الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألألواح ألشمسية

عدنان اللبان

2019 / 2 / 10
الصناعة والزراعة




تجاوزت الثانية بعد الظهر قليلا , كان الأزدحام على اشده في ساحة بيروت وسط بغداد متزامنا مع انتهاء الدوام الرسمي , وبالذات في الشارع الذي يربط الساحة بكراج النهضة . فجأة أخترق صوت طائرة هليكوبتر الجميع وشل حركتهم , كان الصوت قويا جدا وكأن الطائرة خرجت من بين الحافلات والشاحنات المسرعة في الشارع . استدارت دورتين واطئتين واخذت تهبط في الفسحة الفارغة بين الشارع والدور السكنية , ورغم ان الفسحة كانت صبخة ( مملوحة ) الا ان الغبار الذي اثارته حجب رؤيتها , رأينا جنود مدججين بالسلاح يخرجون منها ويتجهون الى الدور السكنية وسط ارتفاع اصوات الانذارات من سيارات امن وشرطة طوقت المنطقة بسرعة مذهلة . سيطر الرعب على الجميع , وبدل التوجه الى البيت عبرنا الشارع ركضا الى الرصيف الثاني . لا احدا يعرف ماذا يجري ولا يجرأ أحدا على السؤال . الرصيف أكتض بالكثيرين وهو ما زاد التوجس بالسؤال أو التعليق .. سكتت أصوات أجهزة التنبيه لسيارات الأمن والشرطة بعد ان تم تطويق مجموعة البيوت الأولى التي لا تتجاوز الستة . تجرأ أحد ألموجودين : أكيد طالع أبو طبر جديد . أجابه آخر رغم التوجس بسخرية : ابو طبر يجيبوله كل هذه القوة ؟ يجوز جماعة زلخا جديدة . ويقصد مجموعة من اليهود العراقيين تم اعدامهم وتعليق جثثهم في ساحة التحرير متهمين اياهم بالتآمر على السلطة . سكت الجميع كأن على رؤسهم الطير .
( ابو طبر قاتل روع أهالي بغداد وقتل ضحاياه بالطبر الذي يستخدم لقطع الأشجار في ميتات مرعبة , زاد في بشاعتها تهويل اعلام البعث والأشاعات التي أشاعها عن طريق تنظيماته ومنتسبيه .)

عند رجوعي الى البيت عرفت من شقيقتي ان الطائرة والعسكر والأمن والشرطة اعتقلوا صديقي كفاح وكل افراد عائلته . لم أصدق , تأكدت منها فأخذت تأتي بالشواهد وكيف جرجروا البنات وأمهم بعد أن أخذوا كفاح وأبوه وشقيقه سلام الذي لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره وكاوه عشرة سنوات والصغير لم أعد أتذكر اسمه . عائلة مسالمة وموضع احترام كل أبناء المنطقة , قدموا من كويسنجق والأب عمر محمد أمين كان معلما , ترك التعليم وأخذ يعمل مقاول بناء . كان قنوعا ويتعامل بصدق فكسب ثقة الناس . لم يتورط في العمل السياسي ولكنه والعائلة كانوا ميالون للشيوعيين وهذه ليست مشكلة , فالحوارات على قدم وساق لأنجاز الجبهة الوطنية بين الشيوعيين والبعثيين . كل هذه القوة التي طوقت المنطقة لا بد ان يكون هناك شئ ما .

بعد عدة أيام أطلق سراح كفاح وعائلته . أخبرني كفاح ان سلام لديه اهتمامات علمية , ويجري بعض التجارب البسيطة في البيت , مثل عدم رغبته في دخول أحد عليه في غرفته عندما يكون مشغولا , فوضع ابريق مملوء بالماء فوق الباب وكل من يفتح عليه الباب ينسكب ماءالابريق عليه . وقبل عدة أيام عاكس الوالد كثيرا مما اضطر الوالد لضربه , فصنع اذاعة صغيرة شكلها على جهاز الراديو بيت . ومن عادة الوالد أول ما يدخل البيت يفتح الراديو . سلام سجل بصوته بيان رقم واحد من كلمات قليلة , وفي نهاية بيان الانقلاب يطلب القاء القبض على المجرم عمر محمد أمين . فتح الوالد الراديو سمع البيان وأمر القاء القبض عليه فارتبك واغلق الجهاز . أعاد فتحه سمع نفس البيان وأمر ألقاء القبض عليه . أغلقه وارتبك أكثر , لا بل كان مرعوبا . زوجته واحدى بناته في الطابق الثاني كن يراقبنه وكاد الضحك والخوف منه أن يفضحهن . واستمرت المسرحية لأكثر من نصف ساعة والوالد كاد ان يفقد عقله من الخوف . ومن سوء الصدف أن يشتبك جهاز اتصال شرطة النجدة مع موجة سلام , لذلك تم تطويق المنطقة بسرعة جنونية . المهم عرفوا انها مجرد لعبة , لكن تعرف الأجراءات الأمنية , وعرفوا ايضا ان سلام هو طالب في المركز العلمي لرعاية الشباب الذي يرأسه كامل الدباغ . وأحتجزوا سلام والوالد لعودة كامل الدباغ من تركيا الأسبوع القادم . وفعلا أطلق سراحهما بعد عشرة أيام بعد ان وقعا على تعهد بالأعدام ان تكررت مرة أخرى .

في عام 1979 أكمل سلام الأعدادية , وهو نفس العام الذي شن فيه النظام حملته الدموية على الحزب الشيوعي , فترك بغداد وذهب الى كوردستان ليلتحق بفصائل الأنصار . وسرعان ما أكتشف ان حياة الأنصار البدائية لا يمكنها ان تنهض بمستلزمات مواجهة البعث وجبروته وهو الانسان المحمل بعدد لا يحصى من الأهانات التي طعنت حتى في عراقيته لكونه كورديا بعد ان رفض بشكل قاطع الانتماء للبعث او لمنظمته الطلابية ( الأتحاد الوطني ) . سلام كان ينطق بالكلمة التي يؤمن بها بدون خوف او تردد , وفي المرة الأخيرة التي استدعوه فيها أجابهم : انهم لن يستفيدوا منه شيئا , واهله لا ينتمون لاي حزب ولا يمكن ان يتجسس عليهم مثلما تريدون . أخذوه الى أمن المنطقة في شارع فلسطين , وأعادوه ليلا مطروحا في رأس الشارع لايستطيع الحراك . يقول شقيقه الكبير كفاح : كنا لا نتحدث أمامه بالسياسة , ولا ينفع معه حتى لو حذرناه الف مرّة . ترك كوردستان بعد ما يقارب العام وذهب الى بيروت ليلتحق بالثورة الفلسطينية . ورغم ان الظروف كانت أفضل من ظروف كوردستان , وجرى الأهتمام به وبطروحاته بشكل جيد , الا انه بعد عام أدرك بأنه لا يستطيع ان يشبع طموحاته الا بمواصلة الدراسة . فحصل على دراسة من قبل الحزب الشيوعي في براغ .

بعد أكثر من عقدين ونصف على خروجه من العراق , أتجه سلام الى مدينته التي تركها طفلا قبل أن يذهب الى بغداد ويزور أهله . فلا تزال بغداد في وضع خطر , ولم يمض على أزالة صدام الهارب الا فترة قصيرة . والحقيقة ان الخطورة لم تكن هي الأساس في عدم ذهابه الى بغداد , فقد كان في داخله مشروعا ظل يحلم به طيلة سنوات غربته التي تمكن خلالها من أكمال دراسته في الكومبيوتر في جامعة براغ . ومنها ذهب الى السويد وحصل على اللجوء قبل أن يعود الى براغ مرة ثانية لأكمال دراسته العليا في برمجة الكومبيوتر . سلام ينحدر من عائلة كبيرة وعريقة في كويسنجق , وقضاء كويسنجق الذي يقول عنه بعض مؤرخيه ان عمره أكثر من ألف عام . وعن طريق موروث عائلته أراد أن يتعرف على القيادات السياسية الكوردية التي تمتلك تأثير في ادارة الأقليم , وفي ذهنه أول من يزور عند وصوله كويسنجق خاله كريم أحمد الداود الذي كان سابقاً سكرتيرا للحزب الشيوعي العراقي , وهو مفتاح معرفة القيادات الكوردية منذ كان القائد الكبير للثورة الكوردية ملا مصطفى البارزاني ولحد الآن . وتمكن سلام من تحقيق ما كان يفكر به , ولم يتردد خاله في تقديمه لكبار القيادات الكوردية . كان خاله فخورا به , وأطمأن له أكثر في السفرة الثانية حين صحب معه شريكه قاسم الذي كان نصيرا شيوعيا لثمان سنوات ويعرفه كريم أحمد عن قرب.
تعرف سلام على قاسم الذي كان يعمل سكرتيراَ للجمعية الثقافية العراقية في مالمو جنوب السويد , فانتقل سلام من ستوكهولم الى مالمو وتعاون الاثنان على شراء مجموعة من أجهزة الكومبيوتر المستعملة , وتمكن سلام من أصلاح عطلاتها وعمل أكثر من دورة للعراقيين الراغبين في تعلم الكومبيوتر . كان ذلك في النصف الاول من التسعينات واستخدام الكومبيوتر لم ينتشر بعد حتى بين الوسط السويدي .

شعر قاسم بالأرتياح وهو يستمع الى ما يقوله قائمقام مدينته طوزخرماتو , وأستعداده لتذليل كافة الصعوبات سواء في طوزخرماتو وكركوك أو مع الحكومة المركزية في بغداد , والتي لا يعرف قاسم عن متطلباتها وتدرج الخطوات لأنجاز الموافقات على هكذا مشروع اصلاَ . وسبب الأرتياح هو الأستعداد للمساعدة من قبل القائمقام , وكان قاسم اثناء نقاشه مع سلام في السويد يدرك بأن أقامة منشأة للشركة التي اسسوها ستكون صعبة في كوردستان والعراق بشكل عام , وبالذات التمويل . لأن المستثمرين الذين هبطت عليهم ثروات لا تعرف نزاهة لمصادرها لا يجازفون بتمويل شركة ستنتج بعد عام , وانتاجها غير معروف بالنسبة لهم ايضا , وهم يحسبون الأرباح قبل البدء بالعمل . الا ان حماس القائمقام وتفهمه لهم ممكن ان يذلل هذه الصعوبات . سكت القائمقام فجأة ونظر الى قاسم , فأدرك قاسم أنه يريد معرفة التفاصيل وهذا من حقه . أخبره قاسم برغبتهم أنشاء معمل لأنتاج الواح زجاجية تحول الطاقة الشمسية الى طاقة كهربائية , وهو مشروع رائد سيحول كوردستان الى منطقة جذب تكنولوجي وصناعي ستحتاجها جميع دول المنطقة وباقي دول العالم التي بدءت تهتم بانتاج الطاقة الصديقة للبيئة . ومن حسن الصدف أن يكون الرمل العراقي هو أحسن الرمال في العالم لصناعة السليكون وهي المادة الاساسية لهذه الصناعة . وسيلحق بالمعمل انشاء معهد لدراسة الكومبيوتر , ليس لتدريب الكوادر العاملة في المعمل فقط بل لتطوير صناعة برامجيات الكومبيوتر التي يمكن بيعها لكبار منتجي الكومبيوتر في العالم . سيتمكن المشروع ان يعمل وحدة أنتاج كهربائية مستقلة لكل بيت ومعمل ومستشفى ومجمع سكني , لا بل حتى لأنارة كل عمود عل الطرق العامة ما دامت الشمس تشرق في كل العراق . وتستطيع كل هذه الوحدات الكهربائية أن تنقل فائض انتاجها الى الشبكة العامة التي تغذي كل المشاريع على طول البلاد وعرضها . عاد القائمقام لمتابعة الكتابة وأشر له بيده التي تحمل القلم : وآني شقبض؟!
قاسم : العفو أستاذ ما افتهمت .
القائمقام : راح أحجيلك بوضوح . آني راح أقدملكم خدمات وتسهيلات لايمكن أن تنجزون المعمل بدونها . آني أما شريك بثلث المشروع بدون أن أدفع دينار واحد , أو تنطوني كومشن ما يعادل سهمي بالشراكة .
في طريق عودته الى أربيل , أسترجع قاسم كلام القائمقام الذي جاء مؤكداَ لمعرفته بواقع الحال في كوردستان أو في العراق بشكل عام.الا ان الأمل ظل يراوده من خلال أمل سلام في مقابلة رئيس الأقليم مسعود البارزاني ورئيس الجمهورية جلال الطلباني , اللذان سيفرحان لهكذا مشروع يضع كوردستان في طليعة مناطق الشرق الاوسط , ومن المؤكد سيتحمسان له .

أربع سنوات متتالية تمت فيها خمس سفرات لسلام وقاسم الى كوردستان وبغداد , ولم يحصلا على اي تسهيل أو قبول لمشروعهم الذي أخذ منهما سنوات لأنضاجه , يشدهم الأمل في خدمة وطنهم , وتعويضهم ايضاَ عن سنوات غربتهم . وعند عودتهم في سفرتهم الأخيرة , لم يسمح لهما ضابط الحدود في نقطة ابراهيم الخليل بالعبور الى تركيا بحجة انهما يحملان جوازات سفر سويدية , ومضى عليهم احدى عشر يوماً ولا يسمح القانون للأجنبي الا بعشرة أيام . وعليهم أن يراجعا أحدى دوائر السفر والجنسية في احدى المحافظات لغرض تجديد أقامتيهما والسماح لهما بالسفر . أكدا له انهما لم يخالفا القانون , اليوم العاشر لهما واليوم هو الحادي عشر وهما خارجان , ولكن الضابط لم يستجب . طلبا مساعدته , ولكنه كان عدائيا , واضاف : كل عمركم متونسين واحنه كضيناها بالحصار والجوع وهسه تردون تتلاعبون بالقانون ؟ من يكول انتوا عراقيين ؟ اجابه سلام : موعدكم عفو عن الجحوش اعتبرنه جحوش . فثارت ثائرة الضابط وارسلهم موقوفين الى مديرية شرطة دهوك . ومن حسن الصدف عرف قاسم مدير الشرطة الذي كان آمر هيز ( فوج ) في الحزب الديمقراطي الكوردستاني , وقد أخبرهم وهو يضحك ان الضابط فعلا كان جحشا . في جميع السفرات كان الجواب واحدا من جميع الذين اتصلوا بهم لغرض التمويل أو الشراكة , سواء في كوردستان أو بغداد :" اننا سوف ندرس الموضوع بأسرع وقت , ونعطيكم النتيجة ".

أكمل سلام دراسة الدكتوراه في المعهد الوطني الجيكي لدراسة الكومبيوتر , أكملها بأمتياز وطلب منه أن يعمل استاذا في المعهد , ولكنه رفض وعاد الى السويد على أمل أن ينتقل الى العراق ويؤسس مشروع الألواح الشمسية الذي اتفق عليه مع قاسم .كان يمتلك قناعة بالشباب العراقي للنهوض بهذه التوجهات , وتجربته في المركز العلمي الذي أداره كامل الدباغ رسخ هذه القناعة أكثر, وهذا ما صرح به عند اعتذاره من المعهد الجيكي . في السويد وبعد أكثر من عام قدم مشروع الألواح الشمسية للشركة التي يعمل عندها . وليس غريبا أن يؤجل هكذا مشروع لخضوع توجه الشركات لحالة السوق في العرض والطلب , والطاقة البديلة مشروع لايزال مبكرا في تسعينات القرن الماضي . الا ان الشركة السويدية بعد اجراء دراستها على المشروع وفي مقدمتها الجدوى الأقتصادية منه منحته فرصة عمل جديدة لم يكن يحلم بها , فقدعيّن من ضمن اربعة سيوجهون توجهات الشركة السويدية في عالم الكومبيوتر . سلام من العراق ,وآخر من جنوب شرقي آسيا ويوغسلافي والرابع سويدي . مجلس الادارة الأكاديمي هذا كان يأخذ اعلى الاجور في الشركة التي توسع انتاجها في اعارة الخدمات لشركات عالمية . وذهب سلام في سفرات عمل طويلة , حيث مكث في طوكيو ثلاثة أشهر , وفي المانيا سبعة أشهر , وفي اميركا تنقل بين ثلاثة مدن واوتاو عاصمة كندا لثلاثة عشر شهرا . وكانت السرية هي الشرط الحاسم في تنقله ما بين شركات صنع البرامج , حتى ان صديقه وشريكه قاسم لم يتمكن من معرفة طبيعة عمله , اومعرفة اي البرامج التي يبتكرها لهذه الشركات .

بعد ما يقارب العقد من السنين تبنت الشركة السويدية التي يعمل فيها مشروعه الذي أراده أن يكون في العراق . وانتشرت صناعة الكهرباء من الطاقة الشمسية في المعامل والبيوت والعمارات السكنية والمستشفيات وكل منشأة في وحدات كهربائية خاصة بها , والفائض من انتاجها يباع الى الشركة العامة للكهرباء , أصبحت الشركة التي عمل عندها الرائدة في السويد , والسويد أصبحت الدولة الاولى في العالم في أنتاج الكهرباء الصديقة للبيئة حسب تقارير الأمم المتحدة , واليوم السويد تصدر أنتاجها من الألواح الشمسية الى أغلب دول العالم . بعد أن فقد سلام ذاكرته , وبات لا يعرف حتى أبنائه وزوجته ولا صديقه قاسم . ولا أحد يعرف متى بدأت عنده أعراض فقدان الذاكرة , وفي أي بلد من البلدان التي ذهب اليها , او مع اي شركة جرى التعامل معها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة