الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدرس الفرنسي والاستبداد الأسدي

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

(Abdulrahman Matar)

2018 / 12 / 8
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


ثلاثة أسابيع باريسية عاصفة، من الغضب الشعبي العارم، أجبرت الحكومة الفرنسية، ليس على التراجع المؤقت فحسب، عن زيادة الضرائب على الوقود، بل على إلغائها كليّاً، والعمل الفوري لاستعادة الثقة، للخروج من الأزمة، تأسيساً على أن المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، عبّر عنها إدوارد فيليب بكل وضوح بالقول أنه " لاتوجد ضرائب تستحق أن تهدد وحدة الأمة ". لتقدم هذه الانتفاضة بكل مالها وعليها، دورساً غاية في الأهمية للمجتمع الدولي برمته.
دون الدخول في الجدل الدائر حول انتفاضة السترات الصفراء، والشغب الذي رافقها، أو نجم عنها، والأضرار التي تسببت بها، نستطيع القول أنها قد حققت أهدافها المباشرة، والتي دفعت الفرنسيين للخروج الى الشارع، بمطالب واضحة، استهدفت تحسيس الحكومة الفرنسية، بوطأة الاجراءات المقدمة عليها، ومبلغ الضرر الذي سوف يلحق بغالبية المجتمع الفرنسي.
من السمات الأساسية لانتفاضة السترات الصفراء أنها بلا مرجعية سياسية، أو تأطير أيدولوجي، ولم يكن للتيارات السياسية، والنقابات، أي تدخل في إطلاقها، أو توجيهها. الإيمان بالقضية، شكل الدافع الأساسي الناظم لحركة الاحتجاج ، والتف حول الفكرة والهدف، الآلاف الذين عبّروا عن تطلعات ملايين الفرنسيين، دفاعاً عن مصالحهم. هذه السمة تلتقي مع ثورات الربيع العربي، التي انطلقت في مواجهة الطغيان والاستبداد، رفضاً لسياسات الإذلال والقهر، قبل أن تتحول المطالب الى إسقاط الأنظمة. جميع ثورات الربيع العربي، كانت لها أهداف مطلبية واضحة، سلمية ومدنية، ولم تلجأ الى الشغب أوالعنف، وحمل السلاح في بداياتها، على الرغم من مواجهتها بالقوة المفرطة: القوة القاتلة.
نجاح انتفاضة باريس، يقودنا للتساؤل عما مكّن السترات الصفراء من الوصول الى هدفها، وبين الثورات العربية التي تجمعت الأسباب والظروف للحيلولة القسرية دون تحقيق غاياتها، وكان ممكناً ذلك، شرط توفر نخبة حاكمة وطنية، مؤمنة بأنها سلطة خادمة للمجتمع والدولة. لم تلجأ السلطات الفرنسية الى الحلّ الأمني، لوقف الانتفاضة، ولم تستخدم أساليب العنف لإسقاط المطالب الشعبية، ما قامت به هو محاولة الحدّ من تناميها، ومنع الشغب، وحماية ممتلكات الأفراد والمجتمع. وكان مأزقاً صعباً أقلق الدولة الفرنسية. غير أنها انحازت للانحناء أمام الضغوطات الكبيرة، خشية من التطورات التي يمكن أن تؤدي إليها، في غياب قادة مؤثرين على الحراك، واستغلال مبيت لليمين المتطرف، وتيارات سياسية أخرى. الانحياز للمجتمع، هو الدرس الأهم اليوم، وان ممارسة العنف لن تقود الى حماية الدولة – المجتمع. الاستجابة الى المطالب، والحوار البناء، هي من يحمي البلاد من فوضى محتملة.
لم تستطع أنظمة القمع في دول الربيع العربي، الارتقاء بتفكيرها وفي أساليب مواجهة مطالب الانتفاضات العربية، إلى المستوى الذي يُجنب البلاد الخراب. التجربة التونسية استثناء، و " المصرية بحدود ضيقة"، قبل أن تنشط القوى المضادة للربيع العربي من داخله، لمنع الوصول الى الحريات. إنها سلطات أمر واقع جاءت عبر اغتصاب السلطة، حتى وإن كانت باستخدام مظاهر دستورية، وأنها لم تكن منتخبة من الشعب، ومعبرة عن تطلعاته، ولا ترى في ذاتها سوى نخبة حاكمة مالكة للمجتمع والدولة.
سقوط بن علي في تونس، حرّض على هزم الخوف، وعلى تحدي سلطات القمع العربي، وعلى الخروج الى الشارع في مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، لكن مسارات التحول في تلك البلدان مُنيت بفشل كبير، بكل أسف، ولم تتحقق غايات التغيير السياسي بالصورة التي هدفت إليها الانتفاضات. بعد سبع سنوات يمكننا القول بوضوح أن الدروب أغلقت في وجه الربيع العربي، وحيل بين الشعوب ونيل الحرية، على الرغم من التضحيات الجسام في الأرواح والممتلكات. وأن السلطات الحاكمة، استمدت قوتها المعادية المفرطة بالإجرام، من دعم قوى خارجية، مكنت لها استخدام كل ادوات الدمار والخراب.
في فرنسا، لم تواجه السترات الصفراء، تحدياً يضعها والحكومة الفرنسية، أمام اختبار وجودي. كانت فرنسا الدولة بكل ما تعنيه من تجربة ديمقراطية، نفاذ القوانين والالتزام بحقوق الجمهور والحاكم والمُشرّع، الطريق نحو الوصول الى لحظة إطفاء الحرائق.
في سوريا، رأت الطغمة الإستبدادية المطالبة بالحريات وبالحقوق، تهديداً مباشراً لسلطاتها، ولوجودها. وفي الحقيقة هذا شعور ناجم عن معرفة النظام بأفعاله. فقد بنت الأسدية، سلطة قامعة، لمجتمع أرادته مُنقاداً لها مُستتبعاً بها، استحوذت على مقدراته، وإمكاناته الاجتماعية والإقتصادية والسياسية. ولم تكن هناك مؤسسات تُدير الدولة بالقوانين. لقد بنى النظام الأسدي مجتمعات مطوّقة داخل المجتمع السوري، تحكمها وتديرها أفراد ومجموعات من صلب تنظيم الدولة الأسدية، بعقلية اللصوصية والإفساد، وحرمان المجتمع من جميع حقوقه. وبأن الحقوق الأساسية ( الحياة والعمل والتعليم ) التي "يتمتع" بها السوري، هي منّة منحها الحاكم للناس.
لو أن واحدة من ثورات الربيع العربي، حققت انتقالاً جوهرياً نحو الديمقراطية، لتغير وجه الشرق الأوسط. كانت الثورة السورية في بدايات انتفاضتها المدنية، واعدة بمثل هذا التغيير، ولكنها حوصرت، وسُلِّحت، واختطفت، وتغيّر مسارها. وذلك كلّه لم يأت من فراغ. وكأنه على الثورة السورية أن تتبخر في الهواء، أن لا تنتج إرادة الجماهير التغيير الذي تسعى إليه، وأن ذلك خطرٌ ينبغى مواجهته.
لم تواجه السترات الصفراء تلك التحديات، وليس ثمة وجه للمقارنة بين مجتمعات مدنية ديمقراطية، وأخرى محكومة بالقمع وبالتجهيل، وبالحرمان. وسوف تلقي انتفاضة الفرنسيين بظلالها على المجتمعات الأوربية بأكملها، وهذا درس آخر، لن يتردد أي شعب في حماية حقوقه وحرياته، ولن يقف عاجزاً أمام إجراءات حكومية يرى انه متضرر منها.
لا أعتقد أن ما حدث في فرنسا، سوف يُجنب ماكرون وحكومته المسؤولية والمسائلة ومراجعة شاملة للسياسات، على الرغم من التراجع عن فرض الضرائب.
الثورة السورية، أرادت الحرية والكرامة، لكن عقلية الإجرام لدى السلطات الحاكمة، فضّلت قتل السوريين وتهجيرهم، وتدمير المدن والبلدات، على أن تختار المصلحة الوطنية، وأن تنحاز الى حماية المجتمع والدولة، فكان هذا الخراب العميم. وتشعر الطغمة الحاكمة، أنها فوق المحاسبة والملاحقة، خاصة وأن المجتمع الدولي دأب على التغاضي عن جرائم الأسدية وحلفائها، لكن العدالة سوف تتحقق يوماً ما في سوريا، الانتفاضة لم تمت، والطريق الى المحاسبة بدأ عبر المحاكم الأوروبية، ولن يتوقف.
لا يمكن للنظام الأسدي أن يقرأ التحولات في العالم، إلا من خلال استمرار اغتصابه للحكم، وفي قدرته على مواصلة القتل، وفي الارتهان لقوى القهر والخراب في العالم: روسيا وإيران.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي