الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذكريات قرينة الحياة والممات

دينا سليم حنحن

2018 / 11 / 27
الادب والفن


الذكريات قرينة الحياة والممات
دينـا سَــليم حنحن

أحيانا، تلحق بنا المأساة حيثما نحل وتظهر فجأة مثل عجوز شمطاء تلوّح بزهرة الشوكران السامة، نهرب منها فتستدرجنا إلى أقسى حدود الممنوع، بالنسبة لي حدود الممنوع هي الذكريات المؤلمة.
عندما ضاجعتني الحياة بنارها ووارت عشقي بخمارها، لم أكن سوى طفلة مدللة تلعب على هضبة مليئة بالأزهار البرية والأعشاب الضارة، (القرّيص) واحد منها، رغم ذلك أغرتني الهضبة وانتظرتُ يوم الأحد بفارغ الصبر حتى أذهب إليها مع كتابي وأوراقي أخط القصائد وألعب بالكلمات وأتأمل الطبيعة والسماء والزهور المختلفة وحركة القطارات القريبة، حتى أصبح هذا اليوم يوم صلاتي، صلاة خاصة بي فقط.
انتظرتني بدوية ترعى الأغنام هناك كما كل أحد لكي تتونس بي، قرأت لها ما كتبته وسمعتني بخشوع، راقبتها بدقة متناهية وتأملتني بسرور، أذكرها عندما نسلت خيطا من سترة قديمة حتى ترتق به سترة قديمة أخرى، وعندما سألتها لماذا ترقعين القديم بالقديم أجابتني:
- بكرا بتعرفي!
- ما بقدر أستنى لبكرا! أجبتها
- بكرا يعني المستقبل مش هسَه هسَه (1)
سألتني عن الحرف الذي يشبه رأس العصفور، (ع)، وعن الحرف الذي يشبه البيضتين في صحن، (ت)، قالت عن الـ (ث)، (لا أحِبا، الحياة إتنين إتنين ولويش الثلاثة)، سألتني عن الحرف الذي يشبه أسنان المشط (س) وعن الحرف الذي يشبه الخاتم الذي في إصبعها، وعندما أخبرتها أنها التاء المربوطة (ه)، وقفت جزعة قائلة بأعلى صوتها:
- هذا الحرف لعين ويشبه المشنقة، ما أحـِبا، ولئيم وسافل ومنحط...هسة برجع لك لا تروحين!
لحقت بشاة مولودة حديثا، حملتها برفق ومسدت صوفها بكفها وعادت بها ووضعتها لترعى قريبا منا ثم أدارت لي ظهرها فسقط شالها على كتفيها فظهر شعرها المالس الذي عطرته بخليط من نباتات برية مثل شلال الليل، ماج على ظهرها حتى وصل إلى خاصرتيها، براق وناعم فازدادت جمالا، ثم أخرجت من (البقشة) مرآة صغيرة وشيء يشبه فانوس علاء الدين السحري، وإذ بها (مكحلة) تحتوي كحلا عربيا، كحّلت جفنيها ثم استدارت ونظرت داخل عيني وقالت لي:
- لا تكحلي جفونك حتى تصيرين دكتورة!
ثم نظرت إلى الأفق وكأنها تقرأ الزمان وقالت:
- جا الوقت ولازم أعود إلى الدار!
- خليكِ شوية ؟ توسلتها
- النهار خلص وبكرا جا بسرعة ولازم أروح أعمل أشياء قبل ما ييجي بكرا!
- بكرا الإثنين وهل تأتين إلى هنا غدا؟
- غدا يومي والأحد يومك، روحي المدرسة واكتبِ حتى تصيرين دكتورة مثل هناء.
- من تكون هناء؟ سألتها
- ابنة عمي، تركت الأعراش وتحضّرت وراحت إلى العلام ودرست وصارت دكتورة وما تزوجت، وأنا أحلى منها بكتير وما تزوجت، قالوا لي (الجاهلة(2) والقبيحة هي التي تدرس بس، أما الحلوة مثلي تتزوج على طول)، وأنا ما ريد بن عمي، ما حِبا، أنا ريد ابن خالتي وراح أبقى بدون زواج حتى يعطوني إياه وإن ما عطيوني إياه راح أسمم روحي!
ذهبت البدوية، نادت القطيع كل باسمه وكشتهم بعصاها بنعومة وغنّت لهم (حا عين بـْتـِرعى الـغنم، حا عين بـِتْـرَبي الـغنم) وغابت مع قطيعها مع مغيب الشمس.
بعد أيام شاع خبر وفاتها في الحيّ، لقد انتحرت مستخدمة زهرة الشوكران السامة، وقد خلطتها مع نبات القرّيص الذي قرص ساقها وساقي، لقد دسنا معا على نباتات الحياة والممات معا كما داس علينا الزمان، قالت لي في يوم ( إنتِ حضرية ما تعرفين تمشي مليح، دوسي على القرّيص وأقرصيه قبل ما يقرصك)، لم تعلم أن أشهر فيلسوف في الكون حظي بميتة مشابهة، حتى لو كانت المعلومة استنتاجا، سقراط.
ذهبت عين العصفورة إلى جوار ربها كارهة حرف (الثاء) تاركة خلفها طفلة تفكر بها كلما غابت الشمس، ابنة التاسعة ربيعا والتي هي أنا، أتذكر الخيط المسلول حتى سارت الذكرى خلفي وتدحرجت أحيانا بين خطواتي التي اتسعت سنة بعد سنة، هذه الذكرى تشبه عجوز شمطاء تحمل بيدها اليمنى زهرة سامة تدعى الشوكران وباليسرى نبتة القريص.
................
(1) هسة: الآن
(2) الجاهلة: الصبية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن