الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيها السلفيون ... الأيام دول بيننا وبينكم

عادل بشير الصاري

2018 / 11 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


التعلق بالموروث والمبالغة في تقديسه والتعصب له داء أصاب كثيرا من الأمم في الماضي وألحق بها أضرارا فادحة ، حيث عرقل نموها وتطورها، لكن تلك الأمم انتبهت مع مرور الوقت إلى خطورة التعلق بالموروث وتقديسه ، فراجعته وغربلته بحيث حذفت منه وعدَّلت فيه ، وأبقت منه ما أبقت وهو النزر اليسير .
لقد ايقنت تلك الأمم التي راجعت مورثاتها ولحقت بركب الحضارة حقيقة بديهية بسيطة مفادها أن كل شيء ما خَلا اللّهُ باطل، وأن دوام الحال من المحال ، فالحياة بطبعها متجددة وحقائق الوجود مهما علا شأنها ومهما كانت مقدسة قابلة للتغيير وربما للزوال .
والمتأمل في الحاضر المأساوي للشعوب التي تتكلم اللهجات المحكية المتفرعة عن العربية الفصحى وتدين بدين الإسلام يدرك فشل وعجز هذه الشعوب عن اللحاق بالركب الحضاري المتسارع ، وعن الاتيان بأي جديد ينفع الذات وينفع الغير، فقد لاذت هذه الشعوب بموروثها لتحميه من الموجات المتتالية والمندفعة نحو التقدم ، وطفقت تغني بأمجاد الماضي وما خلفه الأجداد من قيم وعادات وثقافات حتى توهمت أن موروثها هو زاد الحاضر والمستقبل ويغني عن الحاجة إلى الغير.
بعد احتلال الفرنسيين مصر عام 1798م أيقن نفر من المتنورين العرب أن أمتهم في حاجة ماسة إلى مراجعة الذات والبحث عن أسباب هزيمتها أمام ذات أخرى متسلحة بالعلم ، وقدموا على مدى سنوات أفكارا وخططا للنهوض بالأمة مثل رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ، ولكن تمَّ التصدي لهؤلاء العلماء المفكرين وإجهاض مشروعهم النهضوي من قبل المحافظين الجامدين بحجة الخوف على ضياع عقيدة الأمة والتشبه بالأعاجم والكفار، وتمَّ إغراء الجهلة والرعاع بهم ليسفهوا آراءهم ولينعتوهم بالزيغ والضلال والردة.
إن الشعوب العربية في هذه الأيام العصيبة هي من أشد الشعوب المعاصرة تعصبا وتمسكا بالموروث على اختلاف أنواعه ، بل يمكن القول إن الافتتان بموروثها بلغ بها درجة المرض ، بحيث باتت أية محاولة لمراجعة وغربلة التراث تفسَّر من قبل الماضويين السلفيين بأنها مؤامرة لسلخ الأمة عن تراثها ومحو شخصيتها، وهكذا شاعت ثقافة تقديس الموروث بين قطاعات كبيرة ومختلفة من المجتمعات العربية والمسلمة، بحيث إذا ما تجرأ مفكر أو عالم وخاطب الناس برأي جديد في السياسة أو الاجتماع أو الدين ينتفض في وجهه السلفيون من دعاة الحفاظ على تراث الأمة وهويتها صارخين : بأن ما تقوله خارج عن العُرف والعادة والدين .
لذا فقد صار من شبه المستحيل أن يُقْدم عربي محب ومخلص لأمته ويتمنى تقدمها على تطوير في أي مجال من مجالات الحياة سواء المجال الثقافي أو الاجتماعي أو الديني خوفا مما يصيبه من الأذى المعنوي والمادي.
كلما طرحت فكرة جديدة للنقاش لها صلة بالدين أو الثقافة يبادر على الفور العقل السلفي بالشك فيها وفي نية من طرحها ، وغالبا ما يرجع سبب ظهورها إلى مؤامرة كونية لصرف المسلمين عن دينهم والعرب عن تاريخهم وتراثهم المجيد.
السلفي لا يسأل هل هذه الفكرة الجديدة مفيدة وتخدم المجتمع وتطوره ، السؤال الملح لديه هو هل هذه الفكرة تتوافق مع دين الأمة وموروثها أم لا تتوافق؟.
لهذا السبب باءت بالفشل جميع حركات الإصلاح وجميع مشاريع النهضة التي ابتدأت منذ ما قبل القرن الماضي ، وأخرست بالقوة الأصوات المنادية بضرورة التغيير والتطوير، وتعرض الدعاة والمفكرون لصنوف مختلفة من الأذى المعنوي والمادي من إهمال ونفي وتشريد وقتل.
اطرحْ أية فكرة لها صلة بالدين والثقافة ، وانظر كيف يتعامل معها ويفهمها ذو التفكير السلفي ، فهو إذا وجد لها نظيرا أو ما يشبهها في التراث فإنه يثني عليها وعلى صاحبها ويدعمها بنصوص ومواقف تراثية ، وإذا اكتشف أنها من مبتكرات العقل المعاصر نبذها ورمى صاحبها بكل نقيصة وتهمة .
السلفيون من عشاق الماضي الجميل والمجد التليد يريدون من مليار ونصف المليار مسلم أن يكونوا نسخا متشابهة في التدين والسلوك للمسلمين الذين عاشوا في عهد النبوة والصحابة ، دون أي اعتبار لتغير الزمان والمكان والفكر ، لأنهم مقتنعون أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ، وهو ما لم يقله حتى صاحب الشريعة نفسه وما لم يثبته الواقع.
مشكلة هؤلاء السلفيين هو أنهم يفهمون الشريعة أوامر عسكرية غير قابلة للنقاش والمراجعة ، وهم يحتجون بأن الله أعلم من عباده بمصالحهم وما شرَّع لهم إلا ما يفيدهم ، وهذا حق لا يمكن لمؤمن أن يشكك فيه ، ولكن الشرع الذي شرعه الله ألزم به أناسا عاشوا منذ ألف وخمسمائة عام ، ومن العبث الادعاء بأن كل التراث الديني أو غيره يصلح لهذا الزمن بالكيفية التي كان عليها في الماضي.
كيف أُقنع إنسانا يعيش بيننا في القرن الواحد والعشرين ويحلم ويفكر بعقلية القرن السابع الميلادي أنه ليس بالإمكان استنساخ وتقليد ومحاكاة حياة وعادات وثقافات ومعتقدات من عاشوا في ذلك القرن؟.
كيف أقنع ذوي هذه العقول المجنونة بحب السلف بأن إصرارهم على محاكاة السلف واستنساخهم اعتراف صريح منهم بالعجز عن أي فعل شيء له قيمة تذكره لهم الأجيال القادمة؟
لم يسأل السلفيون أنفسهم وهم الموقنون بأن شرع من كان قبلنا هو شرع لنا : هل توجد أمة من أمم العالم تحتكم الآن في شؤون حياتها لشرع أجدادها القدامى ؟.
هل الإيطاليون مثلا يطبقون الآن نفس القوانين الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في عهد الامبراطورية الرومانية قبل ميلاد السيد المسيح؟.
هل يمكن أن نتخيل بشرا يتزوجون ويطلقون ويورثون ويبيعون ويشترون ويصومون ويحجون بطريقة واحدة وبأحكام واحدة للآلف السنين؟.
هل يمكن أن يظل الصوم بهذه الكيفية المعروفة الآن إذا ما تطورت الحياة بعد قرون وانتقل المسلمون للعيش على سطح القمر؟..
وهل يمكن أن يظل ميقات الحج على ما هو عليه الآن إذا ما ارتفع تعداد المسلمين بعد قرون إلى عشرة مليارات ؟
هل يأخذ المسلمون وقتها بنص الآية (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) ، فيحجون في أي وقت من الأشهر الحرم الأربعة بدلا من الاقتصار على يوم التاسع من ذي الحجة؟.
لم يقتنع السلفيون أن إصرارهم على محاكاة السلف واستنساخ أفكارهم وثقافاتهم والعمل بها اعتراف صريح منهم بالعجز عن فعل أي شيء تذكره لهم الأجيال القادمة، ولم يقتنعوا أيضا بأن الله جل جلاله أنزل شريعته لأكرم خلقه الذي كرمه بالعقل ، ليحتكم لعقله بما يفيده هو ومجتمعه وبما يعلي من آدميته ويؤكد خلافته في الأرض.
يحاجج الماضويون السلفيون خصومهم متسائلين : لماذا نتعب أنفسنا ونبحث عن شريعة تناسبنا والله قد أراحنا وتكفل بإنزال شريعة صلحت لمن كان قبلنا وتصلح لنا ولمن سيأتي بعدنا ؟، وهم يقولون إن التشكيك في عدم صلاحية شريعة الإسلام لعصرنا هذا ولكل العصور معناه أن الإسلام ليس دينا منزلا من الله وأنه نتاج عقل بشري متغير.
وهذا الكلام ضرب من المماحكة واللجاجة ، لأن من يطالب بتجديد الشريعة ليس كمن يطالب بإلغائها ، فأكثر المسلمين يطالبون بتعديل بعض الأحكام الشرعية ، لأنهم يقعون في ضيق وحرج من تطبيقها، وهل يكفر المسلم إذا ما طالب بتغيير بعض أحكام الزواج والطلاق والعدة والنفقة والمراهنة والقرض والبيع والشراء ، وهي أحكام معظمها اجتهادات بشرية قام بها فقهاء مبجلون أحسنوا قراءة النص الديني القرآني والسني واستخلصوا منه أحكام الأحوال الشخصية والتعبدية فلقيت قبولا واستحسانا من عامة الناس وطبقها كلٌ على قدر ظروفه.
إن التفكير السلفي قد أربك الحياة عندنا وعطل نموها ، لأنه لم يعد مقصورا على الدين فقط بل شمل مختلف الأنشطة الثقافية والفكرية العامة ، ففي النشاط اللغوي هناك علماء لغة سلفيون لا يقبلون بأي تغيير يمس قواعد اللغة وبنيتها ، ويقيسون اللغة بمقياس الأسلاف ، ويحاربون أية محاولة لتطوير اللغة وحداثتها بحجة أن هذه المفردة الجديدة أو هذا الاشتقاق المبتكر أو التعبير اللغوي الجديد لم يرد في كلام العرب .
وفي مجال الشعر والأدب هناك إلى يوم الناس هذا من لا يتذوق إلا الشعر المنظوم على بحور الخليل بن أحمد ، ويسخر من الشعر الحر وقصيدة النثر ويتهم أنصارهما بإفساد الشعر، وبعض السلفيين ممن له اهتمام بالأدب لا يتذوق إلا الأدب الذي كتبه الجاحظ وعبد الحميد الكاتب أو أضرابهما أو المقلدين لهما من المعاصرين مثل المنفلوطي أو مصطفى صادق الرافعي.
وفي المجال السياسي لا تزال بعض التيارات الإسلامية المعتدلة منها والمتشددة ترى ضرورة الخلافة الإسلامية ، فهي تمثل في نظرها الحل الأمثل لكل مشاكل العرب.
هذا العناد والإصرار على استنساخ السلف وتقليدهم والسير على خطاهم أنتج ردة فعل سلبية من دعاة التقدم والحداثة ، فبتنا نرى في مقابل التفكير السلفي تفكيرا حداثيا متطرفا يدعو صراحة إلى رفض ومحاربة أي رأي أو فكر يتصل بالموروث ويصفه بالتخلف والرجعية، لا لشيء إلا لأنه قديم ، وهو دائما يرحب بكل ما هو جديد دون أن يسأل عن فائدته وعن سلبياته ، مما يعني أن الحداثي المتطرف في مناكفة دائمة مع السلفي لإغاضته ، وهكذا صار العقل العربي تائها بين نهجين متضادين كل منهما يتهم الآخر بأنه سبب مما يعانيه العرب والمسلمون ، وهو ما يشي بأن الصراع القديم بين دعاة السلف ودعاة الحداثة لا يزال مستعرا ، مع أن الإنصاف يفرض علينا أن نعترف بهزيمة التيار الحداثي على يد التيار السلفي الماضوي في عدة جولات، فهنيئا لكم أيها السلفيون بانتصاراتكم المتكررة على دعاة الحب والسلام والخير والتقدم والحضارة.
هنيئا لكم لأنكم أخرستم صوت الحق والفضيلة صوت الشيخ محمد عبدة وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ خالد محمد خالد والشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين.
هنيئا لكم لأنم استطعتم أن تُحرِّضوا الدهماء والرعاع على منائر العلم والفكر المتفتح وأن تشردوا أحرار الكلمة والعقول النيرة مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور محمد شحرور وسيد القمني والصادق النيهوم .
وهنيئا لكم لأنكم تمكنتم من الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي والمفكر فرج فودة وقتلتموهما.
هنيئا لكم لأنكم انتصرتم بجهلكم وظلاميتكم وغباءكم على علوم علمائكم وتنوير مفكريكم وذكائهم .
هنيئا لكم لأنكم استطعتم أن تمنعوا أمة كبيرة من اللحاق بالركب الحضاري السريع ، وأقنعتم متعلميها وجهَّالها بفوائد الجهل والتخلف والتبعية ، وبمضار التقدم والحداثة والعلمانية والديمقراطية.
نهنئكم ... ونذكِّركم بأن الأيام دول بيننا وبينكم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ


.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف




.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah