الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العماد و استعمال الماء في طقوس الطهارة الشرقية

رماز هاني كوسه

2019 / 3 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الماء عنصر مهم في العبادات الشرقية بشكل عام وله دور رئيسي في طقوس الطهارة الدينية . و يعتبر الماء من العناصر المقدسة في الفكر الديني منذ 3000 ق.م و استمر بلعب دوره ليومنا الحالي في الإبراهيميات . من أجل التعرف على دور الماء بالحياة الدينية لمجتمعاتنا الشرقية فلنطلع على ما ورد بالأدب الديني للشرق منذ أيام سومر لوقتنا الحالي . نبدأ من الأساطير السومرية التي تذكر الآلهة نمو(nammu) و هي الإلهة الأم لدى السومريين و منها انبثق كل شيء و يعنى اسمها المياه الأولى أو الماء الأم . و تتحدث الأساطير السومرية لاحقا عن الإله إنكي إله المياه العذبة (المياه الجوفية ... المحبوسة )الذي كان مسؤولا عن خلق الإنسان لاحقا . (و من العادات الموجودة في المناطق الريفية في الأناضول و الرافدين و التي يمكن ربطها بالموروث الثقافي المتناقل عبر العصور هي عادة رش الماء العذب خلف الشخص المسافر و جذور هذه العادة تعود للإله إنكي إله المياه العذبة و القصد منها أن يكون المسافر بحماية الإله إنكي لحين عودته سالما) .و استمر الماء بعدها بلعب دوره الأساسي في الخلق و ذلك بأسطورة الخلق البابلية (الإينوما إيليش ) إذ يرد فيها عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء و في الأسفل لم يكن هناك أرض لم يكن من الآلهة سوى آبسو آبوهم و ممو و تعامة التي حملت بهم جميعا يمزجون أمواههم معا فالإينوما إيليش تشير بشكل واضح إلى ان بداية الخلق كانت من الماء الذي كان هو الموجود الوحيد . حتى اسم آبسو مشتق من كلمة آب السومرية التي تشير للماء . و تابع الماء ظهوره كعنصر أساسي في عملية الخلق حتى يومنا الحالي من خلال الإبراهيميات . ففي العهد القديم نقرأ ) فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.( سفر التكوين . فالمياه هنا موجودة منذ البداية . و نقرأ في القرآن ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا( هود7 . و دور الماء بالأديان لم يكن مقصورا على قصص الخلق بل كان له دور رئيسي بالطقوس التعبدية لهذه الأديان . سواء في المسيحية و الإسلام .و بالإمكان التعرف على ذلك من خلال الطقوس الدينية التي يتبعها المؤمنون بالإبراهيميات على اختلاف أديانهم . دور الماء في المسيحية يظهر في طقس العماد و هو طقس ديني رئيسي لقبول الفرد ضمن الكنيسة و إعتباره مسيحيا) فاجاب يسوع : الحق الحق اقول لك من لم يولد من الماء و الروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله ( إنجيل يوحنا الإصحاح الثالث .أما من الناحية التقنية فالعملية مبنية على تغطيس المولود الجديد في حوض يحوي ماء من قبل رجل دين . و الكلمة نفسها تأتي من الجذر الآرامي (عمد ) الذي يعني غطس و يقابله بالعربية الجذر(غمد) و أخذ المسيحيون هذا التقليد عن يوحنا المعمدان بن زكريا الذي كان يقوم بتعميد اليهود في نهر الأردن حتى يتطهرو تمهيدا لحلول ملكوت السماء و هو الذي قام بتعميد السيد المسيح في الأردن قبل بدء المسيح ببشارته . طبعا عملية العماد لاتقتصر على فعل جسدي فقط لكنها في الأساس تشتمل على جانب روحي . فالعملية بذاتها هي رمزية لعملية الموت و الولادة الجديدة. فالغطس في الماء يمثل الموت و الخروج منه يمثل الولادة الجديدة للشخص المعمد . فالغطس بالماء يمثل موت الإنسان الخاطئ و الحامل للذنوب و الخروج من الماء هو الولادة الجديدة النقية للإنسان . أما في الإسلام فلا تستخدم المياه في الطهارة بشكل مطابق للعماد في المسيحية . و لكن استعمالها رئيسي بشكل آخر. فالوضوء طقس إسلامي رئيسي يجب ممارسته قبل كل صلاة و هو يشكل شكلا من أشكال طقوس الطهارة بالماء لدى الشرقيين . و هناك الغسل الذي يمارس قبل الطقوس الدينية الجماعية في الإسلام كصلاة الأعياد و صلاة الجمعة و الحج و الصيام. و يتمثل بغسل الجسد بأكمله بالماء . و هو أقرب مايكون لطقس العماد الذي تحدثنا عنه من خلال إغراق الجسد بأكمله بالماء. طقس العماد ليس حكرا على المسيحية و الإسلام .فحتى يومنا هذا توجد طوائف في الشرق لا زالت تمارسه أهما الصابئة المندائية في العراق . هذه الطائفة التي تتخذ من يوحنا المعمدان نبيا لها و تدعوه ) يهيا أو يحيا بالعربية .( هي ما زالت تمارس هذا الطقس كما مارسه يوحنا المعمدان في نهر الأردن . فالعماد عند المندائيين يجب أن يتم في مياه جارية لذلك يفضلون السكن قرب مجاري الأنهار لممارسة هذا الطقس الديني . هذا بالنسبة للأديان التي نشأت في الهلال الخصيب . و لكن يمكن ملاحظة استخدام الماء للطهارة الدينية لدى جيران سكان الهلال الخصيب أيضا . فالزرادشتيين الفرس لم تغب عنهم هذه الظاهرة من خلال الوضوء الذي يمارسونه قبل صلاتهم و هو طقس قريب جدا من طقس الوضوء الإسلامي. و لكن الأهم هو ما يمارسه الهندوس في الهند و تقديسهم لنهر الغانج . فهم يتوجهون لهذا النهر من مختلف المدن و يقومون بالغطس في هذا النهر في تقليد يكاد يكون متطابقا مع العماد الذي كان يقوم به يوحنا المعمدان في الأردن . حيث يقوم الانسان بالغطس كاملا في النهر و الخروج منه . موت و ولادة جديدة . اختيار الماء في طقوس الطهارة و العماد تحديدا ليس عشوائيا بالطبع , فبالإضافة لدوره الرئيسي في بناء المجتمعات و حياتها لأثره المباشر على الزراعة . يلعب الماء دورا رئيسيا هنا باعتبار عملية العماد بحد ذاتها تمثيل للولادة الطبيعية للإنسان من رحم أمه . فالجنين قبل ولادته يكون موجودا في الرحم محاطا بالسائل الأمينوسي ي بالماء ( ما زالت المقولة الشعبية طقت مية الراس منتشرة ليومنا هذا لتدل على هذا المفهوم) و من هنا جاء اختيار الماء كمصدر للخلق في اساطير الرافدين و قصص الإبراهيميات لتكون عملية خلق العالم و بدء الحياة مماثلة لعملية الولادة الطبيعية للإنسان . الإنسان خلال تعميده يخرج من الماء(ولادة) كما يخرج الجنين من رحم امه و هو محاط بالماء(ولادة) مثل خلق العالم في أساطير الرافدين التي تتم في وسط مائي بشكل مشابه للولاة البشرية التي تتم من وسط مائي . عدا عن استعمال المياه بطقوس العبادة نراها تلعب دورا في الكثير من المرويات الدينية سواء بالموروث الإسلاميأاو بما نقله العهد القديم . فإذا عدنا للعهد القديم نلاحظ دور الماء يظهر عند الحديث عن طوفان نوح . فالطوفان جاء كعقاب إلهي على خطايا الجنس البشري ومخالفته لتعاليم الرب فجاءت العقوبة الإلهية بإغراق الأرض بمن عليها و نجاة المؤمنين فقط من نوح و أبناؤه لبدء حياة جديدة . هنا نلاحظ أن العملية بأكملها هي تجسيد لعملية العماد بشكل أوسع . فالمجتمع البشري الخاطئ يغرق )يغطس يغمد يعمد( في الماء و تنتهي حياته أما نوح و الناجون فيمثلون الولادة الجديدة النقية لمجتمع بشري خالي من الخطايا . يمكن ملاحظة اشارة اخرى لهذا الطقس في العهد القديم . و ذلك في قصة حياة يوسف بن يعقوب الذي رماه أخوته في البئر و انتشله التجار الإسماعليين و باعوه في مصرايم . و حقق بعدها ما حققه من مجد و نجاح . كان بإمكان أخوته قتله و التخلص منه بطرق كثيرة أخرى و لكن الرواية أكدت على رميه في بئر . عملية عماد اخرى بطلها يوسف . رميه في بئر ) غطسه في الماء... موته( و إنتشاله الذي يمثل ولادته الجديدة االنقية . قصة حياة موسى مثال آخر . وضعة في سلة على ضفة النهر لينجو من أوامر القتل بحق أبكار بني اسرائيل .إنتشاله من ضفة النهر لاحقا . إعادة تمثيل لعملية العماد من خلال الإيحاء باحتمال الغرق و النجاة منه لاحقا ليمثل ذلك ولادة جديدة . قصة موسى نراها تتكرر في قصة ولادة صارغون أو شاروكين الاكادي) سار يقين( . و يبدو أن قصة موسى و نجاته أخذت عنها . فشاروكين أيضا وضع في سلة و القي في النهر لينجو من الموت و تم انتشاله ليكبر الطفل و ليؤسس مملكة قوية واسعة . رميه في الماء ) غطس ( يمثل موتا رمزيا و إنتشاله يمثل ولادة جدية نقية يعقبها نجاحات كبيرة . قصة خروج بني إسرائيل من مصرايم و التي بطلها موسى أيضا تحمل في طياتها إشارات لموضوع العماد . بني إسرائيل خرجو من مصرايم بعد أن كانو عبيدا و أثناء هروبهم قام موسى بشق البحر ليهربوا من جيش (فرعة ) حاكم مصرايم الذي يطاردهم . شق البحر و عبور بني إسرائيل بقيادة موسى هو إعادة تمثيل لفكرة العماد . التغطيس بالماء و الخروج منه بولادة جديدة يمثلها هنا خروج بني إسرائيل من البحر و نجاتهم من الغرق . و نجاحهم بعد ذلك بالعودة للأرض الموعودة حسب العهد القديم . كانوا عبيدا و هربوا من العبودية . عبروا البحر و نجوا من الغرق و حققوا بعدها مجدا .( ضعف و ذلة .... مرور بطقس عماد رمزي .... تحقيق المجد الموعود من الإله ). بالمقابل غرق أعدائهم بالبحر و لم يتمكنو من العبور و النجاة . فشلوا في عبور طقس العماد و لم يولدوا ولادة جديدة . أما إسلاميا فيبقى بئر زمزم و ماؤه الذي يحرص الحجاج المسلمون على الشرب منه و أخذ كميات منه الى بلادهم كهدايا للأهل دليلا باقيا على أهمية الماء في الطقس الديني الشرقي . هذا البئر الذي يرتبط بقصة هاجر و ابنها إسماعيل بعد أن تركو في البرية و التي يوردها ابن كثير في البداية و النهاية (فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37] .وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه.ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف ذراعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات.قال ابن عباس: قال النبي ﷺ:« فلذلك سعى الناس بينهما ».فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف.قال ابن عباس: قال النبي ﷺ:« يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم ».أو قال: « لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا »فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا.فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء.فقالوا: تأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء.. ) الماء الذي تفجر تحت قدمي الطفل إسماعيل هنا أدى لانقاذه هو و أمه من الموت و استقرار قبيلة بجانب هذه الماء و تشكل مدينة حوله . رمزية القصة واضحة بالإشارة لدور الماء بخلق الحياة من خلال دور النبع الذي تفجر تحت قدمي الطفل بخلق مدينة جدية و حياة جدية بوسط الصحراء إضافة لدوره بإنقاذ حياة الطفل و أمه . و هو ما خلده الدين الإسلامي من خلال طقس السعي الذي يقوم به الحجاج سنويا في استذكار لقصة هاجر و ابنها . حادثة أخرى من الموروث الإسلامي نستطيع ان نلمس فيها دورا تطهيريا للماء و هي حادثة شق صدر النبي محمد اثناء طفولته و غسل قلبه التي أوردها البخاري و مسلم في صحيحيهما بسيناريوهات مختلفة تتركز حول شق صدر النبي و غسل قلبه و جوفه بماء زمزم و استخراج علقة سوداء هي حظ الشيطان منه . نحن نقف هنا أمام سيناريو آخر لعملية العماد الغرض منها تأكيد نقاء سريرة محمد منذ طفولته من خلال خضوعه لهذا الطقس التطهيري . طبعا مدى مصداقية الحادثة من عدمها ليست هي الهدف ما هو التأكيد على الولادة الجديدة النقية لمحم و استخراج بذرة الشر منه . فالمتتبع للتراث الديني الشرقي سواء الإبراهيمي أو ما سبقه يستطيع تلمس استمرارية ثقافية بالتعامل مع عناصر الطبيعة من قبل شعوب المنطقة عبر تاريخها بتاثير نمط حياتهم الزراعية المرتبط بعناصر الطبيعة الموجودة و المؤثرة بحياتهم اليومية . من هنا تركت هذه العوامل أثرها بالحياة الروحية لهذه الشعوب عبر تاريخها ليومنا الحالي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك