الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول الاختراق الأجنبي للوطن العربي: مقارنة مع شرق آسيا، وما العمل؟

محمد عبد الشفيع عيسى

2018 / 12 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


ثمة مسألة شائعة فى بحوث "مدرسة التبعية" التى سادت الفكر (العالم – ثالثى) فى السبعينات والثمانينات ومطلع التسعينات من القرن المنصرم – تلكم هى مسألة العلاقة الجدلية بين الهياكل المحلية والمؤثرات الخارجية فى البلدان التى خضعت لمسار الاستعمار الأوروبى الحديث.
وترد هذه المسألة واضحة نصاً، على سبيل المثال، فى كتابات "أندريه جوندر فرانك" مثل: "التراكم التابع" Dependent Accumulation و "التنمية والتخلف" Development and Underdevelopment وقد انعكست هذه المسألة كذلك فى عدد من الكتابات العربية الرائدة فى الحقبة المعاصرة، ومنها كتابات المفكر الجزائرى (مالك بن نبى) فى أطروحته حول ما أسماه (القابلية للاستعمار).
وقد سبق أن تعرضنا لهذه المسألة فى مقال لنا بعنوان :" نحو نظرية عربية فى التخلف والتنمية" نشر فى مجلة "الوحدة" الصادرة عن "المجلس القومى للثقافة العربية" من الرباط بالمغرب (العدد 89 –نوفمبر 1992، ص ص 89- 101).
وخلاصة ما توصلنا إليه منذئذ أن الهياكل المحلية فى البلاد المعنية، حينما تتعرض للسيطرة الأجنبية فإنها تكون قد بلغت حالة من الضعف النسبى الذى يجعلها معرضة للتأثير والاختراق الأجنبى بدرجة أكبر من غيرها، فكأنها تكون لديها "قابلية" للخضوع على رأي قريب من مالك بن نبي. ويتخذ الضعف صوراً متنوعة، أهمها ضعف البنية العميقة للكيان الاجتماعى والسياسى ، والاقتصادى أيضا ، بل ربما الاقتصادى في المقام الأول، وكذا الكيان العسكرى مقصوداً به القوة العينية المجسدة فى حمل واستخدام (السلاح) .
وهناك ضعف المقدرة على إدارة الصراعات، وبناء التوجهات والسياسات، حين يصيب العوار انحيازات (القيادة السياسية) وتصميم الأولويات التى تتبناها فى الإطار الاستراتيجى و "الجيو-سياسى" .
وتتخلق من ضعف البنية أو الهياكل المحلية ، ومن العوار فى نمط إدارة الصراعات ، "ثغرات" قد تتسع فى أبعادها الكمية والعمق النوعى، بحيث تسمح بهامش معين من التدخل للأطراف الخارجية، على اختلاف مواقفها من البلد المعنى: من العداء الكامل إلى عداء نسبى إلى منافسة جيويوليتكية ذات طابع صراعى، إلى صداقة فموالاة.

وتطبيقاً للمنهجية السابقة، يمكن القول إن بلادنا العربية فى مطالع العصور الحديثة كانت بلغت درجة من الضعف أغرت الدول الأوروبية القوية الطامعة باستضعافها وإخضاعها، وهذا هو تفسير السيطرة الاستعمارية فيما يقابل لفظة Colonialism. هذا بصورة عامة. وبصورة خاصة، فإن المنهجية السابقة تنطبق على المنطقة العربية خلال الثلاثين أو الأربعين الماضية ، لا سيما فى المنطقة المركبة : "المشرق العربى – شبه الجزيرة العربية" . فهذه المنطقة المركبة تعانى أصلاً من عيب بنيوى وتركيبى جوهري للكيانات السياسية بفعل التجزئة الاستعمارية الحديثة للمنطقة، مما جعلها فى حالة "قابلية دائمة" للخضوع .
ويشتد مفعول هذه الحالة فيما يتصل بما أسماه البعض بمنطقة الهلال الخصيب (العراق+الشام) حيث تتسم بالهشاشة الجيويوليتكية العميقة، انطلاقاً من "الذرية" التكوينية التى لم يجمعها فى العصر الحديث إلا رابط "العروبة" الضامّ ، ولما لم تتحول رابطة الهوية الثقافية والتاريخية – الحضارية للعروبة إلى رابطة للهوية السياسية "الدولتية" فإنها أصبحت قابلة للانفراط الدائم .
وقد تولى الحكم فى هذه البلدان، لفترات متفاوتة ، أنظمة تسلطية المنبت والطابع ، متسمة بالإخفاق التاريخى المزمن فى إدارة الصراعات وبناء التوجهات والسياسات وتصميم الأولويات ، برغم "النوايا الحسنة" للبعض من القيادات المشخصنة ، ومنابتها الفكرية الراجعة فى جانب منها إلى إيديولوجية "القومية العربية" . وقد أدى ذلك إلى الوقوع فى خطايا جوهرية فى كل من التوجهات الداخلية والخارجية، فتحت ثغرات واسعة ، وتولدت "القابلية للاختراق" ، فحدث التدخل الاستعمارى على أوسع نطاق وبأعمق ما يمكن، وعبر الزمن ، مما أدى فى نهاية المطاف إلى غزو أجنبى لبعض الأقطار العربية كما حدث فى العراق (2003) وإلى تدخل عسكرى هدام كما حدث فى ليبيا (2011) ، وتكالب بعض القوى الاقليمية المجاورة والقوى العالمية المهيمنة على كل من سوريا واليمن (2011 – 2015) .
و الحق أن المرض العضال الذى أصاب المنطقة العربية المشرقية خلال الآونة الأخيرة يمثل تطوراً عن تيار "الإسلام السياسى" الذى ترعرع بعد العدوان الاسرائيلى فى يونيو/حزيران 1967 وما تلاه من نكسة عسكرية مؤقتة كما هو معروف. ولقد كان استواء عود الجناح الدموى الساعى إلى امتلاك دولة ذات إقليم وحكومة وشعب، حسب الفقه الدستورى ، بفعل ظروف متعددة معقدة ، يتفاعل فيها العاملان الداخلى والخارجى بطريقة جدلية.
على الصعيد الداخلى نلحظ بيئة ثقافية حاضنة قائمة على الفهم والتفهم العربى الواسع للتراث الإسلامى كرافعة للحضارة العربية الإسلامية الموجدة للقومية العربية ، وفى المقابل –داخليا دائما– أنظمة تسلطية استعانت بالتيار الإسلامى تارة ، وجاهدته جهاداً عنيفاً تارة أخرى ، وكان للجناح الدموى ما أراد فى الحالين: توسع وازدهار تدريجى عميق .
ولا ننسى فى المقام ما يمكن أن نطلق عليه "إفلاس النخب السياسية العربية" حاكمة ومحكومة فى نفس الوقت ، سواء منها النخب ذات "الفكريات" الليبرالية أو الإسلامية أو اليسارية الاشتراكية أو القومية العربية . ونخص بالذكر إفلاس النخب الإسلامية التى تسيدت الساحة العقائدية العربية طوال الأربعين عاماً الأخيرة ، فلم تفلح فى إنتاج "قماشة" للإيدلوجيات السياسية الإسلامية وتقديمهما لقادة الرأي ثم للرأى العام، و نشير بصفة خاصة إلى التيارين "الإخوانى" و "السلفى"، مما فتح الباب واسعاً أمام الدخول "الهجومى" لتيار العنف المجسد، ومن ثم للجناح "الدموى" ممثلاً فى (القاعدة) ، ثم الجناح "الدموى – الدولتى" ممثلاً ثم داعس – بالسين وليس بالشين ..! ومن يدرى ؟ لعل "الحاوى" يخرج من جرابه الثعبانى السام أفاعى أخرى فى مقبل الأيام.
هذا كله على الصعيد الداخلي؛ وأما على الصعيد الخارجى ، فامتداد وتعمق لميول الهيمنة الغربية بالقيادة الأمريكية على امتداد الوطن العربى بالمعنى المحدد والعالم الإسلامى العريض ، واستعمال مزدوج من قبل قوى الهيمنة وقيادتها المعتمدة لبعض التيارات الإسلاموية وخاصة منذ الدخول السوفيتى فى أفغانستان عام 1979 ، عبر التشجيع تارة ، والاحتواء تارة أخرى ، والعداء العنيف غير المبالي تارة ثالثة .
ومن اجتماع العاملين الداخلى والخارجى ، يمكن فهم جدلية "النشوء والارتقاء" ل "الجناح الدموى الدولتى" من (التيار الإسلاموي) المتولد بدْهيا من تيار (الإسلام السياسى) العريض .
وفى خلاصة، لقد بلغ الوطن العربى منعطفاً حاداً، حيث فعلت فعلها العوامل الداخلية أو المحلية، و بخاصةِ الأنظمة التسلطية و قرينتها الحركات الدموية ذات التأويل الدينى المتعسف ، وفتحت من الثغرات أمام القوى الخارجية، إقليمية و عالمية، ما لم يكن يخطر (على بال بشر) منذ ربع قرن فقط: فالدول (القطرية) أو (الوطنية) ممزقة مهددة بالتلاشى ، والموارد العربية مستباحة ، والقواعد العسكرية الأمريكية قائمة فى العديد من الأرجاء وخاصة فى الخليج ، والقوى (الثورية ..!) بتسابق بعضها فى استدعاء الأجنبى والخارجى لمقارعة بعضها الآخر أو غيرها ، والكيان الصهيونى يتدلل ويتدخل دون خوف حقيقى فى اللحظة الراهنة ، أو هكذا يبدو.

بين المتطرف والأكثر تطرفاً ..!
آخر المستجدات فى سياق الاختراق الأجنبى لوطننا العربى هو ما يعبر عنه شطر من بيت الشعر العربى الشهير : (كالمستجير من الرمضاء بالنار) . إذ من الملاحظ أن بعض القوى العربية والإقليمية، مدفوعةً بضغط قوى من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، أخذت تستعين على تنظيم (داعس) بشراذم تنظيم (القاعدة) ، وهذا ما نراه فى الآونة الراهنة فى سوريا على وجه خاص ، من خلال دعم أمريكا ومحورها الإقليمى المعروف والمكون من بلدين، لما يسمى (جبهة النصرة) – فرع تنظيم القاعدة فى الشام ، ولو من خلال التشجيع (السلبى) بترك هذه الجبهة تتمدد على حساب منافسيها داخل التيار الدموى الإسلاموى المدعوم من بلدان عربية أخرى فى الخليج. وفى ليبيا عملت القوى الغربية على أن تترك شراذم (داعس) فى مواقعها بمدينتى درنة وسرت ، وربما تركها لتتمدد، ما دامت تصلح (فزّاعة) لتأديب الأطراف الأخرى جميعاً ، من إسلاموية وغير إسلاموية. وأما فى اليمن فإن التعامل الغربى – الخليجى – من تحت المائدة – مع "القاعدة" لم يعد أمراً خافياً لمواجهة (أنصار الثورة) ممن يسمون بالحوثيين نكاية فى إيران.
وهكذا فإن مواجهة داعس بالقاعدة تكتيك مجرب (غربيا-عربيا) للقضاء على عدو راهن بخلق عدو مستقبلى محتمل ، فيما يمكن أن يسمى (تربية الوحش ..!). وهذا ما تم على سبيل المثال فى أفغانستان منذ الثمانينات ، بتربية وحش (طالبان) من الجهاديين لمقارعة السوفيت ، فكان أن قامت طالبان باحتضان الويات التى سرعان ما شكلت ما صار يعرف بالقاعدة بزعامة (بن لادن).
ولما قويت القاعدة لدرجة مهاجمة الولايات المتحدة فى عقر دارها، من خلال الحدث الرمزى لإسقاط برجىْ "مركز التجارة العالمى" فيما يعرف بحدث التاسع من سبتمبر 2001 ، قامت الولايات المتحدة (ومعها تابعتها أوروبا) بابتداع استراتيجية – أو تكتيك – احتواء واستعمال ما يسمونه (الإسلام المعتدل) ممثلاً بصفة خاصة فى "جماعة الإخوان المسلمين" ونظيراتها من الحركات والتنظيمات المثيلة ، كحزب "العدالة والتنمية" الأردوغاني بتركيا ، لمواجهة ما أسموه "الإسلام المتطرف". وذلك ما لاحظناه من السلوك الأمريكى فى السياسة الخارجية بعد الثورات والاحتجاجات الشعبية العربية 2011 التى أطلقوا عليها غربيا مسمى "الربيع العربى". ولما صار الإسلام المتطرف إسلاميْن متطرفين مؤخراً أخذت أمريكا وأوروبا تبتدعان استراتيجية- أو هو "تكتيك" على الأرجح –للاستعانة بالمتطرف لمقارعة الأكثر تطرفاً، وإن كان يجمعهما معاً مسمى "التطرف العنيف" فى المصطلح الأمريكى Violent Extremism .
ولا بأس أن تتبع دول الغرب بالقيادة الأمريكية استراتيجيتها الموصوفة أو تكتيكها المشهود، ما دام وطننا العربى و "المنطقة العربية – الإسلامية المركزية" هما "الملعب" و "ميدان الرماية" ليس غير ، حيث اللعب والرماية بعيدان عن مرمى "ضرب النار" فى عقر دار الغرب والولايات المتحدة . فلا تثريب على الغرب أن فعل . وأما نحن العرب والمسلمين، بغير فضل من الأنظمة التسلطية المتحالفة مع القوى الأجنبية، فسنظل نعانى من تربية الوحوش المستقبلة لمقاتلة الوحوش الراهنة حتى إشعار آخر . ويحدث فى ذلك بفعل بيئة محلية حاضنة : هشة وفاقدة للقدرة "وقابلة للاستعمار" فيأتيها الاستعمار هرولة إن سارت إليه هوناً. فإلي متى..؟


الاختراق الأجنبي "والاستقواء بالأجنبي" بين الوطن العربي ومنطقة شرق آسيا
ملاحظة مهمة، في الابتداء، حتى لا نتجنى على أنفسنا أو ننسى :
إن الاختراق الأجنبي، الأوربي الغربي – الامريكى ، لبلداننا ليس بدْعاً أو انفرداً خاصاً بنا نحن العرب . طوال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثامنة حتى انهيار الاتحاد السوفيتي أول التسعينات من القرن المنصرم ، ثم منذئذ حتى الآن ، كانت وظلت بلدان ( العالم الثلاثي) – عالم القارات الثلاثة لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية هي (الملعب) الأثير للغرب وأمريكا بوجه خاص .
ولنبدأ بأمريكا اللاتينية التى اعتبرت ( الفناء الخلفي ) للولايات المتحدة منذ إعلان ما يسمي ( مبدأ مونرو ) عام 1823 – التصريح الصادر من وزير الخارجية الامريكى مونرو بعدم السماح للقوى الأخرى خارج الأمريكتين بالتدخل فى شئون القارة الأمريكية الجنوبية .
ونثنّى بالقارة السمراء ، شمال وجنوب الصحراء الكبرى ، التى قسمت بين الدول الأوروبية، لا سيما بريطانيا وفرنسا، وخاصة منذ (مؤتمر برلين) عام 1884 . ولم تزل إفريقيا بعد استقلالات بلدانها جميعاً على دورات متتابعة حتى استقلال (المستعمرات البرتغالية) عام 1974 ، نهباً لأوروبا الغربية ولوريثة السيطرة الأوروبية : (الولايات المتحدة) فى ظل ما اسماه القائد الغانىّ التاريخى الفذ كوامى نكروما (الاستعمار الجديد) فى كتابه المعنون بذات الاسم :Colonialism – Neo .
أما عن آسيا – وبخاصة شرق آسيا – فحدّث ولا حرج. فقد تلاعبت بريطانيا وفرنسا بمصائرها تلاعباً، حتى الحرب العالمية الثانية، بل و حتى أواخر الخمسينات، حين تصدرت الولايات المتحدة المسرح وحدها تقريباً دون شريك ، بعد أن كانت (الأولى بين الأنداد) كما يقال باللاتينية Primus inter pares . بدأت الولايات المتحدة باحتلال اليابان فى نهاية الحرب ، ورعت فصل الصين إلى شطرين بعد انتصار الثورة الصينية بقيادة موتسي تونج عام 1949 ، ثم رعت انقسام شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين فى غمار الحرب الأهلية الكورية عام 1953 ، وتصدّت لثورة الشعب الفيتنامى التحررية شمال البلاد لتحل محل فرنسا فى قيادة الحرب المضادة انطلاقاً من فيتنام الجنوبية وتشعل (حرب فيتنام) وخاصة منذ 1959 ولنحو خمسة عشر عاماً حتى عقد "اتفاق السلام" عام 1973.
طوال الستينات، خاضت الولايات المتحدة حربها المقدسة المستمرة "ضد الشيوعية" – صينية كانت أو روسية ، ولكن صينية بالذات – وصاغت استراتيجية جديدة قائمة على ساقين : أولهما تغذية الانقسامات الآسيوية المتولدة من التاريخ القريب والبعيد ، وخاصة بين اليابان والصين ، وبين كل منهما و "الإخوة الصغار" على الجانبين . ومع تغذية الانقسام ، تعميق الاختراق ، وشراء العملاء والوكلاء المباشرين ـ وخوض "حروب بالوكالة" خلال السبعينات ومطلع الثمانينات، فى لاوس وكمبوديا، فضلاً عن تأكيد السيطرة على بلدان تابعة تاريخياً للولايات المتحدة مثل الفيلبين .
والساق الثانية ، المساعدة على اقامة "منصات إنمائية" فى عدد من البلدان الآسيوية ، لمواجهة (الشيوعية) بتقديم مثال (رأسمالى) للنمو التابع ، بدءً من "الجيل الأول" لما يسمى إعلامياً بالنمور الآسيوية من كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وشبه جزيرة هونج كونج فى السبعينات والثمانينات .
مع إطلالة عقد التسعينات ، وانفراط العقد السوفيتى ، وترويض "العملاق الصينى" ، شبت (النمور الآسيوية) عن الطوق ، وانجذبت إلى الفلك الآسيوى النامى نمور جديدة من (الجيل الثانى) مثل ماليزيا ،، واجتازت اختبار "الأزمة المالية الآسيوية" عام 1996-97 بخسائر محتملة بصفة إجمالية . وقد مضت الولايات المتحدة تمارس سياستها المجربة بوسائل جديدة كالسعى إلى بناء تجمعات وكتل اقتصادية جديدة ، مثل "المنتدى الاقتصادى الآسيوى – الباسيفيكى" (آبك) ومن بين أعضائه الصين واليابان وكوريا ، أو تدجين بعض ما هو قائم ، أو التعاون معه ، مثل "رابطة بلدان جنوب شرق آسيا" – آسيان ASEAN.
ومع الجديد من الوسائل ، ظل العمل بالآلية التقليدية (المجربة جداً) عبر التاريخ الاستعمارى الطويل، سياسة (فرق تسدْ) Divide and Rule من خلال الاختراق ، والتحكم من قرب : بالقواعد العسكرية كما فى اليابان وكوريا الجنوبية، و "التحكم من بعد "عن طريق الحكومات "الطيّعة" فى عديد الأقطار الآسيوية مثل تايلند والفيلبين ، وتغذية الانقسامات كما هو الحال فى نزاعات الدول الآسيوية حول السيادة فى "بحر الصين الجنوبى" بين اليابان والصين، وبين الصين وكل من كوريا الجنوبية وفيتنام، والنزاع المزمن بين الكوريتين.
ولم يزل رفع راية "التهديد الصينى الوشيك" فى شرق آسيا أسلوباً أمريكياً مميّزاً ، من أجل استدامة الاختراق والتغلغل على الطريق الطويل لممارسة "الهيمنة". فلسنا نحن العرب إذن بدْعاً من اختراقات الهيمنة الأمريكية المعاصرة.

بين شرق آسيا .. والوطن العربي
الفارق الرئيسى فى مسيرة "الاختراق" المقارن بين شرق آسيا والمنطقة العربية ، فارق فى "الهياكل المحلية" بصفة أساسية أو "العوامل الداخلية" ممثلة بصفة خاصة فى طبيعة تركيب النخب الثقافية – السياسية ونظم الحكم . فى شرق آسيا كانت النخب والحكومات من "الذكاء السياسى" بحيث استفادت من تناقضات النظام الدولى لتحقق من علاقة التبعية التقليدية مع الغرب وأمريكا أكبر مكاسب اقتصادية ممكنة. أما النخب العربية والحكام – و أبرزهم فى هذا الشأن أنور السادات – فقد دلت على (غباء) منقطع التغير فى الإدارة السياسية للموارد الوطنية بدون إرادة ذاتية حقيقية. لقد تخلى هذا الحاكم عن أوراق قوته المحتملة قبل وبعد حرب أكتوبر/تشرين 1973 قبل أن يبدأ النزال الحقيقى مع الولايات المتحدة بمناسبة العلاقة مع إسرائيل، وأقام علاقة "تبعية إدماجية" كاملة فى المعسكر الغربى – الأمريكى دون أن يجنى منافع استراتيجية أو اقتصادية مناظرة . وعلى الدرب سار (مبارك)الذى اندمج نظامه اندماجاً تاماً فى المنظومة الغربية-الأمريكية-الإسرائيلية دون أن يحقق نفعاً يذكر، ولو تحت سقف "الديكتاتور-الكومبرادور" أو "المستبدّ السمسار" . و في المقابل، أقام المستبدون السماسرة فى شرق آسيا أنظمة اقتصادية وسياسية تابعة للغرب وأمريكا، عبر ما يمكن تسميته (التنمية التابعة) وبالأحرى "النمو التابع".
أما الحكام العرب الآخرون الذين وقفوا فى وجه الغرب فى الثمانينات والتسعينات، و(خاصة فى العراق) وبافتراض حسن النوايا، فلم يستطيعوا إدارة المعركة بما ينبغى من حصافة وحكمة، وكانت النتيجة أن جنت الأمة العربية على أيديهم الحصاد المر الذى أسهم في تمهيد الطريق أمام القوى الأجنبية لتفعيل "العامل الخارجي" سلبا، إلى حد الغزو المباشر لبعض الأقطار العربية (2003) والاختراقات اللاحقة المتسلسلة حتى الآونة الحاضرة.

فكيف نواجه الرهان ؟ و إلى أين من هنا ؟
وكيف يمكن أن نعيد العافية ، والصحة الجسدية والنفسية ، للمنطقة العربية المشرقية بالمعنى الواسع، شاملة وادي النيل و شبه الجزيرة العربية وكذا ليبيا كحلقة وصل عضوية مع سائر المغرب الكبير ؟
بل يكون السؤال الأحق بالطرح فى هذه الفترة العصيبة هو : هل يمكن أصلاً أن نعيد مثل هذه العافية وتلك الصحة إلى جسد عليل، انتابه مرض عضال على حين غرة، بتسلل جماعات العنف الدموى الاسلاموى، وتحولها إلى (شبه كيانات سياسية) ؟
هل يمكن ؟ وكيف يمكن ؟ هذه هى المسألة، على حد تعبير (هاملت- شيكسبير) قبل قرون.
أباحتضان تيار "ليبرالوى جديد" يزعم السعى إلى اقامة دولة ديمقراطية حديثة ، دون توفير شروطها اللازمة اللازبة وأولها الاستقلال الوطنى – القومى ، وتقوية الاقتصاد ، وحماية الكتلة الشعبية من الضعف بله الانقراض المعنوي ؟
أم بإيقاع (الطلاق) مع التراث العربى – الإسلامى العتيد ، سعياً إلى خلق (عصر الأنوار العربى) المحاكى لعصر الأنوار الأوربي منذ أربعة قرون؟
وألا ليس بهذا ولا ذاك نستطيع استعادة العافية المفقودة والصحة المضيّعة واللحمة الاجتماعية لأقطار ممزقة فى منطقة مشرقية مفتتة ، ووطن عربى مصاب فى الصميم ومخترق من قوى الهيمنة الخارجية ومن دول الجوار الإقليمى الطامعة لا سيما دولة عضو فى حلف الأطلنطى وجار لسوريا. وإنما نستطيع المضى فى العمل على المسار السليم لو عملنا على تصليب (التوجه الوطنى – القومى التقدمى اجتماعياً) واتخاذه "بوصلة" لتحديد الاتجاهات الصحيحة وترتيب الأولويات.
ولنفعل ذلك انطلاقاً من مقولة "استئناف التطور الحضارى العربى" منعاً لاختطاف ترثنا الأصيل على يد مدعى مواجهة (التغريب) بزيف دعوى احتكار الانتماء الحضاري، على سبيل الانفراد أو التفرد المزعوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة