الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شارع الحرية 11

هيثم بن محمد شطورو

2019 / 3 / 16
الادب والفن


الدهشة تُحيل البشر تمثالا. صخرة مشكلة على هيئة انسان. الدهشة تخلق من الانسان كائـنا فنيا. الكائـن الفني تعبير روحي محسوس. الفني من أعـظم تجليات الروح الكوني. الروح الكوني هو الحياة المطلـقة. التمثال الصخري من المادة الجامدة الصلبة في تـشكل انساني يمنح شيئا من أبدية الصخر لتعبير انساني ما ليحيله الى الأبدية اللانهائية للروح الكونية، فيحـقـق لانهائية الانسان.
لأجل ذلك برع الإغريق في نحت التماثيل البشرية، لتأبـيد الجمال بما هو جمال انساني إلاهي.
إفـتـقـدت لحظة التصخر التماثـلي الفني لثلاثـتهم، لعنصر بشري رابع يلتـقط تلك اللحظة لتأبـيـدها في الصورة.
في تلك اللحظات التي استحالوا فيها حجرا غابت الرؤيا تـقريـبا. وجه منية تجاه وجه غادة، ووجه احمد تجاه وجه غادة، ووجه غادة تجاه وجه أحمد. لكن الرؤيا غائمة فكل قد غرق في التلاشي.
التلاشي ضياع كل تحديد بما هو صورة الآخر لدي وصورتي لديه، وضياع تحديدي لذاتي لنفسي في نفس الوقت. التلاشي هو نـتاج الصدمة التي نـتجت عن التـفاجؤ دون أي استعـداد مسبق في الوعي. نمر كثيرا بهذه التجربة ولكن كثيرا ما نـتجاوزها دون أي توقـف عندها. فمثلا حين تكون لوحدك تـفكر في أمر ما، بحيث ان جل تركيزك الفكري متمحور في ذهنك، ويفاجئـك شخص ما بالتحية، فإنك تمر بلحظة التلاشي تلك بحيث لا تـقـدر فيها على تحديد هوية الشخص الذي أمامك، ثم يسترجع الوعي نفسه، فتكون كأنـك تـتـذكره أو عرفـته من جديد. وبالتالي لا يتحدد الوجود إلا بالوعي بل لا يوجد الا به.
فالوجود الموضوعي الرحب هو في ذاته تلاشيا ما لم أحـدده بوعيي الذي يخلق الرابطة بـيني وبـينه. هذه الرابطة التي تـقوم أساسا على وعيي به وليس على ما هو عليه فعليا إلا بقدر محاولتي في معرفته، أي الخروج من نطاقي الذاتي الى نطاقه الموضوعي الخارج عن رغبتي في تصوره على ما أريد وانما في تصوره على ما هو عليه فعليا، وتـتطلب هذه المسألة معرفة ومنهجا في التـفكير، ولذلك فالرابطة الحقيقية بين البشر تـقوم على المعرفة وليس مجرد الإحساس والانـفعال، الذي هو في نهاية الأمر إسقاط لنفسي وتصوراتي على الآخر وعلى العالم وليس معرفتي للعالم بمثل ما عليه العالم فعلا.
ذاك الاسقاط هو الذي يحـقـق الحرمان الكبير المتمثل في عدم وعيي بالعالم وبالتالي عدم وعيي بنفسي لأنك من العالم، وانعدام المعرفة يجعلك متـقـوقعا حول نفسك الفارغة وعديمة المعنى والتي تـنـفعل فقط، وهو ما يسمى بالعاطفة والحرارة العاطفية التي هي جحيم في حقيقـتها، لأنك سلبي من ناحية كونك ترد الفعل على العالم ولا تُـنـتجه. ومن ناحية أخرى فان تلك العاطفة التي تـفور فيها انفعالات الحسد والبغض والكره والشفـقة على الذات، كل تلك الانـفعالات هي سموم في النفس والبدن تـلد الأمراض في البدن نـتاج عـقـل غائب عن الفعل، والعقل يفعل بالمعرفة.
لذلك فالقراءة شفاء للروح والبدن. القراءة انـفـتاح للذات على المعرفة وبالتالي انـفـتاح للذات على العالم، وبالتالي تحقيق رابطة فعلية وصحية بالعالم حيث تكون العالم قدر الإمكان. وهنا تحقق السعادة الداخلية. تلك السعادة كنهها هو تحررك من سجن أناك الضيق المتـقـزم الحقير نحو العالم الرحب وكأنك تطير في الانـفـتاح على الآخر بما يرفعك الى الكلية الكونية درجات. لذلك دائما ما يتم التعبير عن إحساس السعادة بالطيران في السماء...
وشخصية منية لـذويـة تـتجه مباشرة نحو هدف تحصيل السعادة، لذلك جعلت منهجها في التـفكير يعتمد الفصل بين الروابط التـقـليدية في ثـقافـتـنا التي دوما ما تـنعتها بـ " ثـقـافـة الأوهام".
كانت منية أول من استرجع وعيه بسرعة. كانت غادة أمامها في أحلى صورة. جسد برونزي اللون يلتمع ورشيق جدا شبه عاري. كانت ترتدي روبا أزرق اللون قصير. شعرها الكستـنائي الهائج تـفوح منه رائحة شامبو لذيذة. قوة الجمال العاري الذي يهاجم عالم الزيف والقبح والنـفاق.
قالت منية بابتسامة مشرقة:
ـ في مثل هذه المواقف يُفترض بي أن أهرب. أليس كذلك؟
إنـقـشع تمثاله وإلتـفت اليها وهي الى جانبه على اليمين، فرآها بابتسامة مشرقة. كم هي لذيذة. فكر في تـقبـيلها وفكر في نفس الوقت في رد فعل غادة الممكن وهو صفعه بالكف واللكمات. غلبته الابتسامة رغما عنه.
انـقـشع تمثالها أمام ابتسامته الخفيفة ثم أمام ابتسامتها المشرقة. توقـفت للحظة تـتأمل وجه منية. منية تـنـظرها كذلك. رأت غادة نظرة عشق. كان وجدانها صاخبا في مواجهة عقلها الذي ازدحمت فيه الأفكار، والآن انـقـشع ذاك الصخب وعم السلام وجدانها وهي تـتأمل الابتسامة المشرقة الجميلة المشعة من العينين الخضراوين. لقد قامت منية بفعل الفصل بين الحدث وبين ما يستـتبعه عادة من موقف انـفعالي، لتـنـقـله الى مستوى آخر هو الانـفـتاح بين الذوات، بدل القطيعة وبالتالي الانفـتاح على النفس في ترقيها الوجودي..
غادة عنوان الربط المحكم بين الأشياء. استجمعت نفسها بسرعة أمام نظرات منية التي يطفح منها الحب. استردت أناها وقالت متسائلة:
ـ هل تقصدين أن أحدنا يجب ان يرحل؟ سأرحل أنا..
قالت منية وقد اقـتربت اليها:
ـ من المفـترض أني المذنبة وبالتالي علي الهرب من جريمتي النكراء.
فكرت غادة في مسألة الذنب. "فعلا. ما المشكلة؟ هل هناك جريمة قد وقعت؟"
ـ لا أعتـقـد ان المسالة مسالة جريمة..
قاطعتها منية قائـلة:
ـ المسالة مسالة حب امتلاك وغيرة.. ونحن البشر نؤمن بالأسبقية والذي يصل أولا هو صاحب الشرعية. لكن هل هذا منطقي؟ ونغطي عدم المنطقية بمقولة القدر...
ربما فكرت غادة في تهشيم ذاك الرأس الجميل الذي رأته حاملا لعاصفة هوجاء. توارت الى الكرسي وجلست. قالت:
ـ اوه.. واضح. المسالة واضحة الآن. أنت كائن مفكر وليس مجرد عائـش على عتبات الشمبانزي. انت عاصفة.
ضحكت منية فقال احمد:
ـ انها فعلا عاصفة.
رأى نظرة تجمع بين العتاب والتـفهم من غادة وهو ما لم يتخيله أبدا.
قالت غادة:
ـ لأول مرة في حياتي أنقلب هذا المنقلب. من الغضب الى الهدوء، ومن الاشمئزاز الى الاحترام.
قال احمد:
ـ حقا؟ هل مرت عليك لحظة اشمئزاز مني.
قالت منية:
ـ أنا شخصيا تغمرني السعادة لرؤية اثـنان يقبلان بعظهما. انت تـلبسين القصير ولكن يبدو ان عقلك مازال يحمل ثـقـافـة كره الحب.
قالت غادة:
ـ اوه. لا. انا لم أشمئز من رؤية العناق والقبل. الاشمئـزاز من الخيانة والغدر. نحن متـفـقـان على الصراحة والشفافية..
قال احمد:
ـ لم نـلتـقي لأخبرك عزيزتي. حدث الامر بسرعة. العاصفة عمرها أسبوع واحد وأنت كنت غائبة..
قالت منية:
ـ عادة ما تُـدمر العواصف البناءات القديمة والأشجار الضعيفة والطرقات البالية. انها تـقوم بما يشفق الانسان عن القيام به.
تساءلت غادة:
ـ ماذا تعنين؟ لم أفهم جيدا ماذا تـقصدين؟
قالت منية:
ـ يعني ان الحب الذي يربط بينكما هو اتحاد الشهوة والعقل، وهذا الحب أوسع من اثـنين وهو يفترض التعدد لكل شبـيه. انه ليس بذاك الحب الذي كأنه مرسال من السماء الى القـلب. وبالتالي يمكن ان ادخل في دائرته لاجتماع الشهوة والعقل على نفس النحو. لقد فهمتـني بسرعة قبل قليل واستوعبت بالكامل ما يتضمنه كلامي من ارتـفاع عن غريزة التملك نحو فكرة الحرية. هذا هو قانوننا او ما نـشرعه لأنـفـسنا. أليس كذلك؟ هكذا نكون متوحدين ذاتيا ككائـنات عاقـلة..
لم تخفي غادة اعجابها فقالت:
ـ أنت مدهشة.
قالت منية:
ـ تحتاج الكلمات الى الدماء كي تـشيد صروحها على الأرض. ألم تـقرئي في تاريخ الآلهة انه تاريخ قرابين الدم؟
واقتربت منية من غادة التي لازالت جالسة على المقعد، وانحنت اليها تـقبلها على وجنـتيها، ثم قالت:
ـ هكذا نكون قد بنينا اول حجر في صرحنا الجديد.
قامت غادة من مجلسها مأخوذة بسحر العاصفة لتحتضنها وتعانقها، فاستحالتا الى عاصفة من العناق والتـقبـيل واللمسات الحارة..
اما احمد فـقـد توارى الى مقعد جانبي وهو يتأمل المشهد مأخوذا مدهوشا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا