الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نخبة جائعة ضد الوطن والشعب !

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2018 / 12 / 6
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


منذ 2011 لم يحصل أي تقدم في معالجة أي جرح من جراح البلاد المفتوحة. لا ملف التشغيل والتنمية ومحاربة الفقر الذي فجّر الثورة. ولا ملف الأمن والحرب على الإرهاب. ولا ملف استقلال القضاء. ولا ملف التغيير السياسي وتمكين الشعب من المشاركة في الشّأن العام على قواعد ومعايير الأخلاق والنّزاهة وتنافس البرامج. ولا ملف إصلاح الإدارة وتغيير بنيتها البيروقراطية.

على عكس كلّ هذه التطلّعات -التي دفع من أجلها الشعب التونسي تضحيات ثقيلة تُقدّر بخسارة أجيال من عمر وطن-، صارت تونس اليوم عنوانًا عالميّا للفساد وانعدام المسؤولية وهدر الموارد والاتّجار بالبرلمانيين في المارشينوار، والعجز عن تحقيق أي إنجاز اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي. ولعل النجاح الوحيد الذي تحقق هو نجاح العصابات الاقتصادية في تقاسم المؤسّستين الأمنية والقضائية، ثمّ المؤسّسة التشريعية، وتخريب الدولة بشكل عام.

والحقيقة أنّه بعد مرور ثمانية أعوام من التفاؤل وزرع الأمل والمراهنة على المستقبل، لم يعد من الممكن لنا أن نتوقع سوى تفاقم الأزمة العامة التي تعصف بالمجتمع والدولة، وتتزايد مظاهرها كلّ يوم، وسيتزايد معها منسوب التدخل الخارجي بسبب التمزّق والانقسامات في العلاقات الداخلية والتوتّر السياسي والقطاعي والجهوي، و تراجع مستوى حياة السكان، وتزايد البؤس وتفاقم الجريمة، وتفجر الاحتجاجات الاجتماعية. ولذلك صار من باب المسؤولية أن نتوقّف عن خطاب الأمل لأنه أصبح خطاب أماني بالغ الضّرر من جهة كونه يساهم في تشويه الواقع ومغالطة الناس.

فكيف نفسر هذا التدهور المستمر والثابت في شروط وجود الدولة والمجتمع ؟
ولماذا هنالك شعور عميق بصعوبة النجاح في الحدّ من أثر هذا التّدهور؟

لا أريد الحديث عن "دور حركة النهضة" في هذا التدهور، لأنه بعد قضية التنظيم السرّي الضالع في الإرهاب، يتبيّن بوضوح أنّ وُجود هذه الحركة بمنهجية العنف وفلسفة التمكين التي هي عليها اليوم، هو جزء من مصائب تونس ومشاكلها وليس أبدًا جزء من الحل.

إنّ معالجة أزمة تونس مسألة مرتبطة بنوعية النخب الاقتصادية والثقافية، وبشكل رئيسي النخبة السياسية التي تسيطر على السلطة وتتحكم بموارد المجتمع وبقراره الوطني. فعلى قدر وعي هذه النخبة، ووفق تكوينها الأخلاقي والثقافي، ومدى معرفتها الدقيقة بواقع البلاد وأولويات الإصلاحات. وخبرتها بالبيئة الإقليمية والدولية التي تتحرك ضمنها. وقبل هذا وذاك تتوقف عملية الخروج من الأزمة على استعداد النخب السياسية لاعترافها ببعضها البعض وتطوير صيغ استثمار موارد البلاد، والارتقاء بمستوى تنظيم المجتمع، وتحقيق التراكم والتقدم في أوضاع الناس الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وتعاونها على حسم قضايا الإجماع الداخلي حول علوية القانون واستقلال منظومة القضاء وأمن البلاد وسيادتها ومحاربة الفقر وتحديد مقتضيات السياسة الخارجية وأولوياتها، ونحو ذلك من أسس بناء دولة تحترم شعبها وتفرض احترامها في العالم. بل أنه من المعلوم أن النخب السياسية بما تتمتع به من وسائل القيادة والتنظيم والتربية السياسية والمدنية، هي التي تحدد حجم الجهود المبذولة من قبل المجتمع وتضمن استثمارها ومردودها ونتائجها. فكما أن الإدارة الفاسدة والضعيفة تؤدي إلى إفلاس صاحب أي مشروع إنتاجي، كذلك تؤدي القيادة الفاسدة في السياسة إلى إفلاس مشروع بناء الأمة، وفي مقدمة ذلك بناء الدولة التي ترعى مصالح مواطنيها وتسهر على امنهم وسلامتهم وحرياتهم وحقوقهم.

بناء على هذه الشروط، يكفي لمعرفة ما ينتظر تونس في المستقبل، أن ننظر في طبيعة النخب التي تحتل مواقع القيادة السياسية، في الدولة وفي الأحزاب. وكذلك في جميع فروع الإنتاج والتصدير والتوريد. وأيضا في الثقافة ومراكز العلم والبحوث والتعليم والمعرفة والإعلام . فلن يكون هناك أمل في وقف هذا التدهور المستمر، طالما لم يحدث تغيّر جذري في سلوك النخب السياسية سواء تلك التي تمسك بالسلطة، أو التي تحتل مواقع القيادة في الأحزاب وفِي مختلف قطاعات النشاط العمومي، باستثناء الجبهة الشعبية وبعض الأحزاب الأخرى كحركة الشعب والتيار الديمقراطي والحزب الآشتراكي، التي رغم هناتها التنظيمية وضعفها لم تنخرط في أوساخ الأموال والتآمر على البلاد، بل لعل ضربات الغدر حين هوت، أصابت الجبهة في مقتل. فكانت هي أول ضحايا الإرهاب الدموي.

إذن لا يمكن فهم الأوضاع القائمة دون ربطها بطبيعة النخب القائدة للدولة والمجتمع. فما يميز المجتمعات التي نهضت من جمودها وانحطاطها، هو وجود نخب اجتماعية حقّقت القطيعة التامّة مع كل أشكال الأفكار والأطراف العنيفة والفاشية، وتعالت على مصالحها الضيّقة، لترتقي بوعيها وضميرها إلى مستوى التفكير والعمل بوحي مبادئها وغاياتها الوطنية العليا. ونحن نعلم على وجه اليقين أن التاريخ لم يشهد لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا في الشرق ولا في الغرب أمة نهضت من رمادها، وتجاوزت معيقاتها ومشاكلها من دون وجود نخبة سياسية واقتصادية وثقافية تقودها القيم والمباديء الأخلاقية والمثل. أي نخبة مؤهلة للتّفاهم على أسس البناء ومؤهلة للتضحية في سبيل فكرة وطنية أو قيمة إنسانية مثل الحرية والمساواة والعدالة وسيادة البلد. ومؤهلة للتنافس على الفضيلة والخدمة العامة، بدل التطاحن والتنافس في مراكمة المنافع المادية والسيطرة على الموارد ومقايضة المواطنين على أمنهم ورزقهم.
في أحضان النخب الوطنية المسؤولة يولد الرجال العظام، وعليها يعتمد هؤلاء السّاسة العظام في تأسيس الدولة وبناء الأمة، وتحقيق المعجزات، بنكران الذّات وزرع روح التضحية وبناء مفهوم المصلحة العامة وتعظيم مكانة بلادهم واحترام مستقبل شعوبهم.


نحن في تونس، للأسف عندنا مزيج من كواسر باحثة عن فريستها في جسم مجتمع مجوف ومختل التوازن، ومن قطاع طرق مختفين وراء ألقاب ووظائف إدارية وسياسية، ومهربي مخدرات وتجار سلاح ومختلسين لأموال الدولة وسماسرة ولصوص ومرتشين وعيّاق، لا مبدأ يقودهم ولا وازع غير إرضاء الشهوة البدائية في السيطرة ونهب الثروة على حساب غالبية فقيرة تسحقها الخصاصة وقلّة الحيلة. أغلبية تغرق في أوحال الجوع المتحالف مع الفياضانات واهتراء البنية التحتية للبلاد من بنزرت إلى بن قردان. ولا يسرى الانحطاط على العاملين داخل حقل الدولة ومؤسساتها فحسب، ولكن أيضا على المتحكمين بمؤسسات المجتمع، ونخبه الأهلية، ومن أصحاب مشاريع صناعية وتجارية وثقافية وفكرية ، هناك، في تلك المفاصل أيضًا توجد نخبة حقيرة ولصوصية إلا من رحم ربُّكَ.

لقد أهدرت هذه النخبة الجائعة الإجرامية فرصة التحرر على مجتمع لا يزال في بداية تجربة التحرر، بحيث مازال الناس الذين أسقطوا الاستبداد مترددين في خوض الكفاح الشاق من أجل الحرية وتحمل معاناته وعذاباته إلى آخر الطريق، خصوصًا بعد أن غُدِرَ بهم وسُرقت دماؤهم. فمازال التونسي ممعوس الشخصية، ضامر الضمير، مفتقرا لوعي واضح، وإرادة حية، تتقاذفه الأمواج بين أحزاب اللصوص، وبالنتيجة أصبح ميّالًا إلى تفضيل الاستسلام على التمرد.

لكل هذه الأسباب لا أعتقد أنه من السّهل كسر شوكة الإرهاب في الوقت الذي تتسابق فيه النخب التي تُطلِقُ على نفسها نعوت "الديمقراطية والوطنية والعصرية"، على التقرّب من تنظيم إرهابي ضالع في الاعتداء المسلح والمنظم على تونس، واغتيال قادة سياسيين، وعدد من العسكريين والأمنيين. بدل إبرام ميثاق جمهوري واسع لعزله وإخراجه من دائرة الفعل السّياسي ما لم يتخلّى نهائيا وبشكل قطعيّ ومعلن عن خطاب التكفير، وعن دعم الإرهاب.
وليس من السهل النجاح في إخراج البلاد من أوضاعها المريضة دون ثورة عميقة، فكرية وسياسية تفرض جبهة جمهورية نظيفة بديلا للحكم.
ولن تحتاج تونس من أجل أن تبرأ لا إلى المزيد من العلمنة ولا إلى المزيد من التدين، بل إلى بعض النبل والكثير من الكرم الأخلاقي وروح الفضيلة عند كل فرد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري