الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)

ناصر بن رجب

2018 / 12 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كيف نقرأ السّيرة النبويّة؟
تراوحت الدّراسات والبحوث المعاصرة في سيرة نبيّ الإسلام بين محوَريْن رئيسيّيْن: المحور التقليدي الإسلامي الذي لا يبحث عن فعل التّاريخ ولكن يقوم بقراءة تبريريّة القصد منها إثبات صحّة نبوّة محمّد وصِدق رسالته الإلهيّة. وقد تحدّثنا عنها بعض الشيء في المقاليْن السّابقين. أمّا المحور الثّاني فهو ذاك الذي يطمح إلى اعتماد مقاربة حداثية هدفها الكشف عن محمّد "التاريخي". ولكنّها تتناول السّيرة من خلال قراءة خطيّة دشّنها الباحث البريطاني مونتغومري واط في خمسينيّات القرن الماضي في ثُلاثيّته الشهيرة "محمّد في مكّة" (1953)، "محمّد في المدينة" (1958) و"محمّد رجل دولة" (1961). وقد فرض هذا النّمط نفسه، منذ ذلك الوقت، حتّى أصبح طاغيا على كلّ المناهج الأخرى إلى غاية سبعينات القرن العشرين. ولكنّها، بالرّغم من ظهور مقاربات أخرى تتناول بالأساس مشكلة تدوين السّيرة في حدّ ذاتها دون الاعتناء بصورة خاصّة بمحتواها أو تناول الموضوع من زاوية محدّدة مثل وضع سيرَتَيْ محمّد جنبا إلى جنب، سيرته كشخصيّة تاريخيّة بالتّوازي مع السّيرة التي بُنِيت ورُوِيَت كقدوة حسنة، سيرة دغمائيّة لا يمكن المساس بها أو التّشكيك فيها، نرى بعد مضيّ عشرات السّنين على مؤلَّفات "واط" بعضَ المؤرِّخين يُعيدون إنتاج هذا النّمط على غرار ما قام به الأستاذ هشام جعيّط مثلا في ثلاثيّة عَنْونها "في السّيرة النبويّة ": 1- الوحي والقرآن والنبوّة، 2- تاريخيّة الدعوة المحمّديّة في مكّة، ثمّ 3- مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام (صدر هذا الكتاب الأخير فقط بالفرنسيّة على عكس الكتابيْن الأوّليْن اللّذين صدرا بالعربيّة ثمّ تُرْجما للفرنسيّة). وهذه المقاربة سرديّة بامتياز، فهي تتبّع بدقّة مُفرِطة المصادر الإسلاميّة وتُعيد صياغتها بتفاصيلها متحدِّثة بإسهاب عن كلّ أوجه حياة محمّد، ابتداءً بأفراد عائلته إلى علاقاته بأقاربه وأصدقائه، إلى حنكته الدبلوماسيّة ودهائه الإستراتيجي، إلى ذكائه ودهائه العسكري...إلخ.
ولكن من الضّروري أن نشير هنا إلى أنّ هذه القراءة الخطّية التي تنطلق من نقطة مّا لكي تصل إلى أخرى كشفت عن محدوديّتها وأضحت غير قادرة على مواكبة تطوّر العلوم الإنسانيّة بشتّى فروعها. هذه العلوم التي أصبحت تتشابك معارفها، تتقاطع رؤاها، تندمج، تتقارع وتعود فتنصهر مناهجها فيشدّ بعضها بعضا كلّما توغّل الفكر البشري في تناول ظواهر عالمنا المعاصر التي ما فتئت تتعقّد وتتشعّب. فلم يعد ممكنا اليوم أن نبحث في السّيرة النبويّة دون القطع مع المقاربة التقليديّة السّردية بالأساس، وأن نُسخِّر لها كلّ أدوات المقاربات الجديدة والنّتائج التي تحصّلت عليها من دراسات تاريخ الدّيانة اليهوديّة القديمة، والمحيط الثّقافي والاجتماعي للمسيحيّة في القرون الأولى والنّزاعات بين شتّى الطّوائف والمذاهب المسيحيّة وما أفرزته من نقاشات وجدالات لاهوتيّة وعقديّة وشعائريّة حتّى فترة ظهور الإسلام.
لقد أشار العديد من الباحثين، مثلا الباحث محمّد علي أمير معزّي، إلى أنّه إذا كان بإمكاننا كتابة تاريخ للتّصوّرات حول شخصيّة محمّد، وهي تصوّرات تعدّدت تقريبا بتعدّد مشارب الأخباريّين والمحدِّثين والفقهاء المسلمين واختلفت من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر، فإنّه يستحيل علينا "كتابة سيرة تاريخيّة للنّبي محمّد" بالمعنى المعاصِر للكلمة، وذلك لعدّة اعتبارات، ومن أهمّها:
1- أنّ المصادر الإسلاميّة وقعت صياغتها وتطويرها في سياق حرب أهليّة، "الفتنة الكُبرى"، بين عثمان وعليّ. ومن الجدير بالملاحظة هنا، والذي يجب أن نأخذه بعين الإعتبار، أنّ هذين الشّخصيّتيْن الرئيسيَّتين هما اللّتان ستكونان مصدر المذهبيْن الأساسيّيْن في الإسلام: الشّيعي والسنّي. وهذا كفيل بأن يجعلنا نفترض أنّ كلّ هذه المصادر تمثّل إشكالات حقيقيّة للمؤرِّخ في جوانب متعدّدة منها.
2- أنّ المعطيات حول سلسلة النّسب القبليّة المتعلّقة بشخصيّة محمّد ثُبِّتت بعد موته بقرن ونصف، عند تدوين السّيرة من طرف ابن إسحاق على نفس نسَق سلسلة نسب يسوع في إنجيلَيْ متّى ولوقا، وكانت محلّ تجاذبات بين العشائر المتنازعة الواحدة ضدّ الأخرى. فكيف يمكن أن نضفي عليها مصداقيّة مّا علما بأنّ كلّ فريق كان بإمكانه أن يصنع نسبه الخاصّ به ويرفعه إلى النّبيّ وعائلته.
3- أنّ التميّيز بين القرآن والحديث لم يكن واضحا تماما منذ البداية بل وقع تدريجيّا. ثمّ أنّ مصاحف مختلفة ظلّت متداولة إلى جانب المصحف العثماني السنّي لمدّة قرون عديدة. ولم يستقرّ الأمر للمصحف العثماني نهائيّا إلا في القرن الثّالث الهجري.
4- أنّ الترتيب الكرونولوجي لسور القرآن يبقى مُشكِلا. فقد ظلّ المسلمون غير عارفين بهذا التّرتيب طيلة قرون أيضا؛ ونحن نعرف الآن أنّ هذا التّرتيب هو ترتيب التقليد السنّي.
5- أنّ الإسلام برمّته مرتبط بنصوص متضاربة تضاربا جوهريّا، ولهذا يظلّ هذا التّراث متوتِّرا شديد التوتُّر بحكم أنّ كلّ مذهب يستطيع أن يستند على نصوص مختلفة عن الأخرى ولكن لها نفس الشرعيّة "التّاريخيّة" والدينيّة العقديّة.
6- أنّ أصول الإسلام خرجت من نفق مظْلم بعد قرنيْن من الحروب الدّاخليّة بين أشقّاء يدّعي كلّ واحد منهم أنّه أحقّ من الآخرين بمواصلة حمل رسالة وراية النّبيّ المؤسِّس. ولسنا ندري بالضّبط ما حصل داخل هذا النّفق وخلال هذه الرّحلة الشّاقة لفرط تناقض المصالح والرّهانات بين الفرقاء.
7- أنّ المعلومات عن محمّد في المصادر الخارجيّة المعاصرة له شحيحة للغاية، فكلّ ما كُتِب فيها عنه، كما قال أمير معزّي(1)، لا يتعدّى الصّفحة الواحدة. فكيف يمكن للمؤرِّخ إذن أن يضع المسافة اللاّزمة بينه وبين المعطيات الإسلاميّة عن حياة محمّد التي تحكي وتؤسِّس أوّلا وقبل كلّ شيء لسيرة مقدّسة.
لقد اكتفى المؤرِّخون المسيحيّون والمسلمون لعدّة قرون طويلة بقبول الرّوايات الإيمانيّة التقديسيّة بخصوص يسوع ومحمّد، ولكن تحوّلا هائلا وقع في القرن التّاسع عشر كنتيجة للزّخم الفكريّ والديني الذي ما فتئ يتطوّر داخل المجتمعات الغربيّة على الأقل منذ عصر النّهضة (القرن السّادس عشر) وعصر الأنوار (القرن الثّامن عشر). فقد بدأ المؤرِّخون يتحدّثون عن سيرة هذين الرّجُليْن المقدَسيْن المتعاليَّين وفي نفس الوقت صامِّين آذانَهم عن القناعات العَقَديّة، مُكتَفين فقط بطرح الأسئلة المتعلّقة بالجوانب التّاريخيّة.
وقد شكّل كتاب ألبرت شويتزر "البحث عن يسوع التّاريخي" (صدر سنة 1936) أحد أهمّ المنعطفات الحاسمة لافتكاك يسوع ومحمّد من براثن المؤمنين ومرورهما إلى أيدي المؤرِّخين.
وهنا تفترق الطّرق بالباحثين المعاصرين، العرب المسلمين والغربيّين على حدّ سواء. فمنهم من يرى أنّ الملاذ الوحيد للتّعاطي مع هذا النّسيج المتناقِض لمحاولة فكّ رموز السيرة وفرز ما هو تاريخي فيها يُمْكن توثيقه، وما هو أسطوري مُتَوَهَّم يخدم أغراضا دينيّة صرفه، يكمن في المنهج التاريخي-النّقدي والفيلولوجي. ومنهم من اعتقد وظلّ يعتقد أنّ سيرة محمّد هي برمّتها سيرة أسطوريّة إيمانيّة ولا يمكن أن نصدِّق ولو مقدار ذرّة منها. وفيهم من يُراوِح بين هذا وذاك.
وإذا كان المسيحيّون، بمن فيهم المؤمنون وحتّى الكنائس ورجال الدين بشتّى مذاهبهم، يقبلون تقريبا، على الأقلّ دون اللّجوء إلى وسائل العنف الدموي، بما يُكْتَب سواء في الأوساط الأكاديميّة العلميّة أو ما يُنشَر حول يسوع من كتب أدبيّة وتوعية شعبيّة، فإنّ كلّ ما يُكتَب عن محمّد، في الشّرق (وهو قليل ونادر) وفي الغرب (وهو كثير ومتنوِّع)، ويكون خارج الدّائرة الإيمانيّة التّقليديّة المُتعصِّبة تتصدّى له فورا جحافل من الأئمّة والفقهاء، وفيالق من "العلماء" والوعّاظ بالسبّ والشّتم والتّحريض على الثّأر لمحمّد "النبيّ الأعظم". تقول الأستاذة جاكلين الشّابي: "إنّ المقاربة التّاريخيّة للظّاهرة الدينيّة لم يُنْظَر لها بعْد على أنّها تتنزَّل في خانة ملاحظة الأشياء ومعاينتها ولا تعني التَّقحُّمَ فيها أو اتّخاذ موقف منها [لها أو عليها] أو التأثير فيها"(2). ثم تمضي في وصف الانعكاسات المؤلِمة واللاّمقبولة في عصرنا الرّاهن، في زمن حقوق الإنسان وحريّة التضمير والتّعبير، قائلة: "لقد دفع بعضهم، في البلدان الإسلاميّة، حياته ثمنا لذلك أو [على الأقل] تعرّضوا للنّفي والتّشريد لأنّهم حاولوا إتّخاذ مثل هذا الموقف [أي اعتماد المقاربة التّاريخيّة]. فتهمة الكُفر والزّندقة تساوي القتل، أو السّجن لسنين طويلة أو جَلْب مصاعب ومتاعب جمّة"، وتختم الشّابي قولها بهذا الاستنتاج المرير: "[هذه المجتمعات] لا زالت إذن غائصة في سيرورة تقديسيّة للماضي تسعى [بشتّى الوسائل مهما كان ثمنها البشري والفكري الباهظ] إلى إعاقة أيّ محاولة قد تسمح بأن تُعيد لهذا الماضي حتّى مجرّد بعده الإنساني".
"فمن كان محمّد يا تُرى؟" تتساءل جاكلين الشّابي في نفس المقال. وتجيب: "إنّه قبل كلّ شيء رجلُ عَصْرِه ومُجْتَمعه. فليس هوّ "نبيّا" منذ الوهلة الأولى، ناهيك عن "نَبيّي" [أي نبيّي أنا وملكا لي] تلك الصّيغة التي يستعلها المؤمنون الذين يحتكرون شخصيّة محمّد، تلك الشخصيّة التي فبركوها بأنفسهم لاستعمالهم الخاصّ وذلك بكلّ بصدق لا يمكننا أن نؤاخذهم عليه، غير أنّه يتموضَع خارج كلّ مسعى نحو المعرفة التّاريخيّة.
"شخصيّة": هذه هي الكلمة التي يجب أن نتوقّف عندها. فكلّ إنسان دخل اسمه في التّاريخ، على المستوى الدّيني أم لا، هو بادئ ذي بدء إنسان عاش في عصره. ولكن، بعد موته، يُصبِح بالضّرورة "شخصيّة"، أو بالأحرى أصبح، مع توالي الأجيال والأحقاب والولاءات التي تُعظِّمه وتُعلي من شأنه أو، على العكس، تحطّ من مكانته وتُقْصيه، عبارة عن شخصيّات متعدِّدة تعاقبت عبر الزّمن ماحية بذلك ما كان عليه حقيقة ذلك الإنسان في مجتمعه. بالنّسبة لمحمّد، فإنّ فكّ رموز مسيرته هو مُناط بعمل المؤرِّخ الذي يقوم بفرزه عن الشّخصيّات المتعدِّدة التي حِيكَ نسيجها بهدف استحضارها في المخيلات بعد موته، على امتداد ما يقارب ألف عام ونصف".
وفي هذا السّياق عينه تلتقي جاكلين الشّابي مع باحث آخر نشر دراسة مقارنة في سيرَتَي يسوع ومحمّد إذ يقول بدوره: "إذا نظرنا إلى المصادر السّرديّة بخصوص يسوع ومحمّد فإنّنا نتعرّف مباشرة على النمط المعهود للسّيرة الذّاتيّة. إلاّ أنّه يمكننا أن نكون أكثر دقّة. فالأمر لا يتعلّق هنا فقط بالسّيرة الذّاتية، فالأناجيل والسّيرة النبويّة تنتمي إلى نوع خاص من السّيَر يدعى باليونانيّة hagiographie، (هاجيوغرافيا) أي سيرة قِدّيس. ولكن مع الأسف، فحياة القدّيسين إذ تكون شيّقة للقراءة إلاّ أنّها تصلح للتّاريخ (...) فبعد زمن طويل على مغادرتهم الحياة، فإنّ ذكراهم وقدرتهم على مواصلة القيام بمعجزات خارقة تدفع النّاس إلى الهرع لزيارة مقابرهم وأضرحتهم. ولكن، كلّما ازدادت شهرتهم وذاع صيتهم، تنامت وتضخّمت الأساطير حولهم. ثمّ تنمو الذّكريات وتتّسع القصص بشأنهم كلّما ازداد عدد رُواتها. فتُصبِح هذه الحكايات "التّاريخيّة" عن القدّيسين أضرِحة أدبيّة على مقدار شهرتهم وفي الغالب بنفس الزّخارف الأدبيّة على غرار الزّخارف التي تكسو جدران المباني التي تحوي بقايا رُفاتِهم وتُخلِّد قداستهم. إنّ الهاجيوغرافيا ليست تاريخا للقدّيس بل هي نِصْبَه التّذكاري"(3).
القرآن والسيرة النّبويّة
غير أنّ أهل السنّة والجماعة يحتجّون بشدّة على من يطعن في صحّة الرّوايات التي تتحدّث عن سيرة حياة محمّد، منذ نشأته إلى مبعثه وحمله الرّسالة حتّى موته، بدليل أنّ القرآن هو أوّل من دوّن السّيرة من خلال ما أكَّده "بكلّ بوضوح" في سورة الضّحى، في ثلاث آيات يتيمات 5 و6 و7: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى"، وبعض الإيحاءات المتناثرة هنا وهناك في النّص القرآني. وهذه الآيات سَمَحت مثلا لفاروق حمادة أن يصرِّح دون أن يرتَجِف قَلَمه: "إن القرآن الكريم هو الذي أسس لكتابة السيرة النبوية، فمَن يقرأ القرآن الكريم منكم بهذه العين الفاحصة يجد شخصية محمّد وموقعه في القرآن، إذ إن حياته كلّها موجودة في القرآن، بل إن القرآن مهّد للوسط والمحيط وذكره وبيَّنه قبل أن يولد؛ فذكر القرآن مراحلَ حياته منذ أن وُلد وعاش يتيمًا وكبر شابًا ونوازعه تختلج في صدره إلى أن لقي وجه الله تبارك وتعالى، مرورًا بالأحداث التي مرت عليه، وبصفاته وخصائصه التي تُميِّزه عن غيره"(4). إذن، إذا سايرنا حمادة فيما رآه وقرأه في هذه الآيات "كلّ حياة محمّد موجودة في القرآن"، ولكنّ لنَنْظر بِتَمعُّن أكثر في ذلك. نلاحظ منذ البداية أنّ هذه القراءة هي بالأساس قراءة تعسّفيّة تلوي عنق النّص وتُقَوِّله ما لم يَقُل. أوّلا، الآية عامّة ولا تُحدِّد الشّخص المُخاطَب. وكالعادة، يستنجد المفسِّرون بأسباب النّزول لتحديد ظروف وملابسات نزول السّورة، "الضّحى" هنا، فيذكرن أنّ محمّد كان في وقت من الأوقات قد انتابه القلق لمّا فَتَر عنه الوحي (مدّة أربعين يوما وقيل ثلاثة أيّام=أنظر الدّقة المتناهية هنا! هذا البون الشّاسع بين المدّتين، والأغرب في هذه القصّة، والذي لا يمكن أن يقبله أيّ عاقِل، هو سبب توقّف نزول الوحي. قال مقاتل في تفسيره: "فقال المسلمون: يا رسول الله، فما نزل عليك الوحي؟ قال: كيف ينزل عليّ الوحي، وأنتم لا تُنقُّون براجِمَكم [أي الأوساخ التي بين الأظافر وأطراف الأصابع]، ولا تقلِمون أظافركم". ولسنا ندري هنا إن كان محمّد جادّا في قوله أم هو من باب التهكّم والسّخرية؟)، فظنّ أنّ "ربَّه تركه وتخلّى عنه"؛ فنزلت الآيات الإلهيّة تُطمئنه بهذه العبارة "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى". ولكن هل المقصود هنا هو محمّد بالذّات؟ ما هو الدّليل على ذلك في السّورة نفسها؟ لا شيء سوى القصّة التي جاءت بها "أسباب النّزول". كما أنّ السّورة تبقى غامضة إذ هي لا تُحدِّد لنا من هو هذا الشّخص "اليتيم والضّال والعائل" الذي يُخاطِبه الله؟ فإذا سلّمنا بأنّ محمّد كان قد تيتّم وهو صغير فإنّ السيرة لم تحك لنا عن مشاكل استثنائية اعترضته في هذا الصّدد، الشيء الذي تطلّب تدخُّل العناية الإلهيّة لإيوائه وإنقاذه من التشرّد. أمّا وصف النبيّ بالعبد "الضّال"، فقد شكّل معضلة كبيرة وجدلا حادّا بين المفسّرين والفقهاء. فهل كان النبيّ فعلا "ضالاّ" حتّى يهديه الله الصّراط المستقيم؟ وهو "ضالّ" عن أيّ طريق سويّ؟ اليهوديّة أم المسيحيّة أم ماذا؟ لأنّ الإسلام لم يَر النّور بعْد. ثمّ، هل كان محمّد "عائلا"؟ أي فقيرا فعلا؟ ولكنّنا لا نعثر على أيّ حديث أو خبر يدلّ على أنّه كان حقيقة يشكو ضنكا حالكا. فقد مرّ من كفالة جدّه وعمّه إلى تجارة خديجة التي يُقال أنّها كانت ميسورة الحال؟ ثمّ ما مغزى أن يُوصيه الله هو بالذّات باليتيم والمسكين؟ فهل كان معروفا لدى القاصي والدّاني في ذلك الوقت أنّ محمّد كان "يقهر اليتيم، وينهَر المسكين" حتّى يتلقّى هذا التحذير الشّخصي المباشر؟ فهذا يبدو وكأنّه تنبيه وتوبيخ، كما يقال بالفرنسيّة «un rappel à l’ordre». ومن ناحية أخرى، يمكن أن نقرأ عبارة "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى" كجواب إلهي على صرخة يسوع اليائسة واستنجاده بأبيه "الله" وهو يُعاني سكرات الموت مُعلَّقا على الصّليب: "إِلي، إِلي (أو أَلُويْ أَلُويْ) لَمَّا شَبَقْتَني؟"، أي "إِلهي، إِلهي لماذا تَركْتَني؟" (متّى: 27، 46). وهذه الصّرخة تمثّل هي أيضا صدى لما جاء في المزمور 22: 1؛ 9-11: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ (...) لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي، أَنْتَ إِلهِي لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ".
يبدو هنا أنّ السّورة مُركّبة من قسميْن مُختَلفيِن: القسم الأوّل الآيات 1-5، والقسم الثّاني الآيات 6-11. ويمكن أن نقرأهما منفصِلَيْن تماما وذلك دون الإخلال بالمعنى الذي يؤدّيه كلّ منهما بمعزل عن الآخر. القسم الأوّل يمثّل، كما ذكرنا أعلاه، استجابة الإله لصراخ يسوع وقَبْله الصّراخ الوارد في المزمور 22. أمّا القسم الثّاني فنجد صدى له في إنجيل متّى أيضا، 25: الدينونة العظمى، ولكن بصورة معكوسة، إذ نجد هنا أنّ الأبرار هم الذين يجلسون عن يمين الرّب هم الذين لَبُّوا حاجيات إبنه: "يَا ربّ [يسوع]، مَتَى رَأَيْناكَ جَائِعًا فأَطْعَمناكَ أو عطْشانًا فَسَقيْناكَ، ومَتَى رَأَيْناكَ غَريبًا فآوَيْنَاكَ، أو عُرْيانًا فَكَسَوْناكَ، ومَتَى رَأَيْناكَ مَريضًا أو سَجينًا فجِئْنا إليْكَ". ويُضيف مُحرِّر هوامش الكتاب المقدّس "هناك تطابق بين الأعمال التي يُثْني يسوع عليها وأعمال التّقوى التي يشيد بها الدّين اليهودي والعهد الجديد: إطعام الجائعين، وكِساء المحتاجين، وزيارة المرضى (...) وخلافا لما يجري في الدّين اليهودي، لا يتطرّق يسوع إلى موضوع تربيّة الأيتام..."، وهو ما تتطرّق إليه الآية 6 التي تتحدّث على إيواء اليتيم.
لقد قمنا بهذه التّعريجة القصيرة لكي نعطي مثالا لما يمكن أن نقدّمه بخصوص القراءات الأفقيّة أو المقارنة بين نصوص الإسلام وبقيّة نصوص الأديان الأخرى.
وللحديث بقيّة.
_____________
الهوامش:
(1) أنظر النّدوة حول تقديم كتاب المنعقدة في يوم 9 جانفي 2013 في المعهد الأوروبي للعلوم الدينيّة:
Tilman Naget, Mahomet, histoire d’un arabe, Paris, Labor et Fides, 2012.
(2) أنظر:
Le Nouveau Magazine littéraire, Le vrai Mahomet, une nouvelle lecture des textes fondamentaux, décembre 2018, n° 12.
(3) أنظر:
F. E. PETERS, JESUS AND MUHAMMAD, Parallel Tracks, Parallel Lives, Oxford University Press 2011.
(4) فاروق حمادة، مستقبل دراسة السيرة النبوية، ص 47-48.
(5) طبعة دار الشّروق، بيروت 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نظره وتحليل
على سالم ( 2018 / 12 / 16 - 20:14 )
من المؤكد ان كتاب القرأن ( القرأن كلمه سريانيه سرقها البدو وكانت تنطق قريانى ) هو فى الواقع سيره شخصيه ذاتيه وجنسيه واجتماعيه وسياسيه لمحمد الرسول البدوى , نعم انا اتفق ان المعلومات الموثقه عن هذا الشخص الدجال كانت فقيره وشحيحه للغايه , لكن جيش الفقهاء والمفسرين وعلماء الدين الدجالين وايضا رجال الحكم الاسلامى المجرمين الفجره على مر العصور الاسلاميه الغبراء هم من جعلوا هذا الشخص اقرب الى الاله بل ويتفوق عليه فى القداسه , نحن نعيش فى مأساه فكريه مروعه حيث ان المسلمين الجهله بشكل عام يعبدوا هذا البدوى ويقدسوه من دون اللات ( اللات صنم بدوى) وهذه مصيبه وكارثه كبيره تسبب فضيحه مجلجله لهم

اخر الافلام

.. -لم يقل لنا المسيح إن العين بالعين-.. -أسقف سيدني- يسامح مها


.. رحيل أبو السباع .. 40 عاماً من إطعام زوار المسجد النبوي




.. بعد 40 عاماً من تقديم الطعام والشراب لزوار المسجد النبوي بال


.. الميدانية | عملية نوعية للمقاومة الإسلامية في عرب العرامشة..




.. حاخام إسرائيلي يؤدي صلاة تلمودية في المسجد الأقصى بعد اقتحام