الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[85]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 28
الادب والفن


صبري يوسف

85. تهتمّين في أبحاثك التّرجميّة ودراساتك النّقديّة حتى بأسماء الشُّعراء والكتّاب المغمورين، وتتعاملين مع إبداعاتهم ترجمةً ونقداً بنفس الحِرَفيّة والجدّيّة والعمق الّذي تتعاملين به مع الأسماء المرموقة في عالم الأدب والإبداع، هل يمكن لأسماء غريب أن تشرح للسادة المتتبِّعين سبب هذا الاختيار والاهتمام والعناية؟

د. أسماء غريب

دعني أروي لك وللسادة القرّاء الأفاضل الكرام قبل الجواب عن هذا السُّؤال قصّة أسمّيها بـ (حكاية المجذوب وحاكم القرية):
كان يا ما كان في قديم الزَّمان وسالف العصر والأوان شيخ عارف متصوّف، سائح مجذوب يجول ويطوف بين القرى والأسواق والبيوت بلباسه الخشن وعصاه الخضراء ونعله الجلديّة القديمة وشعره الأشعث، لينثر بين النّاس كما تُنثر البذورُ شِعرَهُ وعلمَه وحكمته، وحدثَ أن وصل إلى قرية كان يحكمها رجل ذو بأسٍ شديد، فبدأ يطرق أبواب منازلها، وكان كلّما فتحَ له ساكنٌ من سكان تلك المنازل أوصد في وجهه الباب، ونهره بسبب منظره البئيس وملابسه الرَّثّة. حزن الشَّيخُ على ناس هذه القرية حزناً شديداً، وقال في نفسه، سأذهبُ إلى الحاكم علّه إذا رآني عرضتُ عليه علمي وناقشته في أمر قسوة قلوب النَّاس في القرية الَّتي يديرُ شؤونَها. وما إن وصل الشَّيخُ المجذوب إلى الحاكم حتَّى بادر حرّاس الباب إلى طرده شرّ طردة مشبعين إيّاه ضرباً، وآمرينه بألّا يعود إلى التَّسكع في مكان يقيم به الحاكم وحاشيته.

بكى المجذوب بكاءً مريراً، وعلى خلاف ما قاله له الحرّاسُ قرّر أن يعود للقاء الحاكم ولكن بشكلٍ مختلفٍ ولباس جديد. ومرّت شهور عديدة ثمَّ عاد المجذوب إلى تلك القرية وهو يلبسُ أبهى الثِّياب وأفخرَها، ورائحة المسك تضوع منه، وفي أصابعه المحابس الثَّمينة، وبين يديه سبحة فاخرة وعلى رأسه عمامة من أجوَد الأنواع، وذهب مباشرة قاصداً دار الحاكم، لكنّه هذه المرّة قبل أن ينطق بحرفٍ واحد، وجدَ الحرّاس يرحِّبون به أيّما ترحاب وكأنّهم رأوا الحاكم نفسه، وسألوه عمّا يريده، ثمّ ذهبوا مسرعين في طلب الحاكم الّذي ما إن رآه حتّى بادر إلى إدخاله إلى صالة الضّيوف، وهناك قال له المجذوب إنّه شيخ من كبار شيوخ قرية أخرى بعيدة عن منطقته، وأنّه قدم من أجل أن يعرض عليه أمور التَّعاون السِّياسي والاقتصادي بين قريتيْهما، فهشّ وبشّ الحاكمُ ووافقَه على كلِّ كلمة كان ينطق بها، واقترح عليه أن يقيم عنده قبل عودته إلى دياره ثلاثة أيام وليال ضيفاً عزيزاً، ينعمُ في بيته بما لذَّ وطاب من الولائم والخيرات. وحينما كان اليومُ الثَّالث، وحلّ موعدُ العشاء، جلس المجذوب إلى مائدة الحاكم وحولهُ ضيوف آخرين من وجهاء القرية، وكان في أكمل أناقته ولياقته، وعليه أبهى الألبسة وأغلاها، وحينما جاء الخدمُ ووضعوا الأطباقَ المتنوِّعة بادر المجذوب إلى الأكل وهو يغمسُ أكمامَهُ في المرق غمسا عميقا، وعندما استفسر الحاكمُ عن سبب هذا الفعل، وقفَ المجذوب وبدأ يخلع ملابسه قطعة قطعة ويغمسُها في الأطباق وهو يردّد: ((كُلِي وتنعّمي بلذيذ النّعمِ والخيرات يا ملابسي الفاخرة، فالنّاس هنا ينعمون برفقتكِ لا برفقتي، ولولاك لما سمح لي أحد بالجلوس معهم. أنا أيُّها السَّادة هو ذاته ونفسه ذاك الرَّجل الَّذي طردتموه قبل أربعة شهور وأشبعتموه ضرباً، أنا ذاك المجذوبُ البائس صاحب الخرقة والعصا والنّعل، ((أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُون اللَّه أَفَلا تَعْقلُون؟!)) ثم خرج عارياً أمامهم كما ولدته أمّه، تاركاً إيَّاهم غارقين في بحر من الدَّهشة والحيرة!
هكذا هي أمور النّاس على مرّ كلّ الأزمان والعصور، المظاهر تعمي أبصارهم وبصيرتهم، والذّهبُ المزيّفُ يزيغ قلوبهم، وأن يكون كاتب ما ((مغموراً)) هي فقط وجهة نظر، أيْ مغموراً بالنّسبة لمن يراه كذلك والَّذي عادةً ما يكون ممّن يُمَثِّلُ الأصوات الغالبة من عامّة الأدباء الَّذين تضجُّ بهم الأسواق الأدبيّة ومحافلها الرَّسميّة، دون أن يعلم أبداً أنّ ((المغمور)) هو ضالّة الخاصّة من الأدباء والعلماء العرفاء، لأنّهم يبحثون في التُّراب عن المعادن النَّفيسة، وفي الكهوف عن الأقمار والشُّموس، وفي الآبار والمناجم عن حجر الفلاسفة. بل أنّى له ولمن مثله أن يفقه هذا وهو منشغلٌ بمن يظهرُ على الشَّاشات من الأغبياء، ويتملّقُ لهم ويتمسّح فيهم ظنّا منه أنّه برفقتهم سيصلُ -من الأسفل طبعاً- إلى "أعلى المدارج"، لأنّ نعتَ الآخرين باللّامعين أو المرموقين هو أيضاً (وجهة نظر أخرى).
أذكر أنّني كتبتُ قبل سنوات دراسةً نقديّة معمقة عن طفل رسّام موهوب لم يتجاوز سنواته العشر، وكنتُ أعلم جيّداً أن ذلك سيثيرُ حفيظة بعض المحسوبين على الأدب والفنون في العالم العربيّ، ممَّن كانوا يرنون إلى أن أكتب عن أعمالهم بعض المقالات أو ما إليها من دراسات، لكنَّني فضّلتُ عليهم طفلاً لا يعرفُ عنه أحدٌ شيئاً، وذلك لسبب واحد فقط: لقد رأيتُ في هذا الطِّفل ما لم أرَه في غيره: لقد كانت عينهُ الثَّالثة مفتوحة، ولوحةٌ من لوحاته أخبرتني بذلك. كان الطِّفلُ عراقيّاً، وأحببتُ فنّهُ كثيراً، وأحببتُ أيضاً أن أفرِحَ قلبهُ اللّطيف الرّائي بكتابتي عنه وسأكون سعيدة أكثر حينما سأضمُّ ما كتبتُه عنه إلى الجزء الثّاني من كتابي النقدي (كواكب على درب التبانة)، بجانب دراسات أخرى اهتممت فيها بأسماء عالميّة شامخة في سماء الأدب والفلسفة واللّاهوت.

إلى جانب هذا الطفل أذكر أنَّني أيضاً كتبتُ عن شاعر آخر لم يصدر له بعدُ أيَّ ديوان شعريّ بسبب ظروفه المادِّيّة، فلامني أحدهم من الأدباء "الرَّسميّين" جدّاً، ممَّن يعتنون كثيراً بربطات عنقهم، وتسريحة شعرهم، لكنَّني مضيتُ قُدُماً وأنا أراه يسقطُ من عيني ويقع في كأس من ماء ولسان حالي يقول: ((يَا لَيتَ قَوْمِي يَعْلَمُون، بِمَا غَفَر لِي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ المكْرَمِينَ))، بل يا ليت قومي يرون ما أرى، لربَّما هانت الأمور وعرفوا أنّه لا يعنيني في شيء أن يكون المبدع ممّن يعرف مثلاً من يكونُ المتنبّي، أو من يكون الماغوط أو محمود درويش، لأنّ ما يهمّني هو النَّصّ، الَّذي قد يقول صاحبهُ شيئاً أكثر عمقاً وأهمِّيّة ممَّن سبقوه من فطاحلة الأدب. نعم، لقد رأيتُ في ديوان الشَّاعر "المغمور" ما لم يره أحد: رأيتُ قلبَ أبٍ ينزفُ بسببِ فقدانه لأطفاله وهُم أجنّة الواحد تلو الآخر بسبب مرض نادر كان يصيبهم في خلايا الدّماغ، فكان أن قرَّرتُ الكتابة عن الدِّيوان بعمق وتآزر شديديْن موجّهة حرفي إلى أطفال الشّاعر وهم هناك في عالم الرَّحمة ولسان حالي يردّد أبياتاً من ديوان شيخ العرفاء المغربيّ عبد الرُّحمن المجذوب:

((فاعل الخير هنّيه بالفرح والشّكر ديما
وفاعل الشرّ خلّيه فْعلُه يرْجْعْ لُه غريمة
لا تخمّم في ضيق الحال شوف أرض الله ما أوسعها
الشّدّة تهزم الأرذال أمّا الرجال لا تقطّعها
الأرض فدّان ربي والخَلْق مجموع فيها
عزريل حصّاد فريد مطامرُه في كلّ جهة
عيّطتْ عيطة حنينة فيّقَتْ من كان نايم
ناضوا قلوب المحنّة ورقدوا قلوب البهايم
اللّفت ولّات شحمة وتنباع بالسّوم الغالي
في القلوب ما بقات رحمة شوف لحالي يا العالي
من يامنك كحْل الرّاس ما شينك بطبيعة
السّنُّ يضحك للسّنّ والقلب فيه الخديعة)) * (ترجمة الأبيات ستكون في آخر الجواب)
نعم، (المغمور) هو وجهة نظر ليس إلَّا، وكلّ أولياء الرّحمن وأنبيائه هم من (المغمورين)، المكنوزين في البُعد الغيبيّ غير المكشوف إلَّا لأهل القلوب المتنوِّرة. ولا تنسوا أنَّ يسوعَ قد وُلد في إسطبل -أراه كالغار الحافظ للكنز الثَّمين الّذي به غيّرَ الخالقُ العالمَ -، وبالقرب منه حمار، ورجلٌ صالحٌ نجّار، واللَّائحة طويلة من هذه الأمثلة الَّتي لا تعدّ ولا تحصى، لذا، فـ (المغمورون جدّاً) هم الّذين لديهم القدرة على إحداث التَّغيير المطلوب، لذا فلا تستهينوا بأحد من إخوتكم في الإنسانيّة يا بارككم الله!
*ترجمة الأبيات من اللَّهجة الدّارجة المغربيّة:

((منْ يفعلُ الخيرَ هنِّئْهُ بالفرح والشُّكر الدّائم،
ومنْ يفعلُ الشرَّ دعه، فإنّ فعله لن يعود عليه سوى بالنّدم والهزائم.
لا تشغل بالك بضيقِ الحال،
انظرْ أرض الله ما أوسعَها
فالشّدائدُ تهزمُ القوم الأرذال
ولا تنال أبداً من أحرار الرّجال.
الأرض حقلُ ربّي والخَلْقُ مجتمعٌ فيها،
عزرائيل حصّاد فريد ومطموراتُه في كلّ جهة.
ناديتُ نداءً خفيّاً حنوناً فأفقتُ النَّائمينَ
نداءً سمعه أصحاب القلوب الطَّيِّبة فاستفاقوا
وسمعه أصحاب القلوب الغافلة
فازدادوا نوماً وشخيراً كالبهائم.
اللّفتُ الأبيضُ أصبح شحماً
يباع في الأسواق بأغلى الأسعار
انعدمت الرّحمة من القلوب
فانظر أيها العليّ إليّ وأرأف بحالي
لا تثق بالنَّاس كثيراً
السّنُّ يضحكُ للسّنّ والقلب فيه الخديعة)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق