الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التراث الشعبي المصري بين الأرجوز والمهرجان

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2018 / 12 / 15
الادب والفن



حققت مصر يوم الأربعاء 28 نوفمبر الماضي إنجازا جديدا في مجال التراث الثقافي اللا مادي، حيث نجحت في وضع فن الأرجوز أو تحريك الدمي اليدوية التقليدية على قائمة الصون العاجل الخاصة باليونسكو، وذلك كأحد بروتوكولات اتفاقية 2005 الخاصة بصون التراث الثقافي اللا مادي، التي أطلقتها منظمة اليونسكو ووقعت عليها مصر بالإضافة للعديد من دول العالم.
وهذه هى المرة الأولى التي تنجح مصر فيها في الولوج للقائمة الصون العاجل؛ والتي تعني أن هناك أحد العناصر الثقافية يتعرض لخطر الاندثار، ومن ثم تقدم الدولة المعنية ما يفيد ذلك وتقدم خطة بمجموعة من الإجراءات للحفاظ عليه وترويجه، وتوافق لجنة اليونسكو على الطلب لتحصل الدولة على الدعم المخصص لخطط صونه العنصر المعرض للخطر التي قدمتها.
وقد نجحت مصر قبل ذلك في الوصول مرتين لقائمة اليونسكو الأشهر؛ وهي القائمة التمثيلية العالمية للتراث الثقافي اللا مادي، وهى تختلف عن قائمة الصون العاجل السابقة، في انها قائمة ترويجية تسجيلية تتسابق الدول في ترشيح عناصرها الثقافية بها، لما لها من ثقل معوي شديد في كل انحاء العالم، فقد تمكنت الثقافة المصرية من تسجيل عنصرين على القائمة التمثيلية وهما السيرة الهلالية عام 2008، وفن التحطيب أو اللعب والمبارزة بالعصي التقليدية عام 2016.
واللافت للانتباه أنه في مقابل نجاح الجهود المصرية في لفت الاهتمام دوليا لعناصرها الثقافية، نجد هناك أزمة أخرى تلح على المشهد بشدة في الوقت الراهن في هذا الملف، حيث يبدو هناك انفصال ما في جهود مؤسسة الثقافة المصرية وأبنيتها المتعددة، في الحفاظ على العديد من عناصر الثقافية الشعبية المتصلة كوحدة متكالمة تشكل هوية متجددة ومتفاعلة للشارع المصري.
أقصد هنا اندثار وتراجع العديد من عناصر التراث الشعبي الغنائي التقليدي، لصالح ظهور أغنيات ما يسمى "المهرجان" في مصر، والمصطلح لا يشير للمفهوم الشائع للكلمة إنما يشير لنوع صاخب من الغناء، انتشر في حفلات تقام في أحياء مصر الشعبية، حيث يصاحبه مجموعة من السلوكيات التي لم تكن مألوفة على الشارع المصري من قبل، في مقابل تراجع دور فرق وزارة الثقافة الجوالة التي تقدم الفنون الشعبية، والتي من المفترض أنها تساهم في تغذية الذوق الشعبي باستمرار، وتنفعل به وتتأثر في الوقت نفسه في عملية تبادلية.
فالمفارقة تكمن في غياب مفاهيم الإدارة الثقافية للتراث عند البعض، تلك الإدارة التي تنسق بين جهود ملفات اليونسكو وملفات الساحة الداخلية، وتتقن صنع الوشائج والصلات بين هذه الجهود، ملف الأرجوز كان على صلة بالرائد د.أحمد مرسى والجمعية المصرية للمأثورات الشعبيية، وشارك في وفد مصر وتقديم الملف للجنة اليونسكو د.نهلة إمام الأكاديمية النشطة في المجال، وأعد الملف نفسه المسرحي د.نبيل بهجت في تناغم رائع.
لكن بيت القصيد هو القدرة على إعادة توظيف عناصر التراث ودمجها مرة اخرى في الشارع المصري، وهى مهمة تحتاج لفنون الإدارة الثقافية للتراث، ودمج مختلف الجهود وصهرها في خطة مشتركة، ولكي يكون كلامي واضحا وليس نظريا فقط، سوف أضرب مثالا تطبيقيا على الإدارة الثقافية للتراث في ملف الأرجوز بعد تسجيله على قائمة الصون العاجل، من خلال مفهوم الدمج وتنسيق الجهود.
طلب الدخول لقائمة الصون العاجل يصحب بخطط مقترحة لصون العنصر والحفاظ عليه من الاندثار، تقدم اليونسكو الدعم المالي لتنفيذها، وهنا يمكن توظيف تلك الخطط وربطها بجهود وزراة الثقافة في المجال نفسه، بحيث تدعم خطط الصون وفي الوقت نفسه تعيد دمجه في أماكن كان قد انقطع عنها كنشاط جوال استمتعنا به جميعا ونحن صغار في كل ربوع مصر، أى أن توظف مخصصات الصون العاحل المادية لهدفين في آن واحد؛ هدف يخص العنصر في بيئاته المحلية التي تم توصيفها في الطلب، مع اعتبارها فرصة لإعادة دمج وتوطين العنصر في بيئات مصرية جديدة، من خلال توجيه جهود وزارة الثقافة في هذا المجال، للتتناغم مع خطط ومخصصات الصون العاجل، بهذا نكون قد ضربنا عضفورين بحجر واحد، والأصل أننا بهذا نكون أدرنا ملف اليونسكو وفق مفهوم إعادة توظيف التراث ودمجه في بيئات جديدة، ولم نقف عند حد الصون للمتاح فقط.
والهدف من الإدارة الثقافية للتراث أن تعمل وفق سياسة ثقافية محددة؛ مركزها إعادة توظيف التراث ودمجه في مجالات الحياة المعاصرة، لإعادة تشكيل الشخصية المصرية ومنحها فرادتها وهويتها الخاصة، في عالم شوهته العولمة عبر تنميطه وسحق أنماط الثقافة المحلية لصالح النمط الأمريكي وهيمنته، وهنا سنعود بالضرورة لموضوع أغنيات المهرجاناتت التي أرى أنها انتشرت من منطق غياب الأصل ومما أدى لظهور البديل العشوائي، بمعنى أنها جاءت رد فعل على تراجع الجهود المؤسسية، وانتشرت لملأ ذلك الفراغ الذي كانت تقوم به فرق الغناء الشعبي التابعة للدولة.
والعولمة ليست بعيدة عن الأمر أيضا وفقا لنظرية ملأ الفراغ، وأن اختفاء الأنساق المحلية وتراجع وجودها يكون لصالح النمط السائد والمهيمن دوليا، فحتى أصل "أغنيات المهرجات" وموسيقاها لا ترجع لأصول مصرية وربما تطورت مع الزمن والسياق، ولكنها ترجع لموسيقي الراب التي انتشرت في مصر منذ فترة، والتي تعتمد في أغاني المهرجانات على تغيير أصوات المغنيين بتأثيرات إلكترونية، يقوم بها الفنيين في حفلات "الدي جي" على المسارح مباشرة أو في الاستديوهات المخصصة لذلك.
الأصل هنا أن الثقافة الشعبية هي كائن حي، يمكن تغذيته ورعايته ويمكن تجفيفه وسحب الدماء من عروقه، والفرصة الان سانحة لكي تقدم الثقافة المصرية نموجا تطبيقيا رائدا لإعادة توظيف عناصر التراث الثقافي اللا مادي ودمجه مجددا في الشارع المصري، من خلال ملف "الأرجوز" وتحوله إلى نموذج قائد ورائد يتبعه العديد من العناصر الأخرى في مجال الإدارة الثقافية للتراث وإعادة توظيفه.
حيث إعادة التوظيف للتراث تعني: اختيار العناصر المتعددة والمناسبة من قماشة التراث الواسعة ومستودع هويته المتراكم، لتواكب وظائف بعينها في نمط الحياة المعاصر بغرض تشكيله ومنحه روحه المميزة، ودمجها فيه بسبب نفعيتها والحاجات التي ستسدها عند الناس، من خلال النمط الثقافي (السياسة الثقافية) الذي ستتبناه الدولة، وتتركه ليتفاعل ليطور سماته النهائية في علاقة حية مع الواقع، فهنا الدولة ستحدد الإطار العام لمجموعة السمات والخصائص الثقافية المراد إعادة توظيفها في نمط الحياة/ الثقافة المعاصر، وفي الوقت نفسه ستسمح لتلك العناصر بالتفاعل الحي/الحر وفق رغبات واحتياجات الناس التي ستعطيها شكلها النهائي، ضمن السياسة الثقافية العامة للدولة.
كل التهنئة للثقافة المصرية على تسجيل فن الأرجوز ضمن قائمة العناصر المعرضة للخطر والتي تحتاج لإجراءات الحماية والحفظ العاجلة، وكل الأمنيات أن تكون تلك بداية لسياسة ثقافية جديدة في إدارة التراث الثقافي اللا مادي وفق مفهوم إعادة التوظيف والدمج. كما أن الأمر يحمل تحديا جديدا بين جنباته، حيث تقدم اليونسكو قائمة بأفضل ممارسة الصون يتنافس فيها مجموعة الدول التي وضعت عناصرها على قائمة الصون العاجل، خصوصا وأن هناك دولا عربية قد نجحت في وضع عناصرها أيضا في نفس الاجتماع على قائمة الصون العاجل، منها الجزائر وسوريا، وفي ذلك فاليتنافس المتنافسون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-