الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاك فرايداي... وايت فرايداي... المجتمع لوحةً والاقتصاد رسَّامًا...

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2018 / 11 / 26
العولمة وتطورات العالم المعاصر


في 23 نوفمبر الجاري حل اليوم المعروف في الأسواق الأمريكية بيوم "الجمعة السوداء"؛ وهو اليوم الذي يشهد تخفيضات هائلة، ويأتي في أعقاب احتفالات عيد الشكر الذي يوافق الجمعة الأخيرة من شهر نوفمبر، وقبل بدء احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة.
ويعود أصل هذا اليوم إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ حيث شهدت هذه الفترة كسادًا هائلًا تطلب مع إجراء تخفيضات كبيرة لتنشيط حركة المبيعات. هو إذن في مضمونه يوم ترويجي سنوي يسعى فيه التجار إلى الربح، ويعود إلى فترة اقتصادية مرت بها الولايات المتحدة ويأتي في أعقاب احتفالات غربية بامتياز. كيف تسلل هذا اليوم إذن إلى عالمنا العربي؟!

أصل التسمية... هل هو بلاك أم وايت؟!
في عام 1960، اكتسب هذا اليوم اسمه الشائع حاليًّا وهو Black Friday أو "الجمعة السوداء"، ويقال إن الذي أطلق عليه هذا الاسم هيئة الشرطة في فيلادلفيا بسبب الاختناقات المرورية المتعددة التي تشهدها جراء تزاحم الناس للاستفادة من التخفيضات في هذا اليوم. ويقال كذلك إن سبب التسمية هو أن اللون الأسود يدل على بيع البضائع الموجودة في المخازن في مقابل اللون الأحمر الذي يدل على الخسارة.
لكن أيًّا كان أصل التسمية فالاسم واحد وهو "الجمعة السوداء". فلماذا قرر هذا اليوم أن يغير جلده ليصبح أبيض؟! ولماذا قرر أن يترك شبه القارة الأمريكية ليأتي إلى عالمنا العربي؟!

أبيض هو يوم جمعتنا...
يوم الجمعة في العالم العربي له مكانته الدينية الخاصة؛ فهو أفضل يوم طلعت عليه شمس في الدين الإسلامي، كما أنه يوم صلاة الجمعة الجامعة للمسلمين. وبسبب هذه المكانة الدينية فقد اكتسب مكانة اجتماعية بأن صار هو يوم العطلة الأسبوعية؛ ومن ثم صار يومًا محوريًّا للمسلمين وغير المسلمين في العالم العربي.
بسبب هذه المكانة الدينية كان من الصعب غرس هذا اليوم في الحركة الاقتصادية بالعالم العربي مع الإبقاء على لونه الأسود ذي الدلالات السلبية في العديد من الثقافات العالمية، إن لم يكن كلها في واقع الأمر. لذلك كان لزامًا على أصحاب هذه النبتة أن يغيروا لونها كي تستطيع أن تعيش في بيئتها العربية الإسلامية الجديدة. وبذلك تحول المسمى من البلاك فرايداي إلى الـ"وايت فرايداي" أو "الجمعة البيضاء".

الرأسمالية وأمراضها
الرأسمالية قديمة في المجتمعات الغربية، وقد تضافرت العديد من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية لتفرز الفكر الرأسمالي في الاقتصاد. لكن الرأسمالية لم تكتسب في تقديري هذا الزخم الكبير والانتشار الهائل إلا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما انطلقت الولايات المتحدة من عزلتها وكونت مع أوروبا تحالفًا شاملًا أصبحت معه الرأسمالية مظلة اقتصادية عالمية متماسكة القواعد والأطر، وبدأ توقيع الاتفاقات التجارية التي تنظم حركة الأموال بين القارات وحركة قطاع كبير من الاقتصاد العالمي بشكل عام في ظل وجود الشيوعية، قبل أن تتحكم الرأسمالية في الاقتصاد العالمي كله بعد انهيار كتلة الدول الشيوعية (وليس انهيار الشيوعية كنظرية؛ فالنظريات تستمر، ولكن التطبيقات تتراجع وتنهار).
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بخاصة في عقد السبعينات بدأت التداعيات الاجتماعية السلبية للرأسمالية في الظهور ممثلةً في عزلة المرء عن أقرانه للعديد من الأسباب نذكر منها اختصارًا سيادة الروح التنافسية بين الأفراد، وانشغال الإنسان بكسب المال، والظروف الاقتصادية الضاغطة التي تفاجئ المجتمعات بسبب الدورات الرأسمالية المعتادة (مثل فترة الكساد التي أفرزت يوم "الجمعة السوداء"). ويأتي الفراغ الروحي كأبرز التداعيات الاجتماعية والثقافية للرأسمالية. ربما كانت هذه الأمراض موجودة، لكنها لم تكن بهذا الانتشار أو الوضوح الذي صارت عليه بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن الرأسمالية بعدها تحولت إلى مظلة اقتصادية عالمية منسقة ممنهجة وجزءً من منظومة شاملة فكرية واقتصادية وسياسية وأمنية تتصدى لمنظومة أخرى متكاملة هي المنظومة الشيوعية.
(استطراد: من الأمور التي تلفت النظر هنا أن الرأسمالية في قوامها تستند إلى الفكر الليبرالي القائم على الحرية الفردية، لكن أغلب أمراضها أصابت الفرد الذي جاءت كي تنقذه من طغيان الجماعة وانسحاقه روحه الفردية أسفل مطالب المجموع، لكن هذا يستحق موضوعًا آخر).

تسلل؟! أم ضربة جزاء؟!
تسللت الرأسمالية إلى المجتمعات العربية مع مجيء الاستعمار، لكنها عادت لتتراجع بعد قيام الثورات ونشوء الأنظمة ذات الطابع الثوري اليساري. إلا أنها عادت لتكتسب زخمًا هائلًا بتبني الرئيس المصري الراحل "محمد أنور السادات" سياسة الانفتاح في مصر خلال عقد السبعينات في إطار منظومة كاملة للتحول الشامل في مصر بدأت بعد حرب رمضان — أكتوبر.
مصر سوق كبيرة وبلد تعداده السكاني وصل حاليًّا إلى 100 مليون؛ فكانت بابًا واسعًا تسللت منه الرأسمالية واقتصاد السوق وكل هذه المفردات إلى العالم العربي.
تسللت؟! هل هو تسلل بالفعل؟! هل دخلت الرأسمالية إلى بلادنا على حين غفلة من أهل مصر وبني يعرب جميعًا؟! أم أنها جاءت كضربة جزاء عقابًا على أخطاء ارتكبها المصريون والعرب بالتخلي عن إدارة مقدراتهم الوطنية إما لقوى استعمارية أو لأنظمة لا ترتبط إلا بالقليل مع الشعوب العربية؟
أيًّا كان الأمر فقد باتت الرأسمالية أحد محددات المجتمع المصري والمجتمع العربي في العموم، وباتت الحياة المعيشية اليومية للمواطن البسيط تتأثر بشكل أو بآخر بمتغيرات السوق العالمية أو بنشوب حرب هنا أو أزمة تجارية بين دولتين أو أكثر.
وعندما تأتي الرأسمالية، تأتي بمفرداتها... الأعمال الحرة، والشركات الخاصة، وتخفيف قبضة الدولة، و... الوجبات السريعة. هذا التعبير ينقلنا إلى قطاع آخر من قطاعات تأثير الرأسمالية في المجتمعات؛ أي التأثيرات الاجتماعية للرأسمالية؛ فقد سادت الثقافة الاستهلاكية، وانتشرت المنتجات الأمريكية. ولكي يستمر انتشار المنتجات الأمريكية، كان لا بد من نشر القيم الأمريكية لتتيح التوسع الأفقي وكذلك التوسع الرأسي للمنتجات. والمقصود بالتوسع الأفقي هو إضافة المزيد من المنتجات التي تحتاج إليها القيم الثقافية الأمريكية، والتوسع الرأسي هو زيادة ما هو قائم من منتجات بسبب اتساع قاعدة المشترين.
ومن بين هذه الواردات كان "البلاك فرايداي"...
لأنه لا توجد شركات وطنية، ولأن الاقتصاد الوطني المصري مرتبط تمامًا بالاقتصاد العالمي المحكوم أمريكيًّا، كان من المنطقي للغاية أن تتحكم التقاليد الأمريكية في أوقات التخفيضات والتنزيلات والعروض الخاصة؛ فلم يعد عيد الفطر وعيد الأضحى هما الفترتان اللتان تشهد فيهما الأسواق عروضًا خاصة، بل صارت التوقيتات الأمريكية بالتحديد وليست الغربية بشكل عام هي التي تحدد فترات التخفيض. ولإضفاء الطابع المحلي أصبح اسم اليوم "وايت فرايداي" أو "الجمعة البيضاء". لكن الملاحظ أنها أصبحت في هذا العام "الجمعة السوداء" وبدأ اسم "الجمعة البيضاء" في التراجع. فهل كان الموسم باسمه الأبيض هو النسخة التجريبية إلى حين النزول بالإصدار الرئيسي؟! ليس ببعيد؛ لأن هذا الأمر أيضًا من حيل التسويق.

تغلغل فعلًا...
وليس يوم التخفيضات فقط هو المؤشر الوحيد على تغلغل الرأسمالية في مفاصل دقيقة من المجتمع المصري خصوصًا والعربي عمومًا؛ فهناك على سبيل المثال "الأم الوحيدة" أو الـ"سنجل مذر" Single Mother؛ ذلك المفهوم الذي بدأ الدخول في المجتمع باعتباره من معالم استقلالية المرأة وقدرتها على إدارة شئونها؛ أي باعتباره أحد عناصر "تمكين المرأة" في المجتمعات العربية. هناك أيضًا احتفال "كل القديسين" أو "الهالويين" الذي انتشر الاحتفال به في أوساط اجتماعية لم يكن من الوارد تصور أن تعرف بوجوده من الأساس. الأمراض النفسية والاجتماعية المعروفة باعتبارها من الأعراض الأساسية للرأسمالية أصبحت شكوى الكثير من الشباب.
لقد استحكمت الرأسمالية في المجتمع المصري إلا قليلًا.
سار الأمريكيون في ذلك على محورين؛ الأول زرع مؤسسات لهم مثل الشركات عابرة القارات، والمدارس الدولية التي ترعى أبناء المقيمين منهم في مصر لأغراض اقتصادية ودبلوماسية وأمنية كذلك. الثاني تربية جيل من أبناء البلاد يعمل كمسئول تيسير وتسهيل لوجودهم ويمهد لحضور المزيد منهم.
هذه الشرائح اجتذبت الكثيرين ليحاولوا الالتحاق بها أو على الأقل البقاء على تواصل معها؛ فلديها المال والنفوذ والعلاقات وكل ما يمكن أن يحلم به مواطن يسقط يوميًّا في دوامة السعي وراء جلب المال ليعود في نهاية اليوم شاكرًا أنه نجا منها؛ دوامة صنعتها الرأسمالية، وتسبب هذا المواطن نفسه في تناميها بتراخيه وصمته... واستمتاعه.
هناك المزيد؛ فلن يتوقف الأمر عند "الجمعة السوداء" أو "الجمعة البيضاء" وعلينا أن نتوقع المزيد... المزيد من الأمراض والمزيد من التغلغل والمزيد من الشرائح الاجتماعية المنجذبة لبريق الرأسمالية التي راحت تلون بريشتها وجه أقدس ما لدى المجتمع؛ وهو يوم الجمعة باللون الأبيض تارة والأسود أخرى.
ما الذي يمكن أن يوقف الطوفان الرأسمالي عن العصف بمفاصل المجتمع المصري؟! للآن لا يوجد شيء يمكن أن يوقف الطوفان القادم، ولكن هناك عوامل قد تؤدي إلى تعطيله قليلًا مثل الطابع المحافظ والفقر والديكتاتورية (نعم، وهو ما يصلح موضوعًا مستقلًا)، لكن إن استمر الأمر على هذا المنوال، فلن يكون هناك ما يوقف الطوفان القادم... الذي بدأت شواطئ المجتمع تتفتت تحت وطأة أولى موجاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دمية(هيجاربي)للفتيات ودمية(شواربي)للشباب
ليندا كبرييل ( 2018 / 11 / 27 - 04:37 )
الغرب الرأسمالي لا يضع في رأسه إلا مصالحه ولا يستند إلى العواطف الدينية
وعندما أطلقت أميركا اسم(الجمعة السوداء)على يوم يجلب منافع ضخمة لم تحسب أي حساب للمسلمين المقدسين يوم الجمعة

لا شأن للسياسة والاقتصاد بأمور الدين في الغرب قائد المسيرة العالمية
الظروف الاقتصادية في البلاد العربية يسيّرها الغرب بمعرفته ومخططاته الجهنمية
والنهضة الخليجية التحديثية(وليست الحداثية)التي نراها تقوم على أكتاف العمال الأجانب والعقل الغربي

كل تقاليد الغرب الاقتصادية تجد طريقها بسهولة إلى الواقع العربي الذي وإن بدا أنه يواكب خطوات الحداثة لكنه في الحقيقة فارغ لا يُنتِج شيئا ولا يملك صناعة القرار

لم يكن العرب مضطرين لتبنّي فكرة الجمعة السوداء وتغيير اسمها إلى الجمعة البيضاء
ببساطة كان بإمكانهم صرف النظر عما يؤذي مشاعرهم الدينية
لكن المصلحة فوق الدين
وكما في أي مجال آخر مستعدون للتقليد لا للإبداع
لعبة باربي الأميركية للأطفال يُجنى منها المليارات
فطرحت ايران للتحدّي لعبة اسمها سارة المحتشمة
فردّت السعودية ب فلّة
ثم ب(هيجاربي) جمعا لكلمتي حجاب و باربي
لم يبق إلا اختراع (شواربي) شوارب و باربي للذكور

احترامي

اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران