الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم سكر

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2019 / 2 / 26
الادب والفن


أعتقد أن الوقت قد حان لكي أحكي قصة "أم سكر"؛ فقد صار هذا ضروريًّا، ولا داعي للتأخير أكثر من ذلك. حسنًا، قد يتساءل البعض — وهم محقون في تساؤلهم — عن مدى أهمية حكاية "أم سكر" وقد فارقت هي عالمنا منذ سنوات. سر الأهمية أن الحكاية غير معلومة والكل يتكتمها كأنها سر حربي خطير؛ وهو ما يعني أنها حكاية مهمة يريد البعض أن تبقى طي الكتمان إلى أن تمسي طي النسيان.
الأصل في الأمر أن "أم سكر" كانت تعيش في أحد المنازل الريفية التي تقع بالقرب من الطريق، وإن كانت لا تقع على الطريق نفسه. كانت تعيش في المنزل مع اثنين من أبنائها؛ أحدهما غادر القرية فرارًا في جنح الظلام بعد أن قيل — وليس كل ما يقال صحيحًا، وكذلك ليس كذبًا — أنه سرق حلي أمه البسيطة ليشتري مساحة فوق سطح إحدى البواخر التي اتجهت إلى إيطاليا، أما الآخر فكان يعيش معها في المنزل نفسه.
كان منزلًا ريفيًّا تقليديًّا للغاية بل إنه حتى بمقاييس المنازل الريفية التقليدية يعد بسيطًا.
وكانت تعيش فيه مع ابنها الأصغر المعاق ذهنيًّا. يقولون إن زواج الأقارب يؤدي إلى إنجاب أطفال معاقين، وكذلك يقولون إن من ينجبون كبارًا يزداد لديهم احتمال إنجاب أطفال معاقين. حسنًا كانت "أم سكر" وزوجها "حميد" قريبين من جهة الأم، وكان يفوقها سنًّا بكثير. لا غرابة إذن أن يأتي الابن الأصغر معاقًا. لكن بعض أهل القرية — ومنهم "السركاوي "صاحب المقهى الوحيد — كانوا يعتقدون أن الابن المعاق لم يكن الأصغر، وحار البعض الآخر وهم يحاولون معرفة السبب الذي البعض الأول يقولون ذلك.
امتدت يد التمدن إلى القرية، وبدأت محاولة توسعة الطريق. والكل يعرف أن محاولة التوسعة تعني وضع يد الدولة على أراض، وتعويض أصحابها. لم يكن الحديث قد شاع في القرية عن شق طريق جديدة أو توسعة القديمة، ولكن الأخبار تتسرب بين الكبار لتصل إلى من يليهم في الترتيب، وكان العمدة ممن يلون هؤلاء الكبار في الترتيب.
وصلت أخبار تحديث الطريق المجاور للقرية إلى العمدة قبل غيره؛ ومن ثم بدأ عملية شراء واسعة للأراضي، والكل يعرف أن العمدة لا يملك كل المبالغ التي ينفقها هذه، وكان الجميع يتساءل عن ذلك المحامي الذي يرتدي حلة كاملة ويتكلم مثل الخواجات والذي كان يرافق العمدة في كل عملية شراء.
البعض كذلك ممن يعرفون القراءة والكتابة استطاعوا أن يروا أن اسم المشتري ليس العمدة، ولكن شيخ الغفر أشاع في المقهى أن العمدة حويط ولا يريد أن يعرف المسئولون أن لديه المال الكافي لشراء هذه الأراضي فتبدأ المساءلة عن ذمته المالية، وهو لا يريد أن يقول إنه حصل على المال من ميراثه بعد وفاة زوجته الثانية التي لم يكن أهل البلدة يدرون عنها شيئًا. انتشر الحديث مع دخان الجوزة والشيشة والشاي والمشاريب التي تكفل العمدة بمقابلها كلها لأهل البلدة بمناسبة نجاح ابنه الأكبر في السنة الأولى من كلية الزراعة بالقاهرة.
الكل باع للعمدة الأراضي التي أراد شراءها... حسنًا... ليس الكل بالتحديد؛ لأن "أم سكر" رفضت البيع. عرض العمدة عليها مبلغًا كبيرًا للغاية لكنها قالت إنها ليست في حاجة إلى المال؛ فدخلها من النصبة التي تقع على الطريق يكفيها هي وابنها مع ما يجود عليه بها أهل القرية في الأعياد والمواسم وما أكثرها.
حار الكل في معرفة سبب تمسك "أم سكر" بالمنزل رغم كل محاولات العمدة المستميتة لإقناعها بالبيع أو لإجبارها عليه. لكنها لم تقبل بالمبالغ الطائلة التي عرضها عليها. لكن الأخبار تسربت من المجالس الخاصة لـ"أم سكر" وأصفيائها بأنها ترفض البيع لأن البيع يعني قطع شجرة النارنج التي تقف في حوش المنزل. وعندما زادت الضغوط والاستفسارات على "أم سكر"، أوضحت أن الشجرة تعني بالنسبة لها البلد كلها... ليس البلد بمعنى القرية، ولكن بمعنى الوطن كله. إلى هذا الحد؟! جاءت إجابة "أم سكر " لتلقي الضوء على السر المستغلق؛ وهو أن جدها كان يختبئ وراء الأفرع الغليظة لهذه الشجرة ليطلق النار على الإنجليز أثناء "حادثة دنشواي". تقول "أم سكر" إن جدها أطلق النار ثلاث مرات على الإنجليز من وراء الشجرة، وأنه أوصى ابنه — والد "أم سكر" — بأن يحافظ عليها. وعندما عادت هي إلى المنزل بعد وفاة زوجها وطرد أبناؤه من زوجته الأولى لها هي وابنها، لم تفكر ولو للحظة في قطع الشجرة رغم عمليات التجديد التي قامت بها في المنزل.
شاعت الأقاويل أن هناك كنزًا مدفونًا تحت الشجرة، وأن "أم سكر" تخطط لاستخراجه في الوقت المناسب. لكنها لم تعبأ بهذه الشائعات، واستمرت تعيش حياتها إلى جاء الأجل المحتوم فجأة لها وهي تجلس في نصبة الشاي على الطريق الرئيسية؛ حيث انفجرت اسطوانة الغاز فجأة في وجهها دون أي سبب معلوم لتموت هي وابنها في الانفجار.
الآن باتت الدار بدون صاحب، واستعد العمدة للشراء من الحكومة التي سوف تضع يدها على المنزل لعدم وجود ورثة.
عدم وجود ورثة؟!
تناقلت الألسن أقاويل بأن ابن "أم سكر" الأكبر قد شوهد في الموقف العمومي في المركز. لم تصل الأقاويل في البداية إلى أذن العمدة، لكن بعد صلاة الجمعة أسر له البعض بما شاهدوه، وأضافوا أن الابن الأكبر — واسمه "حمدان بالمناسبة وليس سكر؛ لأن "أم سكر" نالت هذا اللقب لحلاوة الشاي الذي تعده و طيب مذاقه — يريد الاستقرار في المنزل حفاظًا على ميراث جده الأكبر.
تقلصت ملامح العمدة، عندما سمع بهذا الحديث، وقرر أن يذهب بنفسه للمركز لكي يقابل "حمدان" ويبحث معه مسألة شراء المنزل. لكن القدر لم يمهله ليس لأنه مات، ولكن لأن الابن الأكبر حضر بنفسه للقرية، ودخل منزله ليلًا في صمت دون أن يخبر أحدًا. وعندما رأى الناس أنوار المنزل مضاءة، أدركوا أن تقديرهم كان في محله، وأن الابن سوف يقيم في منزل أمه؛ فقرر العمدة أن يذهب بنفسه إلى منزل الابن ليعزيه في وفاة أمه.
وبالفعل ما إن أشرقت الشمس حتى كان العمدة بنفسه محاطًا بعدد من مساعديه يدق السقاطة على باب المنزل ليفتح له "حمدان" بوجه مشرق "تبدو عليه آثار نعمة بلاد الخواجات". طالت الجلسة إلى أن بدأت الشمس في المغيب، وعندها شاهد القريبون من المنزل العمدة يغادر المنزل برفقة مساعديه دون أن تبدو على ملامحه علامات الابتهاج؛ فتأكدت ظنونهم، وسرى الفرح في قلوبهم؛ لأن العمدة عاد خائب الرجاء.
وفي اليوم التالي عاد العمدة إلى منزل "أم سكر" الذي صار الآن منزل ابنها، ولكن كان برفقته المحامي شبه الخواجة، وبعد ساعة بالضبط خرج العمدة وبرفقته المحامي أيضًا الذي غادر مسرعًا بينما وقف العمدة برفقته شيخ الغفر بانتظار شيء ما إلى أن جاءت 3 سيارات نصف نقل محملة بعدد من الرجال الأشداء وقفت أمام باب المنزل لينزل الرجال ويبدأوا في نقل بعض الأثاث من داخل المنزل.
لم يفهم أهل القرية ما جرى في البداية، ولكن في جلسة المقهى في تلك الليلة، سرت الأنباء بأن ابن "أم سكر" تشدد، ورفض بيع المنزل للعمدة في البداية لخلاف على السعر ، جرى حله بعد أن وصل المحامي شبيه الخواجات.
والآن يمكنك السير على الطريق بعد توسعتها بكل راحة ودون أن تعترضك أية عوائق، ولا حتى أشجار معمرة قيل عند اقتلاعها بداعي توسعة إنها نمت في تلك الأماكن عشوائيًّا وحان الوقت لتصحيح الأوضاع واجتثاثها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع