الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفوضى الخلاقة ... الربيع العربي وأشياء أخرى بينهما

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2019 / 3 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


إستبشرت البشرية خيرا ببزوغ الألفية الثالثة, بأن عهدا جديدا في العلاقات الدولية يقوم على العدل والإنصاف والتكافؤ والتعايش السلمي بين الدول صغيرها وكبيرها على الحد السواء, ويلغي مآسي الحقب الإستعمارية السابقة التي شهدت حروبا وصراعات أودت بحياة الملايين من البشر , عهدا تسوده الرغبة ببناء عالم آمن ومستقر قائم على حق الشعوب بتقرير مصيرها وحريتها بإختيار نظمها السياسية على وفق معتقداتها الفكرية, دون المساس بحرية وأمن الشعوب الأخرى , وتحريم كل أشكال القهر والعبودية ومصادرة حقوق الشعوب , هذا ما روجت له وسائل الإعلام الغربية الواسعة الإنتشارمعلنة قيام نظام دولي جديد في أعقاب إنتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, والمعسكر الإشتراكي بقيادة الإتحاد السوفيتي ,وذلك بعد تفكك الإتحاد السوفيتي وإنهيار منظومة حلف وارشو وسقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا وتفتيت يوغوسلافيا في أواخر عقد التسعينيات من القرن المنصرم.
إلاّ أنه سرعان ما تبددت هذه الأحلام الوردية , وبخاصة في المنطقة العربية وبعض مناطق العالم الأخرى,حيث كان بزوغ الألفية الثالثة بالنسبة إليها نذير نحس وشؤم لشعوبها , إذ شهد الكثير من بلدانها صراعات دموية وحروب أهلية مدمرة ,أشعلت فتيلها مصالح بعض الدول الكبرى التي باتت تنفرد بالتحكم بمصير العالم, نظرا لما تملكه من قدرات مادية وتقنية وعسكرية هائلة .
بدأت أولى هذه المآسي بغزو العراق وإحتلاله عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي روجت وسائل إعلامها في بادئ الأمر أنها جاءت محررة لا غازية , ساعية لمساعدة شعوب المنطقة لإرساء قواعد نظم ديمقراطية في بلدان عانت سنين طويلة من حكم الفرد المستبد, ليعم بعدها الأمن والسلام في أجواء الحرية والديمقراطية,بدعاوى باطلة بإمتلاك العراق أسلحة دمار شامل تهدد أمن المنطقة والعالم , ثبت فيما بعد للقاصي والداني زيفها , وإتهمته زورا بالتعاون مع تنظيم القاعدة الإرهابي الذي أسسته هي وحلفاؤها السعوديون والخليجيون في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم لمحاربة القوات السوفيتية المتواجدة يومذاك في إفغانستان. إنطلقت القوات الأمريكية الغازية من قواعدها العسكرية في الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية وبدعم مباشر من معظم البلدان العربية التي تتباكى اليوم حكوماتها ووسائل إعلامها على عروبة العراق ووحدة أراضيه وتشريد شعبه الذي ترفض إيواء أي لاجئ منه ولو بصورة مؤقتة.
وبعد أن ثبت زيف الدعاوى الأمريكية بعد إحتلالها العراق جملة وتفصيلا , تحول حديثها عن الديمقراطية إلى الحديث عن "الفوضى الخلاقة". فيا ترى ما المقصود بالفوضى الخلاقة؟. الفوضى كما يعرفها معجم المعاني الجامع : اختلال في أداء الوظائف والمهام الموكلة إلى أصحابها وافتقارها إلى النظام, وتعني في السياسة غياب الحكم واستتباب الفوضى في مجتمع ما , وتعرفها موسوعة ويكيبيديا : فقدان للنظام والترابط بين أجزاء مجموعة أو جملة أجسام سواء كانت جملة فيزيائية أو مجتمع إنساني أو اضطرابات قبلية أو سياسية مثل فقدان الأمن في منطقة معينة. فيا ترى كيف يمكن أن تكون الفوضى خلاقة ؟.
ظهر مصطلح "الفوضى الخلاقة" لأول مرة عام 1902م في أدبيات الماسونية القديمةعلى يد مؤرخ أمريكي يدعى تاير ماهان، و قد توسع الأمريكي مايكل ليدين فأسماها "الفوضى البناءة" أو "التدمير البناء"، وذلك بعد أحداث أيلول بعامين في 2003، و هذا يعني الهدم وإشاعة الفوضى، وعندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل و إراقة الدماء والخوف لدى الناس، فإنه يصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالح القوى المتنفذة.كانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس، قد تبنت مفهوم “الفوضى الخلاقة”، وأوضحت لصحيفة “واشنطن بوست” عام 2005 كيفية انتقال الدول العربية والإسلامية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، معلنة أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، في سبيل إشاعة الديمقراطية. “ نشرت الإدارة الأمريكية لهذا الغرض بعض فرق الموت ومنظمات إرهابية أخرى مثل شركة بلاك ووتر الأمنية لبث الرعب والخوف في صفوف الناس في بغداد ومدن العراق الأخرى ,وتأجيج العنف الطائفي والإنقسام الأثني لتهديم أركان الدولة العراقية ومحو تاريخها الحضاري وتفتيت نسيج شعبه الإجتماعي ومنظومته القيمية والأخلاقية .
ومما يؤسف له أن الإدارة الأمريكية حققت نجاحا كبيرا في مساعيها الخبيثة هذه , مما دفعها للتمادي أكثر لتوسيع رقعة فوضاها "الخلاقة" لتشمل بلدانا عربية أخرى شملت سورية واليمن وليبيا وتونس ومصر , وذلك تحت مسمى "الربيع العربي" حيث جندت أجهزتها المخابراتية ووسائل أعلامها الواسعة النفوذ وشبكات التواصل الإجتماعي ,لنشر الفوضى وتقويض سلطات حكوماتها التي كانت جميعها تحضى بدعم وإسناد الإدارات الأمريكية المتعاقبة , وهذا ليس بالأمر الجديد إذ سرعان ما تتخلى هذه الإدارات عن عملائها كلما إقتضت مصالحها ذلك, منطلقة من المقولة الشهيرة بأن لا صداقة دائمة في السياسة بل مصالح دائمة , اي تجريد السياسة في مفهومها من كل بعد أخلاقي أو غنساني , والأمثلة على ذلك كثيرة منها تخليها عن دكتاتور الفلبين ماركوس وزوجته وشاه إيران وغيرهم الكثير .
إستهدف "الربيع العربي" شريحة الشباب لحيويتها وعنفوانها وقلة خبرتها في المعترك السياسي وتطلعها لحياة أفضل, وذلك بتحريضها عبر وسائل التواصل الإجتماعي للتظاهر ضد حكومات بلدانها تحت شعار " الشعب يريد تغيير النظام " وفبركة الأخبار وتهويلها بهدف إرباك السلطات الحاكمة التي بات ظهرها مكشوفا . ونظرا لعدم إمتلاك هذه الشريحة أي برنامج وطني واضح ومحدد لما بعد التغيير, وتحديد سبل تنفيذه وادوات تنفيذه . لذا ليس غريبا أن تهيمن أحزاب الإسلام السياسي الأكثر خبرة وتنظيما على مجريات الأحداث التي ربما أوقد فتيلها الشباب بتحريض الإدارة الأمريكية وحلفاؤها تحت يافطة الديمقراطية في بلدان " الربيع العربي" الذي سرعان ما أدرك الناس بأنه شتاءا عربيا قارسا إحترق فيه الأخضر واليابس.
يتوهم كثيرا من يعتقد أن التغييرات الإيجابية التي تنشدها الشعوب المتمثلة بالحرية والإستقلال والديمقراطية والتنمية والعيش الكريم ,يمكن أن تقدم إليها على طبق من ذهب من قبل كائن من يكون تحت أي ظرف وفي أي وقت من الأوقات , حتى إذا إفترضنا صدق النوايا وهذا ما أثبتته وقائع الأحداث قديمها وحديثها , آخرها أحداث ما سمي زورا وبهتانا بالربيع العربي الذي شهدته كل من ليبيا واليمن وسورية ومصر, وربما كان سيمتد في مرحلة لاحقة ليشمل بقية بلدان المنطقة لتدور جميعها في الفلك الأمريكي. لم يعد لهذه البلدان الآن أي كيان دولة فاعل وتعيش حروبا أهلية وصراعات دامية راح ضحيتها آلاف الأرواح وهدر الثروات وتعطيل الحياة دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل بالخلاص من هذا الكابوس, كانت سورية الإستثناء الوحيدالذي تمكن من الإفلات من مطرقة إرهاب "الربيع العربي" الذي قادته الإدارة الأمريكية وحلفاؤها , ورعته دول الخليج العربي وبخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر ومعظم دول الجامعة العربية بالمال والسلاح والمقاتلين الإرهابيين , لكنها واجهت مقاومة عنيفة في سوريا بفضل ثبات النظام السياسي الحاكم وصمود غالبية الشعب السوري ودعم روسيا وإيران ومقاتلي حزب الله اللبناني.دفعت سورية ثمنا باهضا للحفاظ على حريتها وإستقلالها وضمان وحدة بلدها بوجه أعتى هجمة شرسة يشهدها بلد آمن, كان دوما ملاذا آمنا لملايين اللاجئين الفارين من بلدانهم بصرف النظر عن إنتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية , وإذا بشعبه يصبح بين ليلة وضحاها ,شعبا مشردا يبحث عن ملاذات آمنة في بلدان العالم المختلفة تحميه من شرور الإرهاب . وربما نجحت اليمن هي الأخرى الإفلات من قبضة الإرهاب المدعوم سعوديا وخليجيا, مما دفع حكوماتها لشن حربا مباشرة وبدعم أمريكي واضح على شعب أعزل لا ذنب له سوى حبه لبلده وإستعداده للذود عنها مهما بلغت التضحيات, حيث أثبت الشعب اليمني قدرته الفائقة بالدفاع عن وطنه وتحقيق النصر المؤزر على كل أعدائه .
ولعل من المفيد هنا أن نبين إننا لا نزكي النظام السوري من العيوب والأخطاء وممارسات التعسف ومصادرة الحريات إطلاقا, إنما أردنا القول أن ذلك لا يبرر إطلاقا ما تعرضت له سورية من أعمال أرهابية تحت أي مسمى أو أية ذريعة من قبل قوى ظلامية لا تضمر لسورية وشعبها أي خير. ومن عجائب الزمن أن وسائل إعلام السعودية ودول الخليج التي عبث مال حكوماتها السحت الحرام بأمن سورية,ودعاواها الباطلة بسعيها لإرساء قواعد الديمقراطية ونشر الحرية في سورية الحضارة والثقافة والفكر المستنير, وكأن بلدانها تنعم بالحرية والديمقراطية , وهي بلدان لا تعرف هذه المفاهيم شكلا أو مضمونا , فكيف لفاقد الشئ أن يعطيه , حقا أن لله في خلقه شؤون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل عمليتها البرية المحتملة في رفح: إسرائيل تحشد وحدتين إضاف


.. -بيتزا المنسف- تثير سجالا بين الأردنيين




.. أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط


.. سفينة التجسس بهشاد كلمة السر لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر




.. صراع شامل بين إسرائيل وحزب الله على الأبواب.. من يملك مفاتيح