الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين النوايا الخضراء المشبوهة والسترات الصفراء المحرومة

فارس إيغو

2018 / 12 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


هذه الحركة الشعبية المنددة لسياسات الحكومة لا تنطلق لا من الأحزاب والحركات السياسية ولا من النقابات العمالية، ومن هنا صعوبة تأطيرها، وتحديد من يمثلها على وجه التحديد، وهي من هذا الوجه تشبه حركات الشباب الثائر فيما سمي بالربيع العربي عام 2011، أي الحركات الاجتماعية الجديدة في زمن الطفرات والتحولات العميقة في المشهد الإعلامي المعلوماتي، والتي سمحت لتلك الحركات الاجتماعية من أن تنتظم خارج التشكيلات الحزبية والنقابية، وذلك بوساطة وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات العنكبوتية.
وللدلالة على ما سبق هو في الحدث الذي حرض على انطلاقة هذه الظاهرة الاحتجاجية، وهو اليوتيوب الذي سجلته السيدة جاكلين مورو، وظهر في بداية شهر نوفمبر، وحظي على 6 مليون مشاهدة خلال عدة أيام.
ما فجر انتفاضة السُترات الصُفر في فرنسا هو رفع الرسوم على محروقات السيارات، والهدف الحكومي المعلن والظاهر، هو حث المواطنين على استعمال وسائل النقل العمومية في خطة شاملة تتضمن إجراءات أخرى ستأتي تباعاً في عملية ما يُسمى بالانتقال الإيكولوجي.
إن المطالب التي يشترك فيها جميع من نزلوا الى الشارع هي ضعف وتناقص القدرة الشرائية، أو ما يُسمى بتناذر نهاية الشهر، أي عدم قدرة الراتب على تغطية مصاريف الشهر بكامله، بسبب الأعباء والرسوم الضريبية الكبيرة والكثيرة التي تعاني منها، خصوصاً الطبقات المتوسطة الصغيرة والعاملة في أجور لا تتعدى في معظمها الـ 1400 يورو بالشهر، وهو مبلغ ضخم جداً بالنسبة لإنسان يعيش في العالم الثالث، ولكنه لا يعيل عائلة بولد واحد في أوروبا الغربية، بالإضافة وجود أزمة سياسية خطيرة في الديموقراطية التمثيلية التي لم تعد تمثل كل الشعب الفرنسي، بل شرائح محددة منه.
هذه الحركة تتألف في معظمها من العاملين وأصحاب العمل المستقلين الصغار، والذين لا يتمتعون بتغطية اجتماعية، أي هي الفئة التي تدفع الضرائب دون ينالها أي من المكاسب الاجتماعية لدولة الرعاية، لذلك، نجد أن الشعار الأساسي لهم يقول: "الدولة تقتل الشعب بالضرائب".
وصف وزير المالية الفرنسي المتظاهرين وبصورة تدل على رعونته واستخفافه بالمواطنين الفرنسيين، وصفهم بـ "الطاعون الأسود"، في إشارة الى الحركات الفاشية في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وهو تصرف أصبح شائعاً بين الليبراليين المتغطرسين الذين يحتقرون كل من يصوت ضدهم، ويصفونهم بأقسى النعوت، وأولها النعت الفاشي.
ما رمزية ارتداء السترات الصفراء الفوسفورية؟ ترتدى هذه السترة الصفراء الفوسفورية من قبل السائق حين تتعطل مركبته، وهدفها هو الوضوح في رؤية الشخص المرتدي هذه السترة خصوصاً في الليل، أما رمزيتها في هذه الحالة، فهي الإشارة الى وجود فئة اجتماعية، كانت صامتة، وعانت اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً من قبل الحكومات المتعاقبة على الحكم منذ ثلاثون عاماً. هي علامة قوية على وجود قلق عميق من المستقبل لدى بعض الفئات الاجتماعية، هذا القلق يتجاوز الجانب الاقتصادي الاجتماعي الى الجوانب السياسية والثقافية والهووية.
عندما نعاين تاريخ الحياة السياسية في أوروبا وفرنسا، نرى أنه كان هناك دائماً أحزاب في أوروبا لتأييد منطق الرأسمال، وهي الأحزاب اليمينية الكلاسيكية، وأما أحزاب اليسار فإنها كانت تقليدياً تمثل سياسياً البروليتاريا أو الشغيلة، وبلغة أخرى الطبقات الشعبية. لقد كان هذا الزمن، هو زمن اليسار الأوروبي الثوري، ولم تظهر منذ بداية النظام الديموقراطي في أوروبا أحزاب تمثل الطبقات الصامتة، أي الطبقات الوسطى، وهي التي نزلت اليوم الى الشارع فيما سمي بحركة السترات الصفر. إذن، إن الطبقة الوسطى اليوم هي في الشارع، وهي ليس لها ممثلين سياسيين بين الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية في فرنسا خصوصاً، وأوروبا بالعموم، وهو ما يشرح ظاهرة جديدة تماماً على الحياة السياسية تحصل لأول مرة، وهي أن ثمانين بالمئة من الفرنسيين يؤيدون هذه الحركة. إن الحركات الاحتجاجية كثيرة في تاريخ أوروبا، لكن ولا واحدة منها حظيت بتأييد يتجاوز الخمسين بالمائة من الشعب.
إن القرار الحكومي الذي أشعل الانتفاضة الشعبية في فرنسا، كانت رفع الرسوم على المحروقات، والتبريرات الحكومية لهذا الإجراء، هي من جهة إيكولوجية، أي تخفيف حركة انبعاث الغازات السامة في الجو من السيارات، وذلك بتحريض الناس الى استعمال المواصلات العامة؛ أما التبرير الثاني فهو اقتصادي يهدف الى إنقاص الدين العام الذي وصل في فرنسا حافة الخطر، أي بدأ يتجاوز الناتج القومي الإجمالي، أي 2000 مليار يورو.
إن وضع الرسوم على المحروقات ليس بالإصلاحات الكُبرى التي وعد بها الرئيس ماكرون الفرنسيين في أثناء حملته الانتخابية عام 2017، بل هي إجراء يستهدف عرقلة حركة الفرنسيين خصوصاً من أصحاب الدخول الضعيفة الذين يسكنون في الأقاليم والأرياف، حيث الاعتماد الأساسي في تلك المناطق التي لا تصل اليها دائماً القطارات هو على السيارة الخاصة في الذهاب الى العمل والتسوق وزيارة الأهل الكبار في السن؛ والقدماء قالوا إن من أشكال العبودية للإنسان هي في عدم قدرته على التنقل، أو في منعه من الحركة.
تواجه فرنسا اليوم ثلاثة مشاكل كُبرى اقتصادية: الدين العام المتفاقم، الضرائب الكثيرة، وإنعدام المرونة في سوق العمل بسبب كثرة الإجراءات البيروقراطية والقضائية التي تعرقل تسريح العاملين ضمن عقود طويلة الأمد أو دائمة، وبالتالي، تزايد اللجوء للعقود القصيرة والمؤقتة التي لا تريح لا العامل ولا رب العمل أو صاحب العمل أو المنشأة أو الشركة.
أما مشكلة فرنسا الدستورية اليوم فهي في رفض الأحزاب الحكومية الرئيسة القبول بتغيير قانون الانتخاب في اتجاه النسبية التي تتيح تمثيلاً أقرب الى العدالة لجميع الفئات السياسية للشعب الفرنسي، وذلك منعاً لدخول حزب التجمع الوطني الذي يمثل 25 بالمئة من الشعب الفرنسي الى البرلمان، وهي حجة تعبر عن وجود أوليغارشية سياسية وإعلامية تتحكم في مفاصل الحكم والسلطة.
فرنسا لا تملك اليوم برلماناً حيوياً، فهو منسحق تحت وطأة ثقل الأغلبية الحاكمة التي تهيمن على ثلاثة أرباع الجمعية الوطنية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار النظام الفرنسي الرئاسي والسلطات الكثيرة التي يعطيها للرئيس المنتخب مباشرة من الشعب، نصل الى أن هذا البرلمان بالذات لا يمثل سوى الليبراليين من اليسار واليمين، وإذا أضفنا أن الأحزاب الحاكمة منذ الجنرال ديغول لم تعد تؤمن بالاستفتاءات الشعبية التي هي جزء رئيسي من نظام الجمهورية الخامسة الذي أسسه ديغول عام 1958، وأن الاستفتاء الأخير الذي اضطرت هذه النخبة السياسية على تنظيمه حول الدستور الأوروبي عام 2005، داست على نتائجه التي انتهت لغير صالحها رغم الحملة الإعلامية الضخمة لصالح الموافقة على هذا الدستور.
اليوم المشهد السياسي في فرنسا متوزع بحسب أصابع اليد الخمسة، تشكيلة أحزاب خماسية تحظى بتصويت الشعب الفرنسي هي: حزب الرئيس ماكرون الجمهورية الى الامام ويشمل التجمع الليبرالي من اليمين واليسار، حزب الجمهوريين أي اليمين الكلاسيكي والوسط، الحزب الاشتراكي والخضر وهم الديموقراطيون الاجتماعيون، حزب التجمع الوطني وهو تيار اليمين القومي، وحزب فرنسا الأبية وهو تيار اليسار الراديكالي والشعبوي. لكن الجمعية الوطنية الفرنسية التي يبلغ عدد النواب فيها 577 منهم 400 نائب تقريباً يمثلون الأغلبية الحاكمة، 104 نائب يمثلون اليمين الكلاسيكي (الجمهوريون)، و45 نائباً من اليسار الاجتماعي، و17 نائب لحزب فرنسا الأبية، و6 نواب لحزب التجمع الوطني، أي أن 25 بالمئة من الشعب الفرنسي ممثلين بـ 6 نواب فقط، و 19 بالمائة من الشعب الفرنسي ممثلين بـ 17 نائب فقط، بما مجموعة 23 نائب يمثلون 44 بالمئة من الشعب الفرنسي، و 550 نائب يمثلون 55 بالمئة من الشعب الفرنسي، فهل هذه جمهورية ديموقراطية شعارها: حرية، مساواة، اخوة، أم أوليغارشية متحكمة ومهيمنة على الجمهورية والدولة والسلطة والسياسة والاعلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة


.. قوات الاحتلال تعتقل شابا خلال اقتحامها مخيم شعفاط في القدس ا




.. تصاعد الاحتجاجات الطلابية بالجامعات الأمريكية ضد حرب إسرائيل


.. واشنطن تقر حزمة مساعدات عسكرية جديدة لإسرائيل وتحذر من عملية




.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را