الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطينية تمتلك ثلاثة متاحف خاصة في قرطبة

سميح مسعود

2019 / 1 / 31
الادب والفن


تُعرف المتاحف حسب مصادر المجلس الدولي للمتاحف"ايكوم" بأنها مؤسسات ثقافية لجمع وعرض التراث الحضاري، الفني والطبيعي والصناعي والتاريخي من قرون غابرة، لتعريف الأجيال المتلاحقة على ما طواه الزمن البعيد من أنماط حياة الأمم السابقة في شتى المجالات، بما في ذك أبنيتهم وفنونهم ومخلفاتهم المادية بمختلف أنواعها المتوارثة.
وزيارة المتاحف على جانب كبير من الأهمية، تساعد على تعميم الثقافة ونشر المعرفة، وتنشيط الحركة الفنية والعلمية،كما تساهم في تنمية الحس الجمالي والذوق الفني لدى الزائر العادي للمتاحف، بغض النظر عن خلفياته الثقافية، ولهذا تشكل المتاحف حسب مصادر"اليونيسكو" أداة أساسية لتحقيق التنمية الثقافية، والحفاظ على التراث الثقافي الإنساني وحمايته ونشره.
وتقسم المتاحف إلى متاحف حكومية وأخرى خاصة، وتعتمد المتاحف الخاصة على الجهود الشخصية لهواة جمع التحف والمقتنيات التراثية، التي يفوح منها عبق التاريخ،ولهذه المتاحف أساليبها في استقطاب الزوار،كما تنال دعم وتسهيلات الجهات الحكومية المختصة، حتى تتمكن من تحقيق غاياتها.
زرت مدينة قرطبة الإسبانية الشهيرة بالمتاحف وشواهد الحضارة الأندلسية، وشاءت الصدف أن أتعرف على ثلاثة متاحف خاصة وقفت وراء تأسيسها سيدة فلسطينية، اسمها سلمى التاجي الفاروقيّ... تمكنت بالتعاون مع زوجها المفكر الفرنسي الراحل روجيه جارودي من تأسيس متاحف خاصة بهما، تعرفت عليها من النشرات السياحية الصادرة عن الجهات الحكومية الرسمية، كمتاحف لها مكانتها الرفيعة وتميزها منذ عقدين ونيف من الزمان، ولها بصمتها الخاصة ضمن معالم قرطبة التاريخية المهمة.

زرت في البداية متحف "البيت الأندلسي" وموقعه في شارع "خودييوس 12" في المدينة القديمة، على مقربة من تمثال ابن رشد، ونصب تذكاري لولادة بنت المستكفي والشاعر ابن زيدون.
اشتريت تذكرة للدخول، ودلفت إلى الداخل، وجدت بصمات كثيرة تدل على أن البيت تاريخي يعود إلى القرن الثاني عشر، له فناء فسيح تتوسطه نافورة، ينبثق الماء منها ويسقط على جنباتها بانسياب، وفيه عدة غرف، تتسم في خصائصها المعمارية بالذوق الفني الأندلسي الرفيع، وبخاصة أعمدتها وأقواسها المزينة بقطع الزليج السيراميكية، وقد تمّ ترميم البيت من قبل صاحبته السيدة سلمى التاجي الفاروقي وتمَّ افتتاحه كمتحف في عام 1997.
جلت ببصري بكل جوانبه، وشاهدت ما يضمه من قطع أثرية أصلية، من تحف ولوحات وأثاث وقطع فسيفساء وكتب قديمة تراثية، وبعض النقود والعملات الفضية، التي كانت متداولة في الأندلس وقت ازدهارها، وأدوات استخدمت في صناعة الورق في زمن مضى، كانت فيه قرطبة رائدة في صناعة الورق، خاصة أنّ العرب هم الذين أدخلوا الورق إلى الأندلس وأوروبا لأول مرة.
اتجهت بعد ذلك إلى الشخص المسؤول عن المتحف، وأبديت رغبة بالتعرف على السيدة سلمى، وفي الحال اتصل بها عبر الهاتف، وجاءتني من مكتبها في الطابق الثاني، تعرفت عليها، ودعتني للجلوس معها في إحدى الزوايا، ثم أفاضت بالتحدث عن مقتنيات المتحف، وفي سياق حديثها أعلمتني أنها أسست في البيت المجاور له، متحفًا آخر للكيمياء، يختص بالتعريف بتطور هذا العلم إبّان ازدهار الحضارة الأندلسيّة، بعدها حدثتني عن المتحف الثالث الذي أشرف على تأسيسه زوجها الراحل روجي جارودي في "القلعة الحرّة"، بموجب عقد مع بلدية قرطبة مدته 49 عاماً.
أسمعتني الكثير عن قرطبة اليوم، التي استقرت فيها منذ ثلاثة عقود، كما تحدثت في تواصل سردي بأبعادٍ متعددة، عن ماضيها قبل ألف عام كمدينة متميزة في أوج مجدها وإشعاعها الحضاري، كان يسكنها نحو ربع مليون إنسان، ويرى بعض المؤرخين المعاصرين أنَّ عدد سكانها تجاوز نصف المليون.

واصلت حديثها مُبيِّنة أنَّ قرطبة كانت تزخر بأحياء نموذجيّة على اتساعها، فيها قصور ومنازل بذوق فني رفيع، وحدائق وحمامات عامة، وفيها شوارع مرصوفة بالحجارة، ومضاءة ليلًا بينما كان الظلام يعم أوروبا، كما كانت تزهو بمدارس ومستشفيات ومكتبات قلَّ مثيلها، وجامعة من أوائل الجامعات في العالم، يؤمها الطلاب من داخل الأندلس وخارجها.
استمتعت بما تنعم به ذاكرتها من معلومات عن الحضارة الأندلسيّة، ردّدتها على مسمعي في سياق منظومة معرفيّة متشابكة وشائقة، سجلت جزءًا منها على أوراقي، وتبين لي من أحاديثها على مستوى الدلالة والمعنى مدى عشقها لمدينة قرطبة، وما يستتبع ذلك من عشق للأندلس بموروثها الغني بعناصره الروحية والمادية.
بعدها ودعت محدثتي، واتجهت إلى متحفها الثاني، متحف "الإكسير" الخاص بعلم الكيمياء عند العرب، وجدت تمثالًا للكيميائي جابر بن حيّان عند مدخل المتحف، وهو أول من استخدم الكيمياء في التاريخ، عاش في الكوفة وتنحدر أصوله من سوريا ولا علاقة له بقرطبة، لكن كتبه ودراساته اشتهرت في الأندلس وترجمت إلى اللاتينية في العصور الوسطى، وبقيت تدرس في أوروبا لقرون عديدة.
وبينما كنت أتجول في المتحف وجدت نشرة تعريفية ترصد إسهامات (ابن حيّان) في علم الكيمياء، يتضح منها أنه اخترع في زمانه عددًا من الحوامض، منها "حامض الكبريتيك" الذي أسماه "زيت الزّاج"، وهو الذي عرف العالم على ماء الفضة، وماء الذهب، وملح النشادر والبوتاس، وتكرير المعادن، وصبغ الأقمشة، ودبغ الجلود، وطلاء القماش المانع لتسرب الماء، وغيرها من الإسهامات الأخرى.
وثمة إشارات واضحة في المتحف إلى إسهامات علماء الأندلس في علم الكيمياء، منهم: ابن أسد الخشني، ومسلمة بن أحمد المجريطي الذي تمتع ببراعة في علم الكيمياء في المجال النظري، وفي ميدان التجارب العملية التي كان يجريها بنفسه، وأضاف من خلالها الكثير لعلم الكيمياء، كما يتضمن المتحف على معلومات عن علماء آخرين، ومجموعة من الأجهزة الكيماوية القديمة التي ابتكرها العلماء العرب، ومجسمات لأشخاص منهم يتحدثون عن الكيمياء، عبر أجهزة حديثة يسمعهم من خلالها زوار المتحف.
وبينما كنت أنظر بإعجاب إلى بعض الأدوات الكيماوية المعروضة في المتحف، التفت إليّ أحد الزوار الإسبان واسمه " غونزالو" قائلًا باللغة الإنجليزية: "هذا المتحف مفخرة من مفاخر قرطبة"
ثم أضاف مبتسمًا: "وصاحبته مفخرة لفلسطين. "
وافقته على رأيه بالمتحف وبصاحبته، واقترحت عليه أن نزور معاً متحفها الثالث...وافق على اقتراحي واتجهنا من فورنا إلى القلعة الحرة، على الجهة الجنوبية من القنطرة الشهيرة الممتدة فوق نهر الواد الكبير، وصلناها وابتعنا تذكرتين للدخول، ومن ثم دخلنا وأول ما لفت نظري وجود كتب تعريفية كثيرة معروضة للبيع باللغة الإسبانية وبعض اللغات الأوروبية، منها كتب عن ابن رشد، وعبد الرحمن بن خلدون، ومحيي الدين بن عربي، وموسى بن ميمون، وابن حزم.
بعدها دخلنا قاعة كبيرة في الطابق الأرضي، يمكن تسميتها بقاعة الحوار الحضاري، فيها تماثيل طولية لأربعة من مشاهير الفكر والفلسفة في التاريخ الأندلسي، وهم: ابن رشد، وابن عربي، وابن ميمون، وألفونس العاشر الملقب بالحكيم، يتحاورون ويسلطون الضوء على أفكارهم التي تدعو إلى المحبة والتآلف والتعايش المشترك بين الناس على اختلاف منابتهم ومعتقداتهم، تابعت حوارهم باللغة العربية باستخدام سماعات خاصة تثبث على الأذنين، كما تابعهم غونزالو باللغة الإسبانية باستخدام السماعات نفسها.
اتجهنا بعد ذلك إلى غرف أخرى، دخلنا واحدة في الطابق الأرضي، معروض فيها اسطرلابات، وفي صالة أخرى أرضية عند المدخل، وجدنا فيها خارطة الإدريسيّ، ومجسّمات للنواعير، ثم اتجهنا بعد ذلك نحو الطابقين الثاني والثالث، مررنا في غرف كثيرة، فيها مجسمات لقصر الحمراء، ولآثار قرطبة من أيام العرب في الأندلس، متشابكة بمجسمات لأشخاص وتفاصيل دقيقة عن تلك الأيام بمنتهى الدقة والإتقان.

كما لاحظنا وجود مقتنيات من السّجّاد القديم، عدّة سجّادات منها مُعلّقة على الجدران، وعلى مقربة منها أقمشة وحرير مقصب، تُذكر بإدخال العرب لحرف كثيرة لم تكن معروفة في الأندلس من قبل، منها حياكة السجاد اليدوي والأقمشة القطنية.
ولفت نظري أيضًا وجود آلات موسيقية معروضة في خزائن زجاجية خاصة، بينها آلة عود قديمة وربابة أندلسية مزخرفة، وقد استمتعت في غرفة الآلات الموسيقية بسماع موشحات أندلسية، تبثها سماعات خاصة متوفرة للزوار، منها موشح" يا ليل الصب متى غدُه/ أقيام الساعة موعدهُ ؟"

بعد نحو ساعتين غادرت مع غونزالو متحف "القلعة الحرّة" ... عبر عن إعجابه بالمتحف بنتف من الكلمات قالها باللغة الإنجليزية، وفي الحال اقترحت عليه أن نُسمع رأينا بالمتاحف الثلاثة للسيدة سلمى، وهكذا اتجهنا معاً للقاء بها في مكتبها في متحف "البيت الأندلسي".

عبرنا لها عن إعجابنا بالمتاحف الثلاثة، رددنا على مسمعها كلمات مفعمة بالفخر بما حققته من نجاحات متميزة، نظرت لنا بعينيها المشرقتين،وبدت في ذروة سعادتها، ثم تحدثت عن ذكرياتها في فلسطين مدفونة عميقاً داخلها، لها أثرها البليغ على مسارات حياتها في دروب الشتات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في