه نمط حياةٍ بالغ الكثافة والتعقيد ؟

انطلاقاً من هذا السؤال الذي يستبطن سخريّة عميقة جاء التعبير عن عالم الميديا ب"ثقافة الومضة " التي تحرض على الحفر في اشكاليّة الأصل الحداثة التي انطلقت من يتمركز حول أن الانسان يستطيع معرفة كل الاشياء في حد ذاتها .الا أن هذا الادعاء يتهاوى امام هذا التحول الذي ولد على حين بغتة جراء الدفق الهائل للمعلومات بات المواطن العالمي يشعر ان لا حيلة له سوى التماهي مع سيولها العارمة .
فهذا التحول بين ما تدعو له الحداثة وما يتحقق اليوم يجعل الباحث يحاول اعادة النظر بالمشهد بشكل جذري بقوله : "لما استشعرت الحداثة بنسختها النيوليبراليّة مأزقها الأصلي ، اي البحث الشاق عن بدء جديد ، راحت تحث السير نحو انعطافة تمنحها القدرة على ترميم صدعها ، وإعادة تشكيل العالم الجديد طبقا لأغراضها .لقد وجدت في العولمة ضالتها لتعثر على هذا الانعطافة "( )
اعتقد انه في الاتجاه السابق قارب العلاقة بين الاعلام والهيمنة الامريكيّة وصناعة الارهاب ، اما الجانب الجديد انه يقارب الأمر من جهة ثانيّة اي العلاقة بين الاعلام والخطاب الاشهاري السلعي الذي يقارب من افلاس مشروع الحداثة وما كانت ترفعه من شعارات التنوير تحوّلت في في الحقيقة الى خطاب هدفة الاشهار وتحقيق ارباح العولمة وبهذا فإن فلسفة الحداثة قد تحوّلت الى حالة سلبيّة من هنا نفهم مقولة نيتشه التي أوردها الاستاذ محمود حيدر اذ يقول فيها نيتشه:"من أنه بالمعرفة الكاملة بالأصل يزداد الأصل تفاهة ".
هذه المعرفة بين ما كان الأصل يرفعه من خطابات تنويريّة تحوّلت الى خطاب سلعي استهلاكي ومن هنا يصفها بأنها " موصولة بالأغراض والأهواء و المصالح ، وكذلك بغايات سياسيّة وإيديولوجيّة واضحة المعالم ، في المجتمعات الأهليّة ، كما في العلاقات بين الدول .يجعل هذا الموقف من المثقفين الغربيين الذين انتقدوا الاعلام :"مردها إلى استشعارهم أن الحضارة الغربيّة تنحو بسرعة مذهلة نحو الاضمحلال الأخلاقي .".

الخاتمة
كان السؤال هو المنفسح الذي جاء من خلاله الاستاذ محمود حيدر برؤية ومنهج توحيدي روحاني مقاوم , في ظل هذا الوسط الممتلئ بالمتناقضات والحُجُب واللاّيقين ، .والتيهِ المعرفي غير التساؤل ، الذي يغرق به عالمنا .
لهذا جاءت العتبة الاولى تركز على المرجعيّات الفكريّة لدى محمود حيدر والتي قاربنا من خلالها ثقافة السؤال التي ظهرت في منهجه النقدي للحداثة وهو يخضعها الى التساؤل القائم على الحفر في جذورها التنويريّة وما أصابها من تحولات .وقد تحوّلت الى حداثة متحيزة أيديولوجيّة .
وقد أدرك ما تعيشه النخب العربيّة الاسلاميّة التي ، لم تفارق مباغتات الحداثة في صعيديها المعرفي والتقني.، فهي بين حالة التماهي التي لا محل فيه لمساءلة أو نقد ، وبين وجهٍ يتبدَّى على صورة معارضات انفعاليّة لا تكاد تؤتي أُكْلَها حتى تذوي إلى محابسها الايديولوجيّة. وثالثٍ يأتينا على صورة محاولات ووعود واحتمالات جادة، ثم لا يلبث ان يظهر لنا بعد زمن ،قصور هذه المحاولات ، وعدم قدرتها على بلورة مناهج تفكير تستهدي بها .
نجد أنه يحاول إعادة رسم العلاقة بين الأنا والأخر من زاوية أخرى ‘إنها زاوية روحيّة تبتعد عن التشيئ نحو الروح مَسْعى هذه الأمليّة مقاربة قضيّة تكاد تشكل واحدة من أدق الإشكاليات المعرفيّة وأكثرها حساسيّة وتعقيداً في حقل الاجتماع الإنساني، والديني بصفة خاصة. ودور الخطاب الاعلامي كونه اداةً سياسيّةً وبرغماتيّة في صناعة الوعي الغربي بكل صوره النمطيّة اتجاه الاخر العربي المسلم .
فعلى الصعيد الأول أدرك حضور الخلفيّة الدينيّة الأصوليّة من تأثير عميق في الفكر السياسي والاعلامي الامريكي كونه فكراً يشغل المؤثر الديني الاصولي حضوراً كبيراً بكل شموليته توتاليتاريّة وهو ما يتجلى في إطروحة المحافظين الجدد اذ أخذ ( الغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركيّة بخاصة سيأخذون بناصية الظاهرة الإعلاميّة وجعلها القوة الأكثر سحراً في إنجاز عمليات الامتداد والسيطرة .).أما الصعيد الثاني إذ البعد البرغماتي السلعي الذي يقارب إفلاس مشروع الحداثة وما كانت ترفعه من شعارات التنوير تحوّلت في الحقيقة الى خطاب هدفه الإشهار وتحقيق أرباح العولمة وبهذا تكون فلسفة الحداثة.
) محمود حيدر ، استذكار غارودي..يرحل يقظاً إثر غفلة ، صفحته على الفيس ، 9 سبتمبر .
محمود حيدر، الحداثة المتحيِّزة كمسار أيديولوجي ،صحيفة البيان ، التاريخ:01 يوليو 2013.م.
محمود حيدر ، الحداثة المتحيِّزة كمسار أيديولوجي.
محمود حيدر ، لماذا «الاستغراب»..؟.
محمود حيدر ، سرُّ العَلمانيّة وسحرها ،
محمود حيدر ، سرُّ العَلمانيّة وسحرها ، المرجع السابق .
محمود حيدر ، المواطنة الرحمانيّة.. فلسفة النظير في نهج البلاغة شرق غرب | العدد 8, فكر ومعرفة | 08 January 2016
محمود حيدر ، المواطنة الرحمانيّة.. فلسفة النظير في نهج .
) محمود حيدر ، لاهوت الغلبة "التاسيس الديني للفلسفة السياسيّة الاميريكيّة " دار الفارابي ، ط1، بيروت ، 2009م.
) محمود حيدر ، لاهوت الغلبة "التاسيس الديني للفلسفة السياسيّة الاميريكيّة "ص21.
)المرجع نفسه ، ص 26.
)المرجع نفسه ، ص 43.
المرجع نفسه ،ص71-72.
المرجع نفسه ،ص78.
المرجع نفسه ،ص103.
) محمود حيدر،الدولة المستباحة " من نهايّة التاريخ إلى بدايّة الجغرافيا "
) المرجع نفسه ، ص 2.
المرجع نفسه ، ص 23.
المرجع نفسه السابق ، ص 62.
المرجع نفسه السابق ، ص 88.
المرجع نفسه السابق ، ص 185.
المرجع نفسه السابق ، ص 117.
المرجع نفسه السابق ، ص 98.
المرجع نفسه السابق ، ص 86.
المرجع نفسه السابق ، ص 214.
المرجع نفسه السابق ، ص 153.
المرجع نفسه السابق ، ص 113.
المرجع نفسه السابق ، ص 114.
المرجع نفسه السابق ، ص 116.
المرجع نفسه السابق ، ص 118.
محمود حيدر ، فتتنة المشاهدة ، م / الاستغراب ، العدد 11، سنة 2018 م، ص 8.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق