الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البطل الهوليودي في عصر النيولبرالية

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2019 / 2 / 5
الادب والفن


في يناير عام 1981، أصبح ممثل الكاوبوي الهوليودي الذي وشى بزملائه السينمائيين أمام لجنة التحقيق المكارثية رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وقبل تولي رونالد ريجان رئاسة أمريكا بعام ونصف، انتُخبت مارجريت ثاتشر رئيسة لوزراء بريطانيا في مايو 1979. ومنذ ذلك الحين تم إطلاق يد الرأسمالية في العالم أجمع: فتسارعت سياسات الخصخصة، ورُفعت القيود الحكومية عن الاستثمار في السلاح والبترول، ومُنحت الشركات الكبرى مزيداً من الإعفاءات والامتيازات، وتقلصت اعتمادات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، وتم تحجيم دور النقابات العمالية، وانتُهجت سياسات مالية واقتصادية أدت إلى تفاقم البطالة وطحن الطبقات الفقيرة. أصبح الهدف الأول والأعلى هو توليد المزيد من الثراء، وتُرك رأس المال ليتوحش، ويستنزف الموارد الطبيعية، ويتسبب في إفلاس دول، وحروب أهلية، وأزمات اقتصادية عالمية كل بضع سنوات، وفقر عام نتيجة حث الناس على الاستهلاك المفرط والإنفاق المتهور.

ومن وقتها أيضاً والعالم يشهد تزايداً للسمة التجارية للفن، وعلى نحو أدى إلى اختلاف القالب المعياري لأفلام هوليود الشعبية اختلافاً جذرياً عن أفلام هوليود الكلاسيكية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. ففي ظل الاقتصاد السياسي للنيولبرالية وإطلاق الحرية الكاملة لرأس المال الجامح، طُلب من السينما أن تقوم بدور الأداة المروجة، ولعب دور "الحليف النافع"، وإضفاء النبل على عقيدة النيولبرالية بواسطة السينما الشعبية: بالترويج لأخلاقيات الجشع، ونشر ثقافة الإفراط الاستهلاكي، وطمس الحريات الحقيقية، والهويات المختلفة، وجعلها تابعة ذليلة لهوية واحدة أوليجاركية مهيمنة. ولأن اقتصاديات الفن خضعت على نحو قاس لآليات السوق، أصبح الفن يحيا ويموت وفقاً لقرارات ملايين المستهلكين بشراءه أو عدم شراءه، ودُمجت السينما داخل منظومة الإنتاج العام للبضائع الاستهلاكية، التي تتغير على الإيقاع السريع للموضة، والتي تقررها شركات تنفق بسخاء على سلاحها الدعائي لدفع الزبائن لمزيد من الاستهلاك.

البطل في سينما هوليود الشعبية، والمتفرج
إن الفكرة التي لدينا عن طريقة تصنيع الأفلام الشعبية في هوليود، والتي تضع نصب أعينها المستهلكين الذين تستهدفهم، لدرجة عرض النسخ الأولى من تلك الأفلام على عينات من الجمهور وقياس ردود أفعالهم، ثم تعديل سياق الدراما أو نهايتها حسب ردود الأفعال تلك قبل طرح الفيلم في الأسواق؛ هذه الطريقة لابد وأن تحدد سمات بطل الفيلم الشعبي لتعكس ما يتطلع إليه مستهلك/زبون الفيلم باعتباره نموذجاً جديراً بالاحتذاء. ولكن ما هي أنواع الأبطال في تلك الأفلام؟

لنتأمل في التشكيلة التالية: المراهق الذي ينقذ العالم من الوحوش والمسوخ الآتية من الفضاء البعيد لتدمير كوكب الأرض، والذي يجمع بين سمات المهرج الأحمق وبين أشجع رجل في العالم Transformers (سلسلة أفلام المتحولون، 2007-2014). بطل كمال الأجسام الأبله الذي يخطف ويقتل الأغنياء من المهاجرين لأمريكا من أجل الاستيلاء على أموالهم وممتلكاتهم Pain and Gain (الألم والربح، 2013). المراهقات اللائي يسرقن المطاعم من أجل قضاء أجازة العام الدراسي والاصطياف في منتجع للعراة Spring Breakers(مصطافو الربيع، 2012). عصابة المراهقين الذين يسطون على قصور نجوم ومشاهير هوليود The Bling Ring (عصابة المشاهير، 2013). سمسار البورصة الفاسد مدمن المخدرات الذي ينصب على أمريكا كلها The Wolf of Wall Street (ذئب ول ستريت، 2013). المراهقون المنغمسون في الجنس والعلاقات الحسية The American Pie (سلسلة أفلام الفطيرة الأمريكية، 1999-2012). الشرطيان الأسودان الساذجان اللذان يدهسا جثث الموتى تحت عجلات سيارتهما أثناء المطاردات، ويفجران المباني ويطلقان النار على العصابات الأجنبيةBad Boys (أولاد مشاغبون1،2 - 1995- 2003)..إلخ

مالذي يمكن أن يربط كل هذه الشخصيات من الحمقى والمجرمين والمرضى النفسيين؟ إنهم جميعاً يعلقون القواعد الأساسية للتهذيب، والحس الإنساني السليم: فيخدعون، ويعذبون، ويتلاعبون، ويسرقون، ويقتلون بدون أي قيد أخلاقي، بل وعلى نحو متبجح وعلني. إنهم جميعاً واعون لما يقترفونه من جرائم، دون أي معاناة أو صراع روحي. إنهم يستمتعون باقتراف الجريمة.

صحيح أنه طالما كان هناك تعاطفاً تقليدياً يحمله الأدباء والفنانون في أنفسهم للأوغاد والمحتالين، لكن تلك الشخصيات كان يحددها دائماً إطار الدور الهزلي وسماته، أو دور الشرير اللازم لدفع القصة إلى الأمام. لكن مع السينما الشعبية الهوليودية الآن يبدو أن المراهق الأحمق، والشاب محدود الذكاء، والأبله الكسول، واللص النَّهَاب، والسوقي، ومدمن المخدرات قد ارتقوا ليحتلوا مواقع البطولة بعد أن كانوا في موقع ضيف الشرف. إن المنظور العام للفيلم كله يُروى من وجهة نظر هذا البطل الجديد، ومبادئه هي التي تحدد القيم التي يتبناها الفيلم (1).

ونستطيع أن نقرأ نسب المشاهدة المرتفعة لتلك الأفلام بوصفها مؤشراً على احتياج المجتمع النيولبرالي إلى هذا الصنف من الأبطال على الشاشة. إنهم يدفعون مجتمع المشاهدين/المستهلكين إلى البقاء داخل مجتمع السوق؛ فالفيلم يمثل الحلم والأمل بأن يتحقق للمُشاهد/المستهلك ما يحققه الأبطال البلهاء والسخفاء والمجرمين من نجاح اجتماعي، ومال، ونساء، وانتقام مع الأعداء، ووفرة في المخدرات، وصحة طيبة..إلخ. إن المجتمع برمته يتم النظر إليه في هذه الأفلام على أنه سوق -لا وطن- مفتوح للسلب والنهب. إن اللص هو أيضاً يحتاج إلى السوق كمكان لممارسة المهنة ومورداً للرزق، وكمكان للتسوق والإنفاق، وللراحة والاستجمام. ولن يكون غريباً، والحال كذلك، أن تفتقد هذه الأفلام -وبشكل صارخ- لأي صراع حقيقي مع المعاني الكبرى، أو لأي بعد وجودي.

ولأن هذا النوع من السينما بليد، ورأس المال المسؤول عن صناعته يدرك هو نفسه هذه الحقيقة، فإنه يحاول القيام بعملية تطهير داخلي لتلك الخلطة من النفايات الفنية، بمحاولة الفرار إلى الأمام وادعاء الغايات الكبرى؛ ومن هنا يقع في فخ التبشير الديني (الألم والربح)، أو البروباجاندا الترويجية للهيمنة الأمريكية على العالم Captain America (سلسلة أفلام كابتن أمريكا، 2011-2016)، وThe Avengers (سلسلة أفلام المنتقمون، 2012-2015)، وأفلام ستيفن سبيلبيرج، على سبيل المثال (2).

وعلى طريقة أفلام المخدرات والفسوق المصرية في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت تنتهي بآيات قرآنية تحض على مكارم الأخلاق، أو أفلام آل السبكي الشعبية في الألفية الجديدة، يحاول الفيلم الشعبي الهوليودي غسل ذنوبه بالتظاهر بتقديم الحقيقة المطلقة والحكمة النهائية في مشهد النهاية (كإلقاء درس أخلاقي عن أهمية الحب، أو التسامح، أو الإيثار..إلخ)، ولكنه في الحقيقة لا يقدم إلا سمة تافهة لحكمة زائفة. إن الطبيعة التافهة لهذه الحكمة يتمثل في انتهازيتها.

في نهاية فيلم (الألم والربح)، وبعد أن نعلم أن أفراد العصابة جميعاً قد نالوا عقابهم إما بالإعدام، أو بالموت في السجن، يخبرنا الفيلم أن الشخصية الوحيدة الناجية هي بطل الفيلم نفسه؛ بطل كمال الأجسام بول دويل الذي حُكم عليه بالحبس لمدة 15 عاماً، لكنه خرج من السجن قبل انقضاء العقوبة لحسن سيره وسلوكه، وهو الآن يحاول التكفير عن أخطاءه، وكل ذلك قد حدث بفضل لجوءه إلى الكنيسة وطلب الغفران بعد القبض عليه مباشرة. وتدعم هذه الرؤية التبشيرية ما تقوله زوجة التحري في نهاية الفيلم من أن بعض الناس غير قادرين على التمييز بين الخير والشر، إلا بمساعدة الكنيسة بالطبع. إن ما يقوله لنا الفيلم هو أن الحل هنا هو اللجوء للدين كسبيل وحيد لمقاومة روح الشر التي تسيطر على المجرمين. إن المنظور الأخلاقي التبشيري هنا يتجاهل كل عناصر الإجبار الهيكلية المحفورة في النظام الرأسمالي نفسه والتي تحول البشر إلى وحوش استهلاكية مسكونة بالرغبات المفرطة، ويترجم الخطيئة إلى مجرد ضعف شخصي وفردي خاص؛ أي أن الأزمة ليست في النيولبرالية ولكنها في الأزمة الأخلاقية. إن الطرح الأخلاقي هنا هو لمنع نقد النيولبرالية. وبصوت سلافوي جيجيك يمكن القول أنه محاولة للتحجيم كما يحدث في مباريات الملاكمة؛ تطويق الخصم بإمساك جسده بالذراعين لتعطيل اللكمات. إن الإشارات الأخلاقية في الفيلم يتم استخدامها لتغييب الأسباب الحقيقية والرئيسية، فيصبح فساد بعض الأفراد وجشعهم هو المشكلة، وليست ميكانزمات النيولبرالية. والتبرير التبشيري هنا يسمح للمُشاهد، والذي قد يكون من ضحايا المضاربات أو ول ستريت أو من المُسرَّحين بسبب إفلاس الشركة التي يعمل بها، يسمح له بالتنفيس عن غضبه ضد شخصيات الفيلم الفاسدة أخلاقياً، وتعمية المسؤولية الحقيقية والمباشرة لسياسات النيولبرالية نفسها: أي تكريس الوضع الحالي لعلاقات الإنتاج الاقتصادية والاجتماعية المسؤولة عن أشكال الفساد الاقتصادي والاجتماعي.

وكما يأتي السقوط فردياً يأتي الحل فردياً أيضاً: سواء على طريقة شرلوك هولمز الذي يحل القضايا المستعصية ويقدم المجرمين للعدالة في أفلام التحري، أو بالقوة الفردية المفرطة على طريقة أفلام Rambo (سلسلة أفلام رامبو، 1982-2008) وBatman (سلسلة أفلام الرجل الوطواط، 1989-2016) ، أو بالأبطال الخارقين الاستثنائيين المدعومين بتفوق التكنولوجيا العسكرية كما في (سلسلة أفلام المنتقمون) و(سلسلة أفلام كابتن أمريكا). إن الحل الفردي هنا يكرس استمرار تعمية المسؤولية الحقيقية عن الفساد والخراب، وتظل البقرة النيولبرالية المقدسة نفسها في مأمن من الذبح.

ولكن ما الذي يمكن أن ينتج عن تغييب الوعي بالأسباب الحقيقية للظلم الاقتصادي والاجتماعي؟ أو حتى إلقاء اللوم على فساد بعض التكنوقراط؛ أي على الشكل الفاسد من النيولبرالية، وليس على النظام النيولبرالي نفسه؟ يؤدي ذلك إلى ما وصفه هيجل بـ "مجتمع الرعاع": أولئك المُشوَّش وعيهم، والغير قادرين على التعبير عن حنقهم إلا في شكل عنف هدام، بلا أي قدرة على ابتكار بديل جديد للنظام الفاسد. وهو نفس ما لاحظه سلافوي جيجيك في (سنة الأحلام الخطيرة، 2012) حين وصف الاضطرابات العنيفة التي قام بها الشباب الإنجليزي في المدن البريطانية في 2011 بـ "التظاهر الصفري"؛ بمعنى أن معارضة الشباب لم تستطع أن تفصح عن نفسها في شكل بديل واقعي أو مشروع متماسك، مكتفية فقط بأخذ شكل الاضطرابات الخالية من المعنى. إنه نوع من التنفيس الأعمى في شكل أعمال شغب، وبالتعبير النتشوي: "أفعال ارتكاس"؛ أي أنها ليست أفعالاً أصيلة، ولكن ردود أفعال غاضبة يائسة وعاجزة تلبس قناعاً زائفاً للقوة؛ حسد وضغينة مقنعة في شكل كرنفالي متعال منتصر. وكأن سياسات النيولبرالية تحصر اختيار الفرد -ذو الوعي المشوش- ما بين اللعب وفقاً لقواعد النظام النيولبيرالي، أو العنف السلبي الهدام الذي لا يطرح بديلاً.

أثر الأفلام الشعبية الأمريكية على الخريطة الإدراكية للمتفرج
حقبتا الثمانينيات والتسعينيات التي شاهدنا فيها بعض الأفلام الأمريكية الناقدة لسياسات النيولبرالية تبدو الآن وكأنها بعيدة جداً في الزمان والمكان معاً. إننا لم نعد نشهد محاولات لإنتاج أفلام مثل Wall Street (ول ستريت، 1987)، أو American Psycho (المعتوه الأميركي، 2000)، أو Fight Club (نادي القتال، 1999)، أو Risky Business (عمل خطر، 1983). إن أفلام هوليود الآن تطفح بالجشع، والمزيد من الجشع؛ حتى أصبح هو القيمة العليا التي تُحدد باقي قيم الفيلم. ويبدو أن تعاليم شخصية جوردن جيكو في فيلم (ول ستريت)، الناقد مبكراً للنيولبرالية، قد تم تبنيها أخيراً حتى لدى أولئك المخرجين الذين نعرف عنهم نوعاً من الأصالة والقدرة على التعبير بحرية. إن أهم تعاليم جيكو لسمسار البورصة الشاب بد فوكس هي: "إننا لسنا ديمقراطية، إننا سوق حرة، والسوق الحرة تقوم على بيع الوهم.. هذه اللوحة اشتريتها بـ 60 ألف دولار، وأنا قادر الآن على بيعها بـ 600 ألف دولار.. إن لعبتنا هي بيع الوهم، وهي لعبة صفرية لا تتوقف إلا بالمكسب الكامل لنا والخسارة الكاملة للخصم."

هل تفعل هوليود شيئاً مختلفاً في الحقيقة عن تعاليم جيكو؟ إن الوعد في كل فيلم شعبي هوليودي هو: "المزيد من ..": المزيد من العنف، المزيد من الإباحية، المزيد من السخافة، المزيد من التقزز. في بداية فيلم This is the End (هذه هي النهاية، 2013) ، يحكي أحد ممثلي هوليود لزميله الممثل الآخر فكرة الجزء الثاني من الفيلم المشترك الذي يزمعان القيام ببطولته، فيقول: ".. ثم يهاجمك الوحش، وأتدخل أنا وأضحي بنفسي من أجل إنقاذك، فيقتلني الوحش بدلاً منك.. ثم.. ثم يأكلني الوحش..". يسأله زميله: "ولكن لماذا يأكلك الوحش بعد أن يقتلك بالفعل؟" ، فيرد: "لا أدري.. ولكن علينا أن نفكر في أكثر الأشياء تقززاً!". إن هذا المنطق بعينه هو الذي يسود هوليود الآن (3).

إن غياب الأيديولوجيا المُفسِّرة وتزييف وعي الناس وتحويلهم إلى مجرد كائنات استهلاكية طفيلية، يجعل خطوة واحدة كافية حتى يتجرد الكائن الاستهلاكي بسهولة من غطائه المتحضر ويكشر عن أنيابه الوحشية. قد تكون تلك الخطوة نتيجة ضغط نفسي أو عصبي، أو حتى خلل عقلي كما في حوادث إطلاق التلاميذ النار على زملائهم في المدارس. وتتكرس هذه الحالة أكثر مع انعزال الفرد في المجتمع النيولبرالي أمام شاشات الكمبيوتر والتليفزيون، وانحصار نشاطاته في ممارسات باهتة مستهلكة للوقت، فتصبح الطريقة الوحيدة لإعادة اتصاله بالواقع هي عن طريق وسائل تشوه شكل هذا الواقع باستمرار؛ سواء أكان ذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الإليكتروني، أو أفلام هوليود ومسلسلاتها التليفزيونية. من هنا يمكن فهم كيف تكسب أفكار التطرف الديني أراض شاسعة في المجتمعات النيولبرالية، خصوصاً لدى الفئات الأصغر سناً؛ ففي المجتمع النيولبرالي، مابعد الأيديولوجي، القائم على الإفراط في استهلاك المتعة، بإمكان شبه-أيديولوجيا مشوشة ومشوهة أن تقفز لتسد الفراغ الأيديولوجي وتملئ المعنى الغائب بسبب غياب الخريطة الإدراكية الكلية.

التماهي مع المخدرات
إن هدف التطهير الروحي الأرسطي معدوم في هذه الأفلام، فضلاً عن هدف التنوير، ولا حتى المتعة الجمالية الفنية الخالصة لذاتها. يُستبدل ذلك بهدف وحيد هو الإفراط البصري والسردي على نحو يشد انتباه المتفرج/المستهلك. إن منطق الإفراط الحالي في استخدام التقنية البصرية في الأفلام الشعبية الهوليودية، والإفراط في حشد خيوط وحبكات درامية متشابكة على نحو متعسف في ما يشبه "البوفيه المفتوح"، مع انتشار السخافة، والانحلال، وسيادة مذهب اللذة غير المستنيرة، ونسيان الدروس الكلاسيكية للأسلاف كفورد وهواكس ووايلدر وويلر وغيرهم، لا يؤدي في الحقيقة سوى إلى إشاعة أثر سيء في روح المتفرج يشبه كثيراً الأثر الذي يخلفه تعاطي المخدرات، وخصوصاً الكيميائية منها: نفس التشوش، والإرهاق، والإرباك، والعدائية (4). حتى أننا بتنا نشهد أخيراً في كثير من أفلام هوليود تسامحاً مع ثقافة تعاطي المخدرات، حتى في أفلام مخرجي هوليود الكبار من أمثال سكورسيزي في فيلم (ذئب ول ستريت)، مثلاً. إن تعاطي المخدرات أصبح لا يشكل معاناة نفسية لشخصيات الأفلام، ولا أي نوع من الصدام الروحي أو الأزمة الأخلاقية. إن كود أخلاقيات هوليود الآن يتسامح مع المخدرات والبورنوجرافيا، على عكس كود (هيز) في هوليود الأربعينيات والخمسينيات الذي كان تشدده موجهاً نحو الأيديولوجي والجنسي.

في (ذئب ول ستريت) لا يتوقف سمسار البورصة بيلفورت (ليوناردو دي كابريو) عن تعاطي كل أنواع المخدرات الكيميائية المعروفة للبشرية، بل وحتى المنتهية الصلاحية منها، ويتم تسويق وشرعنة تعاطي المخدرات كشرط لازم لتحقيق نجاحات عظيمة في مجتمع وحوش ول ستريت. يقول (هانا) سمسار البورصة المخضرم لبيلفورت في بداية حياته الوظيفية بينما يستنشق الكوكايين علانية في مطعم راق: ".. وكيف يمكن لنا أن نعمل بدون الكوكايين؟ الكوكايين والمومسات يا صديقي! هناك سران للنجاح في ول ستريت، وبدونهما ستفقد توازنك وتنهار، أو تنفجر من الداخل: الإكثار من ممارسة العادة السرية، وتعاطي الكوكايين، الكوكايين سيبقيك متيقظاً ومنتبهاً طيلة الوقت!". وفي المشهد الافتتاحي للفيلم يقدم لنا بيلفورت نفسه بالقول: "أضاجع البغايا من خمس لست مرات في الأسبوع.. وأنا أحب المخدرات، وأستهلك منها بشكل يومي ما يكفي لتخدير مانهاتن لونج آيلند وكوينز لمدة شهر: أتعاطي الكوالودز 15 مرة في اليوم للحفاظ على تركيزي، والزانكس لإزالة التوتر، والكوكايين لإيقاظي من جديد، والمورفين لأنه رائع.. ولكن من بين كل المخدرات تحت سماء الله الزرقاء هنالك واحد هو المفضل لدي بكل تأكيد.. إن قليلاً منه يجعلك منيعاً، قادراً على احتلال العالم، وغير مرئي لأعدائك، وأنا هنا لا أتحدث عن الكوكايين، بل عن الدولار!"

ولا يقدم لنا سكورسيزي طيلة الفيلم الذي تقارب مدته الثلاث ساعات أي ملمح واحد لأي عاقبة أخلاقية لانحلال سماسرة البورصة في ول ستريت أو لإدمانهم على المخدرات، مثل العاقبة الأخلاقية، مثلاً، التي كانت واضحة في نهاية فيلمه Goodfellas (الرفاق الطيبون، 1990) حين خسر هنري حياته ومستقبله وأصبح وحيداً وفقيراً ومنعزلاً. لا، إن بيلفورت في نهاية (ذئب ول ستريت)، وبالرغم من كل جرائمة المالية التي أدت إلى إفلاس الآلاف من الأسر المحدودة والمتوسطة الدخل، وبرغم كل الفساد المالي والأخلاقي الذي مارسه هو وزملائه وموظفيه، لا ينال في النهاية إلا 3 سنوات حبس في سجن مخفف الحراسة يبدو وكأنه منتجع سياحي أو ناد ريفي للأغنياء؛ حيث يمارس فيه مع زملاءه المساجين لعب التنس وينعم بحياة هنيئة مستمراً في ممارسة عمله من داخل السجن. بل ونلمس التسامح الشديد من سكورسيزي مع أخلاقيات الجشع أيضاً في مشهد النهاية، حين نرى جوردن بيلفورت الحقيقي (مؤلف الكتاب المأخوذة عنه قصة الفيلم) وهو يقدم جوردن بيلفورت الممثل (دي كابريو) للمتدربين الجدد من سماسرة البورصة، ونسمع صوت بيلفورت وهو يقول: "أنا هو أسوأ وغد قابلته في العالم، أسوأ حتى من نجوم الروك، والرياضيين المحترفين، ورجال العصابات!". إن الرسالة هنا هي أن المجرم الجنائي ينال عقابه (هنري في "الرفاق الطيبون")، بينما المجرم المالي يفلت من العقاب الحقيقي، بل ويصبح أكثر نجاحاً مثل بيلفورت الذي أصبح "أعظم مدرب لسماسرة البورصة في العالم"؛ يعطي لهم دروسه، ويبث فيهم قيمه، إنه ليس فقط مستمر في ممارسة مهنته، بل ويبث الفيروس في الآخرين أيضاً؛ فيروس الاستغلال والنصب والتخريب، وعلى نحو أكبر وأعمق وأشمل.

تراجع المخرجين الكبار أمام قيم النيولبرالية
يُعرِّف بيلفورت نفسه بما يملكه في (ذئب ول ستريت)، ونسمعه في المشهد الاستهلالي للفيلم وهو يقول: "أملك زوجة، وطفلان، وقصر، وطائرة خاصة، وست سيارات، وثلاث جياد، ومنزلان للعطلات، ويخت طولة 170 قدماً". إن الزوجة والأطفال هم من ضمن الملكية أيضاً. وبيلفورت -في الحقيقة- هو نموذج معياري لشخصية السمسار المالي في عصر النيولبرالية؛ إنه المعبر عن العصر برمته، والناطق باسم النيولبرالية التي تجعل المال هو الغاية النهائية وليست الوسيلة، إننا نسمعه في افتتاح الفيلم يقول: "إن المال لا يشتري لك فقط حياة أفضل، وطعاماً أفضل، وسيارات أفضل، ونساء أفضل، ولكنه يجعلك أيضاً إنساناً أفضل. إنه يُمكِّنك من أن تتبرع بسخاء للكنيسة، أو لحزبك السياسي، بل وتستطيع بالمال إنقاذ البوم اللعين المهدد بالانقراض أيضاً.."

إن سكورسيزي لا يقدم بيلفورت من منظور الإدانة أو التهكم كما في النظرة النقدية للنيولبرالية الموجودة لدى أفلام المخرجين الجادين في الصين وأوروبا وآسيا وبقية العالم، أو حتى لدى المخرجين الأمريكيين الواعين الذين قدموا أفلاماً في فترات سابقة تنتقد الجشع الرأسمالي والإفراط الاستهلاكي، كما في فيلم أوليفر ستون (ول ستريت)،أو فيلم (نادي القتال). لا، إننا -على العكس- نلمس تعاطفاً إخراجياً من سكورسيزي مع شخصية بيلفورت، وهو نفس التعاطف الإخراجي الذي نلمسه مع منطق الجشع في أفلام أخرى مثل (عصابة المشاهير)، و(مصطافو الربيع)، و(الألم والمكسب). لدرجة أنه في كثير من تلك الأفلام فإن اقتناع الشخصية أو اتباعها للقيم الأخلاقية يؤدي إلى سقوطها وخسارتها، ويدين الفيلم بشكل ضمني هذا السقوط المتسبب فيه فعل الصواب، بينما يضفي الهالة على تجاهله: كحالة الانهيار المهني والمادي والأسري، بل والصحي أيضاً، عندما تعاون بيلفورت مع المباحث الفيدرالية وتوقف عن تعاطي المخدرات. أو في نهاية (عصابة المشاهير) عندما تقضي نيكي مور 30 يوماً فقط في السجن ثم تخرج لتصبح من المشاهير لقيامها بسرقة قصور نجوم هوليود، فتحقق حلمها وتؤخذ منها الأحاديث الصحفية، وتجرى معها المقابلات التليفزيونية، وتصبح ضيفة على أشهر برامج التوك شو الأمريكية.

إن التعبير الفني إن لم يكن واعياً، يُحوِّل الفساد المطلق إلى قداسة، لأنه يعرض الهالة منزوعة عن كلفتها الأخلاقية. ونقد الثقافة الاستهلاكية المفرطة أصبح يتناقص يوماً بعد يوم في هوليود إلى الدرجة التي أصبح فيها شبه معدوم. ومعظم مشاهد الاستهلاك المفرط في الأفلام، بما في ذلك استهلاك المخدرات والجنس، تتم بلا عاقبة أخلاقية، ولا حتى إحساس بالذنب من قبل الشخصيات. إن الشخصيات في تلك الأفلام واعية لما تفعله، ولا تحاول إنكار أو كبت أو إخفاء فسادها، بل تتباهى بجرائمها، ونتذكر هنا مشهد السمسار (هانا)، في (ذئب ول ستريت) مرة أخرى، وهو يكشف لبيلفورت في المطعم الراقي كيف يتم النصب على المغفلين من حملة الأسهم، بكل بساطة وأريحية، بل وبفخر وهو يخبط على صدره ويغني همهمات حماسية كإنسان المجتمع الوحشي. وتدعم الرؤية الإخراجية لسكورسيزي ثقافة الجشع تلك، ولا يقتصر الأمر على المضمون الدرامي فقط، ولكن على الأسلوب الإخراجي أيضاً الذي يلقي كل شيء بسرعة في وعي المتفرج؛ وابل من اللقطات السريعة التي يُلقيها المونتاج المتسارع في حجر المتفرج، تلك السرعة اللازمة لنجاح النصاب في عمله.

وفي عدد كبير من مشاهد (ذئب ول ستريت) يتماهى سكورسيزي مع بيلفورت على نحو يصبح معه الفيلم أقرب إلى الدعاية لقيم بيلفورت على نحو صريح ومباشر. بل وتبدو المفارقة في الأرباح المالية الكبرى التي عادت على جوردن بيلفورت نفسه من جراء تحويل قصته إلى فيلم هوليودي ضخم الإنتاج وبإخراج من سكوسيزي؛ أي أن الفيلم نفسه ساهم في تحقيق هدف بيلفورت شخصياً في جمع المال. إن المتفرجين "المغفلين" الذين طالما سخر هو وزملاءه سماسرة البورصة منهم، يبدو وكأنهم وقعوا ضحية من ضحايا بيلفورت بشرائهم لتذاكر الفيلم.

إن رجل المباحث الفيدرالية أيضاً، والذي سخر منه بيلفورت في الفيلم بوصفه فقيراً ومغفلاً، نراه في لقطته الأخيرة في نهاية الفيلم وحيداً في عربة مترو الأنفاق كما تنبأ له بيلفورت من قبل، ويبدو شارداً حزيناً كما لو كان نادماً على فعله للصواب وملاحقة الفاسدين. مع الناحية الأخرى، يقدم لنا سكورسيزي بيلفورت بوصفه لا يُقهر ولا يُغلب، ويعزز الفيلم هذه الصفة طيلة الوقت بأن يجعل الصدفة والحظ يساندانه باستمرار: ينجو من الموت وهو يقود سيارته تحت تأثير الإفراط في المخدرات، ولا تستطيع الشرطة مقاضاته لأنها لا تملك دليلاً ضده، وينجو بأعجوبة من غرق يخته في عرض البحر أثناء عاصفة، وتنفجر طائرة الإنقاذ التي أنقذته بعد أن ينزل منها بسلام، ولا يبدو أن الإفراط في تعاطي المخدرات ولا حياة الانحلال تؤثران لا على صحته ولا عقله ولا حتى على نضارة بشرته. إن ما يصل إلى المتفرج بعد مشاهدة الفيلم هو أن سمسار البورصة بيلفورت مُحصن ضد القانون، والمجتمع، والطبيعة، بل والقدر أيضاً (5).

تدهور قيمة العمل في هوليود الحالية، مقابل الاحتفاء به في هوليود الكلاسيكية
ويبدو أننا بحاجة إلى كلمة إضافية بخصوص وظيفة بيلفورت نفسها في الفيلم. إن بيلفورت يعمل سمساراً في ول ستريت، ولكنه في الحقيقة مندوب للمبيعات؛ فهو لا يتوقف طيلة الفيلم عن الدعاية لشيء ما؛ سواء في العمل أو في حياته الخاصة. إنها الخصيصة الأصيلة التي في دمه والتي تُحدد باقي خصائصه (6).

إن الدرس الذي يلقنه السمسار المخضرم (هانا) في بداية الفيلم لبيلفورت هو: بيع الوهم للعملاء المغفلين. صحيح أن هناك حركة بيع وشراء للأسهم والسندات على الورق، هناك ربح و خسارة على الورق، لكن ذلك لا يتحول إلى مال سائل، والهدف الأهم بالنسبة للسمسار الناجح هو منع العميل من تسييل أرباحه النظرية، بل دفعه إلى مزيد من الاستثمار الورقي. إن الوحيد الذي يقبض عمولته بالمال السائل هو سمسار البورصة نفسه، ولذلك فهو الوحيد الرابح في هذه اللعبة. ولا يتوقف بيلفورت أبداً عن بيع الوهم سواء لعملائه المغفلين، أو حتى لموظفي شركته حين يبيع لهم وهم أنهم أسرة واحدة (وهم التضامن والشراكة) ثم يبيعهم بالجملة فيما بعد للمباحث الفيدرالية لينجو بنفسه.

إننا نلمس بوضوح تدهوراً في قيمة العمل المادي الحقيقي في أفلام هوليود الشعبية في الفترة الأخيرة. في (المعتوه الأمريكي) يعمل باتريك بايتمان في شركة سمسرة بول ستريت، ولا نراه في مكتبه إلا وهو يطالع مجلات إباحية، أو مشغول بحل الكلمات المتقاطعة، بينما يقضي معظم أوقات فراغه مع زملاءه أو صديقاته في المطاعم أو في ارتكاب جرائم القتل. وفي (ذئب ول ستريت) العمل الوحيد الذي يمارسه سمسار البورصة بيلفورت هو التحدث إلى عملاءه عبر الهاتف، أو تعليم زملاءه كيفية النصب على العملاء. وفي (مصطافو الربيع) لا نرى الفتيات الشابات في أي عمل مادي حقيقي إلا السطو المسلح على المطاعم ثم الاصطياف على الشاطئ. وفي (عصابة المشاهير) لا يقوم الشباب طيلة الفيلم بأي عمل إلا اقتحام قصور المشاهير وسرقة ملابسهم ومجوهراتهم، ثم قضاء باقي أوقاتهم في الملاهي والنوادي الليلية.

كانت هوليود الكلاسيكية منذ الثلاثينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي تحتفي على نحو واضح بالعمل المادي. نلحظ ذلك حتى في أفلام العصابات التي يبدو المجرمون فيها وكأنهم عمال باليومية يكدحون من أجل لقمة عيشهم. والاحتفاء بقيمة العمل المادي في تلك الأفلام، وبصرف النظر عن القيمة الفنية لها أو القيم التي تروجها، كان مترافقاً مع سيادة عدة مبادئ هامة في نظام العمل في ستوديوهات هوليود: التنظيم الدقيق، والعمل الدؤوب، والكفاءة الإدارية، والعناية بالتفاصيل، والصياغة متينة الحياكة للشخصيات، والتماسك العضوي للدراما، ومبدأ الكل في خدمة الحبكة لدفعها إلى الأمام، والوحدة الشكلية والأسلوبية للفيلم، والحفاظ على الإحساس المكاني والزماني.

ولكن، وعلى العكس، فإن هوليود في حقبة النيولبرالية لا تحتفي سوى بقيم الإفراط والتخمة والفوضى، والوقوع في غرام التكنولوجيا الرقمية، وبهرجة الصورة، وإهدار التماسك العضوي للدراما، وتمهيد الوعي لأخلاقيات النهب والجشع. إن هوليود ليست فقط هي التجلي الفني لثقافة الإفراط الاستهلاكي، ولكنها أيضاً هي العاكس للتغير الذي حدث في طبيعة العمل في أمريكا: لم تعد الأولوية للعمل المادي الذي ينتج سلعاً صناعية وتكنولوجية حقيقية، ولكن للمضاربات المالية، والاستثمارات العقارية، والعمل الانفعالي العاطفي (شركات مواقع التواصل الاجتماعي)، وتجارة المعلومات والاتصالات.

لقد تزامن التحول الحادث في الاقتصاد والمجتمع مع تحول هوليود من منطق "مصنع" الأحلام إلى منطق "مول" الأحلام؛ حيث حل موظفو المول محل عمال المصنع، وأصبحت وظيفتهم في المول هي إعادة ترتيب الأرفف وعرض البضائع ودفع الناس عبر الدعاية إلى مزيد من الإنفاق. كان العمال (المؤلفون والمخرجون) في مصنع هوليود القديمة (صناعة الفيلم في الستوديوهات القديمة، وخصوصاً الكوميديات الموسيقية والاستعراضية)، يرتبطون بسلسلة العمل عبر منطق عقلاني خطي مستمر يقدس منطقية الحبكة ووحدتها العضوية. وعلى العكس، يحل الآن التسويق والدعاية محل التصنيع، وفقاً لمنطق " كل شيء موجود عندنا في المول ": فكل شيء قد تم حشده من قبل الموظفين على أرفف المول. ولذلك تنتقل الحبكات الدرامية الجزئية في الفيلم الشعبي وفقاً لمدارات منفلتة تحددها الرغبة في لفت انتباه المتفرج ومفاجئته بصدمات متتالية، فتصبح الدراما كلها عشوائية، على عكس الفيلم الشعبي الهوليودي القديم المتماهي مع العمل الصناعي المنضبط والدقيق والمتسلسل. ومن هنا يمكننا أيضاً تفسير ظاهرة أفول الهالة التقليدية لنجوم هوليود كما كنا نعرفها في الخمسينيات والستينيات، كملمح لأفول العمل الصناعي الذي أفسح مكانه لصعود منطق الإفراط والبهرجة التقنية (7).

إن الرسالة النهائية التي تصلنا اليوم من أفلام هوليود الشعبية هي دعم أخلاقيات الجشع، والتي تعبر عنها العبارة الإنجليزية It is never enough (لا يوجد أبداً ما يكفي). إنها نفسها الأفكار التي عبرت عنها شخصية جوردون جيكو في فيلم (ول ستريت): الجشع فضيلة، الجشع مفيد وصالح وخيِّر، والمال هو معيار تقييم الإنسان في المجتمع.

في بداية فيلم Gods of Egypt (آلهة مصر، 2016)، يقوم البطل/اللص بِك في أول مشهد له مع حبيبته زايا بحساب السعادة بالمال. إن السعادة بالنسبة له هي: "ملابس جديدة كل يوم، وأنهار من المجوهرات، وقصر ذهبي نربي فيه أولادنا الإثني عشر." إن الأولاد أنفسهم يتم حسابهم كمياً. وهو ما يُذكرنا بالمشهد الافتتاحي في فيلم سكورسيزي (ذئب ول ستريت)؛ حين عَرَّف بيلفورت نفسه بما يملكه هو أيضاً.

إن صانع الفيلم الشعبي الهوليودي ضعيف فنياً بطبيعته، ولذلك فهو أول من يدرك أن قوته الوحيدة هي في الاقتباس من أصول سابقة، بما في ذلك اقتباس القيم أيضاً، وعلى نحو فج، ومفرط. وبمصطلحات رولان بارت، يمكن القول أن صانع هذه النوعية من الأفلام لا يعمل بوصفه مبتكراً أو منشئاً لنص أصيل، ولكن بوصفه جامع لشذرات واقتباسات يستخرجها من عدد غير محدود من النصوص والثقافات الأخرى، لأنه غير قادر على إنتاج نص أصيل، ولكن فقط على إعادة إنتاج نص قد سبق إنتاجه من قبل. ولهذا السبب نجد مثلاً أن الصف الثاني من مخرجي هذه الأفلام (دون سيجل، والتر هيل، مايكل باي، جو دانتي، روجر كورمان) يعيدون استخدام الأفكار والموتيفات التي سبق لمخرجي الصف الأول صناعتها (جيمس كاميرون، رونالد إيميرك، جورج لوكاس، ريدلي سكوت، ستيفن سبيلبيرج)؛ والذين بدورهم قاموا بالاقتباس من عدد لا محدود من الأفلام السابقة، سواء من هوليود الكلاسيكية، أو من باقي سينمات العالم. إننا بصدد الحديث عن نسخة عن نسخة عن نسخة، وكل نسخة جديدة منها ليست صورة عن النسخة التي تسبقها، ولكن تشويه لها؛ اصطناع لها بمصطلحات بودريار.

ولذلك نجد اللص بِك بطل (آلهة مصر) يستنسخ قيم بيلفورت بطل (ذئب ول ستريت) حين يقول لحبيبته زايا: "إما أن تكوني غنية أو تصبحي لاشيء. هكذا كان الأمر دائماً منذ قديم الأزل، وسيظل كذلك إلى أبد الدهر. هذا هو العالم". ثم يدعونا الفيلم للإعجاب بقيم الجشع والنهب واللصوصية على مدار أحداثه. وفي أحد المشاهد المبكرة يقول اللص بِك لحبيبته زايا: "إن السرقة أسرع من أن أنتظر تلبية الآلهة لدعواتي". ثم نعلم أن زايا ماتت فقيرة لا تملك أي ذهب، وهي لذلك لن تستطيع العبور إلى الآخرة، وستظل هائمة ضائعة في الظلمات. ويصر الفيلم طيلة الوقت على التأكيد بأنه بالذهب وحده يعبر المتوفي إلى الحياة الآخرة في مصر الفرعونية، وليس بالأعمال الصالحات كما تخبرنا البرديات المصرية القديمة. إن جنود الإله ست أنفسهم لا يقاتلون إلا طمعاً في الذهب الذي يوزعه عليهم. وسيد البنائين (أورشو)؛ والذي يبني المسلة المستوحاة من ثيمة برج بابل والتي ستصل حتى رع في سماءه، لا يطمح هو أيضاً إلا إلى مكافئته بالذهب. وكل شيء تقريباً تتم سرقته في الفيلم: يسرق ست عرش مصر من أوزوريس. تسرق زايا برديات سرية من مخدومها. يسرق اللص بِك عين حورس. يسرق ست عرش الكون من رع. يسرق حورس رمح ست من الهرم.. إلخ

إن بطل الفيلم هو أساساً لص، والعالم كله يجري النظر إليه من وجهة نظر هذا اللص، ومبادئه هي التي تحدد القيم التي يتبناها الفيلم. إن اللص في (آلهة مصر) هو من يقوم بتصحيح مفاهيم وقيم الإله حورس، بل ويصير مستشاره الناصح، ونائبه في حكم مصر.

هوامش
(1)- من الجدير بالتأمل التحول الحاد الذي حدث في نوعيات نجوم هوليود في عصر النيولبرالية. فإذا كانت تراتبية عالم نجوم السينما قد وصلت إلى قمتها في عصر هوليود الذهبي مع نجوم مثل: جون وين، وهمفري بوجارت، وجين كيلي، وهنري فوندا، وجيمس ستيوارت، وكاري جرانت، وجريجوري بيك، وجيمس كاجني، وكلارك جيبل، مع حرص هوليود على إظهارهم في صورة الأشجع، والأنبل، والأقوى، والأذكى، والأكثر مهارة، وخبرة، فإن هذه التراتبية قد وصلت الآن إلى القاع مع النوعيات الجديدة من الأبطال من اللصوص، والمحتالين، والبلهاء، والسُذج، والوحوش الآلية. يمكن فهم الأمر ببساطة على أن هؤلاء هم الأبطال المناسبون للعصر، ولكن ذلك قد يكون مرتبطاً أيضاً بظاهرة أفول هالة نجوم هوليود؛ والتي ترتبط هي نفسها بظاهرة تدهور خبرة أفراد المجتمع النيولبرالي بممارسة العمل المادي الحقيقي كما سيتم توضيحه في هامش (7).

(2)- الإدارة الأمريكية وهوليود صورتان منعكستان لنفس الجوهر، إحداهما صورة مضغوطة للأخرى، وتحديد الأصل من الصورة قد يختلف من مناسبة إلى أخرى؛ فأحياناً تُقرع طبول هوليود حسب رقص الإدارة الأمريكية، وأحياناً تُحدد دقات طبول هوليود إيقاع رقص البيت الأبيض. ونحن نعلم مدى التشابه في الآليات التي تعمل وفقاً لها كل من الإدارة الأمريكية وهوليود، ومدى التشابه في نوعيات وخلفيات رجال المال والأعمال المتحكمين في كلاهما، فضلاً عن تشابه المصالح، وتطابق الأهداف. ويرجع الأمر إلى بداية نشأة هوليود نفسها، في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، حين وقف لويس ماير؛ مؤسس شركة مترو جولدوين ماير، بثقله المالي والدعائي وراء هربرت هوفر؛ مرشح الحزب الجمهوري اليميني، ليفوز في الانتخابات الرئاسية ويصبح الرئيس رقم 31 للولايات المتحدة الأمريكية. لذلك، لم يكن رونالد ريجان استثناءً فريداً، بل كان التجسيد الحي على الترابط العضوي بين القوتين، للدرجة التي يمكن أن تُصحح فيها إحدى القوتين القوة الأخرى، إذا ما شعرت أنها قد خرجت عن المسار، أو تقاعست أو تخاذلت، فتسارع إلى التنبيه والتحذير والحث، كما سبق وأن استعدت هوليود البيت الأبيض على النازيين، قبل أن يُعلن أيزنهاور دخول أمريكا الحرب رسمياً إلى جانب الحلفاء، وكما استعدتها من قبل على اليابانيين، والسوفييت، والكوبيين، والصينيين، والعرب..إلخ

من الناحية الأخرى، مازلنا نذكر إسراع الرئيس باراك أوباما في ديسمبر 2014 إلى لوم شركة (سوني للترفيه)، عندما أعلنت عن تأجيل طرح فيلمThe Interview (المقابلة، 2014)، خوفاً من تهديدات القيادة السياسية في كوريا الشمالية بقرصنة الملفات الإليكترونية لشركة (سوني)، بل وسعى البيت الأبيض بنفسه ونفوذه، لدى دور العرض السينمائي المستقلة لتقبل عرض الفيلم، بعد أن تحججت (سوني) بأن قرار التأجيل هو قرار شركات دور العرض لا قرارها هي.

(3)- منطق الإفراط أو(المزيد من ..) واضح على وجه الخصوص أيضاً في التوسع البورنوجرافي، حيث أصبح الوعد للمتفرج: ستشاهد جنساً أكثر في الفيلم الجديد؛ سيظهر كل شيء أكثر وأكثر، بل وأكثر من الواقع الخام للممارسات الجنسية الواقعية نفسها. من هنا ازدياد الممارسات السادية والمازوخية في تلك الأفلام، حتى لو أخذت شكل التراضي التعاقدي المتبادل بين الطرفين. إن الحرية هنا يتم استغلالها على نحو بشع؛ فتصبح تجارة العبيد، والشذوذ، هي التجلي الأعلى والمطلق للحرية مادامت تتم برضى الطرفين.

(4)- يمكن بسهولة ملاحظة أن مستهلك هذه الأفلام غير مستنير، ويشبه في عدم استنارته مدمن المخدرات الذي يدمر ذاته بالإفراط في التعاطي. ونستطيع هنا أن نستعين بتفريق جاك لاكان بين الإنسان المستنير الذي يستمتع باللذة حاسباً إياها بحرص حتى يديم مرحه ويتجنب أن تصيبه تلك اللذات بالأذى، وبين ذلك المستعد لأن يستهلك وجوده كله في إفراط مميت للمتعة: الفرق بين المستهلك المستنير، وبين مدمن المخدرات الذي يدمر ذاته. وأفلام هوليود الشعبية تتماهى في كثير من الأحيان مع إدمان المخدرات.

(5)- إن شخصية بيلفورت لا تتم إدانتها مثل شخصية جوردون جيكو في فيلم أوليفر ستون (ول ستريت) مثلاً، بل يتم تقديمها ضمن منطق: إما أ تكون قاتلاً أو مقتولاً. إن عالم البورصة يصبح في (ذئب ول ستريت) أشبه بعوالم العصابات والجريمة المنظمة في أفلام سكورسيزي نفسه. وقد يكون إحساس سكورسيزي بأن العيب ليس فردياً، ولكن في النظام النيولبرالي الفاسد بأكمله، هو ما أدى به إلى التماهي مع منطق بيلفورت في الفيلم؛ من باب أن "نفي النفي إثبات". لكن افتراض حسن النية لدى سكورسيزي -أو آخرين من مخرجي هوليود- يعني أن نشارك في جعل الوحش أكثر شراسة. فالاستمرار في عرض نماذج سماسرة البورصة أو رجال المال الفاسدين على الشاشة بوصفهم لا يُقهرون، لا يروض الوحش بل يجعله أكثر توحشاً وخبثاً؛ لأنه "يُطبِّع" الفساد، ويجعله محل قبول من المتفرج بتمهيد الوعي له، والتطلع للتماهي مع هالة البطل الفاسد.

(6)- في ضوء الحقيقة الاقتصادية التي نعلمها بأن العالم الآن لا يحتاج إلى أمريكا بل أمريكا هي التي تحتاج إلى العالم، تبدو أمريكا نفسها -مثل بيلفورت- ليست إلا مندوباً للمبيعات. ويلاحظ سلافوي جيجيك في (سنة الأحلام الخطيرة) أن أمريكا تبدو الآن وكأنها إمبراطورية في انهيار بسبب الازدياد في ميزانها التجاري السلبي. إنها مفترس غير منتج يمتص تدفقات يومية بأكثر من مليار دولار من المنتجات الصناعية الحقيقية المادية من الدول المنتجة للفائض المادي (الصين، اليابان، ألمانيا، الهند، شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية). ويشبه جيجيك الأمر بالضرائب والعشور التي كانت تدفعها المستعمرات لروما في العصور القديمة؛ حيث تظل أمريكا تشفط الفوائض المالية كمكنسة كهربائية عملاقة من الدول الصناعية الحقيقية التي تجني أرباحاً حقيقية، ليتم تحويل هذه الفوائض في أمريكا في صورة تدفقات مالية إلى ول ستريت والبنوك الأمريكية التي تحولها إلى استثمارات في الأسهم والسندات والقروض..إلخ. إن أمريكا التي يصبح اقتصادها يوماً بعد يوم يوما اقتصاداً خدماتياً يعتمد على تجارة المعلومات والاتصالات وتسليع العلاقات الاجتماعية والمضاربات، أصبح يعتمد في الأساس على مبدأ الثقة الأيديولوجية والذهنية لدى دول الفوائض المالية في أن أمريكا هي البلد الأكثر استقراراً للاستثمار الآمن من ناحية، وهي القوة العسكرية الأولى الحامية للعالم والمدافعة عن أمان رؤوس الأموال من ناحية أخرى (ومن هنا يمكن فهم حاجة أمريكا دائماً إلى عدو تشن الحرب عليه لتستمر هذه القناعة والثقة فيها كحامي للعالم)، ولهذا يستمر تحويل الفوائض والأرباح المالية من المصنعين الحقيقيين إلى أمريكا، بالرغم من أن العالم -في الحقيقة- ليس في حاجة إلى أمريكا بل أمريكا هي التي في حاجة إلى العالم.

ونلاحظ هنا أن هذه الخلفية الاقتصادية تنعكس -في الحقيقة- في أفلام هوليود الشعبية، بل وتمهد تلك الأفلام الوعي العالمي للقبول بها. إن موقع الآخر في تلك الأفلام يشبه موقع المستعمرات بالنسبة لروما القديمة، وموقع الاقتصادات العالمية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، ومن هنا تبدو المساواة مع الآخر في هذه الأفلام ليست إلا ضرباً من الزيف والسخافة.

(7)- بصوت فالتر بنيامين، يمكن القول أن تدهور ممارسة الأفراد للعمل المادي الحقيقي الذي ينتج سلعاً مادية حقيقية، قد أدى إلى تدهور عنصر الخبرة في المجتمع الأمريكي؛ الذي انتقلت فيه "الهالة" من عنصر الخبرة، إلى عنصر "الانبهار" بالمنجزات التكنولوجية الرقمية. إن الجماهير العريضة -عديمة الخبرة- تطالب بشيء فاتن تنبهر به، وسريع الزوال في نفس الوقت، ليفسح المكان لغيره الأكثر إفراطاً للحلول محله. وما ظاهرة أفول هالة نجوم هوليود سوى ملمح من ملامح تدهور "الخبرة" في مقابل "الانبهار" بأدوات التكنولوجيا. ففي مقابل هالة نجوم هوليود الكلاسيكية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، ليس لدى هوليود اليوم إلا إفراط حسي في الصورة، ووسائل تقنية تسبق الغاية وتحددها، وأدوات تستخدم صانع الفيلم بدلاً من أن يستخدمها، وإفراط في التصعيد بهدف جذب الانتباه وإحداث الصدمات المتتالية لدى المتفرج. ولذلك، مثلاً، نشهد في كل مشهد أكشن تصعيداً أكثر من المشهد السابق له؛ يصبح مشهد الأكشن التالي أكثر إفراطاً: أطول من حيث المدة الزمنية، وأعنف، وصادم أكثر. ويصبح منطق الإفراط والتضخيم هو القانون الأعلى الذي تتحدد وفقاً له باقي اعتبارات الفيلم، بما فيها الدراما؛ أي بدلاً من أن يصبح كل تتابع خادماً للفيلم ككل -كهوليود الكلاسيكية-، ودافعاً للقصة إلى الأمام، يصبح على كل تتابع أن يرفع الإفراط الشكلي إلى أعلى؛ على أمل تحقيق "الانبهار".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة


.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با




.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية