الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كل ما تعلمته من الكتب العربية هو أن العرب(كانوا)

عمر بن أعمارة

2019 / 3 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


على أحد مواقع التواصل الاجتماعي نشر صاحبه صورة لامرأة يبدو وجهها متواري خلف كتاب وعلى ظهر الحائط كتبت الجملة العريضة الآتية: "كلما تعلمته من الكتب العربية هو أن العرب (كانوا)".أكيد أن هذه العبارة يطبعها غير قليل من التعميم وربما صاحبها يحمل ألما ما، لكنها تفصح عن واقع مرير أصبح هو السائد حيث الناس يهجرون أفواجا إلى ماض مضى واندثر دون رجعة.
ذات زمان كتب المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ (1886-1944):"البشر هم أبناء عصرهم أكثر من آبائهم". قد تبدو هذه العبارة من البديهيات، لكن ما الذي يجر فئات واسعة من الناس في عصرنا إلى الرغبة في العيش في أزمنة غابرة ؟ ما الذي يحول أنظار مجتمعات من التطلع إلى مستقبل يليق بشكل وجودها إلى الحنين إلى نمط عيش لم يعد قابل للعيش ؟ ما الذي يجعل أمة تغيب عن حاضرها وتتحول إلى مجرد كائنات تراثية يغريها كل ما هو آت من ماضي الأجداد رغم أنه لا يقدم أي نماذج أو برامج صالحة للعصر ؟ ما الذي يحفز جمهور عريض على النفخ في رماد بدل إيقاد النار ؟ ما الذي يغري شرائح مختلفة من الشعوب كي يعملوا جاهدين على إيقاظ الموتى وجعلهم يفكرون ويقررون مكانهم بدلا من أنفسهم ؟ أي برامج أي مشاريع أي مستجدات أي اقتراحات مازالت مخبوءة تحت رميم الأجداد غير الإعلان على أنهم مروا ذات زمان غابر على سطح هذه الأرض وسجلوا حضورهم في عصرهم بالشكل الذي ناسب زمنهم لا زمان أحفادهم وتركوا آثار أقدامهم وبصمات أصابعهم ؟ ما الذي يجعل شعوبا بدل أن تتماها مع حاضر الأمم المتقدمة وتحاكي الشعوب الناجحة راحت تنسج وترمم ماض مثالي كي تسكنه بكل جوارحها ؟ ما الذي يجعل منظومات جاهزة ومغلقة وأفكار أجيال غابرة من طينة ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب...تطفو في أفقنا وأصبحت مرغوب فيها بدلا من إطلاق العنان لعقولنا وفكرنا ؟ ألا نمتلك إمكانات التشريع لأنفسنا بعيدا عن استحضار نصوص راح زمانها ؟ لماذا أصبح أبطال من طينة خالد ابن الوليد وصلاح الدين الأيوبي...يمثلون نماذج للإقتداء بدل الانخراط والانتماء لعصرنا ؟
هذا الكم الهائل من الحضور للأفعال والأفكار والرموز الماضية ومن الحنين للعيش في ماض لم يعد يُحَدِّث أحدا ولم يعد صالحا للحياة، هذه الكثافة من الدعوات اللامتناهية للعودة إلى رميم الأجداد وما تبقى من الأطلال التي لم تعد صالحة للسكن. هذا الإصرار على ارتداء جلباب الأجداد المتآكل والذي لم يعد يقي من قر أو حر العصر. في كل مرة تطلع علينا جهة ما بنبأ أو إعلان: "الجنة الأرضية في ثنايا طلاسم الأولين"،"مستقبلنا في ماضي أجدادنا"،"مفاتيح الحاضر موجودة في الماضي". هذه الدعوات المتكررة إلى جعلنا نعتقد أننا لا نسكن الحاضر إلا مؤقتا أو بشكل خفيف أو لسنا من أهله في انتظار ماض سيعود لينقذنا ويحررنا من براثين تخلفنا وجهلنا وكي يعبر بنا إلى مستقبل ماض كان هو حاضر أجدادنا. هل نحن شعوب تراثية حتى اللعنة ؟ أم حيوانات لا تملك من الأبعاد إلا بعدا واحدا قارا هو الماضي؟ هذه النداءات المسترسلة التي تعمل على تغييبنا كأفق ولا تستحضر إلا ما تلاشى وأصبح من عهد عاد. أي خلاص تحمله لنا والذي ستستخرجه من أجداث الذين مروا ودبوا من قبلنا على سطح هذه الأرض ؟ هذه المشاريع التي لا تصرّف الأفعال كلها إلا في الماضي دون الحاضر والمستقبل. لماذا كل هذا الإلحاح على أن يسكننا أجدادنا ويتحدثون فينا ومن دواخلنا بدلا من أن نسكن أنفسنا ونتحدث عن ذواتنا نحن وفق متطلبات عصرنا ؟ يبدو أن المستقبل كأفق لا أفاق له داخل جميع هذه البرامج والأجندات العدمية.
دعاة ووعاظ رأسمالهم الفكري: هول وعذاب القبور وحَجْبُ المرأة ووأدها مع الاقتيات من كل ما هو عجائبي غرائبي وخرافي، تشتغل تحت منظومة جاهزة أرضيتها المنع وسقفها التحريم وأفقها الآخرة، تطفوا وتغزوا الفضائيات وجميع مواقع التواصل الإجتماعية والمساجد والفضاءات العمومية، تلقى الترحيب والمساندة من طرف جيش عريض من الموردين.
لماذا يراودنا هذا الكم من الأوهام بشكل مسترسل دون انقطاع أو توقف و دون حتى أن نتساءل ؟ ما الذي حولنا إلى مجرد كائنات تراثية تفكر تراثيا تنام وتأكل وتعمل وتتنفس تراثيا ؟ شعوذة تمتد في كل الاتجاهات (العين والحسد والشيطان والآخر) كأدوات للتحليل وخلاصات تفكيرنا، لماذا نجاور كل هذه الأصوات التي تدعونا وتشدنا دائما إلى الوراء إلى الخلف إلى الماضي وفي أخف وأقل الأضرار تعمل على استدعاء هذا الماضي بحذافيره. حتى الآن لم ينفذ صبرنا ونحن ننتظر المهدي المخلص الذي سيأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا وسعادة بعد أن ملئت جورا وفسادا !
دجلة يأتوننا من أصقاع التاريخ محملين بكل ما فات ومات ورميم ونحن نصطف من ورائهم كأنهم حاملين لنا نصر الله المبين وسيعبرون بنا إلى جنات الأرض والسماء أفواجا. لقد استنفذنا كل خطابات المنع والتحريم والآخرة وهجرنا العقل إلى اللاعقل. لماذا كل هذا الإصرار على استدعاء كل ما هو مظلم من تاريخنا والدفع به للإشتغال مع جعله المحور في كل برامجنا ؟ لماذا تحولنا إلى بومات العصر لا نحط الرحال إلا على ما تبقى من أطلال أو خراب أو أجذاع نخل خاوية ؟ لماذا صرنا غربان عصرنا لا نقتات إلا مما هو جثث ؟ لماذا أصبحننا نضاهي الأنعام أو حتى أكثر في الاجترار ؟ كيف تحولت شواهد قبور أجدادنا إلى أشكال من قشاة الخلاص في عصر ركائزه: العقل والعلم والقوة ؟ لقد أكثرنا من النفخ في رماد بارد هجرته النار والجمر منذ عهود. لماذا تغيبنا عن حاضرنا ولازلنا نصر على تسجيل حضورنا في حاضر كان لأجدادنا وأصبح من العصور الغابرة ؟
هذا الكم من المعجزات ! ما الذي حولنا إلى كائنات لا تضع رؤوسها إلا على مخدات الأوهام ؟ يبدو أن السحر الذي عمل الغرب على نزعه من عالمه التقطناه نحن وأضفناه إلى ما هو متراكم علينا.
يبدو أن إعصارا ما مر ولم نعد نرى إلا أشلاء وشظايا التفكير الحر الفلسفي العميق وأصبحت القلة القليلة من يقتات من بقايا هذا الفكر وراحت الأغلبية تتماها مع فكر سلفي دعوي وعظي تقليدي يشتغل على شكليات وجزئيات مملة وقاتلة وتمتح من تراث يدعو ويستحضر كلما هو رميم. العقم هو عنوان المرحلة ولاشيء يعلو فوق التفاهة، والضحالة هي المسبح الوحيد الذي أصبح الجل يستحم فيه تحت مسميات وعناوين وتوقيعات متعددة.
الدولة المستبدة المجاورة للحداثة سلبت منا الحاضر وكل إمكانات التفكير والبرمجة للمستقبل هكذا تحولنا إلى سيزيف العصر وأصبحنا نعاند الزمن ونعاكسه فكلما تقدم العصر خطوة إلى الأمام عملنا بكل قوانا لنعيده إلى الوراء وتحول الماضي إلى مغناطيس لم نعد ننجذب إلا له، هذا الماضي الذي أصبح مجرد وعود وهمية لتوفير مخدات مريحة وكل أشكال الاطمئنان الوجداني والنفسي كأنما شكل الوجود الوحيد الممكن والقابل للعيش الذي تبقى لنا هو ماضي أجدادنا.
لقد عمل العقل السلفي الدعوي الوعظي بكل ما أوتي من قوة وبجميع الوسائل ونجح إلى حد ما في تحويل الماضي إلى قيود من أجل السيطرة على كل ما هو عقل وحرية ومستقبل في أفق الشعوب الإسلامية.
في هذا الزمن الذي يعرف فشل المشاريع وانسداد في الآفاق وانسحاب السرديات الكبرى إلى الهامش، إذ لم تعد قادرة على الإشتغال تحت أي وعد جميل، أو أن تقدم إجابات مطلقة ونهائية وأن تبشرنا بجنّات فوق الأرض. في هذا الخضم سقطت البوصلات وتاه الكثيرون في صحاري الخواء والفراغ، واتسعت رقعة العدم ولم يجد العقل السلفي الكسول من وسادة مريحة كي يضع رأسه عليها إلا ماضي الأجداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي الصادقة للكاتب الثائر
ملحد ( 2019 / 3 / 3 - 13:46 )
تحياتي الصادقة للكاتب الثائر
هذه الكلمات الثائرة من افضل ما قرأت اليوم
تعقيب سريع: انا عن نفسي, لم ولن اقبل ان ارتدي جلباب أبي( = اعيش كما عاش أبي…). لاحظوا ان الامر هنا يتعلق بفرق جيل واحد فقط! جيل ابي وجيلي = 20- 25 عاما فقط….
فما بالك باؤلائك الذين يريدون ارتداء جلابيب اجدادهم واسلافهم????!!!!! ( = يريدرن ان يعيشوا كما عاش اجدادهم واسلافهم ???!!!) فالامر هنا يتعلق بفرق عشرات بل مئات الاجيال?????
هناك أناس فعلا مريضون …… امثال اؤلئك بحاجة ماسة الى علاج نفسي/عقلي سريع وطارئ


2 - خطبة جمعة عروبية
حورس ( 2019 / 3 / 3 - 15:41 )
مقال انشائي ذكرني بخطب الجمعة، تلك الخطب تدعو للعودة للسلف الإسلامي والمقال يدعو لتجاوز ذلك السلف الإسلامي، والقارئ الذي لا يزال غارقا في وهم العروبة سيقول يا سلام مقال _تنويري_ وكاتب جهبذ...
هو مقال كغيره ممن يزعمون أنهم الحل، يتكلم عن نصف الداء ويظن أنه بنصفه الآخر سيشفى، مقال يعكس إلى أي مدى يمكن للخرافة أن تصبح حقيقة لا تناقش يسبح بحمدها أدعياء العقل والمنطق والتنوير.
للكاتب ولقرائه، الداء معروف وليس علوما ذرية وإسمه عروبة وإسلام؛ العروبة يجب أن تعاد إلى صحرائها والإسلام يجب تقليم مخالبه ولن يتم ذلك وكل هؤلاء يسبحون في وهم العروبة.
قلت _الداء معروف_ ، للأسف ليس للكاتب ولأغلب من يتصدرون المنابر الذين بهم ينخدع الأغلبية من دارسين وأميين؛ كلهم في الوهم والجهل سواء.


3 - الى الاخ المحترم تعليق
ملحد ( 2019 / 3 / 3 - 16:28 )
الى الاخ المحترم تعليق 2
يبدوان بوصلتك قد تاهت! واصبحت تشير للشمال وكأنه الجنوب….
او أنك كنت تحت تأثير شئ ما عندما كتبت تعليقك 2....
الكاتب يتفق مع تعليقك 2 جملة وتفصيلا...
انصحك بمراجعة تعليقك 2 قبل ردك عليّ…
تحياتي لك مرة اخرى


4 - تعقيب
حورس ( 2019 / 3 / 3 - 16:45 )
لا أظنك أهلا لتنصحني لا أنت ولا الغالبية الساحقة من أدعياء التنوير في هذا الموقع وغيره. كلهم يقولون بالهوية العروبية لشعوبهم ولدولهم ولأراضيهم عزيزي ملحد، كلهم يسبحون في نفس الوهم الذي يستحيل التقدم خطوة معه.
ولتتأكد من قولي، اسأل الكاتب عن هوية شعبه؟ عن دولته؟ عن أرضه؟ ومهما كانت خلفيته سيؤكد كلامي.


5 - الكتابة برؤية مشوشة
sasey ( 2019 / 3 / 3 - 21:09 )
بغض النظر عن تميع الفكرة و التباسها في ذهن الكاتب ، كما في ذِكره لعهد عاد (الخرافي) ، و كما في قوله : - راحت تنسج وترمم ماض مثالي كي تسكنه - ، فهو هنا يصف ماضي الشعوب التي يعتبرها حضرته شعوبا عربية ! ، بأنه (مثالي) ، بالمعنى الإيجابي لكلمة (مثالي) ، أي أنه كان بنظر الكاتب ماض (مجيدا) و ليس بالمعني السلبي لكلمة مثالي (غيبي و خيالي) .
و بغض النظر عن الأخطاء النحوية ، كما في - اصبحت (مرغوب) فيها - بدلا من (مرغوبا) ، و كما في - يحفز (جمهور) عريض - ، بدلا من (جمهورا عريضا) . و كذلك الأخطاء الإملائية ، كما في - تطفوا و تغزوا - بدلا من (تطفو و تغزو) ، وفي - قشاة - بدلا من (قشات) !
فالكاتب الذي أظنه تونسيا ، يظن أن شعوب شمال أفريقيا (المعربة لغويا) بما فيها الشعب التونسي ، تنتمي (قوميا / عِرقيّا) إلى (الأمة العربية) الوهمية ، الأمر الذي تنفيه نفيا تاما وقائع التاريخ (غير المزور) كما ينفيه نفيا مطلقا علم الجينوم . لكن الكاتب - في خطبته العروبية - يظهر كغيره من (العروبيين) مشحونا بالوهم العروبي ، و هو لا زال في عصر ثورة المعلومات ، يعيش غارقا في أوهام ماضٍ مزيف ، فبركه بنو أمية و نسّابوهم .


6 - يبدو
ماجدة منصور ( 2019 / 3 / 4 - 08:18 )
يبدو أنك قد أزعجت بعضهم كثيرا جدا0
إرأفي بكاتبنا يا عشتار0
مقلك صرخة في وادي الطرشان فعلى من تقرأ مزاميرك يا داوود0
لقد هرمنا
و تعبنا
وسئمنا
وقرفنا
وتبهدلنا
ثم تشرشحنا
من أمة لا إله إلا الله
و حسبي العقل و نعم الوكيل


7 - رائع
ايدن حسين ( 2019 / 3 / 4 - 09:05 )
رائع
..

اخر الافلام

.. شاب كويتي «مبتور القدمين» يوثق رحلته للصلاة في المسجد


.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ




.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب