الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيران، فكرة الحد الأدنى أسلمت الثورة ووأدتها

المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)

2019 / 2 / 20
الثورات والانتفاضات الجماهيرية



هذا مقال في ذكرى الثورة الإيرانية ينبه لخطر في سياسة "الحد الأدنى" في مجال الثورات، وتوافق بعض الثوريين اليساريين عليه بعشم أن شركاءهم لا يريدون التحكم في أمور التغيير المنشود والعهد السياسي الجديد! ولتحقيق كينونته وهدفه يستعرض هذا التنبيه بعض ملامح الثورة الإيرانية وبعض أسباب وسلبيات تغييرها من حالة وطنية شعبية/ديموقراطية إلى حالة إسلامية مؤسسة لعنصريات طائفية وقومية وغطرسة خارجية، أثرت سلباً على بعض أوضاع العالم. وأن نضال الكادحين والشعوب المضطهدة ضد القهر والإستغلال الإمبريالي يحتاج بالدراسة والعظة لتجاوز مثل هذه التغيرات.



1- الثورة والثورة المضادة:

بشكل عام تتجه التعريفات الموجبة اليسارية لمفردة "الثورة" الى وصفها بأنها تغيير شامل وجذري من حالة إجتماعية إقتصادية وثقافية سياسية (سيئة) إلى حال (يفترض أنه أحسن) لتنظيم عناصر وعلاقات وبنى الثقافة والإقتصاد والإجتماع والسياسة. أي أن الثورة ليست مجرد إحداث حاد لتغيير جزئي الذي قد يكون ثورة في مجاله ولكنه لا يؤخذ كثورة إجتماعية سياسية متكاملة.


في تأثيل لخطاب الثورة أو خطاب الثورة المضادة يبدو شيء من تغاير حساسية اللغة والثقافة: فالكلمة العربية "ثورة" التي لها وقعان موجب وسالب في العالم العربي اللغة تعادل في اللغة الفارسية كلمة "إنقلاب" وهي كلمة صارت ذات وقع سالب في ثقافة كثير من وسائط الإعلام والمدن ذات اللغة العربية.


وطالما أن تسمية أو صفة "الإسلامية" قد ألحقت بفضل جهاد وتضحيات إيرانية وأجنبية مفردة "الثورة" فإن النظر والتفكر في تأثير التشاكل بين الإسم والصفة والمعنى في تعريف وفهم إسم "الثورة" أو تقييمها بأنها "ثورة" أو "ثورة مضادة" قد ارتبط بإختلاف في التقييمات الفقهية الإسلامية العربية والفارسية السنية والشيعية لمسألتين متداخلتين هما: "مسألة شرعية الحكم؟" وكذا "مسألة الخروج على الحاكم؟" ومع هاتين المسألتين عدد من المسائل الأخرى المرتبطة بهما مثل: مسائل "شرعية دفع الضرائب كلها أو بعضها؟"، ومسائل "رد ديون البنوك ودفع الرسوم والغرامات إلى الدولة؟"، ومسألة "رفض أو طاعة الأوامر المنظمة للتجارة أو لأعمال الوظائف؟" ومسائل "إحترام الأموال العامة إن كانت غير ربوية، أو إحترامها وإن كانت ربوية؟ "


عبر الزمان إختلفت الطائفتان واختلف كبار الفقهاء حول هذه المسأئل المرتبطة بشرعية الحكم والمال، فقد رأى بعضهم أن "الثورة" حلال بينما رأها بعضهم منكراً أو كفراً، وكذا صارت ثورة بعض الفقهاء في إيران أواخر القرن التاسع عشر، وكذا في بدايات القرن العشرين وهي ثورات اشتعلت ضد زراعة وتجارة التبغ والتمباك بدعوى انهم من المحرمات، أما اليوم فقد صارت سلطات الجمهورية الإسلامية في إيران تعد الثورة ضدهم من المحرمات، أي أن الثورة ذات القداسة ضد التنباك وصناعاته وتجاراته، صارت في بداية القرن العشرين هي نفسها من المحرمات بينما تفوز زراعة التبغ بتسهيلات ومكرمات الجمهورية الإسلامية.


بعيداً عن شعاب إختلافات الفقه الإسلامي في مسائل "الشرعية" و"المشروعية" ومسائل "الثورة، "الإنقلاب" وحتى اختلاف الإسلاميين على" شرعية الأحزاب" أو "شرعية التظاهرات" فإن الإتجاه الموجب لتعريف مفردة "الثورة" يفسر ما حدث في إيران في أواخر عام 1978 واوائل عام 1979 بأنه "ثورة" بحكم شكل الرفض ثم التغيير الفئوي ثم الجماهيري لبعض ثم كل أجزاء نظام الحكم الإمبراطوري ومعالمه الإقطاعية والرأسمالية وخدماته الإمبريالية.


واقعياً ضد تعريف ما حدث في إيران عامي 1978و 1979 فإن إنفراد الإسلاميين بحكم إيران مثل "ثورة مضادة" كونهم سرقوا أدوات وأهداف الثورة الشعبية بل جعلوها مجرد إمبراطورية لبعض كبراء الإسلاميين المنتمي أكثرهم لميثيولوجيا ولاية الطبقة الوسطى أو إلى ميثيولوجيا ولاية الفقيه أو لميثيولوجيا مذهب وطائفة وقومية واحدة من مذاهب وطوائف وقوميات إيران.



2- أسلمتان نتيجتهما بؤس:

شهدت عناصر وعلاقات وبنى الإنفجار الثوري في إيران عام 1978 بداية عملية أسلمة في جهتين: أسلمة في جهة تقدمية تربط تكسير النظام الإمبراطوري ببناء نظام شعبوي، وأسلمة رجعية مكرسة لسيطرة رجال الدين. وذلك منذ تأجج الثورة عام 1979 ضد الحالة الإمبراطورية لقوى الإقطاع والرأسمالية والإمبريالية.


مثلت هاتان الأسلمتان شكلاً دينياً لإستمرار إستغلال ملايين من العمال والمزارعين وعموم الكادحين، ولإستمرار تهميش ملايين أخرى شبه متسولين من السكان، تركتهم الأسلمتان بلا عمل منظوم أو خدمات مناسبة لعددهم وزيادته أو لزيادة إحتياجات تطور حياتهم إضافةً إلى الزيادات المباشرة وغير المباشرة في معدلات القمع، الفساد، التضخم، الكساد، الفقر، الجريمة.


الشيء المثير للتفكير ليس فقط توافق الأسلمتين على ولاية ظاهرية للطبقة الوسطى في باطنها ديكتاتورية كبارات السوق (البازار) فتوافق او إختلاف بعض فئات البرجوازية أمر مألوف، بل المثير للتفكير هو الظروف الذهنية التي وفرتها الة نسخ صور الخميني وخطاباته والتبريرات الليبرالية والتقديسات الدينية والإنبهالات اليساروية الشعبوية التي أدت في مجموعها لسيطرة الإسلاميين وقمع الشيوعيين ثم والليبراليين. فظروف الدعاية المادية لصو وأشرطة الخميني ومكبرات الصوت التي تبث خطبه. فمع تأثير الإذاعات البخارجية الموجهة ضد وعي وإرادة الكادحين الإيرانيين أدت كل هذه المؤثرات إلى إنقلاب فهم النشطاء الثوريين لحقيقة الشأن الإستراتيجي لعلاقات الاقتصاد والمجتمع، إذ عدوا أمر المعيشة والإقتصاد امرأ تاكتيكياً في سياق تعجيل الثورة والثوار بإسقاط النظام بينما وإعتبروا التكتيك والتنازلات السياسية عن قيادة الثورة هو الشأن الإستراتيجي لإسقاط حكم الشاهز



3- تراكم الظروف والثورات:

منذ أواخر القرن التاسع عشر وتمدد الإمبريالية الحديثة في العالم توالت في إيران تناقضات الظروف الداخلية مع ثورات خديج أو زيف سواء كانت موصوفة بأنها شعبية أو بأنها فوقية ! وقد حدث أشهرها بتوالي إنتفاض بعض مجموعات المزارعين والتجار والمثقفين والفقهاء ضد الإقطاعات والاحتكارات الزراعية الأميركية. وأدت هذه الإنتفاضات المتفرقة لكن المتتابعة في زمن حدوثها والمتوالية في أهدافها إلى حدوث "الثورة الدستورية" بين عام 1905 وعام 1911.


أدخلت "الثورة الدستورية" بعض معالم الحداثة السياسية في حياة فارس كزخارف صغيرة تخفف بشاعة الحكم المطلق، وقد حدث مثلها في روسيا وفي تركيا أوائل القرن العشرين. وكان قوامها تحميل بعض الأفراد مسؤوليات لا يستطيعون أداءها دون موافقة الحاكم المطلق أو موافقة أخرين لم ينتخبهم أحد. ومن هذه الزخارف كان تحويل المجلس العدلي [لأهل الحل والعقد] إلى جمعية تشريعية منتخبة، ووضع دستور يقنن نوعاً ما سلطة الشاه.


كان ذلك الشاه يستعين بالمال الأميركي وبمدد القيصر الروسي، وكان الثوار يستعينون ببريطانيا، وكان دستورهم من بلجيكا، وإضافة إلى محاذيرها الإقليمية والقومية والطائفية والتجارية كانت الجمعية البرلمانية نفسها معرقلة بحق النقض من الشاه، وبحق النقض من الفقهاء الخمسة الأكبر في إيران رغم أن صلات هؤلاء الفقهاء بسادة الأراضي وكبار التجار ودافعي الزكوات والصدقات أقوى من صلاتهم بفلاحي الأرض!


بعد الثورة الإشتراكية في روسيا عام 1917 حضرت في إيران ثورة أخرى فوقية الشكل عام 1921 ترافقت فيها مليشيا الهامش مع الضابط رضا خان مغيرة نمط حياة بلاد فارس من مظاهر القرون الوسطى إلى دولة حديثة غيرت تلك الثورة إسمها إلى "إيران". لكن حياة الدولة الإيرانية الحديثة المباني والتنظيم والمرافق بقيت مثل حياة الدولة الفارسية القديمة مبنية على الإستغلال الطبقي والتمييز العنصري الناعم لصالح كبراء المركز الفارسي وإمتداداته، ولصالح مجتمع "السادة" ذوي الأصول العربية المقدسة، ولصالح كبار التجار المرتبطين بهما.


وفي عام 1941 إنتهت هذه الرحلة التحديثية إلى أخرى جديدة بدأت بعزل البريطانيين والأمريكان لرائدها الشاه رضا بهلوي والد الشاهنشاه الذي وضعوه على عرش أبيه حتى عزلته الثورة عام 1979 وإنتهت قوة الإمبريالية ما قبل الحرب العالمية الثانية إلى ضعف فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت إنفجارات وإنتصارات حركة التحرر الوطني تدوي في العالم.


سجل التاريخ أشهر خفقات لنضال الإنسانية في الهند عام 1947 وفي الصين عام 1949 ونيبال عام 1950 وكوريا منذ عام 1945 إلى عام 1950 وكذا كينيا وبورتريكو عام 1950 إضافة إلى تأجج الكفاح المشترك في مصر والسودان منذ 1946 ولا يغيب سرد تأثير ثورة/ إنقلاب حسني الزعيم 1949 في سوريا إلذي دخل تاريخ سوريا بقيادة فئات البرجوازية الصغيرة وجزء من البرجوازية الكبيرة ضد حكم الإقطاعيين والبرجوازية الكبيرة. ولا شك أن هذا العدد من الثورات له تأثير على المناخ السياسي في إيران.


أما في إيران نفسها فلعل كثير من الإيرانيين قد صدق دعاية إحترام الدول الإستعمارية لتحرر الشعوب واستقلالها معتقدين مثل باقي الشعوب التي لم تقرأ أو لم تتعظ بتاريخ دول أميركا اللاتينية إن زمن الإستعمار والغزو قد ولى! لذا وفق حاجة الإيرانيين للسيطرة على موارد معيشتهم وحياتهم إنتخبوا في عام 1951 حكومة وطنية ديموقراطية البنية بقيادة السياسي الوطني د. محمد مصدق أممت نفط إيران وبذلك أعادت للإيرانيين بعض كرامتهم دون أموالهم التي قبضتها البنوك والمؤسسات الإمبريالية/الليبرالية الأميركية والبريطانية التي حاصرت وأسقطت هذه الحكومة الثورية بإنقلاب عسكري.


لم يؤثر إسقاط القوى الإمبريالية/الليبرالية في بريطانيا وأمريكا لحكومة د. مصدق الثورية على بقاء التاريخ كسجل واع لتغير حاجات وصراع الطبقات وفئاتها ونشاطها إلى زيادة التحكم في موارد بيئتها ومجتمعاتها. ومع اهتزاز العالم وعموم بلاد الشرق شهدت فترة الأربعينات والخمسينيات في إيران إنشغال المجتمعات أو شرائح فئاتها المهمة في عملية التقدم الوطني إنشغالات متنوعة بصياغة فهم وطني/شعبي أو تفسير متكامل الثقافة لتغيير أوضاع مجتمع كل فئة وبلد.


بسبب من عوامل المعرفة والإعلام والصياغات السائدة للأفكار والأحداث العامة إهتم كثير من رواد التغيير منذ عهد الحرب العالمية الثانية بأن تكون فكرة التغيير المنشودة فكرة مرتبطة بإرضاء كل الفئات/الجماعات الرئيسة في كل بلد (مع إستثناء) وأن تحظى بتقدير الدول الكبرى في العالم ! ويبدو أن تصورهم لهذه الفكرة انعقد في أذهانهم بفكرتين مثاليتين هما:
1- فكرة "الإجماع" وهي فكرة مستحيلة أو نسبية جداً لحد الإختلاف في نوع وفئات وظروف الإجماع ونوع وفئات قبلوه،
2- فكرة "الكمال" وهو ما يرتبط في السياسة بتجميع عدد من الطبقات والفئات والجماعات والأهداف والوسائل ومن ثم ينتهي منذ بداياته لإختلافات حول ضرورة تخفيض ما يخص كل طبقة وفئة وجماعة إلخ، منحدراً إلى إتهامات التبخيس والنقص والتنازع!


حاول ذلك التفكر المهتم بالإجماع والكمال الذهني والشعوري جمع معالم من المعرفة الحديثة ومن الحداثة السياسية مع عدم هز القناعات الدينية وغزل ونسج كل هذه الأجزاء الثقافية لتفسر أحداث صيرورات تاريخه وسيرورات حركة المجتمع نحو المستقبل/الجنة. لكن بينما كان المثقفون والساسة والفقهاء منشغلون بعد القضاء على حكومة مصدق عام 1953 في أمور التجميع وفي الإقصاء بقيت حالة التفاوت والظلم في توزيع الموارد تجدد نفسها. وفي الجزء الفكرى من حالة الظلم والصراع الطبقي بقيت تناقضات أفكار وتبريرات الطرفين الظالم والمظلوم لثقافة وصعوبات المعيشة التي تغدق الثراء والترف على أفراد الطبقة المالكة من إستغلالهم أفراد الطبقة الكادحة وتهميش مجتمعاتها.

ضد التبعية والإفقار الدولي والداخلي اتقدت إحتجاجات جماهيرية أخرى في إيران في ستينيات القرن العشرين تزامنت مع تامرات بريطانيا وإضطرابات دول المنطقة في أفغانستان وباكستان والكويت والعراق وفي الهند وفي إندونيسيا وماليزيا (الملايو). وفي تلك الستينيات قوبلت إحتجاجات الجماهير الإيرانية بالقمع المألوف وأيضاً بمجموعة أعمال إعمارية سمىت "الثورة البيضاء". و"الثورة البيضاء" هذه ثورة حكومية بدأت أو إستعرضت بعض مشروعات الري والبناء وزيادة المرافق والصناعات وصولاً لصنع/ تجميع جرارات وشاحنات وسيارات وأسلحة وبدايات مشاريع توليد الكهرباء من الطاقة النووية (بدأت عام 1957). وبذلك أدخلت هذه الثورة الإعمارية إيران في حالة ظاهرها التنمية لكن باطنها رأسمالية معتمدة على التجارة الخارجية !



4- تأثيران، عالمي وداخلي:

مع إنتصاف أعوام السبعينيات في العالم بدأت الأمور الدولية في التغير في جهتين:
1- جهة ضعف الإمبريالية، وذلك بإنتصارات مصر وسوريا، إثيوبيا، وفيتنام، موزمبيق، أنجولا، أفغانستان، وبإظهار الصين قوتها النووية، وبضعف المشروع الإمبريالي في لبنان، تركيا، مصر، اليمن الشمالي، الدول العنصرية في جنوب إفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية، وبقيام دول الخليج العربية بوقف تصدير النفط لأيام .
2- جهة زيادة نشاطات الإمبريالية ضد مشروعات تحرر ووحدة دول ومجتمعات العالم الثالث. وتمثلت في:
توليد إمبريالي لإرتفاع شديد في أسعار النفط وإحتكار أكثر عائداته بنظام "البترودولار" مما أدخل دول التحرر الوطني" (الشكلي) ذات التنمية المعتمدة على الخارج في خناق:
1- تحريك الإمبريالية لقيم العملات، النفط، حسابات الأرصدة والديون، وبالتالي تبخيسها عملات وبضائع وجهود العالم الثالث،
2- تخفيض حصص الإستوراد الأوروبية والأميركية من دول العالم الثالث، بشكل يفلسها ويضغط حلفاءها ذوي الإشتراكية،
3- زيادة الديون الخارجية،
4- زيادة تضليلات الإعلام وكل صنوف التدخل والضغوط والتخويف الإمبريالية على دول ومجتمعات العالم الثالث.



زامنت زيادة التفاوت الطبقي المعيشي والسياسي والثقافي الداخلي داخل إيران ظهور علامات تذبذب أميركا كارتر وحزبه الديموقراطي بإعتماد سياستين متناقضتين مع إستقرار حكم الشاهنشاه محمد رضا بهلوي: الأولى تدعي دعم حقوق الإنسان والثانية تدعي دعم الإعتداد/التفتيت/الإستقلال الطائفي والعرقي في مجتمعات الشرق الأوسط والشرق الأدنى ودول العالم الثالث. .


في خضم ذلك الإتقاد اليساري في العالم بدأت مظاهر الثورة في إيران تتشكل في شهري مايو ويونيو 1977 وكانت بداية الثورة شرارة ردة فعل شعبية على عملية تكسير حكومي (كش) لبعض المناطق العشواء في العاصمة طهران. ومن تلك التظاهرات المألوفة في دول العالم الثالث الرأسمالية الحركة والإتجاه تأججت القوى اليسارية في فئات الشعب وتأججت القوى الليبرالية في فئات البرجوازية، وبدأ الإسلام السياسي ككيان ثقافي ديني مزدوج لحرية الإستغلال الطبقي والإستبداد أو لحرية رفضهما يؤجج بعض مدعي الحياد الطبقي القابعين في المساجد. وفي سبتمبر عام 1977 تأججت التظاهرات وزادت بإضراب عمال الصناعات وعمال النفط والموظفين والمعلمين وعمال البلديات، .. إلخ وصولاً إلى فبراير 1978.


5- الإعلام الغربي يصنع زعيم الثورة:

في العامين 1978 و1979 كان آية الله الخميني المنتقل من نجف العراق الى الكويت وتركيا قد أقام في منزل قرب باريس وتجمع حوله مع رهط من الإعلاميين، وكثير من ناقصي العقل والدين من كلمنجية الثورات. من ثم صار منزله كعبة إعلامية للثورة، وبينما كانت التظاهرات في شوارع مدن إيران تؤجج نيران الحرية والخلاص في القلوب والأذهان مسببة طيران الشاهنشاه في يناير 1979، وبعد ذلك جاءت عودة الخميني إلى إيران في فبراير 1979.آنذاك كانت كل الة الإعلام الإمبريالي تنشر صور آية الله الخميني ومقابلاته وأقواله بينما كانت يد البطش المدعومة من الإمبريالية تقتل الثوار في إيران، وفي ذات الفترة رفضت المخابرات الغربية والإسرائيلية طلب سدنة الشاه إغتيال الخميني.


كان الرجل الكثير الألقاب الإمام روح الله آية الله الخميني رجلاً عظيم الشأن من جهتين: الأولى: كونه فقيهاً يحمل درجة الأستاذية في الدين بلقب (آية الله) والثانية: كونه في بعض لحظات التاريخ كان قائداً سياسياً. لكن عظمته اللاهوتية وشعبيته التي نمت كانتا ولم تزلا تخفيان ضعف معرفته الموضوعية للظروف والسياسات الحديثة، فذهنه شيخ مكدوس بحواش الكتب الصفراء ومعطوب في القرن العشرين بثقافة أواخر القرون الوسطى.


كانت صور إسقاط الشاه وتعظيم الخميني تشكل سلوى لـ"المحرومين" أو "الذين يحرقهم الشوق إلى العدل" الذين انحدرت بمعيشتهم حالة الرفع اللئيم لأسعار النفط التي بهظت بها الإمبريالية أسعار البضائع المستوردة إلى دول العالم الثالث كما بخست بها أسعار الخامات المصدرة من دول العالم الثالث. بالتالي بدأ إفلاس كثير من الدول، واختنقت أحلام دول ومجتمعات "التحرر الوطني" حيث زاد الفقر والتوتر الطبقي وعنصرياته في الدول الغضة بإحباط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمشروعاتها في مجال التنمية المتوسعة الخدمات والمعتمدة على تصدير الخامات أو شبه الخامات إلى الدول الإمبريالية.


في خضم هذا التدمير بان فشل الواجهة المعيشية للعلمانية وانكشفت الحقيقة التاريخية الجديدة لشعار "الحرية-الإخاء-المساواة" كغطاء لسيطرة فئات الرأسمالية وإستغلالهم وتهميشهم لحياة الناس، ومن ثم بشيوع السقوط المعيشي وسياساته إرتفعت الشماتة والديماغوجية الدينية في الدول العربية وفي إسرائيل وفي تركيا وباكستان وإيران. وبدأ الترويج لأفيون سياسي جديد يخدر مجتمعات المنطقة: فبعد أفيون "التحديث" في أول القرن العشرين، وأفيون "الإستقلال"، وأفيون "الأمن القومي ضد الخطر الشيوعي" وأفيون "الإستقرار" في الخمسينيات والستينيات، وحتى أفيون "الرفض" الشبابي، ظهر بعد سقوط الحكم الإمبراطوري أفيون "الإسلام السياسي" هتفت له تظاهرات إحتفالية في العالم العربي: ((إيران موعدنا)) و ((يا خميني أنت بداية.. رفعت الراية .. وضحت الغاية)) ورافقها جهل وتخلف وضياع في مجالات المعرفة أو التنمية أو الإستراتيجية، مع بعث إعلامي غث لأحلام الدولة العظمى.


لعل بعض أهل الريف تخيلوا أن آية الله الخميني "فقيه المدينة" ولعل أهل المدن تخيلوه "فقيه الريف الصادق" ولم يكن أيهما، ولكن على غير ما يتخيل شاب في القرن العشرين قائداً لثورة، واقفاً أمام طاولة أو خريطة في مقر سري خوف التفجير والإغتيال، وإن ذلك القائد يلقي توجيهات ثورية أو يوضح لمساعديه بعض شؤون الثورة، كان آية الله الخميني في مقره الفرنسي الشهير أبعد ما يكون عن هذه التصورات. كان شيخاً جالساُ على فرش الأرض قليل الحركة، يبدو مشغول الفؤاد بترضية الله والإستغفار عن ذنوبه، ومشغول الذهن بقراءة التقارير والإخبارات، وبتلقي أو يمنح الأحاديث! وكان آية الله في الحالتين: الحالة التفكرية والإستغفارية والحالة السياسية محاط بأنواع من الغاضبين والمثاليين والمهووسين والدجالين والإنتهازيين وجواسيس المخابرات وبعض الطيبين، كلهم كانوا حاضرين في مقره كل يوم وهو بينهم يجيب على أسئلتهم العشواء بشيء من المعلومات الدينية أو بخبرة حياته، أو بحكمة .


الصحافيون والحاضرون حول الخميني على ضعفهم الأكاديمي والسياسي والإجتماعي كأعداد أحاد أو حتى مئات أضافوا إلى تاريخ الخميني وحضوره قيمة سياسية كبيرة. كانت هذه القيمة تتضخم بزيادة عددهم إلى جانبها، تماماً كما يضيف حضور الأرقام إلى يمين رقم قيمة كبرى له. في نفس تلك الفترة كان مشعلو وقادة الثورة اليساريين والليبراليين في الجامعات والنقابات والأسواق داخل إيران يعانون من القمع الثقافي بالتكفير والزندقة، ويعانون القمع البدني بالإعتقال والتعذيب والقتل، ومن ثم بالتركيز الإعلامي الإمبريالي على شخصية وتاريخ آية الله الخميني وأقواله، صار قادة الثورة الحقيقيين يعانون أيضاً من التهميش والإطفاء الإعلامي، في ثقافة تتزكى بنشاط القائد!


بواسطة الإعلام الإمبريالي وتسريبه إلى داخل مدن إيران بواسطة الإذاعات الموجهة وبقصاصات الصحف المهربة صار الوضع المختل المزيف عنواناً مضللاً لـ"الحقيقة الثورية" في تلك المجتمعات التي ألفت على تلقي أخبار مواجهتها مع حكامها من صحافة الدول الإمبريالية خاصة أن إنتشار ذلك التصوير الزيف والزور لحقيقة الثورة دفع آليات طباعة الصور والمنشورات وأشرطة الكاسيت إلى رفع إسم وصورة وأقوال آية الله الخميني ونشرها في إيران بإعتباره زعيماً للإسلام أعلى من بقية علماء الإسلام، حتى على الذين يرتفعون عنه علماً وتعليماً! وأيضاً بالإعلام صار الخميني زعيماً للثورة بتهميش لكل مشعلي قادة الثوار ومناضليها الأفذاذ داخل إيران!


مثلما يضيف تجمع عدد من الناس حول شخصية موجبة قيمة وهالة إجتماعية، فإن تضخم تلك الشخصية وهالتها المجتمعية ثم الخميني لم يهتم كثيراً بوجود العلماء (الدنيويين) حوله، ولم تكن له مشاورة علنية مستدامة مع خبراء السياسة أو علماءها لا مع علماء فرنسا والثورة الفرنسية حيث يقيم! ولا مع قادة الشيوعية! ولا مع زعماء الليبرالية! ولا مع قادة الدول الجيران لإيران! ولا مع قادة مجتمعات العالم !!! كان أكثر الناس قرباً لصناعة آية الله الخميني هم القريبون إليه حضوراً وليس أكفأ أهل العلم والخبرة! يعرف العالم إنه لم يعد قائمة إتصال بأهل الخبرة والكفاءة، ولم يطلبهم، وإنهم لم يأتوا إليه.


إزاء تأجج القيم التقدمية في العالم بإنتصارات شعب فيتنام، وبإشهار الصين قنبلتها الذرية، وبتحرر أنجولا وموزمبيق، وبانتصار القوى التقدمية في أفغانستان، وقبل ذلك كسر إثيوبيا حكم الإمبراطور هيلاسلاسي وسقوط ديكتاتوريات البرتغال وإسبانيا واليونان، وتألق نجم كوبا، ودخول دول أوروبا الغربية مرحلة توتر إقتصادي بعد رفع أسعار النفط، إزاء هذا التقدم بدأت وسائط الإعلام الغربي تقديم صورة جديدة للجمهور هي صورة آية الله الخميني أعلنته القائد ثم الزعيم السياسي الإسلامي. كانت صورة عالمية جديدة من حيث أن مركزها ليس لعالم شاب أو ممثلة شابة أو سياسي حاد المنطق، بل فقيه العجوز، وقد تبارى المصورون في إظهارها بعد مئات السنين من انطفاء وهج العلمانية وهباء ثقافة المخلص الذي يظهر في آخر الزمان.


بينما كان الإيرانيين منهكين بكل أنواع الظلم العالمي والطبقي والإقليمي والقومي وضد النساء كانت ثرثرات الحداثة والقداسة تدور بين الثوريين الكذبة والأنبياء الكذبة المرافقين آية الله الخميني وهو قربهم جالس في منزله يسبح ويدعو، وكانت إيران في موضعها الإستراتيجي بين الإتحاد السوفييتي ودول النفط العربية التابعة لأميركا تشتاق إلى سقوط النظام الإمبراطوري رغم أن أحداً لم يطرح بديلاً متكاملاً.



6- الأسلمة كنتيجة من تقوى الشيوعيين وتدين الإمبريالية:

لعل سبب نموء تحكم الإسلاميين في مقاليد الثورة الإيرانية منذ عام 1979 هو تقوى اليسار وتواضعه لهم: فبحكم المدينية وهيمنة ثقافة البرجوازية الصغيرة، إنحصرت أكثر النشاطات الثورية للشيوعيين وتركزت -مع تباعد فيها- على إنجاز مهمات ثورية صغيرة ومحددة في مجالهم كنقاش جزء من عمل سياسي، أو من برنامج التقدم، أو دراسة وضع معين، أو نسخ أو تداول منشور! وبهذا التركيز على ثورة النقاط الطلابية والسكانية والعمالية المفردة بدت ساحة تنظيرالأعمال الثورية وساحة قيادة الثورة خالية، وكذلك لم تقدم في الأعمال الثورية اليومية بدائل الإستراتيجية لنظام السوق كالتي طرحها البلاشفة بالثورة الإشتراكية في روسيا: (السلام، السلطة للمجالس، المصانع للعمال، والأرض للفلاحين).


يلحظ بعض المؤرخون أن الفعالية السياسية يلزمها وجود 1- ورقة سياسية، 2- حضوربشري في مكان معين، 3- نشاط منظوم،
وأن الشيوعيين الإيرانيين لم ينجحوا في مكاملة التنظير مع المكان ونشاط الجمهور، لعل ذلك لسبب من الزهد في السلطة وإعتبارهم إياها مسألة تنظيم شعبية تتحكم فيها الجماهير وقت الثورة! كذلك بسبب إحترام الشيوعيين للمقدسات وعدم إستعمالهم إياها في السياسة حتى لمصلحة المجتمع لم يهتموا بمسألة "الجمهور" و"المكان الجماهيري". ولنفس التقوى الممتدة منذ أعوام قبل الثورة، وبنفس الصبر الذي أبقاهم في إنتظار تقدم بقية فئات الشعب، لم ينجز أو ينشر أي إتفاق وطني يحكمون به باقي قوى وإتجاهات التغيير! كذلك بحكم إن المساجد والبازار كانت هي المكان المتاح للتفاعل والتصعيد الجماهيري فإن خطب الجمعة أو تظاهراتها التي تتقدمها صور كبيرة للخميني كانت تتسيد الموقف الشعبي.


وبحكم إنخفاض تعداد اليساريين في الجامعات وأماكن العمل عن تعداد رواد المساجد والأسواق الشعبية الكبرى من الحضر والريف والكبار والصغار وبحكم إتقاء اليسار إستغلال القداسة في السياسة غلب الإسلام السياسي والقوى الإنتهازية الكثرة المسجدية والسوقية المعجونة بتفائل أو ضعف قادة النقابات وبتقدير بعض الهيئات والأحزاب التي نبتت فجأة ومن تمازج الديماغوجية والمشاعر الشعبية إرتفعت سيكولوجية "الحد الأدنى" وبدأ الكلام عن جبهة شعبية توحد كل القوى في مراكز/مساجد الثورة، و خلال بضعة أسابيع أو بضعة شهور تم تحويل تدريجي لمياسم الثورة في إيران من الحالة الشعبية الديموقراطية التي بدأت بها إلى حالة إرشاد إسلامي.


بعد إنكسار النظام الإمبراطوري وتوالي تحكم الإسلاميين عبر اللجان الثورية والمحاكم الثورية في قواعد الإدارة الحكومية ومناصبها إنكسر بالإنسحاب أو بالفرار القادة الليبراليين الذين بتأثير الإعلام الإمبريالي وضعف آليات الثورة تنصبوا زعامة الشعب. وأشهر أولئك الليبراليين المنسحبين كان رئيس الوزراء مهدي بازركان، ووزير الخارجية صديق أميركا إبراهيم يزيدي، وصديق فرنسا رئيس الجمهورية أبو الحسن بن صدر، وقائد فدائيي الثورة مسعود رجوي، أما الزعيم اليساري البطل ضياء الدين كئيانوري فقد إلتهمه التعذيب مع 14 من أعضاء اللجنة المركزية لحزب "تودة" (الوطني الديمقراطي).


مع زيادة حديث الإعلام الإمبريالي عن دور الدين في السياسة وإتجاه الشيوعيين للسيطرة نشطت أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية بكل ما فيها من ديمقراطية ليبرالية في مد السلطات/الجماعات الإسلامية الإيرانية بقوائم أسماء وعناوين اليساريين والشيوعيين حتى في عز أزمة إختطاف أعضاء السفارة الأميركية. وإضافة لقوائم المخابرات الأميركية إبان سيطرتها على أجهزة أمن الشاه كان ضابط في قسم مراقبة إيران في جهاز الكي جي بي قد إنقلب على دولته السوفييتية وسلم مخابرات بريطانيا قوائم بأسماء وعناوين اليساريين والنقابيين المعادين لسياسات السوق والقمع فأضافتها مخابرات جلالة راعية الكنيسة إلى ما عندها وسلمتها مع الأمريكان لمهووسي الإسلام في إيران (في الأمن، ووزارة الداخلية، ولعناصر الإرهاب الإسلامي في الجامعات).


كان الشعار القديم لهذا التعاون الدموي هو" مكافحة الخطر الشيوعي"، وقد أشاع عملاء جهاز "سافاك" المحلول، وعملاء المخابرات الأميركية والبريطانية حكايات زور وكذب عن ذلك الخطر المزعوم في تلك الأيام المحتدمة. نتيجة نشاط المخابرات الامبريالية المنظوم إنخسف ذلك "الحد الأدنى" من التعاون بين مناضلي الثورة وأئمة جمهورها وإنتشرت الشيوعيفوبيا في الإسلاميين بل هيستيريا ضد الشيوعية، وبدأوا في "مقاومة الإلحاد" و"الثأر لأفغانستان" الخ.


قتل الألاف في حملات قمع قادة الشيوعيين والنقابات والمثقفين والفنانين والنقابيين والفلاسفة والعلماء والمصلحين الإجتماعيين وكان أكثرهم يساريين وليبراليين يرفعون شعارات "الحد الأدنى" من نوع: "مصلحة الوطن تتطلب تأجيل التغييرات الجذرية" و"ضرورة حد آدني للتغييرات يسمح بتجمع القوى الوطنية"! وقد تمثل ذلك "الحد الأدني" في العشم في إزالة الحكم الإمبراطوري دون إزالة أسسه ونظمه وأشكاله ! ومن لدن "الحد الأدنى" ظهرت شعار "التحالف مع الآخرين مفيد للوطن"، وشعار "التحالف مع جمهور آية الله الخميني مع الاحتفاظ بحق إنتقاده" ! وغير ذلك من آمال وخيالات وترهات ايديولوجانية وميثيولوجانية انتهت إلى مصارع مأساوية لأصحابها وأحزابهم وجماعاتهم، كما إنها أدخلت المجتمع والدولة والمنطقة والعالم سلسلة تفاعلات دراماتيكية لم تزل تتفاقم إلى يومنا هذا.


كانت قوة الإسلاميين ولم تزل ماثلة في حلف ثلاثي أوله أهل "البنوك" وثانيه كبارات "لسوق" (البازار) وثالثه "رجال السلطة /الدين" وكبرائهم ذوي القروض المصرفية أو العقود الحكومية أو مديري أموال الأوقاف والزكوات. ولهذا الحلف الثلاثي القابض على معيشة الإيرانيين واعتقاداتهم حليف رابع شكلته عصابات القوة البدنية المؤمنة مصالح هؤلاء الكبراء، وقوته من بعض كادحي المدن من السوقة والمتسبلين وبعض الغوغاء والمهووسين الذين تعج بهم كل مدينة حيث شكل هؤلاء الشطار والعيارين الميليشيا الثورية في كل مدينة وبلدة متكحلين بأفعال سياسية كالتظاهرات الإستعراضية المسلحة، أو ممارسة قمع معين توجههم إليه هيئات تابعة لبعض الشيوخ وكبار التجار والرأسماليين في بعض المساجد أو الحسينيات. وكانت المصلحة المشتركة بين زعماء عصابات الغوغاء ومصالح الشيوخ والتجار وكبار الموظفين هي ان زعيم كل منهم يعزز سيطرة متزعمي العناصر الأخرى.


7- عنفوان وحماقة بعض الثوريين:

بتزامن إطفاء تظاهرات الجمهورية الاسلامية على تظاهرات الحقوق النقابية والديموقراطية قامت مجموعة من الطلاب الإسلاميين بإحتلال السفارة الأميركية في طهران. وبكسر حصانة السفارة وسكوت الحكم الجديد في طهران عن إدانة هذا التعدي السافر من مواطنيها على حصانة سفارة داخل حدودها، وعدم وقفها تلك الجريمة، وعدم محاسبتها لفاعليه، كسرت إيران علناً القانون الدولي معلنة دخول الثورة مرحلة الجبروت ومصادمة الطغيان العالمي.


باحتلالهم السفارة الأميركية وعبثهم وتكسيرهم مظاهر السيادة الأميركية سيطر أفراد الإسلام السياسي بهذه العملية الدعائية على قلوب ومشاعر عامة الإيرانيين، بل على قلوب ومشاعر كثير من مجتمعات المسلمين المقهورة بتدخلات أميركا لصالح إسرائيل ولصالح الطغاة المتحكمين في معيشة شعوبهم. وبهذا الاحتلال والدعاية الشعبوية الهيستيرية التي رافقته، أطفأ الإسلام السياسي كثير من دعاية اليسار ووجوده المعنوي القائم على تحدي الإمبريالية وأعوانها، بل لعل بعض الايرانيين صدقوا آنذاك أن أولئك الطلاب قد حققوا شعار "الموت لأمريكا" وانهم حرروا العالم من الشيطان الأكبر !


ففي خضم إنشغال الناس بأحداث السفارة وصخب التصريحات عن إكتشاف الطلاب لأسرار التجسس والعدوان الأميركي الناعم على كل دول الشرق الأوسط، وكشفهم طبيعة تعاملات أميركا مع الدول. وصخب ردود الأفعال على تلك الكشوف والتصريحات قام دعاة الإسلام بالسيطرة بالحديد والنار على النقابات والجمعيات، وأسسوا بكادحي وغوغاء المدن ومهمشي الريف لجان بطش ثورية ولجان شعبية وجماعات أخرى بديلة لمنظمات برجوازيي المدن الصغار (وصفوهم بالخنث والعهر والغربنة) فتشكلت جماعات "جمعيات البناء" وبفعل كفاية عائدات النفط تحول مهمشي المدن إلى ميليشيا "حرس ثوري" و"كتائب متطوعين" أى ان الدولة الجديدة أكملت تحول الجمهور الذي كان ثورياً إلى ميليشيا وجيش ظاهره الثورة وباطنه الرجعية والإستبداد والقهر!


تم التغيير الدموي الأصل والهدف لطبيعة الوحدات الشعبية وسط إنشغال الشارع بهدير أخبار وتعليقات التلفزيون والإذاعة وخطب الجمعة وتظاهراتها الثورية وبأحداث السفارة الأميريكية، أدخل الإسلام السياسي إيران في حالة جهاد ضد العراق فبين عام 1979 ومنتصف عام 1980 هاجمت إيران الإسلامية العراق بـ244 ضربة ضد سيادته وقد تكون هذه الضربات المئوية خطأ أو معادلة لتجدد إسناد عراقي لسكان الأهواز، لكن المسؤولين الإيرانيين جعجعوا أنهم سيرفعون علم الجمهورية/الإسلام/إيران على بغداد ! وسيفتحون دول الخليج، ففات الإسلام السياسي حده وتحول إلى نوع إستعماري من الشعوبية والطائفية !


في هذا السياق الحربي دخلت منشورات وشرائط وأحزاب وقنابل الإيرانيين ومتفجراتهم وقواتهم في العراق بشكل متناثر شيء في حلبجة وشيء في الجنوب ورمي قنابل على وزير وإحتلال قرى، وقذف مواقع وخرق أجواء، في أعمال عدها حكام ايران عزة للإسلام وصد لأعداء الله حتى تصدى الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين المجيد لهذا الفتح الاسلامي/الغزو الفارسي مجدداً "القادسية". أي أن السيطرة الإسلامية على ثورة ايران إنتهت إلى تأسيس حالة حرب مع أكبر جار عربي لإيران بدل أن تؤسس تعاوناً فعالاً معه.


أرتبطت سمة التغيير الإسلامي لثورة الشعب الإيراني، برفع راية الإسلام على كل الرايات ثم بتغليب راية الخميني ونظريته ولاية الفقيه على باقي الاراء السياسية في أمور الطائفة المسيطرة في إيران. من ذلك بقاء السوق متحكماً في معيشة المجتمع بدلاً لأن يكون المجتمع هو المُرتِب والناظم لأمور السوق والتبادل.


خلاصة هذا التغيير الإسلامي الخميني لثورة إيران أن كبراء البنوك والسوق بقوا مسيطرين على معيشة المجتمع بدلاً لأن يصبح المجتمع حاكماً لتعاملات السوق ! وإن فرداً واحداً (آية الله الخميني) بمعية مستشاريه الذين ليس فيهم عامل أو مزارع واحد، صار مرشداً لكل المجتمع بدلاً لأن يصير المجتمع عبر منظماته الفئوية والجماهيرية مرشداً لكل فرد فيه! كذلك أدى النزوع الطائفي لهذا التغيير وردود فعله إلى تفيتت الثقافة العامة لإصطلاح "الثورة" وإلى تفرقة كبرى في ثقافة اصطلاح "الإسلام".



8- تخفيض الشيوعية في إيران كسب للصهيونية:

تحقق إطفاء اصطلاح "الثورة" بإطفاء وهج أفكارها عن حرية الطبقة العاملة والوطن، وعن المساواة القومية والانفتاح الإنساني. حيث قامت الأسلمة بمركزة كل معنى جميل ووضعه في يد بعض بيروقراط أو ضباط أمن الثورة الذين تسنموا مراكزهم بالفتونة أو بالمحسوبية أي بغير طرق التعليم المنظوم والخبرة العالية وقد كان هؤلاء البيروقراط أو الضباط نتيجة ظروفهم من العاجزين عن تصور ديالكتيك العناصر والبنى والعلاقات التاريخية الإجتماعية والدولية، ناهيك عن فتح آفاق ثورية لها.


أيضاً أدت أسلمة ثورة إيران إلى زيادة الإنقسام الطائفي في مجتمعات الإسلام وكان ذلك بفتحها إتهامات الخيانة والتكفير القديمة والحديثة وإزاء التفتيت السياسي المذهبي والطائفي ونعراته في العالم العربي وجدت الصهيونية السياسية ودوائر تأمينها راحة كبرى بنشاطات "الثورة الاسلامية": فمع هذه النشاطات الخيرية أو السياسية تزايدت الفتنة والعداوة بين طوائف السكان في سوريا والعراق واليمن والبحرين، وكذا تفاقمت العداوة بين عناصر القوى الدينية، وكذلك بين الهيئات الدينية، كما زادت العداوة بين الجماهير الدينية والممارسات والطلائع العلمانية في كل بلاد اللغة العربية والإسلام.


كذلك على المستوى الاثني والقومي زادت العداوة في دول المسلمين بين العرب وغير العرب مركبة او متجلية على أسس طائفية وعرقية زيادة على المشاكل القديمة للحدود والجنسيات (تركيا والعراق وسوريا). وكان تفاقم التفتت العربي بالاسلام وزيادة تفتت الاسلام بالعداوات القطرية والقومية والإثنية والطائفية والمذهبية،وهي حالة سابقة كانت لأسلمة الثورة في إيران، ولكن جانب في نشاطات الأسلمة زادها فمع تأجج أقوالها زادت توترات الوضع القومي والإثني والطائفي في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وانتهت بعض ردود أفعاله إلى صدامات في مجتمعات العروبة والإسلام أدت إلى توسع في النشاط الصهيوني وارباحه.


العداوة بين ايران واسرائيل كدولتين دينيتين عداوة باردة تشبه حالة "اللاسلم واللاحرب" كسبت بها ايران شعبية في أنحاء العالم العربي وكسبت بها إسرائيل دعوماً أميركية جديدة للصهيونية، بل مواقفاً جديدة في صالحها من حكام دول الخليج العربية والأردن ومن حوالي نصف لبنان الماروني، وثلث العراق الكردي، وحوالى ربعين من سوريا ربع كردي وقريب ربع عربي سني، وكذا كسبت ترحيبات من بعض نخبة مصر وهادي اليمن، وجانب من إسلاميي السودان.


في المستوى الإقتصادي الاجتماعي الداخلي أدى التحصين الإسلامي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية والإدارة المركزية لموارد قوميات إيران إلى انطفاء أكثر شعارات وتضحيات الإيرانيين للثورة ضد النظام الإمبراطوري الإقطاعي البنية الذي كان يترأسه الشاهنشاه محمد رضا بهلوي، فمع تغييرات شكلية في الإقتصاد الإيراني رسخ الإسلاميون حرية التملك التجاري وهي أساس الإستغلال والتهميش الطبقي والإقليمي وظلم النساء! ولأجل هذه الحرية سحقوا نشاط النقابات العمالية والمهنية، والجمعيات اليسارية ثم الليبرالية، ودفاعاً عن هذا القمع والسحق زاد الإسلام السياسي أعمال البطش والتعذيب والتضليل.



9- من نتائج الوسطية والأسلمة :

بهذه الجرائم والرزايا التي مزجت بالإسلام تحورت ثورة إيران للحرية من الحالة الإقطاعية الموالية للإمبريالية وتغيرت إلى حالة رأسمالية موجهة بتحكم الامبريالية في حركة وتجارة إيران الخارجية. فبفعل التغيير/الإطفاء الإسلامي للثورة: إنخفض طغيان الإقطاع والملوك وزاد طغيان الرأسماليين والبنوك على المجتمع. أما في مستوى الإقليم فقد إندى الإسلام السياسي إلى تعزيز للنشاط الصهيوني عبر دفع دول وجماعات عربية وإسلامية إلى طلب حماية إسرائيل لهم من ما يسمونه "الخطر الإيراني". وبمنطق ردود الفعل الطائفية والإثنية والقومية والوطنية والعالمية تبدلت عداوات النظم الاخرى الدينية الإعتداد وتغيرت إلى حالة مصالح متناغمة تعزز سيطرة سادة بنوك و شركات بريطانيا وأميركا وحلفائهم على نظام وجود الدول وعلاقاتها.



10- الخلاصة الأممية:

بالإتعاظ بسلبيات الثورة في إيران المجسدة بفكرة "الحد الأدنى" وعقيدة "الإسلمة" ونتائجها الماثلة في تحكيم الدين ومذهب منه في مصير دولة، وتحكيم السوق في معيشة الناس، وتحكيم شخص واحد في مصير أمة تبدو تشظيات العالم التي رافقتها أو حدثت بأثر منها أو تحدث الأن تعبر عن حاجة كافة المجتمعات في العالم لثورات جديدة إجتماعية إقتصادية ثقافية وسياسية على نسق إشتراكي تعاوني وديمقراطي متكامل وأن تكون ذات قدر من التزامن والترابط العالمي وليست متفرقة في قرى أو دول هامش الإمبريالية، وأن تتركز طلائعها داخل مركزي السيطرة الإمبريالية في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.



موازين:


Laura Neitzel
What is Revolution?
Department of History Brookdale Community College
columbia.edu/cu/weai/exeas/asian-revolutions/pdf/what-is-revolution.pdf


سجل لبعض الأسباب والأحداث التي شكلت الثورة الدستورية في فارس قبل وبعد عام 1905
en.wikipedia.org/wiki/Persian_Constitutional_Revolution


لينين، تقرير عن ثورة 1905 [في روسيا]
ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=53810


قيس جواد العزاوي
الدولة العثمانية: من الخلافة إلى الانقلابات 1908-1913
archive.org/details/OttomanEmpire19081913


إنقلاب القوى الإمبريالية والرجعية عام 1953 على الحكم الديمقراطي في إيران
archive.nytimes.com/www.nytimes.com/library/world/mideast/041600iran-cia-index.html


تأميم الدول العربية منذ السبعينيات لإنتاجها النفطي
en.wikipedia.org/wiki/Nationalization_of_oil_supplies#Strategic_control


David Allen
Realism and Malarkey: Henry Kissinger’s State Department, Détente, and Domestic Consensus
MIT’s Journal of Cold War Studies, Vol.17 No.03, Summer 2015


هنري كيسنجر وإيران http://inthesetimes.com/article/18460/henry-kissinger-greg-grandin-US-blowback-middle-east


المخابرات الإسرائيلية رفضت إغتيال آية الله الخميني
thejc.com/news/world/jews-and-iranian-revolution-1.474359
theguardian.com/world/iran-blog/2015/jun/05/mossad-assassination-irans-khomeini-says-israel- http://www.inss.org.il/he/wp-content/uploads/sites/2/systemfiles/New%20book%20claims%20Israel%20was%20asked%20to%20assassinate%20Khomeini.pdf


Meghna De
The Iranian Revolution: Deconstructed using the Marxist Theory


Torab Saleth
Class Nature of the Iranian Regime
socialist-forum.com/manabe/SalethTorab/TorabSaleth_ClassNatureIranianRegime.pdf


عن الأقليات الإثنية والدينية والطائفية في إيران والعنصرية المركزية
fas.org/sgp/crs/mideast/RL34021.pdf


Saber Nikbeen
Revolution and Counter-revolution in Iran: A Marxist View - Part One
the HKS, Iranian Socialist Workers Party, 1983
marxist.com/revolution-counterrevolution-iran120903/-print-.htm
marxist.com/revolution-counterrevolution-iran150903.htm


حسين عمران
الثورة الإيرانية: كيف انهزم العمال وانتصر آيات الله
مجلة الشرارة، عدد 1 مارس 1999
revsoc.me/revolutionary-experiences/lthwr-lyrny-kyf-nhzm-lml-wntsr-ayt-llh



بعض يوميات الثورة الإيرانية
brookings.edu/blog/order-from-chaos/2019/01/24/the-iranian-revolution-a-timeline-of-events/


تغير أجزاء من تركيبة قيادة الدولة الإيرانية خلال 40 سنة بزيادة تعداد المدنيين والنساء والمرشحين وانخفاض تعداد رجال الدين
iranprimer.usip.org/blog/2019/feb/05/revolution-40-politics-numbers








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن


.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح




.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا