الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنتفاضات السودانية تولد يساراً وتطفأ يميناً، لكنها ليست عفوية

المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)

2018 / 12 / 29
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تعليق على مقال لطيف من كاتب مصري اندهش من قوة الانتفاضة السودانية وأعجب بـ(عفويتها)!


محاسن المقال إنتباهه إلى أخبار السودان، في حومة إنتاج مصر الإعلامي السياسي المهتم كثيراً بأخبار الرياضة والمحافظات والأراء الفردية إلخ، المهمل تعزيز ترابط تاريخ مصر ومصيرها مع الدول الجيران لها، وهي أيضاً دول تحاول تجاهل مصر بأن تهتم بتركيا ودول الخليج أكثر، وبأكثر من إهتمامها بأريافها الداخلية، في ذهنية مكاءات ونكايات، أما نقاط ضعف المقال فكانت كالآتي:


1- يتصور المقال أن الصراع السياسي على الحكم في المنطقة صراع ديكة بين "العسكريين" و"المدنيين"، فهو مقاىل غير واع أو لا يريد وعياً بحقيقة ان السوق والنظام الرأسمالي هو الحاكم الفعلى لكل دول المنطقة والسودان (وكذلك في مصر) سواء قبل إستقلال السودان في أول يناير 1956 أو بعده، وسواء كان رأس الحكم مدنياً أو عسكرياً .


2- كذلك بكل بساطة يجهل المقال المصري ان سجل السودان السياسي الحديث له 10 انتفاضات كبرى قبل الحاضرة في هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر 2018 كلها هزت أو غيرت طبيعة الحكم: الإنتفاضة المدينية الأولى كانت مدنية وعسكرية حدثت عام 1924 وفيها إستشهادات ومحاكم وإعدامات وبروز وعي وطني تقدمي ضد ترابط الإستعمار وزعماء الطوائف وكبار بيوت التجارة، أما الإنتفاضة الثانية فتناثرت كإضرابات شتى وتجمعات طلاب وموظفين منظومة جمعتها سنوات الثلاثينيات ومؤتمر الخريجين. أما الإنتفاضة الثالثة فبدأت هادئة ناعمة وسط سنوات الأربعينيات - متأثرة بنجاحات الثلاثينيات- وتمثلت في مطالب استقلال المزارعين والعاملين في تأسيس تعاونياتهم وإتحاداتهم ونقاباتهم، ثم تأججت تلك الانتفاضة إلى حالة للكفاح المشترك مع الشعب المصري ضد الرجعية والاستعمار البريطاني محتل البلدين ومحتكر مواردهما، وكانت ذروتها تظاهرات الكفاح ضد "الجمعية التشريعية" سنة 1948 حيث قضت إنتفاضة الأربعينيات على تلك الجمعية المتكبرة التي كانت فيها النخبة العشائرية والطائفية والبيروقراطية تحتكر تمثيل السودانيين تحت إدارة بريطانية!! أما الإنتفاضة الرابعة فكانت ضد العنصرية والتهميش ودارت في الجنوب أواخر عام 1955 وقابلتها حكومة بداية الإستقلال بحرب عنصرية شاملة ضد الجنوبيين (لم تتوقف إلا عام 1972 مع هدنة في جزء من عام 1965) ورافقت تلك الانتفاضة الجنوبية الجغرافيا إنتفاضة مزارعين في الشمال في منطقة جودة في فبراير عام 1956 ضد الإستغلال قتلت فيها الشرطة عشرات أو مئات الفلاحين الثائرين طلباً لحقوقهم، أما الإنتفاضة الخامسة فحدثت مع الإضراب العام في أكتوبر 1958 ضد مشروعات السيطرة الإقتصادية الأمريكية على السودان التي سرعان ما أقامت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة فأضعفته تطورات إضراب وجماهير أكتوبر 1958 حتى أجبرته في أكتوبر عام 1964 على التنازل عن الحكم. أما الانتفاضة السادسة فكانت في عام 1983 وقد بدأت في جنوب السودان وكانت مدنية وعسكرية متناثرة حتى تزعمها بعد شهور -الشهيد في ما بعد- العقيد الدكتور جون قرنق دي مابيور John Garang وكان ميسمها إلغاء التهميش والعنصرية العربية والإسلامية وقد رفع ميثاقها الأول شعار "سودان إشتراكي موحد" ثم عدلته في 1992 أما الإنتفاضة السابعة فحدثت عام 1985، وفيها أدعى مجلس قادة الجيش بقيادة المشير عبدالرحمن سوارالدهب إنحيازه لإنتفاضة الشعب، ولم يكن ذلك المجلس صادقاً في قوله بل جسراً لتسليم الحكم للإسلاميين القدامى والجدد. بعد توترات وحكم إسلامي ليبرالي تابع لصندوق النقد الدولي أفقر الناس وصدمهم بزيادة الخصخصة وتخوين النقابات وبغثغثة الإعلام وتأجيج العداوة ضد الشيوعية جاء إنقلاب الإسلاميين حيث شنوا حملات قمع وتشريد وخصخصة وحرب وفساد لم توقفها إلا انتفاضة التسعينيات وأشهرها عام 1995 ضد الحكم الإسلامي، بعد ذلك حدثت الإنتفاضة التاسعة عام 2002 وبدأت في دارفور مسلحة ضد أعمال التهجير القسري والتطهير العرقي، ثم توالت عليها إغراءات وإنقسامات وهزائم، أما الإنتفاضة العاشرة فكان حدوثها في سبتمبر عام 2013 (وقد قتل الاسلاميون السودانييون المدعومين من إخوان مصر وغزة مئات المتظاهرين العزل، بعد فترة قليلة من إفتعالهم ثم بكاءهم أحداث "تقاطع رابعة" في مصر!) وأما الانتفاضة الحاضرة الآن في أواخر ديسمبر 2018 فهي الإنتفاضة الحادية عشر في سلسلة إنتفاضات السودان الكبرى، وقد بدأت بمقدمة صغيرة في يناير عام 2018 وهي الآن متأججة.

انتبه في هذا الرصد إلى أن تعداد الانتفاضات لم يشمل الإنقلابات العسكرية التي أيدتها جموع شعبية، ولم يشمل الانتفاضات الصغيرة، ولا موجات التظاهر الطلابية، ولا التمردات العسكرية، ولا الهوجات الرجعية.

كل هذه الانتفاضات العشرة تمثل للناس وللأحزاب وللجيش وللنقابات في السودان خبرة سياسية وتنظيمية كبيرة متنوعة. وكانت ولم تزل ذات أثر كبير في مواصلة تقدم المجتمع السوداني وصراعاته وحركاته السياسية. وقد بدأ تقدم السودانيين السياسي الحديث منذ أوائل القرن العشرين بمرحلة احتماعية سياسية أولى ملأتها في مراكز الحداثة بعض الطوباويات والأحلام المثالية وبها دخل السودان المرحلة الثانية الأحزاب أو الجمعيات (حسب تسميتها آنذاك) ذات البلاغة الأدبية والزعماء المفوهين، مستشرفو "السودان الجديد" و"الآفاق الجديدة"، ثم وصلت مسيرة التقدم السياسي السوداني في الخمسينيات إلى مرحلة ثالثة شابها الصراع بين تيارات الاعتداد الوطني التقدمي وتيارات التعصب الطائفي الحزبي لقوى شبه الإقطاع والرأسمالية، وقد أنتج هذا الصراع مرحلة رابعة سادتها الحكومات العسكرية لتحالفات البرجوازية وشبه الاقطاع المتاكل في إقتصاد يصدر الخامات ويستورد المصنوعات والكماليات وتتحكم فيه الدوائر الأجنبية ويفتقر فيه الريف إلى مقومات التنمية والحياة الحديثة ، ثم بلغ التقدم السياسي لمجتمع السودان في الثمانينيات والتسعينيات المرحلة المعاصرة التي تركت المطالبة بتغييرات إصلاحية وإتجهت إلى المطالبة بتغيير جذري لكل نظام توزيع الموارد والسلطة وسياساته العنصرية.

هذا التطور التاريخي الموثق في كل صحافة العالم وكتبه وفي الانترنت لم يلحظه أو لسبب ما تركه أو أهمله الكاتب الكائن في مصر، البلد الجيران للسودان.


3- يعتقد المقال المصري ان الشعب السوداني خرج عفواً ومن تلقاء ضيقه المعيشي على حكامه! (زلنطحي كدا !) وان التمايز الحزبي كان سيعطل خروجه! وهذا التصور لحدوث هذه الإنتفاضة فجأة! تصور فيه خطأ، وفيه رواسب تنميط مرضي سلبي للسودانيين انهم بلا عمق سياسي وبلانظريات فلسفية، بينما الحقيقة الواقعية إن كثير من السياسة السودانية منتشر في كل خلايا وفئات المجتمع في كل أنحاء السودان بشكل حزبي وطائفي وعشائري اكثرمن نصفه متداخل ،عكس السياسة وأسلوب التفكير السياسي في مصر الذي يتحرك في قرى العمد وأحياء المرشحين الفرديين وقت الإنتخابات بصورة أفراد وعائلات وقليل منه مصالح كبرى.!! شبه تشجيعهما كرة القدم كنوادي وكنجوم، كذلك فالسوداني إما موال لحزب طائفة إسلامية رجعية التكوين والأهداف، أو إنه حداثي ينتمي لحزب يناضل للتقدم الإجتماعي المتناسق، أو تجده مسانداً لجماعة جهوية أو مجتمعية سياسية تعارض التهميش أو تقاتل حكوماته. لذا فوصف كل حركة الشعب السوداني ضد الحكم الإسلامي القائم الآن بإنها عفوية أو إنها حدثت فجاة وصف أو تصور يظلم نضال السودانيين وتاريخ السياسة الحديثة في السودان.


4- أشهر علامات السياسة السودانية التي ظلمها الكاتب المصري في إستعجاله لإصدار مقالة عن أحداث السودان، ظلم فيها الدور الموجب لمصر في السودان منذ أيام الإستعمار الإسلامي العثماني للبلدين وحتى دور ثلث المستعبد ثلث المرتزق ثلث الحاكم الذي إرتضته أسرة محمد علي لنفسها في مصر وفي السودان في خدمة المستعمر البريطاني خاصة منذ عام 1899 إلى عام 1924.

بدأت عمليات التقدم الثقافي السياسي الحديث الحاضرة في السودان منذ سنة 1907 حيث كان التأسيس المنفصل لمثلث التقدم الثقافي السياسي الحديث الأول بداية من "محفل عطبرة" و"جمعية الضباط والموظفين" (في الموردة)، وجماعة "غازيتة السودان" (في الخرطوم) ثم تلتها بعض تجمعات ناشئة كلية غردون، ومن خير هذه الجمعيات بدأت شؤون وشجون وآراء نبتت منها جمعية أو حزب "الإتحاد"، ومن ذلك "الاتحاد" وما حوله شمخ حزب/تجمع/جمعية "اللواء الأبيض" سنة 1924 والأخيران ("الإتحاد" و"اللواء") حزبان مواشجان للحركة المعادية للإستعمار في مصر بجناحيها الجناح الشعبوي الرجعي بزعامة جماعة الوفد قبل وبعد تحوله لحزب، والجناح التقدمي بقيادة الوحود والنشاط السري للحزب أو للحزبان الإشتراكي/الشيوعي المصري ودوائرهما.


الإتجاه الرئيس لهذه الفقرة: إن شعباً مسيساً بهذا العمق الأدبي والإتساع الجغرافي، وبهذه الممايزات والتفاعلات، وبهذه الصراعات، بهذه الروابط البريطانية والمصرية، لا يمكن أن تكون حركته السياسية عفوية. صحيح ان بعض الحزبية واللاحزبية اليمينية ذات الأنانية والاحتكارات عطلت حركات الشعب عهوداً كثيرة طول واحدها أكثر من عشرة سنوات لكن الحزبية اليسارية الهادفة للتقدم الإجتماعي المتناسق كانت أيضاً تنتظر الأحزاب الرجعية معتقدة - حتى اليوم- ان صراع الضعيف مع القوي، مقتله!

على أية حال لو لم يكن هناك تحزب تقدمي منظوم ولعناصر طليعية قليلة العدد لما تحررت وتقدمت دول نذرلاند وإنجلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر ولا عرفت بجمهوريتها دول أميركا وفرنسا في القرن الثامن عشر ولما حضرت في القرن العشرين دول روسيا والصين والهند ومصر والسودان إلخ، وحتى مصر نفسها ما كانت لتكون مكافحة كما هي الآن، دون نضال "الوفد" و"الطليعة الوفدية" و"حدتو" و"حمتو" وتحالف "لجنة الطلبة والعمال والفلاحين والموظفين والجيش" (معروفة باسم "لجنة الطلبة والعمال" (سكرتارية طالب الطب فؤاد محي الدين/ أصبح أستاذ جامعي فوزير صحة ثم رئيس وزراء في عهد السادات. وفي فترة أشترك في قيادة تلك اللجنة البطل السوداني الراحل عزالدين/عبداللطيف علي عامر الطبيب وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني في ما بعد) ولولا حدتو في "الضباط الأحرار" وثورة يوليو ما كانت مصر مكافحة بل بدون حزبية وتحزب ونشد العلى في الأهداف والخطط والوسائل ولتحولت - بإنعدام الحزبية والرأي السياسي- السودان ومصر وكثير من الدول إلى مجرد مزارع أو جمهوريات قطن، تماماً كما صارت جمهوريات الموز في أميركا الوسطى، وجمهوريات الماس في دواخل إفريقيا.


5- الكتابة عن السودان من منظور سيسيولجي مناطقي وجيلي وتواصلي مفيد، لكن التوقف عنده يغيب الحقيقة الطبقية لتاريخ السودان وتمايزاته ويخفي الدور السلبي الذي لعبه إستغلال التدين الإسلامي في تكسير ممالك السودان المتاكلة بداية منذ عام 1504 دون أن يستطيع هذا التدين أو الاستغلال الديني في الخمسمائة وأربعة عشر عاماً التالية أن يبني نظام معرفة وتحديث عمومي مفيد لبناء دولة متماسكة! وكذلك زاد عجز التدين الإسلامي بعد بناء الإستعمار لآليات التحديث والحداثة المكرسة للتبعية والتخلف والإنقسام: فكل الأشكال الأجنبية المتحالفة مع زعماء الإسلام السياسي القديم في السودان أو الأشكال الوطنية الحديثة ذات المياسم الإسلامية في النظم الليبرالية المدنية الرئاسة أو ذات المياسم الإسلامية الليبرالية السوق، العسكرية الرئاسة، لم تستطيع إقامة نظام تطور وطني ديموقراطي متكامل يحقق عدالة إجتماعية في تقسيم الموارد ومقاليد السلطة أو تحسيناً مستداماً لمستوى المعيشة وحقوق العمل والتعليم والعلاج، إلخ. وهو فشل طبقي قديم مستشري ومتفاقم، المنطقي أن الحزبية نشرته وليست أساً فيه كما يعتقد كثير من الناس فالأحزاب في مصر والسودان نشأت بعد الأزمات.


الخاتمة:
النقاط السابقة توضح أخطاء القول بعفوية السودانيين في السياسة، وتتجه إلى إن أزمات السودان المتداخلة لا تحتاج إلى حلول جزئية متفرقة وان من تكرار الفشل إحداث تغيير واحدي في شكل الحكم أو في شخصية الفرعون السوداني الحاكم فأزمات السودان المتداخلة تحتاج إلى معالجة شمولية بمجموعة تغييرات متزامنة تشمل سياسة وإقتصاد وثقافة مجتمعات السودان، كما تحتاج هذه التغييرات الإستراتيجية وما يتعلق بها من طاقة ومياه وأرض وعاملين ومستهلكين ومعرفة وعلاقات إقليمية ودولية إلى تغيير طبيعة الاستراتيجية العامة في الإقليم من "التنافس" إلى "التنمية المشتركة". وكلها أمور تقضي بتغيير أسلوب التفكير العام وأسلوب التفكير السياسي وإنتقالهما من التجزيئي الضيق ذو التتابع الخطي إلى أسلوب الشمولي في النظر وإعمال الذهن، أي ذلك الأسلوب الفكري ذو التجميع والتكامل والتأثيل.

المنصور جعفر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا


.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024




.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال


.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري




.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا