الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أظافر الموتى مولعة بالحياة

دينا سليم حنحن

2019 / 3 / 4
الادب والفن


أظافر الموتى مولعة بالحياة
دينا سليم حنحن

بعد سقوط مدينة اللد في النكبة - فلسطين بيومين.
عمل سليم حنحن، والدي، خبازا لدى فرقة الهجانا التي استولت على المدينة بعد سقوطها نهائيا بأيديهم(1)، حصل وبحثت الفرقة عن فران يخبز ويطعم الفرق المسلحة التي احتلت المدينة، ولأنه، أي سليم، طويل الهامة ومكتنز البنية استطاع أن يوهمهم بإخفاء عدد سنوات عمره الحقيقية، وعندما سألوه كم يبلغ من العمر قال (بعد يومين بصير عمري سبعتاعش) وبلغ في حينه الرابعة عشر فقط فأخرجوه حالا من الأسر ووضعوه داخل الفرن للعمل، لم يتقن سليم المهنة لكنه قدم نفسه للعمل مشترطا على القيّم أن يطعم جميع أهل اللد وإلا سيتخلى عن عمله فورا قائلا له: (علمني أبي أن آكل وأن أُطعم الآخرين أيضا، ولن أسمح لكم بأن تأكلوا من زادنا وحدكم)، فلبى القائم طلبه.
انتشر في المدينة خبر المذبحة التي حصلت في مسجد دهمش، وكان ما يزال السكان محاصرون ومنع عنهم التجوال، فاضطر كثيرون إلى تسليم أنفسهم لعدم توفر امكانيات الهرب، ولجأ كثيرون للإختباء في أماكن وزوايا خفية بعيدة عن الشارع الرئيسي للمدينة التي أصيبت بالشلل التام بعد أن امتلأت بالمسلحين اليهود.
ساعد سليم الهاربين في الاختباء، ومن ضمن الروايات العديدة التي حصلت أذكر هذه القصة التي رواها لي والدي رحمه الله، وهي عندما خبأ صديقه أنطون أبو غزالة داخل الفرن لعدة أيام، شارحا لنا كيف تستر على وجوده لأنه كان مطلوبا من قبل فرقة الهغانا التي بدأت تبحث عنه وعن شباب آخرين شاركوا بالدفاع عن المدينة، لقد تستر والدي على وجود أنطون داخل الفرن بعد إخماد النار المشتعلة فيه والفرن ما يزال حاميا، وكلما أحس الهارب بألم الاحتراق بدّل البكاء بالضحك متألما حتى لا يتراجع سليم عن فكرة تهريبه، اختبأ أنطون بين شوالات الطحين المكدسة وانتقل إلى عمق الفرن لحظات الخطر وأغلق عليه سليم الفتحة، وبعد أيام قام الأخير بتهريبه إلى خارج المدينة بطريقة عجيبة وغريبة وجهارة أمام أعين الجميع قائلا له:
- إن كنت تؤمن بالله فسوف يظلل الله على أعينهم ولن يروك، وإن كنت فعلا تؤمن بالحرية خذ طريقك نحوها، وإن آمنت بنفسك فستنجح، كل ما عليك فعله هو أن تسير معي وبصورة طبيعية ودون أن تلفت الأنظار حتى نصل معا خارج حدود الفرن، لن يروك وسترى كيف سيصابون بالعمى، وإن حصل وأوقفوك قف ولا تعاند ولا تخف وسأقول لهم أنك لا تحسن النطق وأنك أبلما(2) وأنك أتيت إلى هنا حتى تحمل الأرغفة للسكان، وإن حصل وسألوني عن وجهك الملسوع والذي نالت منه بعض لهب النيران، سوف أخبرهم أنك مريض بالحصبة، حينها ستشاهد بعينيك كيف سيخشون على أنفسهم منك وكيف سيطلبون منك الابتعاد سريعا!
- لكن يا سليم بدك تهربني مع شروق الشمس؟ طيب خلينا نستنى لليل والليل ستار العيوب! قال له أنطون خائفا
- في الفجر تبدو الأشياء طبيعية، واحد حامل على رأسه مسند خشب مليان بالأرغفة وطالع من الفرن، بس إذا فيها (لكن) ما راح تنجح في الهرب وراح يمسكوك ويمسكوني أنا كمان، إقرأ " الرب راعي فلا يعوزني شيء" (3) بسرك وإنتَ ماشي. أجابه سليم بكل ثقة
أخرج سليم صديقة أمام أعين الجميع ولم تره العناصر التي تجمعت عند الفرن وكأن غمامة سوداء حطت على أعينهم.
وعندما سألته وأنا طفلة:
- لماذا شددت عليه أن يقرأ "الرب راعي" يا والدي؟
- لأن إيمانه بالله يساعده على تخطي الظروف السيئة وتلهيه عن الخوف وتنسيه ما نحن زاعمان على فعله، ثم الحياة المطمئنة ملك المؤمنين الذين يخافون من ربهم ويعملون له حسابا يا ابنتي.
وكلما أتى والدي على ذكر هذا الحادث ضحك كثيرا وتاهت نظراته في البعيد، وكلما سألته لماذا يضحك يجيبني وهو يضحك أيضا:
- لما كان يضحك أنطون من الوجع كان يذكرني بموقف العسكري الذي خدم في الجيش العصملي مع جدك لما دخلوا له الخازوق في قفاه، ولما سألوه ليش بضحك كان يقول علشان أغيظهم، وظل يضحك حتى تصفى دمه ومات أمام أعين الجنود حتى يعلمهم الصبر ويكون درسا لهم بعدم الاستسلام، بس هنا الفرق كبير كتير، هو أن أنطون كل ما قعد بالفرن كان ينزل عليه الضحك نزول لأنه كل ما تسلوَع(4) ظل يتأفف ويتأوه وجعا، وحتى لا أشفق عليه وأخرجه من هناك، استبدل الألم بالضحك، عَ القليلة تسلوع وهو شبعان، وحتى أننا تعشينا سوا أقراص صفيحة بلحمة صنعتها بيدي بالسرقة عن اليهود، سرقنا من (ترميل)(5) الحارس علبة لحمة شغل أستراليا، يا لطيف شو كانت ذاكية وبتذكر كيف أكلناها متل الوحوش قد ما كُنا جوعانين، وبعد شوي أصبنا معا بإسهال مريع، لا تسأليني كيف سيطرنا عليه فهي ليلة لا تنسى أبدا، والله يابا شيء بيضحك وشيء ببكي، بس كانت ليلة مريعة صرنا نحن الإثنان نضحك على حالنا بدل ما نبكي على إللي نحن فيه، تقولي هسترنا(6) من كتر الضحك والألم، آلام البطن متل وجع السكين، ما عرفنا إذا الطحين هو المغشوش ولا اللحمة هي إلفاسدة، المهم أكلنا متل إللي إلو مش ماكل سنة... يا عالِم وين صارت أراضيه هلق، يقولون أنه في أمريكا لكن أين في أمريكا فالعلم عند الله، وربنا يطيل في عمره!
ساعد سليم الكثير من الشباب الذين اختبأوا في أماكن كثيرة هربا من الأسر، وقد أتهم بتهمة مساعدة المتسللين وتهريبهم من أيدي اليهود أيضا، لكن وبعدم وجود البراهين على ذلك لم يحاكم وقد أثبت حسن السلوك والسيرة، وقد أتقن اللغة العبرية واستطاع بدوره التعامل معهم بوجهه البشوش وبشكل ودي حرصا على سلامة عائلته معتمدا على المثل القائل (إللي ما بتقدر عليه حيل ربك عليه) و (بوس الكلب من تمو حتى تنول غرضك منو)!
حصل ما حصل واختفى من اختفى وغاب من غاب ومات من مات، وأوكلت إليه مهمة صعبة لم يحسب لها حساب وذلك بعد عدة أيام من سقوط مدينة اللد نهائيا، وهي جمع الجثث ودفنها في مقابر جماعية. قام سليم بهذه المهمة الصعبة التي دعته يكبر سريعا وجعلته يتحمل المسؤولية بإخبار ذوي الضحايا بذلك وأن يبحث عن العائلات التي تشتتت وتركت جثامين أبنائها مشتتة ومهترئة على طرف الطريق، محاولا التعرف على الوجوه التي تفسخت من شدة حرارة الشمس! لقد أصبح شاهدا هاما على مصائر الكثيرين من المفقودين والجرحى الذين فقدوا حياتهم بعد إطلاق النيران عليهم دون أن تلتقطهم يد رحيمة، لقد قلب سليم الجثث المتعفنة وحملها من العربة المكدسة بها وذهب بها إلى الحفرة، كما إنه التقط جثثا أخرى لم تتعفن بعد وألقى بها في ذات الحفرة، والتقط أخرى حاول إبقائها على قيد الحياة وفارقتها وهي بين يديه.
التقطت أذناي المتلصصتان ما قاله والدي في يوم ما:
- " أظافر الموتى مولعة بالحياة، تخرمشنا من أظافرهم عندما حملناهم إلى القبر الجماعي، شو قسوة أظافرهم هاي، شيء بمـَخوِل العقل فعلا! كنا ست شباب وبحياتنا ما شفنا ميت، لكن دبّت فينا الجرأة وما بعرف كيف؟ تقول نحن الميتين مش هاممنا شي وهم الأحياء! كانت الرائحة لا توصف، اختنقنا من الرائحة وصرنا ندوّر على سجائر نولعها علشان تغطي على الريحة، ومن وقتها أنا تعلمت الدخان وصرت أدخّن متل المجنون، وكلما دخنت سيجارة تذكرت الرائحة إللي ما قدرت تطلع مني طول العمر، بتذكر، هرب واحد منا وهو يصرخ مرعوبا، لكنهم أعادوه والبندقية فوق رأسه وهو يرتجف خوفا، ثبته في الأرض وقلت له " اجمد ولازم تكون زلمة".
خشي رجال المقاومة يِمَسْكوني البندقية لأني متهورا، كما أشيع عني، بدل ما ينادوا علي يا "سليم" قالوا عني يا "متهور"، لكني امتحنت قوتي وطباعي المتهورة في تلك اللحظات الحاسمة عندما وضعت نفسي مكان أهل الميت وأردت أن أعيد أمواتهم إلى الحياة، كم تمنيت أن يعودوا إلى أهاليهم! خضخضت قلوبهم وهززت صدورهم وفركت أقدامهم، قلت ربما يستفيقوا، مكثت معهم كثيرا وانتابتني رغبة جامحة بالتعرف عليهم، لكن الشمس بتأكل عيون الميت وهيك ببطل الواحد يشبه حالو، وما قدرت أعرف ولا حدا منهم!
صليت على الجثث وقلت "أبانا الذي في السموات"، بتنفع للكل ولو كنت حافظ إشي من القرآن كنت قلته، في هديك اللحظة بتنسى شو دينك وشو اسمك حتى".
...
(1) من أحداث النكبة. (2) أبلما: أخرسا وغبيا (3) الرب راعي: سفر أن أسفار المزامير (4) اتسلوع: لسعته النيران (5) ترميل: حقيبة ظهر، مفردة مستخدمة أصلها عبرية (6) هسترنا: هلع واضطراب، من هستيريا
*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج