الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخلقة الفعل السياسي ( الجزء الثاني ): كانط ونقد العقل السياسي

احمد زكرد

2019 / 3 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ماذا لو انطلقنا في عصر صار فيه المكر والخديعة هي اللعبة المفضلة في السياسة ، ماذا لو نبحث عبر ما اعترى العقل السياسي الراهن من حيرة، عن السؤال الأخلاق في ضيافة فلسفية لفيلسوف التنوير ايمانويل كانط ، الذي ارتضيناه لترميم فضاءاتنا المثقوبة ، حيث يدفعنا الى مساءلة الذات من خلال الجرأة على طرح سؤال الاخلاق في الفعل السياسي . هنا يحضر ليشفي الجراح ويشارك مرة أخرى في ترشيد العقل السياسي المعاصر.
إن كانط في كتابه " فكرة التاريخ الكوني من جهة نظر كسموسياسية " و كذلك"مشروع السلام الدائم" أسس السياسة على الأخلاق باعتبارها سلوك أخلاقي قبل كل شيء، وذلك ما سنلمسه في إجابته عن ما الأنوار؟ وفي هذا الصدد يطرح سؤال؛ من يجرؤ على الخروج من قصوره العقلي الذي أبقاه فيه الزمن طويل ، الكاهن والشرطي والأب ... والإجابة على هذا السؤال لا تتحقق إلا في ظل الحرية، كما يقول: فحينما الفظ هذه الكلمة حتى أسمع الناس يصيحون من كل جانب: «لا تعلموا الفكر». فالضابط يقول: «لا تعلموا الفكر؛ وإنما أذو الثمن» والقس يقول: «لا تعلموا الفكر؛ أمنوا») .
هكذا نجد "كانط" يحدد هوية المسؤولين عن منع الناس من استخدام عقولهم وتركها معطلة، ويسميهم عقبات تمارس سلطة قهرية على الأفراد هذه السلطة ظاهرية وباطنية، فكانط يشير في مقصده العميق، إلى شيء أبعد من ذلك واشد هولا ورعبا، إنه سيشير إليه بطريقة غير مباشرة ولكنه متضمن حتما في كلامه، فالإكراهات الخارجية، ليست إلا تجليات سطحية الإكراهات الداخلية العميقة، وهي المسؤولة عن الشلل العقلي بالدرجة الأولى؛ وهنا نقصد تلك الرقابة المستنبطة من الخارج، ومن الجبن المستبطن داخليا، وهذا يحول بين الإنسان وبين استخدام عقله الخاص. وبالتالي ما نود قوله من هذا التحليل للإنسان من خلال "كانط" في إجابته ما النوار؟ هو كيف نخترق مفاصل الماضي لكي ندق على أبواب الحاضر؟ فلا مسوغ لممارسة السلطة السياسة على الافراد باسم افكار ماضية ( النصوص الدينية ) .
من أجل الخروج من إحاطة التاريخ، أو من القصور العقلي يستوجب القضاء على السلطة التي يمارسها الشرطي والقس، باستخدام العقل وبكل مقوماته، حتى يسمو على كل السلط الخارجية ويعقل ذاته بذاته، ويكون هو المشرع للقانون، وبه وحده فقط يخرج الإنسان من قصوره.
السياسة هي تدبير الشأن العام من أجل الأخلاق، فمن خلال كتاب "كانط" "مشروع السلام الدائم"، يود فيه أن يعالج مشكلة من أكبر مشاكل النوع البشري تلك التي تجبره طبيعته على حلها، وهي إدراك مجتمع مدني قائم على الحق الكوني وذلك من خلال مشروع الدستور الكوني، (السلم الدائم) وما سماه "كانط" الدولة الكسموسياسية، فكانط يفتتح مشروعه "السلم الدائم" على عنوان يعتبره قولا هجائيا نحته بحسب –رواية كانط- فندقي هولندي على واجهة محله الذي رسم عليه مقبرة ، وبالتالي فكانط سيعيد إحياء هذا الرسم، لكن من أجل التحول به من سخرية المفكر، ومن مشاريع القساوسة إلى الاستغلال الفلسفي لمفهوم المقبرة الذي يأمل في سلم دائم. لكن السلم لن يكون مجرد شعار يرمز إلى بهو المقهى أو صمت المقبرة، إنما هو إمكان بشري لمجتمع مدني قائم على دولة الحق الكسموسياسي، وبتهذيب الإنسان بغاية الارتقاء إلى مقام المواطنة الكونية، بفضل أنه مزود بقدر كاف من العقل يتيح له أن يتصرف ويفعل بحرية .
فهذه المدينة التي يشتغل عليها "كانط" هنا، ليست المدينة الفاضلة، أو العادلة أو الخيرة أو السعيدة أو الإلهية، إنما هي مدينة السلم أساسا. فالسلام أمل يراود البشرية عامة، خاصة في هذا العصر الذي اضمحلت فيه القيم. فإذا أرادنا السلام يجب أن نكون مستحقين للسلام، وهذا ما دفعه إلى جعل السياسة سلوك أخلاقي ينبني على مفهوم الواجب الأخلاقي بقوله «في التزام الفرد بالواجب الأخلاقي يصبح كائنا إنسانيا، وإن خالف الواجب حيوانا متوحشا» .
إذن، فكانط هنا يميز بين الإنسان والإنسانية، فالإنسان قد يكون مخادعا خبيثا، لكن الإنسانية تكمن فيها إرادته الخيرة، لذلك فالشعور الأخلاقي والإرادة الخيرة هما داخل الإنسان رغم خبثه وشره، ولكن بنفسه القوة الدافعة إلى الخير. فكانط يرى أن الإرادة الخيرة تصنع الصداقة بين البشر بدافع مشتق من حب الإنسانية وهو دافع أخلاقي، ومن خلال هذا البحث الكانطي عن طبيعة الإنسان الخيرة التي تكمن في عقله العملي، من أجل إقامة حياة فاضلة، وأنه لا يمكن أن يعم السلام الاجتماعي إلا بالفضيلة نفسها، وإعمال العقل العملي وعدالته، فيقول "كانط" في هذا الصدد: «احرص قبل كل شيء على أن يكون الحكم للعقل العملي الخالص وشمول عدالته تنل غرضك –السلام الدائم- عفوا ومن حيث لا تحتسب» ، ومنه يدعو إلى إعمال العقل العملي داخل المجال السياسي، يحصل الإنسان على مبتغاه ومراده (سلم دائم)، وغير ذلك يؤدي إلى الحرب والدمار. بالتالي حتى تتجاوز هذه الحرب ينبغي أن يكون مبدأ الكونية هو الشامل لكل الإنسانية قاطبة، لأن هدف السلم لن يتحقق في إطار مجتمع تخترقه التعددية، ولن يتحقق التجريد والكونية، إلا في إطار تشاوري تنطلق فيه الذوات من عالمها المعيش، ومن تصورها للخير والقيم، لكن دون فرض تصورها على الآخرين . ومن هذا القول نستشف معنى الكونية، لأن هدفها هو فك النزاعات والعيش في سلام. وهذا دائما عند "كانط" انطلاقا من العقل العملي، وقد أتاح ذلك التنبؤ بأن العمل بموجب العقل يكفي في تاريخ النوع البشري لبلوغ الصواب في كل شيء، ولدى الناس كافة، ذلك يتيح له فرصة الأمل والرجاء في المستقبل القادم.
، فالسياسة الحديثة حررت العالم والإنسان من قيود القهر الذي مثلته الأنظمة التقليدية، وأيضا مكنت من الحق الإنساني، لتؤسس له مؤسسات الدفاع، وترتبها حسب أزمنة الحقوق الإنسانية وأجناسها؛ من حقوق الإنسان وحقوق الطفل... ومنه فهل شهد التاريخ الإنساني حقوق تحرس أطوار الوجود الإنساني، مثلما شهد الزمن الحديث مع "كانط"؟ والسؤال عن الحقوق، سؤال عن العدل، والعدل واجب علينا مؤسس على القاعد العامة للحق، فالحق الأخلاقي أساس العدل، والعدل واجب، وأول واجبات العدل هو واجب احترام حقوق الآخرين، لأن الحق شيء مقدس يجب احترامه، وحقوق الإنسان يجب أن تكون في أمان وقوة، فإذا اهتدى كل إنسان بالعدل وحافظ على حقوق كل البشر، لن يكون هناك بؤس في العالم. لأن المصدر الصريح والقوي للبؤس الإنساني ليس هو المرض ولا سوء الحظ، ولكن ظلم الإنسان باغتصاب حقوقه .
بالتالي فعصر الأنوار الأوربي هو المبشر الأساسي لكل التغيرات الكبرى الواعدة بأوروبا عصر الحداثة، أوروبا حقوق الإنسان، وأوروبا التقدم ليشكل فكر عصر الأنوار، المرجعية الأولى لتاريخ اروبا الحديث و المعاصر، لقد امتاز رجال عصر الأنوار بالثورة على التقاليد واتخاذ معرفة يكون العقل هو المنطق الأول لها، وهو ذو نزعة نقدية تحليلية، فكان نقده للمجتمع، وللنظام السياسي القائم في ذلك المجتمع، نواة للتغير المقبل. فالكانطية قد أثبتت أن التنوير هو التأكيد على المبادرة الحرة التي لا يسبقها توجه، سوى توجه العقل نحو ذاته. وهذه المبادرة في شقها السياسي؛ هي إحلال العدالة والعدل بين البشرية، فهو قيمة أخلاقية؛ أي أنه إحدى الغايات التي يسعى إليها الإنسان لتحقيق حياة هنيئة، ولئن كانت الغايات الأخلاقية للإنسان تصنف بأنها خيرة، فإن فكرة العدل هي إحدى الأمور الخيرة التي تسعى الأخلاق لتحقيقها للجنس البشري وهذا الخير يكون كغاية في ذاته ، ومنه فالجدير بالذكر أن العدل الذي يستحق التقدير هو الذي يستدعي الإخلاص للأسباب الداعية له، ويتطلب الشجاعة والمغامرة في سبيل الأهداف السامية التي يرمي إليها. فالفرد العادل هو الذي يأخذ لسلوكه طابع أخلاقي، حيث لا ينطلق سلوكه من نية سيئة، تحت قناع يخفي وراءه أعراضا شخصية، فشتان بين السلوك السياسي الذي يضحى بماله ووقته وحياته، أن يقضي الأمر في سبيل المبادئ والقيم والمثل العليا، وبين السلوك السياسي الذي يضحي بالمبادئ والقيم والمثل العليا في سبيل انتصار الشخصي والوضع الاقتصادي المريح.
في نهاية المطاف إن الهدف الذي تصبوا إليه الكانطية هو إخراج البشرية من الدهاليز المظلمة، نحو الأمل المشع، نحو المواطنة الكونية للسلم الدائم بين الشعوب، إن "كانط" يعلمنا ها هنا أن الفرق بين الممكن والمحال خيط رفيع جدا، يكفي اختراق هذا الخيط بواسطة الفكر كي يتحول السلم من دائرة المحال إلى حيز الإمكان، في نقطة ما من الدائرة الإنساني
مصادر والمراجع :
- كانط (إيمانويل)، جوابا عن السؤال: ما هي الأنوار؟، ضمن كتاب الفلسفة الحديثة نصوص مختارة، اختيار وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي، دار الطبع إفريقيا الشرق، د ط، 2001، ص 288.
-كانط (إيمانويل)، مشروع السلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الانجلو المصرية، د ط، القاهرة 1952،
ص 22.
-بولان (ريمون)، الأخلاق والسياسة، ترجمة عادل العوا، م س، ص 131.
-حسن خليفة (فريال)، الدين والسلام عند كانط، م س، ص 144.
-كانط (إيمانويل)، مشروع السلام الدائم، م س، ص 103.
- الأشهب (محمد عبد السلام)، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، ط 1، 2013، ص 91.
-حسن خليفة (فريال)، الدين والسلام عند كانط، م س، ص 153.
-المدكوري (محمد الشعيبي)، مدخل إلى فلسفة القانون، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 1992، الدار البيضاء،
ص 65








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر