الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعد ما بعد الحداثة/الحداثة المتذبذبة

ربيحة الرفاعي
كاتبة وباحثة

(Rabiha Al-refaee)

2019 / 1 / 22
الادب والفن


في رؤيته أن ما بعد الحداثة هو استمرارية للحداثة التي لم يستكمل مشروعها بعد ، يقول محمد أركون أن الذين قطعوا مراحل الحداثة ومعاركها التنويرية الحاسمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لتحقيق استقلالية العقل بالقياس للاهوت القوسطي القديم، لم يستنفدوها بعد، لأن الدولة حلّت محل الدين، ولم يحصل العقل على استقلاليته بالقياس للدولة.
ويضيف أركون " إن بعضا ممن يدعون إلى ما بعد الحداثة، يريدون ضمنيا القضاء على مشروع الحداثة والطاقة التحريرية الهائلة التي ينطوي عليها. إنهم يريدون تصفية الحسابات مع الحداثة والعودة إلى ما قبل الحداثة. إنهم يحنون رجعيا إلى الواء. وهذه حال اليمين المحافظ أو المتطرف في ألمانيا وفرنسا وعموم أوروبا. إنهم لم يؤمنوا يوما بالحداثة وقيمها". مشيرا أن ثمة شيئا جديدا يريد أن يولد، وأن بالإمكان التكهن به واستشفاف ملامحه التي بدأت تتجلى في الأدب والفكر والفلسفة والفنون التشكيلية والتعبيرية وغيرها .
ولعل في حديث أركون ما يشي بحالة التأرجح التي تشهدها المرحلة ما بين "الحماس الحداثي وسخرية ما بعد الحداثة" تلك التي يتحدث عنها تيموثوس فيرمولين و روبين فاندين آكر في دراستهما بعنوان "ملاحظات على الحداثية المتذبذبة" المنشورة في مجلة الجماليات والثقافة، والتي أطلقا عليها مسمى الحداثة المتذبذبة metamodernism مشيران في مقدمة الدراسة إلى أن سنوات ما بعد الحداثة قد مضت، وأن تلك الحداثة المتذبذبة تتجلى بوضوح -لا حصريا- في الانعطافة الرومانتيكة الجديدة في تصميمات هرتسوغ و دي موورن لمنشآت باس جان آدر، وفي فنون ديفيد ثورب التصويرية، ولوحات لاكاي دوناشي وأفلام ميشيل غوندري.

وينطلق الباحثان من مقتطفات من كلمة باراك أوباما "نعم، نستطيع التغيير" في اجتماع اللجنة الديمقراطية 28/1/2008، ومقالة جيري سالتز " تصالح الإخلاص والسخرية" في مجلة نيويرك 27/5/2010 ، ليتحدثا عن تعثر النظام الإيكولوجي* بشدة، وخروج النظام الاقتصادي عن السيطرة بتزايد. وعدم استقرار الهياكل الجيوسياسية التي كانت دائما متفاوتة. وإعراب الرؤساء التنفيذيين والسياسيين في كل فرصة عن رغبتهم في التغيير. والصداح بـ"نعم نستطيع" في كل لقطة، وتوجه المخططون والمهندسون المعماريون لإحلال المساحات الخضراء في تصميماتهم. وتخلي أجيال جديدة من الفنانين عن جماليات التفكيك وإعادة التعبير أو الإرداف والمعارضات الأدبية لصالح المفاهيم الجمالية-الأخلاقية لإعادة الإعمار، والأسطورة، والتعالقات البينية . تلك الميول والتوجهات التي لم يعد ممكنا تفسيرها بشرط ما بعد الحداثة، لأنها تعبر عن أمل حذر غالبا، وإخلاص متكلف أحيانا يلمح لتركيبة أخرى من المشاعر، ويشي بخطاب مختلف. أما التاريخ فإنه يتحرك بسرعة لما بعد نهايتة المتسرَّع في زعمها .
تقول ليندا لوشتن في خاتمة الطبعة الثانية من كتابها سياسات ما بعد الحداثة: " لقد مرت لحظة ما بعد الحداثة، حتى لو استمرت استراتيجياتها الخطابية ونقدها الأيديولوجي في العيش - كما هي الحال في الحداثة- في عالمنا المعاصر في القرن الحادي والعشرين. فالفئات التاريخية الأدبية مثل الحداثة وما بعد الحداثة هي بعد كل شيء، علامات استدلالية فقط نخلقها في محاولاتنا لرسم التغيرات الثقافية والاستمرارية. بعد ما بعد الحداثة يحتاج إلى تسمية جديدة خاصة به" .
ويناقش باحثا "ملاحظات حول الحداثية المتذبذبة" ما أسمياه بالجدل حول الزوال المزعوم لما بعد الحداثة، والبروز الظاهر لحداثة أخرى، مشيرين إلى أن -هذه الحداثة الجديدة- تتذبذب بين الالتزام الحديث المعتاد وانفصال ما بعد الحداثة بشكل ملحوظ. ويشيران إلى رؤية بعض النقاد أن نهاية ما بعد الحداثة جاءت نتيجة لأحداث مادية مثل تغير المناخ والأزمات المالية (التهديد الثلاثي للأزمة الائتمانية) والهجمات الإرهابية والثورات الرقمية. ويرى الباحثان أن لتلك الأزمات أثر معاكس لأنه يثير الشك ويحرض على التقدم خروجا من ما بعد الحداثة للدخول في الحداثة المتذبذبة.
ويضيف صاحبا مصطلح الحداثة المتذبذبة metamodernism أنها/الحداثة المتذبذبة تتحرك لأجل التحرك. تحاول على الرغم من وعيها بفشلها المحتوم، وتبحث للأبد عن الحقيقة التي لا تتوقع العثور عليها مطلقا، ووجوديا تتأرجح الحداثة المتذبذبة بين الحداثة وما بعد الحداثة، بين حماسة الحداثة وسخرية/مفارقة ما بعد الحداثة. المفارقة، بين الأمل والسوداوية، بين السذاجة والمعرفة، بين التعاطف واللامبالاة، بين الوحدة والتعددية، بين الشمولية والتشرذم، بين الصفاء والاختلاط. وبتأرجحها إلى وعن، تقدما وعودة، تفاوض الحداثية المتذبذبة بين الحداثية وما بعد الحداثية. وينبه الباحثان لضرورة عدم فهم هذا التذبذب بوصفه توازناً، فهو تأرجح بندولي بين أقطاب لا تحصى. وفي كل ميل لحماس الحداثة المتذبذبة نحو التعصب، تشدها الجاذبية للوراء باتجاه المفارقة؛ وفي اللحظة التي تميل فيها مفارقتها باتجاه اللامبالاة تجرها الجاذبية رجوعا الحماسة.
وعليه فإن إبستمولوجيا الحداثية المتذبذبة؛ التي تلخصها فلسفة "كانت" كما لو أن as if ، ووجوديتها البينية التي تقدم شرحها، ينبغي أن تدرك بوصفها ديناميكية كلاهما معا ولا أحد منهما في ذات الوقت، الحداثة وما بعد الحداثة معا، ولا هذه ولا تلك في الوقت .
وكما عبّرت الحداثة وما بعد الحداثة عن نفسيهما بمجموعة من الاستراتيجيات والأساليب المنافسة، فإن الحداثة المتذبذبة –يقول الباحثان- تتجلى من خلال مجموعة من الممارسات المختلفة، إحدى أهمها هي الأدائية التي يصفها الأماني راؤول إشلمان بالخداع المقصود للذات للاعتقاد بشئ أو التجانس معه أو حلّه على الرغم منه، ممثلا على ذلك بانبعاث النزعات الإيمانية في الفن، وإعادة اختراع الشفافية والحركية في العمارة. وفي إطار الأدائية
"يتم إنشاء الأعمال بحيث يكون أمام القارئ أو المشاهد منذ البداية خيار واحد إلزامي للمشاكل التي أثيرت داخل العمل. وبعبارة أخرى، يفرض المؤلف علينا حلا معينا باستخدام الوسائل العقائدية أو الشعائرية أو غيرها من الوسائل القسرية الأخرى. ولهذا أثران فوريان. يقطعنا الإطار القسري عن السياق المحيط به، وإن مؤقتا، ويجبرنا على العودة إلى العمل. لنتجانس بمجرد وجودنا فيه أو يتفاعل مع شخص، فعل، أو وضع بطريقة لا تكون معقولة إلا في حدود العمل ككل” . وهناك أيضا ما أسماه إيمرسون "جلالة الغرابة" التي يصنعها المبدع حين يقدم عمله مصالحا فيه بين السخرية والمفارقة من جهة والإخلاص من جهة ثانية، وهو ما لاحظه وتحدث عنه الناقد الفني الأمريكي الرائد جيري سالتز في مقالته " المصالحة بين السخرية والإخلاص".
وأيضا ما أسماه الناقد الثقافي يورغ هيسر "المفاهيم الرومانسية"، حيث لاحظ أن الفن المفاهيمي العقلاني المحسوب يحل محله بشكل متزايد فن العواطف والوجدانيات المجردة وميل لخلق أوهام وجدانية لا يمكن أن تتحقق.
ويرى نيكولاس بوريوود أن تعدد استراتيجيات ما بعد الحداثة يدل على تعدد الهياكل الشعورية، التي يجمعها التأرجح، المفاوضة الفاشلة بين قطبين متقابلين، وفي محاولاتها الأدائية لتحدي القوانين الكونية وقوى الطبيعة لجعل البائد والفاني دائما ومستمرا، تعبر الحداثة المتذبذبة عن نفسها بشكل كبير، وفي الجهود التصورية الرومانتيكية لتقديم العادي مع الغامض، والمألوف مع ما يبدو غير مألوف تعرض نفسها بشكل أقل إدهاشا، كما المفاوضات غير الناجحة بين الثقافة والطبيعة. ولكن هذه الممارسات تتم للوفاء بمهمة يعرفون أنهم لن يستطيعوا، ولا ينبغي لهم أن ينجزوها أبدا.. إنها توحيد قطبين متعارضين .
والخلاصة -وفقا لصاحبا مفهوم الحداثة المتذبذبة- أنه يمكن القول أن فهم الحداثة المتذبذبة -عند نهاية عقد حاول فيه كل فيلسوف، ومنظر ثقافي، وناقد فني تصور آثار مابعد الحداثة- قد عفا عليه الزمن وفي غير محله، وإذا كان ثمة من لا يزال مصرا على تصورها جديدة رغم المحاولات العديدة التي اعتبرتها غير ذلك، فهو نوع من الاستعراض. وعليه فإن من المفارقة أن تقصينا في الخطابية التي من خلالها يمكن تفسير التوجهات الجيوسياسية الحالية، والإدراك الذي تعبر به الفنون عن نفسها؛ أدت بنا للتخوفات الثلاث التالية: تعمد الوجود خارج الزمان، وتعمد الوجود خارج المكان ، والتظاهر بأن اللاوقتية والانزياح المكاني المرغوبتين ممكنتان رغم أنهما ليستا كذلك .
إن الحداثة المتذبذبة ببينيتها المتأرجحة هي انثيال فيوض من الحوامل الشعورية التي لا تنتمي لأي اتجاه؛ مكان ولا مكان، أرض بلا حدود، وموقف بلا معطيات، هنا وهناك وفي لا مكان في وقت واحد، فإذا كانت الحداثة تشير لترتيب زماني، وما بعد الحداثة تدل على تداخل مكاني، فإن الحداثة المتذبذبة يجب أن تفهم على أنها زماكانية " كلاهما-لا أحد منهما" المنتظمة الفوضوية. والحداثية المتذبذبة تستبدل معالم الحاضر بحضور مستقبلي بلا مستقبل، وتستبدل حدود المكان بحدود مكان سريالي بلا مكان، لأن ذلك هو مصير إنسان الحداثة المتذبذبة ؛ أن يطارد أفقا ينحسر إلى الأبد .

راجع
أركون، محمد. ما بعد الحداثة حنين إلى ما قبل الحداثة. من كتاب مابعد الحداثة
Vermeulen, Timotheus & Akker, Robin Van den. Notes on metamodernism








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن