الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في «بجعات برّيّة»

ضيا اسكندر

2019 / 2 / 25
الادب والفن


«بجعات برّية» للكاتبة الصينية يونغ تشانغ. سيرة ذاتية بمواصفات رواية للجدّة والأمّ والبنت. تؤرّخ وقائع الثورة الصينية التي حصلت عام 1949 وإرهاصاتها خلال العقود الأخيرة ما قبل الثورة وما بعدها. وذلك حتى عام 1978.
رواية عظيمة، بل ملحمة أخّاذة. طويلة بعض الشيء (أكثر من 600 صفحة) تُرجِمَت لأكثر من ثلاثين لغة. سَجّلت بموضوعيّة ما للثورة وما عليها. تُعَدُّ دُرَّة الأدب الصيني بلا منازع. ولا بدّ من التنويه إلى تألّق المترجم «عبد الإله النعيمي» الذي كان موفقاً جداً في هذا السِّفر الإبداعي الساحر. والذي يجعلك توقن بأن هذا العمل وكأنه كُتِبَ باللغة العربية.
بعض الانطباعات عن الرواية:
لفت انتباهي في الحقبة الماويّة الشروط الصعبة للحصول على لقب (شيوعي) وذلك قبل انفتاح الصين وزوال تشدّدها. والاختبارات النظرية والعملية القاسية التي يخضع لها طالب الانتساب ليتمّ قبوله. ومراقبته الدائمة في أدقّ خصوصياته. وإذا كان المرء لا يريد الانضمام إلى الحزب فسيشار إلى ذلك في ملفه الشخصي وستلاحقه الشبهة «لماذا لا يريد الانضمام إلى الحزب؟!» كما أن التقدم بطلب الانتساب وعدم قبوله أيضاً يثير الشبهات «لماذا لم يُقبل؟ لا بدّ أن ثمّة شيئاً ليس على ما يرام!»
ترصد الرواية بإبهار تدخّل الحزب في حياة الناس إلى درجة لا يحتملها عاقل:
ممنوع طبخ الطعام في البيت، بل يتم تناوله في المطعم الحكومي الشعبي. وطبعاً بنوعية سيئة.
اللباس: يجب ألا يكون بألوان زاهية حتى للأطفال لئلاّ تتسلل النزعة البرجوازية إليهم.
الاستحمام بالماء الساخن هدر لا لزوم له وتقليد خسيس للبرجوازية.
ارتداء (الكرافيت) تُعدّ جريمة!
الويل كل الويل لمن يتفوّة بكلمة نقدية للحزب أو للتجربة الاشتراكية. فالموت يغدو أمنية له! حيث يتم إحضاره إلى ما يسمى «الاجتماع التنديدي» ويمارَس عليه أفظع صنوف التعذيب.. وطبعاً مهما كنتَ بارعاً بأداء«رقصة الولاء» وفنّاناً موهوباً بحفظ وترديد الأناشيد التي تمجّد الزعيم.. فهذا لا يعفيك من أنك قد تتحوّل بنظرهم في لحظة ما إلى «عدوّ طبقي» ومن «أنصار الطريق الرأسمالي» يستوجب تسفيرك إلى إحدى القرى النائية وإجبارك على مزاولة الأعمال الشاقّة هناك إلى أجلٍ لا يعلمه أحد.
قراءة أيّ كتاب بلا غلاف ماركسي، يستنزل عليك أشد عبارات النقد. لكون من يفعل ذلك مثقفاً برجوازياً.
«الثورة الثقافية» التي وحّشت العلاقات الإنسانية وتسبّبت بتغريب عوائل لا تحصى.. والتي دعا إليها الزعيم ماو كانت الغاية منها التخلّص من معارضيه. أدّت إلى تدمير التراث الثقافي التقليدي؛ فحطّم التماثيل وحرق الكتب واللوحات الفنية التي (تتعارض) مع الاشتراكية من قِبل الحرس الأحمر. وتم استبدال أسماء الشوارع والساعات بأسماء ثورية مثل (شذا الريح العذبة) استُبدِلَت بـ (نفحة البارود).. وتم إغلاق جميع المقاهي والحانات حتى عام 1981 فهي تشجّع على التنبلة وترمز إلى الاستجمام المحظور.
إيّاك ثم إيّاك أن تفضّل زوجتك أو عائلتك على واجباتك الثورية.. وعليك أن تنتقد ذاتك في كل اجتماع وفي كل لقاء حزبي كدليل على حماستك الوطنية. فأنت مشتبه بك دائماً وأبداً!
على الشيوعي أن يهب نفسه للثورة وللشعب. ويتخلّى عن كل ما يلهيه عن واجباته الوطنية؛ بحيث أن أي مظهر من مظاهر حبّه لأطفاله كان يُنظر إليه باستهجان على أنه دليل ولاءات موزّعة.
«"الإله المعبود" ماو تسي تونغ» الذي بقي رئيساً حتى وفاته عام 1976 يلقي خطاباً يقول فيه: «إن 5% من المثقفين هم (يمينيّون) خونة وأعداء للثورة. بعد أن تم استدراج الأفاعي للخروج من جحورها» ويقصد بذلك بعد أن سمح لهم بنقد التجربة الاشتراكية. وهنا كانت الطامّة الكبرى؛ إذ يتوجّب على كل مسؤول (مدير مدرسة، جامعة، صحيفة، مسرح، تعاونية، معمل.. إلخ) أن يقدّم في تقريره أسماء المشتبه بخيانتهم للثورة. وهذا يعني تجريم ملايين الصينيين. وهيهات أن يثبتوا براءتهم!
مرةً طلب الزعيم «ماو» من الشعب أن يزوّدوا أفران الصهر بالمعادن. فالصين يجب أن تكون الأولى في العالم بإنتاج الفولاذ. تحت شعار «الطفرة الكبرى إلى الأمام» فما كان منهم إلا وقاموا بتقديم كل ما لديهم من طناجر وأسرّة معدنية وسياج الحدائق وحتى المسامير والخردوات المبعثرة في الطرقات.. وتم سحب أكثر من 100 مليون فلاّح من أرضه للزّجّ بهم في أعمال الصهر. وكانت مجزرة حقيقية للغابات بسبب استخدامها كوقود للأفران. مما أدّى لمجاعة راح ضحيتها الملايين.
ومع ذلك، فإن الرواية ترصد جوانب مدهشة، بل أسطورية لشخصيات التزمت بصرامة نادرة بالمُثُل الشيوعية ونالت احترام وثقة الشعب بمختلف توجّهاته بالشيوعيين الصينيين.
استمرّت هذه العقلية في إدارة شؤون البلاد حتى مطلع الستينات. حيث تم بعد (المجاعة) إعادة النظر في الكثير من القوانين والقواعد الناظمة للاقتصاد. وبدأت الصين تدريجياً بالتطور والازدهار. لا سيما في مرحلة دينغ شياو بنغ بعد وفاة ماو تسي تونغ.
«بجعات برية» رواية صادمة مملوءة بالآلام والقهر، تضعنا أمام أسئلة لا شفاء منها، أسئلة إشكالية عميقة:
كيف يُصنع واقع المقهورين؟ وكيف يمكن تجاوزه، وتجاوز خيباته، وما السبيل إلى ذلك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - «بجعات برّية» للكاتبة الصينية يونغ تشانغ
ليندا كبرييل ( 2019 / 2 / 26 - 03:29 )
الأستاذ ضيا اسكندر المحترم

تحية وسلاما

شكراً لقلمك الكريم الذي قدّم للقارئ العربي هذه الرواية العظيمة أو الملحمة الأخّاذة كما تفضلتَ بوصفها
سأسعى حتماً في أقرب فرصة لاقتناء هذه الرواية فقد شوّقتْني التقدمة لقراءتها

تفضل تقديري


2 - «بجعات برّية» للكاتبة الصينية يونغ تشانغ
ليندا كبرييل ( 2019 / 2 / 26 - 03:30 )
الأستاذ ضيا اسكندر المحترم

تحية وسلاما

شكراً لقلمك الكريم الذي قدّم للقارئ العربي هذه الرواية العظيمة أو الملحمة الأخّاذة كما تفضلتَ بوصفها
سأسعى حتماً في أقرب فرصة لاقتناء هذه الرواية فقد شوّقتْني التقدمة لقراءتها

تفضل تقديري

اخر الافلام

.. من شارموفرز إلى نجم سينمائي.. أحمد بهاء وصل للعالمية بأول في


.. أنت جامد بس.. رسالة منى الشاذلي لـ عصام عمر بعد أدائه في فيل




.. عصام عمر وركين سعد من كواليس فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد


.. أون سيت - لقاء مع الفنان أحمد مجدي | الجمعة 27 سبتمبر 2024




.. أون سيت - فيلم -عاشق- لـ أحمد حاتم يتصدر شباك التذاكر