الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرحباً في صحراء الدراما المصرية

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2018 / 11 / 27
الادب والفن


والعنوان مستوحى من كتاب (سنة الأحلام الخطيرة، 2012) للناقد والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك. وكان جيجك في الفصل الخامس من الكتاب، والذي أسماه (مرحباً في صحراء ما بعد الأيديولوجيا) يحاول تفسير العنف الذي قام به الشباب البريطانيون في أغسطس 2011، ومن قبلهم الفرنسيون في اضطرابات الضواحي في باريس في 2005، بوصفه مظهراً من مظاهر مأزق الغياب الأيديوليوجي في عالم اليوم. فحقيقة أن هذه الاضطرابات وما رافقها من أعمال عنف وشغب قد عبَّرت عن قلق عام وعميق لدى المتظاهرين، توازيها حقيقة أخرى أنهم لم يكونوا قادرين على التعبير عن غضبهم في شكل برنامج إيحابي محدد للتغيير، ولا حتى قادرين على تنظيم أنفسهم في تمثيلات سياسية بأجندات واضحة، بل وافتقدت رؤيتهم لإدراك العدو الحقيقي الذي يتظاهرون ضده. وقد وصف جيجيك هذه الظاهرة بـ "التظاهر الصفري": بمعنى أن النيوليبرالية تحصر اختيارات الفرد (المشوش وعيه أصلاً) ما بين الخضوع واللعب وفقاً لقواعد النظام، أو التعبير عن غضبه ورفضه في شكل عنف وشغب "لاعقلاني" هدام؛ أي ما يطلق عليه نيتشه "أفعال ارتكاس" (ردود أفعال) لغضب وعجز وحسد، مقنع في صورة قوة وكرنفالات انتصار. وبتعبيرات هيجل "سلبية مجردة للرعاع"؛ عملية تنفيس عمياء بلا معنى.
كما أن افتقاد الخريطة الإدراكية الكلية في فهم أسباب الظلم والفساد والاستغلال، يفتح الباب للأصولية الدينية لكي تأتي وتسد الفراغ وتستعيد المعنى المفقود؛ ففي صحراء ما بعد الأيديولوجيا، بإمكان شبه أيديولوجيا مشوهة ومشوشة أن تكسب أراض عميقة وشاسعة في المجتمع الما بعد أيديوليوجي؛ فاللامعنى ميال للانجذاب نحو إفراط المعنى، ويدور كلاهما في دائرة من العنف والعجز: فإما عنف سلبي هدام بلا معنى موجه نحو نفس الطبقة الاجتماعية (تحطيم السيارات والممتلكات لا يوجه عادة نحو الطبقة الأغنى، أو المناطق الأرقى، ولكن إلى نفس الطبقة التي منها المتظاهرون). وإما اللجوء للأصولية الدينية التي تقدم المعاني المطلقة لأسباب الشر.
كانت مقولات "نهاية الأيديولوجيا" وانتهاء عصر المشاريع الأيديولوجية الكبرى قد ظهرت بعد أحداث 1989-1991، وتفسخ الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وتم حينها الترويج، في الحقلين الأكاديمي والإعلامي، بأننا قد دخلنا إلى عصر جديد من السياسات البراجماتية العقلانية. أي أننا، وبصوت جاك لاكان (1)، انتقلنا من "خطاب الجامعة" (خطاب الخبير)، إلى "خطاب السيد" ( خطاب الرأسمالي، وأحياناً رجل الدين اللاهوتي). وتبدو خطورة هذا الانتقال في أن "العبد" (المستهلك) المُسيطَر عليه من قِبل "السيد" (رأس المال)، لا يمكن له أن يتحرر من إطار العبودية إلا عن طريق المعرفة؛ معرفة الخريطة الإدراكية الكلية للعلاقات بينه وبين من يستعبده، وهي الغائبة عن عالم اليوم. والأكثر خطورة أن الأصولية الدينية قد تقدم معرفة زائفة تكرس إطار "العبودية" في العلاقات ما بين "العبد/المستهلك" و "السيد/رأس المال"، فتصبح قيود العبودية أقوى؛ لإنها مطلقة وإلهية، بدلاً من أن تحرر "العبد" من قيوده.
ولكن، لماذا نستوحي ذلك العنوان وتلك المعاني ونحن نتأمل حال الدراما التليفزيونية المصرية اليوم؟ لأننا نعتقد أن الحال ينطبق على معظم الجيل الجديد من مؤلفي الدراما؛ والذين -كما نعتقد- يفتقدون للخريطة الإدراكية الكلية، ويعيشون في صحراء ما قبل الوعي. وإذا كان نيتشه يعلمنا أننا نستطيع أن نرسم صورة صحيحة لشخص بحكاية ثلاث قصص عنه، فإننا -بالمثل- قد نستطيع رسم صورة جيدة للدراما المصرية اليوم بتأمل ثلاث مسلسلات حققت أعلى نسب مشاهدة في العامين الماضيين، والأكثر تكراراً من حيث إعادة العرض في القنوات الفضائية العربية، وهي مسلسلات:
- (الأسطورة)، تأليف/ محمد عبد المعطي، بطولة/ محمد رمضان، إخراج/ محمد سامي.
- (الكيف)، تأليف/ أحمد محمود أبو زيد، بطولة/ باسم سمرة وأحمد رزق، إخراج/ محمد النقلي.
- (ونوس)، تأليف/ عبد الرحيم كمال، بطولة/ يحي الفخراني، إخراج/ شادي الفخراني.

الشر فردي دائماً
في المسلسلات الثلاث -كما في معظم المسلسلات المصرية في السنوات الأخيرة- مصدر الشر فردي دائماً، والمسؤول عن الفساد هو الفرد شخصياً. في (ونوس)، مثلاً، (الشيطان نفسه: يحي الفخراني) هو من يبث الشرور والفساد في نظام العالم، وتنتقل هذه الشرور والآثام، وبشكل شبه آلى في السرد، إلى أفراد أسرة مصرية من الطبقة الوسطى. وفي (الأسطورة)، مصدر الشر فردي أيضاً؛ ويتمثل في زعيم عصابة تجارة السلاح (بدر)؛ الذي يعيث فساداً في المجتمع، والذي بسببه يتحول بطلنا المحامي الشاب الصالح (ناصر: محمد رمضان)، إلى تاجر سلاح، ومجرم قاتل. أما (الكيف)، فيعرض لنا مصدر الشر ممثلاً في (سليم البهظ: أحمد خليل)؛ كبير تجار مخدر الحشيش في مصر، والذي يتسبب في إغواء وإفساد (د. صلاح) الكيميائي الخيِّر، وبمساعدة وتواطؤ من أخي صلاح نفسه، لكي يعمل عنده في تخليق المخدرات الكيمائية، فتفسد بذلك حياته وحياة أسرته جميعاً.
إن المسلسلات الثلاث هي دليل على واحدة من أبرز السمات التي تغلب على الدراما التليفزيونية المصرية الآن؛ ونعني بها تحميل الفرد مسؤولية الشر والفساد في المجتمع، فتتسرب بذلك إلى المتفرج النتيجة المنطقية وهي أن ما نحتاج إليه لمقاومة الشر ليس التدخل المجتمعي الاقتصادي والسياسي، ولكن الانضباط الأخلاقي، والإحساس بالمسؤولية، وعودة الأصول المنسية والضائعة. وتتجاهل هذه الرؤية -وبشكل صارخ- السياق العام للقوى الاجتماعية والاقتصادية الذي يُشجع على الظلم والفساد.
إنه ملمح جديد نلحظه في الجيل الحالي من كُتَّاب الدراما المصرية (2). في حين كان الجيل السابق على العكس تماماً: جيل أسامة أنور عكاشة، ووحيد حامد، وعاصم توفيق، ورؤوف توفيق، ومحسن زايد..وغيرهم، والذين كانوا يتمتعون بوعي عميق في رصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، وربطها بالمصائر الفردية لشخصيات الدراما؛ وعلى نحو تُجهَض فيه، مثلاً، قصة الحب الرومانسية بين (الدكتورة هند) و(سامح مدرس الموسيقى) بسبب الظروف الاقتصادية والضغوط الاجتماعية في طبقة كل منهما في مسلسل أسامة أنور عكاشة (الحب وأشياء أخرى، 1986). أو كما في مسلسله الآخر (الراية البيضا، 1988)؛ الذي يرصد بعمق وكثافة، التحولات الحادة في منظومة القيم في المجتمع المصري عقب سياسات الانفتاح وبدايات النيوليبرالية، على نحو تتحكم فيه هذه التحولات الهيكلية الجديدة في مصائر الشخوص، وبصرف النظر عن موقعهم الفردي من سلم الخير والشر. بل وتصبح التغيرات المجتمعية الاقتصادية والسياسية هي البطل الحقيقي في مسلسل وحيد حامد (بدون ذكر أسماء، 2013)، لدرجة تتشكل فيها الشخصيات بفعل التحولات في القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لكن المحركات الاجتماعية والاقتصادية تصمت تماماً عن العمل في الدراما المصرية اليوم. إن (ونوس)، مثلاً، هو مسلسل عن أسرة من الطبقة الوسطى، تطحنها الظروف الاقتصادية، وتخنقها المشاكل المادية، ككل أسر الطبقة الوسطى. لكن أفرادها يحاولون حل مشاكلهم بمعاونة "الشيطان"؛ الذي يغريهم ويوفر لهم كل ما يتطلعون إليه من مال ونجاح وحب وشفاء من المرض..إلخ. إن نفس هذا المنطق السردي في أن "الفساد الفردي هو أصل الشرور"، نجده أيضاً في (الكيف) على نحو صريح ومباشر، فتأتي المقولة الرئيسية للمسلسل على لسان الأب المدرس السابق (عزمي أبو العزم: أحمد فؤاد سليم): "الأخلاق هي السبب في تدهور المجتمع وتخلفه، وهي السبب في انهيار الاقتصاد والتعليم والصحة..إلخ. لأن الأخلاق هي العمود الرئيسي الذي يرتفع عليه الوطن، وبدونها يصبح الوطن بلا أعمدة". حتى أن عنوان الكتاب الذي يشرع في تأليفه قبل أن يموت هو (وطن بلا أعمدة).
إن الأب عزمي هو اللسان الأخلاقي للسارد في المسلسل. وهو يُشخِّص سبب مشاكل المجتمع المصري وأزماته، ليس في سياسات الانفتاح التي بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، وما تلاها من سياسات النيوليبرالية وممارسات السوق الاستهلاكي، والتي أدت إلى فرتكة (والفرتكة هي التقطيع مثل الذَّرِّ) الطبقة الوسطى وإفقارها، ولا في افتقاد العدالة الاجتماعية، ولا في العلاقات الظالمة بين الطبقات..إلخ. لا، إن المشكلة بالنسبة للأستاذ عزمي هي "فردية شخصية"، وتتعلق بتفشي الأخلاق السيئة بين أفراد المجتمع. يقول عزمي أبو العزم: "كل مجتمع في كل زمان ومكان فيه ذوو الأخلاق السيئة، لكن ما يؤدي إلى انهيار الحضارة هو زيادة نسبة هؤلاء إلى أكثر من 40 أو 50% من إجمالي أفراد المجتمع". إن السبب في الشر بالنسبة للسارد هنا هو في النفوس "الفردية" الضعيفة، وفي تدهور الأخلاق الشخصية، وتفشي الشر في المجتمع هو مسؤولية الأفراد سيئ الخلق. إن الخطأ هو مجرد خطأ فردي (في الأخلاق)، وبالتالي يكون الحل فردياً أيضاً (في الأخلاق): بإصلاح الأخلاق الفردية. إنها نفس الفكرة البلهاء باستعادة القيم الأخلاقية القديمة الطيبة المهجورة لمقاومة الظلم والاستغلال، لا تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا يُجنَّب الواقع الاقتصادي والسياسي الإدانة، وتُعفى سياسات النيوليبرالية والسوق الاستهلاكي من اللوم.

منطق "التكتيف"
إن هذا المنطق -في الحقيقة- يشبه ما أسماه جيجيك "استراتيجية تكتيف الخصم في مباريات الملاكمة"؛ أي إمساك جسد الخصم بالذراعين لتعطيل اللكمات. والتأكيد باستمرار على مسؤولية الأخلاق الفردية عن أوضاع الظلم والاستغلال في المجتمع، يفعل نفس الشيء، لأنه يرفع اللوم عن صراعات القوى الاجتماعية والاقتصادية، ويشوِّش على وعي المُشاهد بالإحالة إلى أسباب هامشية، وصبّ اللعنة على الشيطان، أو على بعض الفاسدين من التكنوقراط، أو حتى المجرمين، بدلاً من نمط العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فتمهد الدراما بذلك الأرض (الوعي) لتكريس النموذج الاقتصادي-الاجتماعي القائم أكثر وأكثر. وربما لخوفه من مقولة ماركس، بأن صعود الرأي العام على المدى الطويل متعارض مع الرأسمالية، فإن رأس المال دائماً ما يُشجع على "الحروب الأخلاقية"، وتوصيف الصراعات بأنها "صراعات أخلاقية"، لأنها تعني الحفاظ على الطبقات الأدنى (المستهلكين) تحت السيطرة، وتسمح لهم بالتعبير عن غضبهم بدون إزعاج المصالح الاقتصادية القائمة. ولهذا السبب أيضاً، فإن رأس المال دائماً ما يكون في تحالف مع الرجعية الدينية. إن صانع الدراما المصرية اليوم يصور الصراع المجتمعي على أنه صراع بين اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) والديستوبيا (المدينة الفاسدة)، بينما في الحقيقة أن كلاهما هو صورة لنفس الوضع الاقتصادي والقيمي القائم: صراع الصورة المثالية ضد الصورة الفاسدة من نفس النظام.
إن إلقاء سبب الفساد أو الشر على الشيطان، أو قلة النخوة، أو الطمع الفردي، هو وسيلة للتنصل من تناول الأسباب الحقيقية للظلم والاستغلال. فيُزاح الفساد الهيكلي، والنتائج الهدامة لرأسمالية السوق، وتُلقى على المتدخل الخارجي الأجنبي (الشيطان في "ونوس"، وتاجر المخدرات في "الكيف"، وتاجر السلاح في "الأسطورة")، الذي يهدد السلام والأمن، وينشر الفساد بين أفراد المجتمع. ونكون هنا بإزاء مُشاهدة "دون الصفرية: أي سلبية"؛ لأنها تزيف الوعي، وتقدم خبرة زائفة للمُشاهد. إن هذه الرؤية البسيطة والمسطحة، تجعل كل شيء وقد أصبح واضحاً فجأة لدى المُشاهد، بعد أن كانت الخريطة الإدراكية له مشوشة ومبهمة. فصدمات ودوامات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية اليومية المعقدة وغير الشفافة بالنسبة له، يتضح له أسبابها فجأة، ويجلو الموقف، ولكن بدلاً من لوم نمط العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية القائم، يتم إزاحة الغضب إلى مكان آخر هامشي: فيُلقي العاطل عن العمل، ومن لا يجد مسكناً يأويه، وذلك الذي تطحنه لقمة العيش، والعامل الذي لم يقبض راتبه لأكثر من عام، أو ذلك الذي تم تسريحه بالفعل، باللوم على الشيطان الذي يُفسد أخلاق الناس، أو على بعض التكنوقراط الأشرار بوصفهم الشكل الفاسد للنظام الرأسمالي، ويُعفى النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل من تحمل هذا العار. وبعبارة أخرى، فبدلاً من الوعي بالعلاقات بين "السيد" و"العبد"، وما يتبعها من محاولات لتغيير شروط هذه العلاقة، أي تغيير قواعد اللعبة الرأسمالية، يتم التعارك بين "العبيد" على المتع القليلة والصغيرة التي يتركها لهم "السيد".
وبصوت آلان باديو (3)، يمكن القول أننا بتنا نعيش اليوم في فضاء رأسمالي يُجرِّد الغالبية العظمى من الناس (المستهلكين) من أي توجه معرفي ذو معنى، ويزيل الخريطة الإدراكية حتى لانعرف موقفنا، ولا نستطيع تحديد عدونا. والمعنى الوحيد الذي يحرص عليه في عملية التصحير تلك؛ هو الحفاظ على واقع وآليات السوق الاستهلاكي العالمي داخل وعي المستهلك. إن تصوير الفساد على أنه شخصي وفردي يكرس قيم النيوليبرالية، ويدفع إلى الاعتقاد بأن الحل لابد وأن يكون هو أيضاً شخصي وفردي؛ في صلاح النفوس الفردية، والأخلاق الشخصية. وهذا عينه ما تؤكد عليه النهايات بصفة عامة في الدراما المصرية اليوم.

النهايات
في نهاية (الكيف): يستيقظ ضمير الدكتور صلاح بعد أن عاقبه المؤلف بحادثة سيارة لابنه الوحيد، وبعد أن عاقب طليقته الجشعة منى بالقتل رمياً بالرصاص على أيدي رجال تاجر المخدرات البهظ. فيسلم صلاح نفسه للشرطة معترفاً بجرائمه وبأنه يعمل على تخليق مخدرات كيمائية لصالح البهظ. وتنهار إمبراطورية البهظ نفسه، عندما يحاول ابنه العاق جاسر الاعتداء عليه، فيقتله البهظ دفاعاً عن نفسه. أما زينات طليقة البهظ المتصابية، فإن المؤلف يصيبها بجنون مفاجئ (رغم علمنا بأنها تكره ابنها، وسبق أن اتهمته بالسرقة)، فتجوب الشوارع هائمة على وجهها حزناً، فيما يبدو، على أسرتها الضائعة. ويدخل صلاح وأخوه الأكبر مزاجنجي السجن لتقضية عقوبتهما. ويعاقب المؤلف مزاجنجي بأن تطلب كلاً من زوجتيه الاثنتين زيزي ورانيا الطلاق، بينما يكافئ صلاح بأن تقرر الفتاة اللبنانية (الأجمل من طليقته التي ضيعته) إكمال حياتها معه كزوجة صالحة، بعد أن تتخلى عن أحلامها في الغناء والشهرة، حسب طلبه. وينجو وليد (الأخ الأصغر لصلاح) من الموت بالسم الذي دسه له البهظ، لكن السارد يعاقبه على جشعه وخفته بأن يعيش بقية حياته مشلولاً. ولا يُعفي المؤلف حتى الشخصيات الثانوية من العقاب، فيُميت الشاعر السوقي الريس ستاموني بجرعة مخدرات زائدة، ويكسر ساقي أبو رنة كبير الآلاتية أثناء محاولته للهرب من زوجاته..إلخ ويقدم لنا المؤلف في النهاية الحكمة "الخالدة" بدائرية الحياة؛ حيث يرث الكرف إمبراطورية المخدرات خلفاً للبهظ، بينما نشهد ما يؤكد على عدم توبة مزاجنجي عن الطريق الحرام والكسب السريع، حتى وهو في السجن.
يتظاهر المسلسل في النهاية بأنه يقدم الحقيقة المطلقة العميقة والأبدية، ولكنه في الحقيقة لا يقدم سوى حكمة تافهة وانتهازية عن دائرية الحياة، وتكرار الصراع بين الخير والشر الفرديين داخل النفس الإنسانية، وأن كل صعود للشر لابد وأن يعقبه انحدار وهبوط، وأن الحياة ستقتص في النهاية من الشرير..إلخ. ويحضرنا في هذا المقام التذكير باعتراض دي. إتش. لورانس عن: "الأدباء الذين يحشرون أنوفهم في ما لا يعنيهم". وكان لورانس يعترض على تدخلات المؤلفين بغرض فرض أهدافهم الشخصية على توازنات القوى في القصة، وتلاعباتهم في السرد كي يناسب أغراضهم القيمية؛ فيأخذ المؤلف على عاتقه إجبار شخصية على ارتكاب جريمة ما، أو تصحيح الأوضاع، أو توزيع المكافآت على أصحاب الفضيلة، وتوقيع الجزاءات على أصحاب الرذيلة.
هل يُفترض أن تهدىء هذه الحكمة "العميقة" من هواجس المُشاهد العربي المطحون، أو تمنحه السلوى مثلاً؟ بينما يشهد في كل يوم طوفان من الأحداث الواقعية التي تُكذِّبها. إن المؤلفين عادة ما يلجأون إلى مثل هذا النوع من "الحكمة" عندما لا يكون لديهم شيء حقيقي لقوله، ولكنهم برغم ذلك يرغبون في الظهور بمظهر الحكماء. إن الطبيعة التافهة لمثل هذه "الحكمة" تتمثل في انتهازيتها؛ فهي ليست فقط تكرس الوضع القائم وتزيل اللوم من على المتسبب الحقيقي في الفساد والظلم، ولكنها فوق ذلك تُستخدَّم لغرض تجاري وترويجي بحت، وبعد أن يكون المسلسل قد استنفد كل أشكال الابتذالات التي كان يهدف إلى عرضها.
في نهاية (الأسطورة): يقتل ناصر زوجته المحبوبة شهد -الحامل- دون داع درامي، وعلى ما يبدو بدافع غيرة مفاجئة، لمجرد أن شاهدها تتحدث في هاتفها المحمول مع شخص وهمي. ويكون قبل ذلك قد قتل زوج أخته سماح، التي تصاب بالجنون بدون داع درامي أيضاً، ربما من عشقها -الذي لم نلحظه من قبل- لزوجها القتيل. ثم يطالب زعيم عصابة تجارة السلاح "بدر" من ناصر أن يسلمه نصف أمواله (500 مليون دولار)، فينصب له ناصر فخاً بتسليمه توابيتاً متفجرة بدلاً من المال، ويقتل بذلك ناصر كل أفراد العصابة. لكن بدر يكون قد أصدر الأوامر، قبيل مقتله، لبعض المرتزقة بقتل أم ناصر الحاجة توحة. وبعد أن تتم كل هذه التصفيات الجسدية، يستيقظ ضمير ناصر في نهاية الحلقة الأخيرة، فيطلب الغفران ممن تبقى على قيد الحياة من أفراد عائلته. ثم نعلم -وبسرعة-، ومن خلال سطرين مكتوبين على شاشة سوداء، أن ناصر قد سلم نفسه إلى الشرطة معترفاً بجرائمه، وأن حكماً قد صدر ضده بالإعدام. ولا يكلف صناع المسلسل أنفسهم عناء أن يفردوا حلقة واحدة نرى فيها "العاقبة الأخلاقية" لكل هالات الثروة والقوة التي حصل عليها ناصر من فساده وجرائمه. وقد يكون سبب ذلك أن العاقبة الأخلاقية لا تعني صناع المسلسل من البداية، وأن ما يعنيهم كان إظهار هالات القوة في شخصية البطل ناصر "أشجع رجل في العالم".
إن التعبير الفني إن لم يكن واعياً، فإنه يحول الفساد المطلق إلى قداسة، لأنه يعرض لنا "الهالة" منزوعة عن كلفتها الأخلاقية. والخطر الذي يمكن أن يلحق بالمُشاهد الشعبي هو الوقوع في غرام هالة البطل/المجرم؛ هالة الثروة والقوة والهيبة، التي تم عرضها طيلة 29 حلقة من حلقات المسلسل، كان فيها المجرم يحرز النجاح تلو النجاح؛ مالياً وعاطفياً واجتماعياً.
ونحن لا نقصد هنا بالكلفة الأخلاقية: المثالية بالمعنى الضيق، أو الأخلاق التربوية المدرسية، ولكن نقصد أن الدراما الاجتماعية تصبح أخلاقية عندما تسمح لنا على نحو متخيل أن نعيد ابتكار تجربة غيرنا من بني البشر، فندخل حياة الآخرين بدلاً من البقاء منعزلين عنها في أماكننا الخاصة. فالأخلاقي هنا يعني أن نتمكن من فهم العالم من حولنا، وشبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في سلوك الناس وتصرفاتهم. وبهذا المعنى فإن التعبير الفني هو ظاهرة أخلاقية، من دون الاضطرار إلى إعطاء دروس تربوية. إن الفهم يعني التسامح. وربما لهذا السبب يفتقد المؤلف في معظم الدراما المصرية (خصوصاً في "ونوس"، على سبيل المثال) صفة الحنو على الإنسان، التي تميز كل فن وأدب كبيرين.
في نهاية (ونوس): نشهد على مدار الحلقتين الأخيرتين ما يجعلنا نفهم بأن سبب المشكلة كان هو غياب الأب ياقوت نفسه، وأنه السبب في تفكك وضياع أفراد الأسرة، وأن عودته هي الحل. فنشهد المحاولات الناجحة للأب، في إصلاح ما أفسده الشيطان في أبنائه. فيُقنع ابنه الأصغر نبيل بأن الراقصة معالي، والتي كان على وشك الاقتران بها، هي فتاة سيئة، فيُحجم نبيل بذلك عن مشروع الزواج منها. ويكون قبل ذلك قد أقنع الابن الأكبر الشيخ فاروق بأن طلب العلوم الدينية هو أمر أشرف من الشهرة، وأنه يتطلب من المرء التفرغ والدراسة لمدة 30 عاماً على الأقل، فيعدل بذلك الشيخ فاروق عن الدخول في المناظرة التليفزيونية مع الشيخ المتطرف. وينجح ياقوت أيضاً في شفاء ابنته نيرمين من هواجسها بأنها مستهدفة من الجميع، فتكف عن أعمال السحر، ويبدأ ابنها ياسو في التعافي من الشلل الذي يقعده. ولاحقاً سيفيق الأخ الجشع عزيز أيضاً من أوهامه بأن أخيه نبيل يخونه في علاقة آثمة مع زوجته التي يحبها، ويرجع إلى رشده عندما يعود إلى بيت أمه وأخوته. ويجتمع الجميع في بيت الأم انشراح، والتي يكشف لها ياقوت بأن ونوس الشيطان لن يتزوجها، ويلح عليها بأن تجمع أبناءهما في البيت من حولها وتغلق عليهم الباب ولا تسمح لأحد بالخروج حتى يُنهي معركته الأخيرة مع الشيطان. وفي المعركة الأخيرة، يرفض ياقوت أن يبيع نفسه للشيطان، ويرفض توقيع "عقد" بيع روحه، وينتصر على ونوس، بدعم من دعاء الدراويش المتواصل، الذين يقودهم الدرويش القصبي، داعين لياقوت بالنصر. وأخيراً، يستشيط الشيطان ونوس غضباً لنقض ياقوت للاتفاق المبرم بينهما، فيهد وكره هو شخصياً (الملاهي) ويسويها بالأرض، وهو يتوعد كل بني البشر. بينما يموت ياقوت على عتبة باب بيت انشراح، بعد أن فدى أولاده بحياته، وبعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنوبه.
إن المؤلف هنا يتبع خطى المسلسلات الأمريكية "اللاهوتية" التي تدعونا إلى أن نصدق بأن التاريخ البشري تقوده العناية الإلهية، رغم أننا نعلم أن التاريخ كان دوماً مدفوعاً بإرادة القوة والمصالح ولم يتشكل يوماً بفعل التصميم الأخلاقي. و"ونوس" في الحقيقة هو نموذج لما تحدث عنه جيجيك بأن "اللاهوتي" قد يقفز ليسد الفراغ المعرفي ويستعيد المعنى المفقود، في ظل غياب الوعي والخريطة الإدراكية الكلية لما يحدث في العالم. بل ويُلاحظ في المسلسلات الثلاث أن "الدين" (وغياب الأخلاق الدينية) يبدو كما لو كان هو النص الخلفي في السرد الدرامي. وإذا كان مؤلفو الدراما المصريين سابقاً قد تعاملوا مع المُشاهد بوصفه "مواطناً"، فإنه يبدو أن المؤلفين الجدد ينظرون له بوصفه "مؤمناً"، وينظرون للمجتمع ككل بوصفه "مجتمع المؤمنين"، الذي يتفكك ويتحلل لتدخل الشيطان، أو رؤوساء العصابات (4).
إن "الوصايا الدينية" في الدراما تتجاهل عنصر الإجبار المحفور والممتد في النظام الاقتصادي-الاجتماعي نفسه، معتبرة أن مساوئ النظام الرأسمالي والعولمة هي مسألة خطيئة شخصية، وضعف نفس فردي خاص. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم تأكيدات معظم رجال الدين واللاهوت على أن أزمة العصر هي أزمة أخلاقية. إن هذا المنطق يضع العوائق في طريق الوعي، ولذلك تتوحش الرأسمالية أكثر وأكثر. إنه نفس منطق "التكتيف" مرة أخرى (5).
وإذا استعملنا مصطلحات السوق الرأسمالية: ما هو الشيء الذي يبيعه المسلسل؟ مساحيق غسيل، آيس كريم؟ أم قيم معينة؟ وما هي هذه القيم والمعاني التي يبيعها؟ إن (ونوس) يبيع فكرة أن "الشر يكمن في الشيطان"، وأنه هو العدو، وهو التهديد الحقيقي للمجتمع، وهو المسؤول عن إفساد "النفوس الفردية الضعيفة". إن فكرة "الشيطان" هنا تتحول من رمز ديني لشر الأنا، ليصبح هو المحرك الأساسي، والمسؤول الرئيسي عن الظلم والفساد الذي يشهده المجتمع في عصر العولمة. وكأن الفقر والظلم والفساد والمرض كانوا جميعاً ناجمين عن أعمال الشيطان (أو حتى بعض الأشخاص من ذوي السلطة أو النفوذ، وليس النظام الرأسمالي نفسه)، وسيحدث الحل وتحل السعادة عندما يتم التخلص من إغواء الشيطان (أو سجن بعض الفاسدين من التكنوقراط أو المجرمين). ولكن ماذا لو تخلصنا من إغواء الشيطان، وبقي الفقر والظلم والفساد والمرض مع ذلك؟! إن الإطار الديني يسمح بالاستغلال الرأسمالي وفرض قيم السوق الاستهلاكي بكل إفراطها، لأنه لا يضع إلا قيد الضمير الفردي فقط في مواجهة الاستغلال الرأسمالي. إن منطق "التكتيف" هذا بات يسود الآن معظم المسلسلات والأفلام المصرية.

الغش في السرد
والمصطلح للناقد الإنجليزي تيري إيجليتون في كتابه (كيف نقرأ الأدب، 2013)، ويعني أن يبادر السارد إلى معالجة مادة موضوعه بانحياز كامل لصالح الفكرة التي يريد لها النصر؛ فيختار أبطال الرواية على نحو يُسهِّلون عليه تحقيق فكرته، ويصيغ قواعد اللعبة الدرامية لصالح الفكرة، بل وقد يُفعِّل أيضاً عوامل الصدفة وغيرها من الحيل والذرائع الدرامية، كي تنتصر فكرته في النهاية.
ويضرب إيجليتون مثالاً برواية وليم جولدنج (أمير الذباب)، التي تدور حول مجموعة من تلاميذ المدرسة على جزيرة صحراوية، ينقلبون شيئاً فشيئاً إلى مجموعة من المتوحشين. وربما كان هدف جولدنج أن يثبت لنا أننا جميعاً متوحشون في أعماقنا، ولا أمل في المدنية الحديثة، فما إن تخربش جلد تلميذ مدرسة حتى تجد الوحش تحته. لكنه يُسهِّل الأمور كثيراً على نفسه، عندما يختار الأطفال ليكونوا هم أبطال الرواية. فالأطفال في العادة ضد النظام الاجتماعي، وضد الانضباط، وهم غير قادرين على أداء عمليات معقدة مثل إدارة مجتمعات إنسانية. ولهذا فلن نندهش كثيراً عندما ينهار النظام الاجتماعي والإداري الذي يحاولون تأسيسه على الجزيرة. إن السارد يُبسِّط الأمور أكثر مما ينبغي على نفسه لكي يثبت دعواه. قد يكون البشر فعلاً مخلوقات فاسدة وآثمة، كما كان يؤمن جولدنج، ولكن لا يمكن إثبات هذه القضية بإظهار مجموعة من تلاميذ المدرسة المرعوبين من الوحدة والعزلة وقد أخفقوا في إقامة ما يشبه الأمم المتحدة.
إن هذا المأخذ نفسه يمكن لنا أن نأخذه على المسلسلات الثلاث التي نفحصها. و(ونوس)، مثلاً، نموذج للغش في السرد. فالسارد يختار شخصيات ضعيفة ورقيقة مثل الورق لكي ينتصر عليها الشيطان، فيثبت بذلك رؤيته التربوية. فبدلاً من أن يواجه ونوس شخصاً في قوته، أو أقل قليلاً، كأحد الصوفيين الكبار مثلاً، أو عالماً متعمقاً في الدين أو اللاهوت، أوفيلسوفاً أخلاقياً..إلخ، يتباهى بشطارته على أسرة ضعيفة رقيقة الحال، فيُبسِّط المؤلف بذلك الأمور على نفسه بأكثر مما ينبغي، كي يفرض صوته هو، وأغراضه على الدراما. وهو ما يُذكرنا مجدداً باعتراض دي. إتش لورانس على حشر المؤلفين لأنوفهم في ما لا يعنيهم.
من المظاهر السلبية للغش في السرد كذلك، افتقاد المؤلف -وبشكل صارخ- للحنو على الإنسان. والمُشاهد العادي لابد وأن يتسائل: كيف يمكن لإنسان ضعيف رقيق الحال أن يقاوم مثل هذا الشيطان القادر؟ كيف يمكننا أن نلوم نيرمين؛ الأم التي وهبت حياتها لابنها، حين تمتن لمن شفى ابنها الصغير الكسيح المشلول، فتتبع خطاه؟ أو نلوم فاروق (المحتاج مالياً) عندما ييسّر له ونوس سبل الشهرة والمال؟ أو نبيل الذي يبحث عن الشهرة في عالم الغناء؟ أو عزيز الذ يحب ابنة خالته، لكنه لا يملك المال الكافي للاقتران بها، فيأتي ونوس ويحل مشاكله المالية؟
إن السارد يمنح قدرات خارقة للشيطان، فيُسهِّل عليه مهمة إقناع باقي الشخصيات بتنفيذ رغباته على نحو آلي، وهو الأمر الذي يحق لنا معه أن نتسائل عن مسؤولية الشخصيات عن أفعالها، مادامت الخطيئة تحدث بالإجبار؛ إجبار الحاجة. إن قدرات ونوس المفرطة تتيح له: علاج المشلولين، ومداوة الجرحى والمرضى، وجلب الأموال الطائلة بالملايين، وتحقيق الشهرة والنجاح المهني لمن يتبعه، وباختصار، القدرة على النفع والضر. وهي إغراءات لا يمكن أن يصمد أمامها إلا الأنبياء والمرسلين. وربما كان من حق الشيطان، لو كان شخصاً طبيعياً، أن يقاضي المؤلف على تحميله كل هذه القدرات المفرطة التي لا يملكها. وبعبارة أخرى، لماذا نلوم شخصيات ضعيفة رقيقة على عدم قدرتها على مقاومة شيطان قادر على النفع والضر؟ تكمن المفارقة في (ونوس) في أنه، ولإفراط المؤلف في التشطر على إنسان الطبقة الوسطى، وتحميله أكثر من طاقته، ربما تكون "رسالة" المسلسل قد وصلت إلى المُشاهد معكوسة.
بالنسبة لـ (الأسطورة)، تتجلى أكثر عناصر الغش في السرد في فجاجة "الإفراط" في عرض هالة البطل (محمد رمضان: ناصر الدسوقي). إن المؤف هنا ليس مهتماً بالمجتمع ولا بالاقتصاد ولا بالسياسة. إنه مهتم فقط بعرض هالة القوة للممثل محمد رمضان (الذي تُحاك له المسلسلات والأفلام بصفته، لا بصفة الشخصية في الدراما). إن البطل الطيب الصالح، المحامي الشاب، الذي كان طموحه هو تمثيل العدالة في المجتمع والدفاع عنها، والذي لم يقترف في حياته جريمة أو جنحة، يتحول بعد خروجه من السجن ظلماً، إلى أخطر زعماء عصابات تجارة السلاح، بل وتاجر آثار وقاتل محترف أيضاً. ولا ندري كيف انتقلت إليه خبرة الجريمة، والتي تحتاج إلى ممارسة ووقت وتعلم من ذوي الخبرة من المجرمين. لكننا نراه يحقق النجاح في عالم الجريمة تلو النجاح، وبطريقة مفرطة في سرعتها، لدرجة إنشاءه مصنعاً لتصنيع السلاح: مسدسات، وبنادق، بل وحتى صواريخ مضادة للطائرات. وهو فوق ذلك يملك أموالاً سائلة بالدولار أكثر من الاحتياطي الموجود في البنك المركزي المصري. إن (الأسطورة) يحاول أن يجعل الجريمة مجرد "بيزنس"، ليس إلا. ونسمع ناصر في إحدى الحلقات وهو يقول: "أنا أحب "عملي" جداً، أكثر حتى من المال، وهذا هو سر نجاحي، لأن تركيز الإنسان على المال سيفقده تركيزه على "عمله"، فيهرب منه المال، أما إن أحب المرء "عمله" فإن المال سيجري وراءه من تلقاء نفسه"..إلخ. إن هذه الأقوال التي تحاول أن تبدو حكيمة في نظر المُشاهد الشعبي، تصدر عن زعيم عصابة يعتبر أن تجارة السلاح والآثار المسروقة والقتل هي مجرد "بيزنس" كأي "بيزنس" آخر. إن (الأسطورة) يجرد الجريمة إلا من بريقها، فيُظهر ناصر المجرم كشاب مكافح نجح في صعود سلم النجاح وأصبح له "البيزنس" الكبير الخاص به. ومن هنا اهتمام صناع المسلسل بعرض مظاهر الثراء الفاحش، والقصور الفخمة، وكميات الدولارات المتراصة فوق بعضها البعض بإفراط، بل وحتى علاقات ناصر النسائية، وزواجه بثلاث زوجات معاً (على طريقة الحاج متولي)، وحبه لفتاة رابعة..إلخ. إن ما يهم صناع المسلسل هو عرض هالات ومظاهر القوة للممثل/النجم. حتى أن التطريز بالجانب الديني في شخصية ناصر، هو جانب انتهازي مُكمِّل لجاذبية مظهر النجم لدى الجمهور الشعبي؛ من قبيل أنه، وهو المجرم والقاتل، لا يقرب النساء إلا في "الحلال" و"الشرع"، أو أنه يحرص على وضع "مصاحف" في سياراته، أو ترديده أثناء عملياته الإجرامية أن "الأعمار بيد الله"..إلخ
أما (الكيف)، فهو زاخر بالكثير من التشكيلات المتنوعة للغش في السرد: هناك رسم الشخصيات على نهو مهترئ ومتهدل وضعيف الحياكة كي تحقق للمؤلف سهولة إغواها وإيقاعها في الغلط. إن الأم تحية، المدرسة السابقة، تقبل أخذ حبوب مسكنة للآلام من الخادمة الجاهلة التي تعمل لديها، بكل سهولة، وبدون أن تعرف ماهية هذه الحبوب، فتقع بذلك فريسة لحبوب الهلوسة. والدكتور صلاح المتشدد أخلاقياً، نراه يتحول إلى فاسد يُصنِّع المخدرات الكيمائية، ثم يغرق في السكر والعربدة والفسوق والزنا، ومصاحبة السوقيين والسفلة. وهناك ثانياً، الانغماس في عرض مظاهر الفسوق والابتذال على مدار 30 حلقة، كأحد الأغراض الأساسية التي من أجلها صُنع المسلسل. وهناك ثالثاً، منطق "الإفراط" الذي يسود العلاقات، والذرائع الدرامية، والانتقالات الساذجة والسريعة في الحبكة، والذي يثبت تهافت السارد على إثبات وجهة نظره، لدرجة الاستعانة بثيمات عديدة من مسلسلات سابقة حققت نجاحات شعبية (كالزواج بثلاث أو أربع نساء، أو التصابي، أو الصعود والثراء المفاجئ..إلخ).
لكن ربما يكون أكثر ما يلفت النظر في هذا المقام، هو الغش في رسم شخصية الدكتور صلاح عزمي (أحمد رزق). فنحن نعلم أن المال يمكن أن يكون محركاً ودافعاً للشخصيات العاطلة أو الكسولة أو تلك التي تمارس أعمالاً ميكانيكة أو روتينية مملة، ولكنه بالنسبة للأشخاص ذوي الميول والاهتمامات العلمية (والدكتور صلاح كيميائي متفوق ومتميز) يمكن للمال أن يكون مضاداً للشخصية لا محفزاً لها. إن دور المال في تحفيز شخصيات مثل الدكتور صلاح يتوقف عندما يصبح لدى الشخص ما يكفي لتغطية احتياجاته الأساسية. عندها تصبح النقود خارج حساباته. أعط الشخص المتفوق ذو الاهتمامات العلمية ما يكفي، وبالتالي لن يفكر في المال، سيفكر فقط في العمل، بل قد يعمل متطوعاً في هذه الحالة مجاناً (6). وربما يكون هذا هو السبب الذي افتقدت فيه الشخصية للمصداقية لدى المُشاهدين، فلم يقتنعوا بالتحولات الجديدة المفرطة في سلوكها، والمضادة لملاحظاتنا الشخصية في الحياة العامة عن أمثال تلك الشخصيات التي تمتلك ذهنيات مماثلة للدكتور صلاح. إن السارد هنا يقوم تعسفياً، وبالنيابة عن الشخصية ذاتها، بإجبارها على اقتراف أفعال لن تقوم بها لولا هذا الإجبار (7).

المرأة "حليف الشيطان"
ويبدو أننا في حاجة إلى كلمة أخيرة عن دور المرأة كمصدر ثان للشر، وكـ "حليف للشيطان". في (ونوس): ابنة الخالة دينا هي مصدر الشرور التي تقع بين الأخ الأصغر نبيل (الذي تحبه)، وأخيه الأكبر عزيز (الذي تُجبَّر على الزواج منه). وحياة صاحبة الكباريه هي مصدر شر دائم لا ينقطع في الغواية والإفساد، حتى يتم قتلها. ونرمين تتبع الشيطان وتمارس أعمال السحر الأسود للإضرار بمن حولها. وزوجة الشيخ فاروق تلح عليه دائماً للبحث عن المال، وليس لديها مانع من أن يتزوج بأخرى مادامت الزيجة ستجلب لها المزيد من المال.
في (الكيف): منى زوجة الدكتور صلاح لا تنقطع عن حسد من حولها، وتقريع زوجها لفقره، وهي سبب سقوطه وفساده. وأختها أماني تحرضها على عصيان زوجها. وزيزي الراقصة صديقة مزاجنجي، وزوجته فيما بعد، هي من تعد له الكيف وجلسات المزاج. وزوجته الثانية رانيا مهووسة بالعرافين والدجالين. وزوجته الثالثة مهجة طيبة لكنها بلهاء ومحدودة العقل، ومن غير اللائق أن نعتبرها شريرة لكونها بلهاء. لكن زينات الراقصة السابقة زوجة البهظ متصابية وتغوي الشاب الرياضي وليد بأموالها لكي يتزوحها بعد تطليق البهظ لها. ووليد نفسه يشارف على الموت بعد أن تدس له بغي مجهولة السم في كأسه..إلخ
أما في (الأسطورة): فإن كل الشخصيات النسائية تقريباً هي مصدر للشر، بما في ذلك الأم الحاجة توحة، إذا ما اعتبرنا التستر على جرائم زوجها وابنيها، وشرعنة "الرزق الحرام" هو درجة من درجات الشر. وتمارا حبيبة ناصر الأولى، هي سبب كل الشرور والتحولات الإجرامية لناصر بسبب نبذها له. ورنا سكرتيرة ناصر خائنة وتتجسس عليه لصالح منافسه. وسماح أخت ناصر عاقة وتُفضل زوجها على أخيها برغم عداوتهما، بل وتحيك مؤامرة في النهاية كي يقتل ناصر زوجته شهد. وشهد نفسها سليطة اللسان وبلهاء تتسبب في قتل نفسها عندما تتبع نصائح سماح وتوهم ناصر بأنها على علاقة آثمة برجل آخر، ولا يحق لنا اعتبارها شريرة مادمنا لم نعتبر مهجة البلهاء في (الكيف) شريرة. ولن ننسى الفتاة لي لي، برغم أنها شخصية ثانوية، كمغوية وجاسوسة لصالح ناصر على أعداءه..إلخ
باختصار، المرأة في الدراما الجديدة هي: مغوية، وخائنة، وعاقة، وناكرة للجميل، وجشعة، وبلهاء، ونفعية، وصَخَّابة، وفاسقة، وفاجرة. إنها مصدر للشر، وأداة للإغواء، وهي من تدفع الرجال إلى الخطيئة والجريمة؛ إنها اليد اليمنى للشيطان ومساعده الأول. ومقارنة بسيطة وسريعة بين صورة المرأة لدى المؤلفين الجدد، وصورتها لدى مؤلفي الدراما السابقين، يبين لنا الردة التي تقع فيها الدراما المصرية اليوم. يكفي أن نتذكر الصور المشرقة، والحقيقية في نفس الوقت، لأمثلة من قبيل: فاطمة تعلبة في (الوتد، 1996)، وأمل صبُّور في (الراية البيضا)، ووداد عبد الباقي الجوهري في (أنا وانت وبابا في المشمش، 1989)، وفاتن حمامة في (ضمير أبلة حكمت، 1991)، وزينب في (الشهد والدموع، 1984)، وأنيسة البدري وزهرة سليمان غانم في (ليالي الحلمية، 1987-1995)، وهالة صدقي ولوسي في (آرابيسك، 1994)، ورجاء حسين في (أحلام الفتى الطائر، 1978)..إلخ
إن المؤلف الجديد يعالج موضوعه الدرامي بانحياز كامل ضد المرأة. وأسلوبه السردي يشين المرأة في فعل السرد نفسه، لأنه معبأ ضدها، والمواقف الدرامية فيه مُصَمَّمة على نحو لا تستدعي المرأة معه الاحترام، ولا حتى الشفقة. وهو ما يكشف بوضوح عن مواقف عنصرية وتميزية كامنة تجاه المرأة. إن المعالجة الدرامية (أي هيكلية السرد) منذ البداية، تُصمَّم بحيث تتضائل شخصيات المرأة حتى تغدو نموذجاً نمطياً، وبالتالي يصبح في وسع السارد تشويهه أو حتى إلغاءه بأقل جهد ممكن، وبدون أن يسبب إزعاجاً للمُشاهد. بل إن السارد نفسه لا يتأخر في النهاية في توضيح موقفه ذاك بمعاقبة المرأة إما بالموت، أو النبذ، أو الجنون.
إن الحقد على المرأة لدى المؤلفين الجدد يشبه حقد المستهلك المتطلع وغير القادر مادياً. وهم، بتصويرهم المرأة على هذا النحو، يُلغون أحد أهم القوى التي تحدَّت الرجعية الدينية مؤخراً، وأنقذت مصر من مصير مظلم. ومن حقنا أن نفهم الأمر على أنه وقوع في فخ التبعية لعقلية ذكورية رجعية، تنصب الفخاخ لشخصيات المرأة على طول السرد الدرامي، فيَسهُل على السارد إظهارها ككائن زومبي منحرف يوقع في شراكه الشخصيات الأخرى (الذكورية). ثم يأتي المؤلف كي يُحبط مساعيها في النهاية على يده هو، لا على يد الدراما. إنه عودة الولع الفيتيشي الرجعي القديم بإلقاء اللوم على المرأة، وبمصطلحات فرويد: "عودة المكبوت للظهور والتأسد".

مرحباً في الخريف الدرامي
إن أهمية المسلسلات التليفزيونية تتزايد في عالم اليوم، خصوصاً بعد تحول نسب المُشاهدة العالية من السينما إلى التليفزيون. وفي المجتمعات العربية خصوصاً، يبدو أن المسلسل التليفزيوني قد أصبح هو الوسيلة الأولى التي يستطيع المجتمع أن يضع فيها خبرته (مثل حال التراجيديا في مجتمع اليونان القديمة)؛ لاسيما بعد أفول دور الأسرة، والتعليم، والكتاب في نقل الخبرة. لكن إذا كان ماركس قد أشار إلى أهمية صعود العقل العام (الرأي العام) لمواجهة الظلم والفساد اللذين ترسخهما العلاقات الرأسمالية في المجتمع، فإن ما تفعله الدراما المصرية اليوم -في الحقيقة- هو تشويه وعي المتفرج بشكل مؤثر، وتقديم خبرة زائفة له، وعلى نحو يكرس أكثر من أوضاع الاستغلال والظلم.
يبدو أن الدراما المصرية قد انتقلت، بتعبيرات لاكان، من خطاب "الجامعة" (أي خطاب تقديم الخبرة إلى المُشاهد)، إلى خطاب "السيد" الآمر (الرأسمالي واللاهوتي)، ولذلك تبدو النبرة في هذا الخطاب وقد أصبحت أكثر عنفاً (في الأحداث، ولغة الشخصيات، والحلول الدرامية..إلخ). ولذلك السبب أيضاً يأتى جانب النصح الديني (الحليف للرأسمالي) كي يسد الفراغ المعرفي ويستعيد المعنى المفقود. والنتيجة النهائية، هي تكتيف وعي المُشاهد، ورفع اللوم عن الأسباب الحقيقية لمصادر الشر، وإحالة أسباب الظلم والاستغلال إلى أسباب هامشية وليست أصيلة (التشويش على خطوط الانقسام الحقيقية في المجتمع)، وإحالة الموضوع إلى مجرد شرور فردية وأخطاء شخصية، يتحمل وزرها الفرد نفسه، ويتم إصلاحها عن طريق الفرد نفسه أيضاً. إن التشويش على الوعي يكرس علاقات الظلم والاستغلال، والقبول الضمني بالنظام القائم في العلاقات النيوليبرالية (السيد-العبد)، والتعارك بين أبناء الطبقة الواحدة "العبيد" على المتع القليلة التي يتركها لهم "السادة"، فيُسمح لهم بالتعبير عن غضبهم بصبه على بعضهم البعض، بدون إزعاج المصالح القائمة للسيد. وندور جميعاً في دائرة بشعة للعجز والارتكاس، أو للعنف السلبي الهدام.
إن انعزال المؤلفين الجدد في غرف الإنترنت، أو مع أفلام ومسلسلات هوليوود التي يقتبسون منها، ليس فقط الحبكات، ولكن القيم أيضاً، أو حتى انعزالهم داخل طرق صوفية منغلقة، ضيقة وهامشية، يجعل إعادة اتصالهم بالواقع (في سردهم الدرامي) يأتي مصطنعاً، وعنيفاً، ومفرطاً، وسطحياً في كثير من الأحيان. والخطر الأكبر على الوعي هو في النوع الأخير من المنعزلين؛ الذين لديهم شبه أيديولوجية لاهوتية رجعية ومشوهة، لكنها تستطيع كسب أراض شاسعة لدى المتفرج الشعبي، بسبب عامل غياب الوعي نفسه، وافتقاد الخريطة الإدراكية الكلية للقوى الاجتماعية والاقتصادية التي تتصارع في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي النظام العالمي ككل. وهو بالضبط ما كان مؤلفو الدراما المصريين سابقاً أكثر توفيقاً بكثير في التعبير عنه بشكل أكثر وعياً ونضجاً: التعبير عن اللب الحقيقي الكامن وراء أشكال كثيرة من التشويه والإزاحات الزائفة.

*****

الهوامش

(1) جاك لاكان (1901-1981): عالم نفس فرنسي، وأشهر المحللين النفسيين بعد سيجموند فرويد. له إسهامات نظرية كبيرة في اللغويات، وأهم من أكد على دور اللغة في العلاج النفسي.

(2)- قارن واقع المؤلفين الجدد للدراما المصرية الحالية، المتماهين مع مندوبي المبيعات، والمنفصلين في "غرف الإنترنت" عن واقع المجتمع، بمؤلف قادر على تقديم "خبرة" حقيقية للمُشاهد العربي مثل: أسامة أنور عكاشة (1941-2010)، الذي درس علم الاجتماع في جامعة عين شمس، ثم احتك بالواقع المصري طيلة 20 عاماُ، من خلال عمله في مجال التعليم، وكأخصائي اجتماعي لرعاية الشباب في جامعة الأزهر.
كان جيجيك قد شبَّه الجيل الجديد من الشباب الإنجليز الذين قاموا بالشغب في شوارع لندن في 2011 بـ "غيوم في سراويل"؛ وكان يعني أنهم جيل منعزل في غرف الإنترنت، منفصلون عن الواقع، ولا يعرفون إلا الواقع المصطنع الذي يقدمه لهم الإنترنت. ولذلك فإن إعادة اتصالهم بالواقع تأتي دائماً في شكل عنيف وسلبي وهدام؛ ولهذا فإن المظاهرات "الصفرية" في إنجلترا 2011 لم يكن لها هدف أو برنامج للتغيير؛ مجرد تعبير ساخط (مرتكس بتعبيرات نيتشه) عن القلق وعدم الشعور بالأمان في شكل كرنفالي للتحطيم والتخريب. وقد وجدنا أن تشبيه "غيوم في سراويل" يناسب كثيراً النخبة الجديدة من مؤلفي الدراما المصرية في السينما أو التليفزيون.

(3)- آلان باديو(1937): فيلسوف فرنسي، ومن مؤسسي الحزب الاشتراكي في فرنسا.

(4)- إن الوعي بأثر القوى الاقتصادية والاجتماعية على مصير الشخوص الدرامية، نجده، مثلاً، في معظم مسلسلات أسامة أنور عكاشة كالأجزاء الخمسة من (ليالي الحلمية)، أو في مسلسلات وحيد حامد كـ (العائلة، 1994)، و(بدون ذكر أسماء). كما نجده أيضاً على نحو واضح ولبيب -وخاطف كذلك- في أدب نجيب محفوظ. إنه مثلاً يشير في قصة (أهل القمة) إلى الأثر الحاد الذي مثله صدور القانون رقم 118 لعام 1975 (قانون الاستيراد والتصدير) على الشخصيات في القصة. فنحن نعلم أن صدور القانون قد حوَّل، وفي يوم وليلة، اللصوص والمهربين الذين كانت الشرطة تطاردهم وتقبض عليهم وتزج بهم في السجون، إلى رجال أعمال، وأصحاب بوتيكات ومحلات بضائع مستوردة باتت تحظى بحراسة رجال الشرطة أنفسهم. يقول زعتر النوري (اللص السابق) لمحمد فوزي (ضابط البوليس): "كنا نجول في الميدان يحرسنا رجال الأمن.. انتهى عصر المغامرة وما نحن اليوم إلا تجار شرفاء.. ". وحين تلفت اللصة السابقة بهية نظر محمد فوزي، إلى أن أحد كبار رجال الأعمال كان يعمل في التهريب، قائلة: "صديقك زغلول رأفت لص عظيم.."، ينتهرها زعتر، قائلاً: "إقطعي لسانك! إنه بحكم القانون الجديد تاجر عظيم!"

(5) - الوصايا الدينية، والإشارات الأخلاقية بأن الشر والفساد والظلم فردي ومسؤولية شخصية، وخدمتها لمنطق "التكتيف" لمنع توجيه اللكمات إلى الرأسمالية، يترافق معه منطق آخر هو منطق "التنفيس"؛ ونعني به "منطق تقديم الهبات"؛ من قبيل تبرع الشركات الرأسمالية الكبرى ببضعة مئات من الآلاف لبنوك الطعام، ومستشفيات الأطفال، وأعمال الخير. إن شركات توظيف الأموال في مصر في الثمانينيات من القرن الماضي نهبت المليارات، وأفقرت الطبقة الوسطى المصرية بتضييع مدخراتها، وكانت، في نفس الوقت، تلعب لعبة "الواهب"، متبرعة بمئات الآلاف لأعمال الخير. يدرك رأس المال أن "منطق التنفيس" يساعد على جعل الناس تشعر شعوراً حسناً، ومن هنا يكون "التكتيف" مضاعفاً.

(6)- يذكر جيجيك في (سنة الأحلام الخطيرة) ما يتوافق مع هذه الحقيقة في النفس البشرية، حين يشير إلى المشروع البحثي الذي قام به معهد ماساشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية على عدد من طلاب المعهد من ناحية، وعدد من الطلاب الهنود في مقاطعة مادوراي الريفية في الهند من ناحية أخرى (عينتان متضادتان). وقد أثبتت الدراسة أنه بالنسبة للأشخاص ذوي الميول والاهتمامات العلمية، فإن دور المكافآت المالية له حدود في التحفيز، ويتوقف عندما يصبح لدى الشخص ما يكفي لتغطية احتياجاته الأساسية.

(7)- الفيلم المأخوذ عنه مسلسل (الكيف)، والذي يحمل نفس الاسم، هو أحد ثلاث أفلام يُطلق عليها في السينما المصرية "الثلاثية الأخلاقية": (العار، 1982)، و(الكيف، 1985)، و(جري الوحوش، 1987)، وجميعهم من تأليف السيناريست/ محمود أبو زيد (والد مؤلف مسلسل "الكيف"). ويبدو أن مؤلف الفيلم كان أكثر توفيقاً من ابنه في رسم شخصية الدكتور صلاح (يحي الفخراني، في الفيلم)؛ والذي ُأجبر إجباراً من قِبَل البهظ -بإيقاعه في دائرة الإدمان المفرط- على التعاون معه في تصنيع المخدرات، ضد مشيئته ورغبته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع