الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن سينما أندريه تاركوفسكي

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2018 / 12 / 16
الادب والفن


في قصة (الشكل الذي في السجادة) لهنري جيمس، يقول الكاتب هيو فيريكير للناقد الشاب: "هناك فكرة عامة في مجمل مؤلفاتي، هي الأروع والأكمل على الإطلاق، وأظن أن نجاحي في زرعها في كل أعمالي، عملاً إثر آخر، يعد نصراً للصبر والبراعة، فهذه الفكرة تتمدد من كتاب لكتاب، وكل شيء آخر بالقياس لها، هو ثانوي يلهو فقط على سطحها، إن مفتاح سر هذه الفكرة موجود في كل صفحة كتبتها، في كل سطر خططته، في كل كلمة نحتها، السر موجد هناك، محسوس وملموس، كالطير في القفص، كالطعم في الصنارة، كقطعة الجبن في مصيدة الفئران، إنه يتحكم في طول كل سطر، في اختيار كل كلمة، يُنقِّط كل حرف، ويُعيِّن موضع كل فاصلة".

كلما فتشت عن وصف لمشوار تاركوفسكي السينمائي وأعماله لا أجد أخلص من تلك الكلمات التي كتبها هنري جيمس عام 1896. وكأن جيمس وهو يكتب هذه القصة كان يفكر في حالة مناظرة لحالة تاركوفسكي، يتنبأ بقوة محركة لمجمل أعمال الفنان، مبدأ حاكم يظل سراً مغلقا إلا للفنان نفسه، المُعذَّب بفكرة البحث في المناطق المعتمة، منقباً عن الحق والجمال، عن معنى الوجود الإنساني. تاركوفسكي الذي عمل لستة وعشرين عاماً متصلة في السينما، بلا تنازلات، رافضاً الإذعان للشكل السوقي السائد للسينما العالمية، فكان نتاج كل تلك السنين من الجهد والأرق والمرض هو صنعه لسبعة أفلام روائية طويلة فقط، رغم أنه، وبشهادة الجميع في وطنه، كان الأكثر موهبة، وأصالة، منذ كبير السينمائيين السوفييت؛ سيرجي أيزنشتاين.

يتهيب المرء عند الكتابة عن تاركوفسكي، فهناك أولاً الإشفاق على النفس عند التفكير في الكتابة عن هذا الفنان العظيم، وهناك أيضاً حشود الأفكار التي تتلاحق حين يُذكر تاركوفسكي أو أحد أعماله، فضلاً عن الشك في أن لا تكون الكلمات هي الوسيلة الأنسب للتعبير عن سينماه، بثقلها البصري والروحي والميتافيزيقي. لذلك اخترنا أسلوب الملاحظات لكتابة هذا المقال، آملين أن نبرز الفكرة أكثر من تجميل الصياغات، سعياً لتجنب الالتباس الذي قد يسببه استخدام جماليات اللغة عند الحديث عن سينما تاركوفسكي، وهو التباس مطلوب في العمل الفني، مكروه عند التصدي لقراءته. ولا يفوت القارئ الذي أوتي نفاذ البصيرة أن يدرك أن هذه الكلمات الزائدة، إنما تأتي من باب التماس العذر لمحاولة الكتابة عن تاركوفسكي.

أرثوذكسية الفن
هناك في البداية ملمح الرجل الملتزم أشد الالتزام بعمله، فتاركوفسكي ليس من طينة الكسالى الملهمين المنجرفين في أحلامهم. كان الرجل يمقت تلك الخرافة التي خلقها الفنان البوهيمي حول عملية الإبداع، وكان الالتزام عنده يعني صنع الأفلام بوعي كامل، ويعني أيضاً التضحية، وواجب الفنان في التأثير على جمهوره لإيقاظ الجانب الجمالي والروحاني فيه، لا تدميرهما. أرثوذكسية الفن عند تاركوفسكي تبدو كما لو أن الفن يطالب بنفس شروط قدسية الممارسة الدينية: إيمان، وصبر، ومواظبة، وإخلاص، وتضحية. في محادثة له مع السيناريست الإيطالي تونينو جويرا، يقول تاركوفسكي: "السينما فن معقد وهام جداً، وأعتقد أن علينا أن نقدم ذواتنا قرباناً لهذا الفن".

ملمح آخر من أخلاق الفن عند تاركوفسكي هو أن يكون السينمائي قادراً على البحث المتواصل عن الجمال الخالص الذي هو مطمح كبار الفنانين كما كبار الصوفيين؛ ذلك الجمال الذي يظل وفياً لطبيعته الجوهرية عندما تُحجب الصنعة والعمليات التقنية. كان عمله هو سعي دائم للإمساك بهذا الجمال؛ في كل فكرة، ولقطة، وتشكيل، وتعبير، ولون، وحركة. إن عبقرية تاركوفسكي هي عبقرية جمالية تتغذى على الجمال، وأصبحت معه السينما –لأول مرة- موضوعاً للجمال. نتذكر في هذا المقام مقولة ستيفان تروفيموفيتش في رواية (الشياطين) لدوستويفسكي (والذي كان تاركوفسكي يحبه ويقدره كثيراً): "هل تعلمون أن الإنسانية تستطيع أن تستغني عن الخبز، وعن العلم، ولكنها لا تستطيع أن تستغني عن الجمال؟! إن الجمال وحده لا غنى لها عنه، إذ بدون الجمال لا يبقى لنا على الأرض ما نعمله! هذا هو السر كله! ذلكم هو كل التاريخ!".

ربما يكون تاركوفسكي كذلك من أكثر السينمائيين الذين تمسكوا بحريتهم في الإبداع، رغم المعاناة والحصار اللذين جوبه بهما داخل الاتحاد السوفييتي؛ من السياسيين والرقباء على حد سواء. كان يرى أن شرط الفنان السينمائي هو الإخلاص الكامل لفنه، وكان تقديره ضئيلاً لمن هم ليسوا أهلاً لذلك؛ أولئك الذين يضعون الفن في خدمة السياسي أو التاجر. كان أيضاً يمقت طريقة هوليوود في صنع الأفلام التجارية بنفس الطريقة التي يتم بها إنتاج السجائر والمياه الغازية، كان لكونه فناناً حراً يحتقر هذا النوع من النجاح، وعرف أن الثمن الذي يُدفع للحصول على الجمال الخالص هو التضحية بالنفس قرباناً للفن.

الزمن في سينما تاركوفسكي
آمن تاركوفسكي بأن المادة الخام للسينما هي الزمن، فهو المادة الأولية الوحيدة التي لا يستطيع السينمائي أن يخلقها؛ هو مكمن قوة وفخر السينما (ونقطة ضعفها في آن واحد)، فالسينما هي الوسيلة الفنية الأكثر قدرة على عرض الزمن، والوعي بجمالياته، وبناءيته، وتحولاته.

ربما يكون فيلمه (المرآة) هو المثال الأوضح على الفكرة المعقدة للزمن لدى تاركوفسكي، وعلى طريقته في استخدام الزمن. ففيلم (المرآة) هو فيلم عن المخرج نفسه وعن ذكريات طفولته، وبالتالي فإنه لا يتناول زماناً واحداً، بل يتراوح السرد فيه إلى الأمام وإلى الخلف، في الحاضر والماضي، وعلى نحو يصبح فيه الماضي حاضراً، وتذوب فيه الخطوط الفاصلة بينهما، بنفس فكرة الديمومة عند الفيلسوف الكبير هنري برجسون؛ أي أن الزمن هنا هو الزمن النفسي الداخلي، الذي يتكون من لحظات من الماضي والحاضر متجددة دون انقطاع، تتداخل مع بعضها البعض لتشكل تياراً واحداً، وبهذا المعنى يكون الزمن هو ديمومة حية ومعاشة، يعيشها الإنسان داخلياً، وتُبقي الأحوال الماضية حية ومتجانسة وعضوية داخل الأحوال الحاضرة.

يتحرك (المرآة) بحرية محسوبة حساباً دقيقاً، ما بين الحاضر والماضي، ما بين الألوان والأبيض والأسود، ما بين الدراما والمادة التسجيلية وإعادة خلق الوقائع. ولكنه في تناوله للماضي ليس فيلماً عادياً من أفلام السير الذاتية للمخرجين. فحتى الجزء التسجيلي في الفيلم، والذي يتناول فترات: (1935م ، 1943م ، 1969م) ، يكون التذكر فيه تذكراً موضوعياً لا ذاكرة ذاتية. وبقدر ما تبدو المشاهدة الأولى صعبة ومربكة، إلا أن المشاهدات التالية تثبت كم أن الفيلم شديد الطبيعية والاتساق والعضوية في حكي قصة الذكريات باستخدام الأسلوب البصري. إن فيلم (المرآة) يطمح إلى الحب، ولكن ليس من أول نظرة، بل من آخر نظرة. فالفيلم الخالي من الصدمات، يتسلل في المشاهدات التالية إلى وعي المتفرج فيصبح جزءًا من خبرته الشخصية، وكأن مضي الزمن هنا هو المحدد لتقييم جمالية الفيلم، مثلما تبدو قطعة موسيقية غريبة في البداية ثم تعتادها النفس حتى تصبح هي المثال على الطبيعية في الفن، لأن فيها تتحقق قوانين الجمال.

إن كل شيء عند تاركوفسكي هو عن الزمن، والمكان عنده خادم في بلاط الزمن، بل إنه يحل تعبيرياً في كثير من الأحيان محل الزمن الذي يكون هو من وراء القصد، كما تحل المسافة المكانية محل المسافة الزمانية، فيصبح النجم المذنّب الذي يقطع المسافة المكانية في الفضاء هو الرمز لتحقيق أمنية يتمناها المرء في زمن مقبل، وبهذا المعنى يصبح المكان رمزاً للزمن في فيلم (سولاريس)، الذي تدور أحداثه في محطة فضائية بعيدة عن الأرض وقريبة من كوكب غريب يرسل الذكريات الشخصية لكل من يقترب منه فتنمحي الفواصل بين الماضي والحاضر، بل يصبح الماضي أقوى حضوراً من الحاضر نفسه (في صورة الزوجة المتوفاة التي تعود مراراً للحياة مع البطل في المحطة الفضائية). في (سولاريس)، كما في (نوستالجيا)، الزمن ليس هو الزمن الأرضي الدنيوي، ليس هو زمن النسيان، ولكنه زمن التذكر، زمن الديمومة. وجعل الديمومة حاضرة على الدوام، جعل الماضي جزءًا حيوياً من الحاضر هو ما يُخلص الروح من وسواس الزمن، وهو نفس ما حاول القيام به سابقاً مارسيل بروست في رائعته (البحث عن الزمن الضائع)، التي أسسها على إعادة تخليق الخبرة الماضية ضمن شروط الحاضر المعاش.

هنا تتحد الحياة الفعلية مع الحياة التأملية، ويكون كلاهما في خدمة الذهن، وتطيع الذاكرة نداءات الذهن وتستجيب له. فزمن الديمومة متكامل وليس ممزقاً ولا متشظياً، فالماضي والحاضر يدوران في تيار واحد. لكنه بالنسبة لتاركوفسكي، كما كان بالنسبة لبروست، ماض وحاضر منتقى بعناية. إن تاركوفسكي لا ينفتح إلا على القلة القليلة من الأيام التي لها مغزى ودلالة؛ والتي تبدو كأيام تكتمل فيها دائرة الزمن، إلى الدرجة التي تعيدنا فيها مشاهد التذكر إلى ما يشبه الأزمنة القديمة، والأيام البدائية، في منطق أشبه بالأحلام، وكأن أفلامه تريد تذكيرنا بمعطيات ما قبل التاريخ، وكأن الصور السينمائية قادرة على ما لم تستطعه حتى الآن أي خبرة إنسانية. (المرآة) و(سولاريس) و(نوستالجيا) لا تبدو أفلاماً عن تأبين أزمنة أفلتت وانقضى أوانها بقدر ما هي أفلام عن التذكر، ليس بوصفه تاريخاً، بل بوصفه من ما قبل التاريخ. فالالتقاء بالحيوات السابقة للبطل يجعلنا كأننا في أيام أعياد، وما يجعل الأعياد عظيمة هو الالتقاء بحيوات من احتفلوا بها سابقاً والإنصات فيها إلى همهمة الماضي. إن الزمن في أفلام تاركوفسكي يصبح محسوساً على نحو فائق ربما لأن الزمن هنا خارج التاريخ، إذا كان التاريخ يعني التسلسل الزمني الذي يترك عرشه لمفهوم الزمن بوصفه الديمومة؛ بوصفه الأبدية.

بعض الخصائص البصرية لسينما تاركوفسكي
يعارض تاركوفسكي براديكالية استخدام المخرج والمنظر الروسي سيرجي أيزنشتاين لإسلوب (المونتاج الفكري)؛ أي تجميع لقطتين لهما فكرتان مختلفتان، مما يُنتج فكرة ثالثة جديدة في ذهن المُشاهد، ويعارض أيضاً ما يستتبع ذلك من إسلوب الإيقاع السريع. كان تاركوفسكي يرى أن أسلوب أيزنشتاين لا يترك مساحة لروح المُشاهد، ولا مكاناً لما هو مسكوت عنه، ولا للصوت الداخلي في الإنسان، ولا للالتباس الذي هو أهم ما في الفن. لقطة للجماهير المحتشدة (+) تتبعها لقطة لتمثال لأسد يهم بالنهوض (=) تساوي فكرة أن الجماهير ستقوم بثورة؛ كان تاركوفسكي يكره مثل هذا الأسلوب في صنع السينما، لأنه يرفض فرض نوع من الميكانيكية التي هي ليست من صلب العمل، ولأن تشظية الزمن، والمكان، والحدث، ضد طبيعته، ولذلك رفض أيضاً استخدام القطع المتوازي (أي عرض حدثين يقعان في مكانين مختلفين في نفس الزمن).

إن تاركوفسكي لا يستخدم التتابع السينمائي كما هو متعارف عليه كلاسيكياً، بل تبدو أفلامه وكأنها مضادة للسينما. السينما التي أخضعت مركز الحس في عقل الإنسان لنوع معقد من التدريب، والتي راحت تشبع حاجة جديدة خلقتها إلى المثيرات، في أفلام يتأسس الإدراك فيها في شكل صدمات متتالية، وكأن إيقاع الإنتاج الصناعي الكبير على سير ناقل الحركة في خط التجميع قد انتقل هو أيضاً إلى طريقة الفرجة، وحدد إيقاع الفيلم.

هنا يأتي تاركوفسكي ليطيح بكل ذلك بضربة جمالية واحدة، وكأنه يبارز الإنتاج الكبير بالعمل اليدوي الحرفي المرتبط بإرادة صانعه، تلك الإرادة التي تختفي في الإنتاج الرأسمالي الفيلمي، حيث الإنتاج فيها مستقل عن إرادة السينمائي؛ يدخل الفيلم إلى مجال حركته ويبتعد في خط الإنتاج دون إرادته، ويتعلم الجميع تنسيق حركاتهم وحيواتهم وأفكارهم مع الحركة المنتظمة للإنتاج السينمائي الكبير؛ والذي يعمل بدوره كمخدر، وكوسادة لامتصاص الصدمات في المجتمع الاستهلاكي؛ كمثل العربات المتصادمة في مدينة الملاهي التي تقوم بدور الإلهاء وتفريغ الصدمات للزبون. وبهذا المعنى يصبح الإيقاع السريع في الأفلام التجارية لازماً، وهو يماثل الإيقاع السريع لحركة يد موزع الورق في ألعاب الحظ والقمار، والكدح الذي يمارسه العاملون في السينما هنا يشبه الكدح الذي يمارسه المقامر على طاولة اللعب؛ نفس اللاجدوى، والخواء، ونفاد الصبر، والآلية، والعجز عن القيام إلا برد فعل انعكاسي، وكأنهم شخصيات الزومبي الخيالية التي قضت تماماً على ذاكرتها واستسلمت لاستحواذ نهم الحواس.

أما عمل تاركوفسكي المضاد فيتأسس على استخدام اللقطة المشهدية الطويلة، والإيقاع المتمهل (اللازم للتأمل)، بما يستتبع ذلك من ميزانسين داخل اللقطة الواحدة (أي حركة الممثلين والإكسسوار والكاميرا وعلاقاتهم ببعضهم)، وكأنه بهذه الطريقة ينفي المونتاج نفسه. بالإضافة إلى تحريم المونتاج المتسارع (الذي يعني اختزال الزمن)، وتحريم القطع المتوازي(أي تحريم الإدراك المتزامن)، وكأنه هنا يعمل ضد ما اُعتبر الإنجاز العظيم للسينما: تسجيل حدثين في مكانين مختلفين في نفس الزمن.

من أهم اللقطات المشهدية التي لا ينساها المُشاهد؛ مشهد أندريه المحتضر في (نوستالجيا) وهو يحاول عبور ينبوع الماء الجاف من طرفه الأقصى إلى طرفه الآخر حاملاً شمعة يحاول الحفاظ على شعلتها. تنطفئ الشمعة لهبوب الريح، فيعود أندريه إلى البداية ويعيد إشعال الشمعة ويلمس الجدار ويشرع في العبور من جديد، ويتكرر الأمر وتنطفئ الشمعة مرة أخرى، وتستمر كاميرة تاركوفسكي مع محاولات أندريه المتكررة في حماية نور الشمعة وإيصالها للجانب الآخر، في لقطة مشهدية واحدة تقارب الثماني دقائق كاملة، متحركة بحرص وتمهل. إيقاع الكاميرا المتمهل هنا في غاية الأهمية؛ إن الكاميرا تتبع أندريه ولا تسبقه، إنها لا تتوقع الحركة، مما يحدد مهمة الكاميرا في سينما تاركوفسكي؛ إنها التأمل لا تحريك الأحداث.

ولأن وظيفتها هي التأمل، ترتفع الكاميرا عند تاركوفسكي أعلى من مستوى الشخصيات، على عكس الكاميرا في هوليوود التي يجب أن ينخفض مستواها عن الشخصيات حتى تُبرز أعين النجوم، وعلى عكس الكاميرا شديدة الانخفاض عند ياسوجيرو أوزو مثلاً؛ التي تلتحم بالأرض لتصور روح الضجر في الإنسان والعدمية في العالم. لا، إن كاميرة تاركوفسكي ليست كاميرا أرضية، إنها متعالية في الفضاء؛ ترنو إلى الأرض وتتأمل روح الإنسان في شفقة.

اللقطة المشهدية الطويلة هي كالمحقق الذي يُخضع العالم للاستجواب ليُدلي باعترافه ويكشف عن الحقيقة. لكن اللقطة الطويلة لتاركوفسكي ليست هي نفسها اللقطة التسجيلية الطويلة لروبرت فلاهيرتي مثلاً في فيلم (نانوك رجل الشمال، 1922)؛ فالأخيرة كان طموحها هو تسجيل الزمن الفعلي لانتظار رجل الإسكيمو وهو يصطاد الفقمة، وكان طموح فلاهيرتي أن يجعل المُشاهد ينتظر نفس الزمن الذي ينتظره الإسكيمو للظفر بصيده. أما اللقطة الطويلة لتاركوفسكي فإن طموحها ليس تسجيل الواقع، ولا هو حتى طموح الشاعر الرومانسي في نقل جماليات العالم والطبيعة، ولكنه طموح خلق عالم ذاتي باطني خاص. إن تاركوفسكي لا يُسجل، إنه يخلق، إنه يستبعد العالم الواقعي من كادراته لتحل محله عوالم النفس البشرية، والتذكر، وحالات الروح، وتموجات الأحلام. وبهذا المعنى يتيح الإيقاع المتمهل الفرصة لأن تنهض اللقطة المشهدية الطويلة كعمل بصري فذ في حد ذاته؛ كلحظة وجودية خالصة.

الروح في سينما تاركوفسكي
لم يوجد في تاريخ السينما من أوقف حياته للتعبير عن الروح الإنسانية مثلما فعل تاركوفسكي، الذي آمن بأن الإنسان كائن روحاني بالأساس. هذا ما يميزه عن كبار مخرجي السينما الآخرين الذين اهتموا أيضاً بالروح الإنسانية، ففي حين تناولوا هم الصراع الروحي كجزء من الحبكة نراه في أوقات فراغ الشخصيات المغروسة في القضايا السيكولوجية أو الاجتماعية أو العاطفية، كانت الروح عند تاركوفسكي هي الحبكة لا جزءًا من الحبكة؛ هي المعمار الخفي الذي يشيد عليه الفيلم بأكلمه، بل ويربط بين أفلامه وبعضها البعض.

من أجمل أفلامه التي يبدو فيها ذلك جلياً فيلم (الطواف)؛ والذي تخوض فيه ثلاث شخصيات (الطواف، والكاتب، والعالم) رحلة روحانية مكثفة في ما يسمى بـ (المنطقة)؛ وهي منطقة غريبة وخطرة تحدث فيها أشياء عجيبة وتوجد بها (حجرة الأماني) التي تحقق أعز أمنيات الإنسان إلى قلبه. إن هدف الرحلة لدى الشخصيات الثلاث هو هدف شخصي لكل منهم، لكن الصراع ذو طبيعة واحدة لهم جميعاً: البحث عن الخلاص، عن النور، عن الحقيقة، عن الإيمان في أرواحهم التعبة. والطواف هنا هو بمثابة المرشد الذي يعرف (المنطقة) ويقودهم خلال دروبها الخطرة، وهو يفعل ذلك بالاستماع إلى الصوت الداخلي لروحه، باستخدام حدسه لا معرفته، لإن المعرفة لا قيمة لها في (المنطقة)؛ فالطرق تتغير وتتبدل، وما يكون مأموناً في لحظة يكون مميتاً في اللحظة التالية؛ حواجز وشراك لا تنفع معها المعرفة، ولا سبيل ينجح إلا الغنوصية، والإنصات للصوت الداخلي البدائي والفطري الذي فقده الإنسان الحديث باللامبالاة؛ الإنصات للحقيقة المدفونة داخل الإنسان. كان تاركوفسكي يعتقد أن مهمته هي إيقاظ ذلك الصوت الداخلي في أرواح المشاهدين، مثله مثل الطواف الذي يحاول الوصول بالكاتب والعالم إلى حجرة الأحلام، وأيضاً كمثل الشاعر المنفي في الغربة يمشي حاملاً شمعة يحاول الحفاظ على نورها في (نوستالجيا).

سلوك الطواف يبدو لنا شاذاً كمشاهدين، فبدلاً من أن يشق طريقه في (المنطقة) واثقاً كمرشد يعرف طريقه، فإنه على العكس يبدو متردداً، معولاً على الإيمان الذي سيقوده إلى الأمان، حريصاً على أن لا يشوش أو يؤذي أو يبعث الاضطراب في أي شيء داخل (المنطقة)، إنه ينصت إلى صوته الداخلي وإلى صوت (المنطقة) في نفس الوقت، ينصت لصوت الحقيقة، لصوت الإله عبر رحلة الحياة. تماماً مثل صانع الأجراس الصغير في فيلم (أندريه روبليف) الذي يقوده الإيمان والاستماع لصوت روحه الداخلي إلى التوصل إلى سر تركيب مادة جرس الكاتدرائية دون معرفة مسبقة. إن المعرفة الحقيقية عند تاركوفسكي هي المعرفة الغنوصية، هي النجاح في الإنصات لصوت الروح. قرب نهاية الفيلم، يتشكك الطواف نفسه في وجود (المنطقة) وجوداً مادياً فعلياً، فيقول لزوجته متسائلاً: "لا أحد يؤمن بـ (المنطقة)... بمن آتي إلى (حجرة الأحلام) إن لم يوجد من يؤمن بها!". وتبين كلمات تاركوفسكي في مذكراته (زمن داخل الزمن) أن (المنطقة) ربما لم توجد يوماً إلا في عقل الطواف فقط. وهو ما يتوافق مع رؤية تاركوفسكي بأن (غرفة الحقيقة)؛ يحملها كل إنسان داخل نفسه.

هكذا كان تاركوفسكي منقباً عن معنى الوجود الإنساني، عن الأسئلة الخاصة بالحقيقة، والمطلق، والإله، ولذلك لا تقف أفلامه عند حدود سرد حكاية بسيطة، بل نستطيع أن نغفل الحبكة (الحكاية) وتظل أفلامه لها نفس الأهمية لا تقل. وشخصيات أفلامه تتحمل كل ذلك؛ إنها شخصيات تحمل الوجود بأكمله على أكتافها، تحمل، كما حمل تاركوفسكي نفسه، راية منقوش عليها: الروح، الزمن، الخلود، الغنوصية، وهو واقف على العتبة التي تفصله كفرد عن زحام السينما السائدة. من المهم ملاحظة أن أعمال تاركوفسكي تحمل عناوين فردية وذاتية: (طفولة إيفان)، (أندريه روبليف)، (الطواف)، (المرآة)، (نوستالجيا)، (القربان). إن شخصيات تاركوفسكي ممتلكة لفرديتها على الدوام، ولا يمتصها العالم الخارجي بكل إلهاءاته، ولا هي تنسى نفسها فيه؛ إنها غير قابلة للبيع. كما أننا نلمح تاركوفسكي نفسه تحت جلد كل شخصية من شخصياته، بالرغم من أنهم بعيدون عن التشابه، كتناقض الإنسان وتجانسه في نفس الوقت، كتناقض الفن العظيم وتجانسه في نفس الوقت. إن تاركوفسكي هو آخر شخص يمكن أن نلمس لديه شيئاً من التظاهر أو الادعاء، فلم يكن يسمح بافتعال أي شيء، ولا حتى شخصياته، لم يكن يسمح بالخروج عن حدود أناه الخاصة، فمن خلال معرفته الدقيقة بذاته كان يلمس الأوتار التي تحرك أبطاله.

المبارزة مع العمل
الغنوصية والمعرفة القبلية والحدس التي آمن بهم لم تعني له إطلاقاً الركون إلى الكسل، بل رافقها إيمان راسخ بأن على الفنان أن يملك قوة إرادة عظيمة حتى تكون جهوده مثمرة، وحتى تمنح أعماله طابع التفرد. كان تاركوفسكي لا يكف عن التأمل بعناد لكل تفاصيل العمل، وكان يعرف كم يكلف من الجهد الشاق جعل عمل فني ينبثق من حلم يقظة. المبارزات بين تاركوفسكي وبين المادة الخام لم تتوقف أبداً وهو يحولها إلى عناصر فنية، متعقباً تلك العناصر بمزيد من التركيز والتفحص في سلسلة متصلة من التنقيحات، كأنه فنان يخوض نزالاً مع عمله الفني. وهذا ما يتضح لنا من النسخ المعدلة من السيناريوهات التي كتبها لأفلامه، والسيناريوهات الفنية للتصوير، وملاحظات المونتاج، فضلاً عن ما ورد عن ذلك في كتابيه (زمن داخل الزمن) و (النحت في الزمن)، والتي تبين أنه كان يعمل باستمرار، وأنه كان مشغولاً بالتعديلات باستمرار.

من الأمثلة المهمة على ذلك؛ إعادة تصوير فيلم (الطواف) ثلاث مرات كاملة. وأيضاً مبارزاته مع المادة الخام في فيلم (المرآة)؛ حيث بدأت فكرة (المرآة) كمشروع كتابة رواية عن ذكريات الطفولة، ثم تطورت إلى كتابة سيناريو بعنوان (نهار أبيض)، لكنه لم يرض عن الكتابة الأولى، فتحول إلى فكرة عمل مقابلات مع أمه تتحدث فيها عن ذكرياتها مع طفولته هو شخصياً، ومقابلات أخرى مع زوجته (ماريا فيشينياكوفا)، ثم استقر على فكرة فيلم (المرآة) كما صوره في النهاية. وحتى بعد التصوير، كانت هناك تعديلات دائمة، واستبعاد لبعض اللقطات (كاللقطة الصريحة التي يظهر فيها تاركوفسكي نفسه في الفيلم)، وقرارات بإعادة تصوير لقطات أخرى، وإضافة لقطات جديدة.

أما تصوير اللقطة الأخيرة في فيلمه الأخير (القربان)، فربما لم توجد واقعة تعبر عن المعاناة والكرب التي كان يتعرض لهما تاركوفسكي في حياته وعمله أكثر مما تعرض له أثناء تصوير تلك اللقطة. كان بطل تلك اللقطة هو البيت الذي سيقوم بطل الفيلم أندريه بإحراقه قرباناً للبشرية التي تم إنقاذها من الكارثة المحققة. وبعد طول إعداد وتجهيز، يعطي تاركوفسكي إشارة البدء للتصوير، ويتم إحراق البيت على النحو الذي يتمناه، لكن في لحظة فارقة تحدث الكارثة فتتوقف الكاميرا عن العمل لعطل غريب أصابها، ويفسد تصوير المشهد. لا شيء هنا يمكن عمله، ولا أحد يمكن لومه، إنها ميكانيكا السينما ذاتها تخذله وتخونه، وكأنها تذكره بأنه شخص غير مرحب به في مجالها. يظل تاركوفسكي لدقيقتين مشلولاً من المفاجأة، ويفيق أخيراً من الصدمة فيغطي عينيه بكلتا يديه؛ لقد أتته الضربة هذه المرة من آخر مكان يمكن توقعه.

يستغرق الأمر ثلاثة أيام كاملة لإعادة بناء الهيكل الخارجي لديكور البيت ولإعادة تصوير مشهد الحريق، ويتم البدء من جديد في تصوير المشهد الطويل الذي يستغرق حوالي ست دقائق كاملة على الشاشة، ويقوم أندريه بإشعال النار في البيت مجدداً، وتشرع الكاميرا في الحركة كما هو مخطط لها، ومرة ثانية يحدث الكابوس؛ هذه المرة الخائن هو شريط السينما (النيجاتيف) الذي علق داخل الكاميرا، مرة أخرى السينما نفسها تعاند تاركوفسكي وتأبى إلا أن تخرج له لسانها. يضحك عمال التصوير من تكرار نفس الكابوس مرتين بنفس الشكل، ويبدو على تاركوفسكي أنه على شفا الموت في تلك اللحظة، دون أن يعلم أحد، ولا هو نفسه، أنه كان يحتضر فعلاً من داء السرطان في تلك الأثناء.

توفي آندريه تاركوفسكي فيما بعد من نفس العام الذي صور فيه تلك اللقطة. توفي في منفاه بباريس عشية عيد الميلاد في 29 ديسمبر 1986، بعد أن صنع سبعة أفلام روائية طويلة كما تنبأت له روح بوريس باسترناك التي قام بتحضيرها له عراف روسي، وقالت له: "ستقوم بصنع سبعة أفلام"، رد تاركوفسكي الشاب الذي كان يدرس السينما: "سبعة أفلام فقط ؟!"، وأجابت الروح: "نعم، سبعة أفلام فقط... لكن سبعة أفلام عظيمة".

*****

فيلموجرافيا:
ولد أندريه آرسينيفيتش تاركوفسكي في بيلاروسيا عام 1932، وتوفي في منفاه الاختياري بباريس عام 1986، واحترف العمل السينمائي عام 1960. كان قد درس أولاً اللغة العربية، ثم علم الأحياء، قبل أن يلتحق بمعهد الفيلم الشهير بموسكو (فجيك) VGIK في الفترة ما بين عامي 1958-1960، حيث صنع 3 أفلام قصيرة لفتت إليه الأنظار بشدة.
صنع تاركوفسكي 7 أفلام روائية طويلة هي:

1- طفولة إيفان، عام 1962، ونال عنه جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا.
2- أندريه روبليف، عام 1966.
3- سولاريس، عام 1972.
4- المرآة، عام 1975.
5- ستوكر (الطواف)، عام 1979.
6- نوستالجيا (حنين)، عام 1983، وهو أول أفلامه التي تم تصويرها خارج الاتحاد السوفيتي في إيطاليا.
7- القربان، عام 1986، وتم تصويره في السويد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما