الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبور النهر...

عبد الغني سهاد

2019 / 3 / 17
الادب والفن


من بعيد كانت تصله انغام ساحرة من مزامير وطبول ..وفلوتات تزدحم في اذنيه ..والحان عذبة كالماء يتساقط من شلاللات شاهقة..وترتطم بقوتها على الصخور..وعاليا فوق الليل الاحمر يستبد الاسوداد بالسقوط على الربى..والاستحواد على دواهي الاهواء..كان كل شيء يغري بانها الحياة السعيدة..حيث كانت النجوم تطرز الافق بالضياء و تصعد وتهبط عل شكل دوائر واقواس معابد تضج بالصلوات...وابتهالات البشر الغامضة..!..
كان يبهجه بلاشك هذا المنظر الجميل..الساحر وتاقت روحه الى عبورالنهر ..الى الجهة الاخرى..الى الضفة الشمالية..لاجل معرفة ما يجري هناك من مسرات وافراح..واحتفالات واسعة بالعهد الجديد..اراد ان يمعن في ادراك اسرارالليالي الحمراء الذي تسود الضفة هناك..ويداعب النسائم الرهيفة المملوءة بانفاس الارواح الطيبة التي تنشد الامل والبهجة وترجوه لنفسها ولكل الناس..ليشاهد بام عينه كيف ترقص الرياح مع الاشجار.وتهيم الطيور بعبق العشب الاخضر الرطب....وتشع الاماكن بالاضواء على وجه.. الماء..!..على قلب الحياة..وكبد الملذات..كان كل مل يريده ان يتزود من الفرحة والحياة ما يمكنه من بناء قصيدة..تخلد البهاء..وفي اختراق نظراته لعتمات الليل ..رمق شجرة ..تقاوم توهمات الضباب..شجرة تقاوم الضباب..وتوقف للحظة ليرى ويفهم الفكرة من حديثها مع الضباب ..والرياح..!..
ولحظة قثيرة جدا تعلم من الشجرة القدرة عل الكلام مع مخلوقات الغابة وجميع المخلوقات الليلية ..سمع الطير ينوح ويضجر من حماقات البشر..فيما بينهم ..وفيما بينه وبينهم ..وازدراء البوم لكبرياء النساء الجميلات مع الرجال من بني البشر..!..وتلقى حكم اللقلاق..في الصبر على اشرار الشيوخ والعجايز ..لكنه كان يسمعا دون ان يتفاعل معها تلك المخلوقات..وخطا خطوات عميقة اسفل جدور الشجرة..خطوات احيانا تضيق وتتوسع وتختفي عن الانظار البشرية ..وفوقه سماء تضج بالموسيقى والهرمونيا الرائقة لالهة قادمة من الاعالي والجبال الشمالية ...ووجد قدماه تندفع بقوة الانجداب العشوائي المثير للشوق والامتلاء بالمسرة والفرح الى قطيع من الاحصنة البرية الجامحة..وهي تعدو وتسير مع ايقاعات الموسيقى..فاختار منها واحدا..وكان في غاية الفتوة والروعة والجمال..لونه ابيض ناصع..بغرته الشهلاء..وذيله الاسود الوفيرالشعر الطويل وكان في الحصان هذا مؤخرة القطيع..يلتفت وراءه..الى الزاوية التي هو فيها يتامل جولان الاحصنة..ومادام انه كان قد امتلك ناصية الحديث الى الحيوان...استعمل تلك اللغة وساله ..بحروف صامتة..ومحنحنة..بخباب خفي يصعب ايجاد مثيله في مثل هذه الغابات الخضراء الشاسعة..البعيدة عن فضول البشر...((..ه..هه.هل تردفني على صهوتك الطيبة الجناب الى ضفة النهر..وتستمتع ..وتحتفي بمتعة الوجود...!.).)..وعندئد تظاهر الحصان الابيض بادئء ذي بدء..بعدم الانصات..ولما الح عليه في السؤال..مدد قوائمه الى الامام..كما مدد يوما حصان نابوليون قواثمة في المعارك ضد التخالف المقدس....وحنحن قويا....وقال له (انا لا اسمعك..ولا افهم ما تقول..)..فصوب كلامه ونمق حروفه..ولفها مع بعضها ..وحدثه بلغته...( الا تمانع ان صحبتك معي الى هناك..!..)..لكن ضخب الموسيقى منع وصول الصوت الى الحصان الابيض..فعاد الى قطيعة متبخترا ..ونظراته مسلطة تزدري هذا الكائن العاجر عن التعبير عن ما في نفسه من رغبات..قاصر عن الوصول بوسائله الى غاياته الخاصة ...وكان الحصان كان واعيا بعد مسؤوليته في عجز البش عن القيام بواجبهم ازاء الطبيعة وازاء بعضهم البعض..فاندفع مع رفاقه يعدو بسرعة الى الجهة التي تنطلق منها الموسيقى الساحرة..والصخب القاطع للانفاس المرهفة...يمتطي صهوته الريح..وتتراقص الحجارة والحصى اسفل حوافره الذهبية ..ويعلو خببه السماء..كان يعدو ..ويجري بلا طائل..ولا موانع تحمله على البطء في المسير..كانه كان يخترق الزمن الذي فات..ويصل الى ذلك الذي هو ات..وتذكر حينها انه ما عليه ان يترك الفرصة تضيع منه..ولا يصل الى منبع الموسيقى والمرح والمعرفة..!!..فكل وجوده الحاضر متعلق بهذا الوصول..وما عليه الا البحث عن وسائله..الخاصة ..وبلوغ المقصود...!انطلق يتامل الطريق القائم على الحجر والتراب والصخر..والماء الذي يبلل الاشياء...والعيون المضيية للبوم والطير الساهر في اتون ليل احمر بارد...وهو يعبر الطريق تترائ له الاشجار السامقة ومن ورائها تنتصب الطواحين العملاقة...لم يكن غبيا كي يظنها اشباح وشياطين..اللليل..المعرقلة لكل عبور..مر عليها وهو يغني..ويطرب مع الالحان القادمة من بعيد..وهو في قرارة نفسه يبحث عن جدع شجرة..او مركب من قش..يساعده عل الوصول ال هناك...وتظاهرت تلك الطواحين بالخوف منه..وتوقفت عن الدوران..وتركت امواج الموسيقى تعبر مناكبها ودواليبها الكبيرة لتصل ال الجهة البئيسة التي يتحرك فيها هذا البشر...وكان يرفع صوته بالغناء ليرد اليها الجميل...لم للطواحين لغات تتواصل بها ..لكن لها ارواح تحس وتتفاهم بها..ولذلك هي تتوقف عند مرور الاخيار..تقديرا لطيبتهم..وتزأر وتتحرك بسرعة كلما مر بها شرير غرير..تمتلأ احشاؤه بالخبث والذماتة..والغدر...!!..ووترك امره لعواء الذئاب القريبة مخابئها من تلك الطواحين..الشامخة..!.سرعان ما استرجعت تلك الطواحين بوجوده ثقتها بنفسها..وتقتها بما يحيط بها من الريح..والماء..والتراب..والبنايات المهجورة..وكانها اجساد تمتعت بالحياة وهي تندمج بسهولة في ترديد الاغاني الصاخبة معه..وفي اللحظة نفسها كانت كل المخلوقات الغريبة في الغابة تستغيث بالصمت..وتتابع بخجل هذا المشهد العجيب....
وبما انه فنان وشاعر فكان لا يلوي عل شيء.كباقي الفنانين والشعراء الممجدين بقدرة الاستخفاف من ثقافة العصر ..التسلية..والترفيه ..كان..يسير في سبيله يدقق التاملات ويسلط الاضواء بحثا عن وسيلة يستعملها لعبور النهر..سواء كان جسرا او قاربا..او حتى عود قش.. او حتى قصبة كبيرة...وه يسي بابتهاج كبير كذلك حطت نظراته على زورق بلون التراب..قادم في انجاهه..وعليه يجدف شيخ يكسوه الشيب..بلحية طويلة وصلعة عليها طربوش اصفر من القش..نظرات الشيخ كانت تضيء من وراء فانوسه النحاسي الاصفر..وحين اقترب..لوح الى الشاعر بيديه ليركب...فركب مدهوشا دون ان يلقي التحية او السؤوال عن نقطة الوصول..والافكار والنظريات السلبية كانت تموج في عقله..والطحالب تسطو على المياه..تكسو وجه النهر بالاخضرار..وهو ما بين الجنوح والاضطرار ..يتامل وجه النهر ووجه الشيخ التي يجدف الى حيث الموسيقى والالحان والاناشيد الساحرة المتزحلقة على صفحات الماء..وكلمات القصاثد التي لايستوعبها البشر.ويمتلأ بها الماء..والبشر في خلده تشبه الغيوم المتفرقة في مافوق الماء...وكان سمت الضباب قويا..وفي روحه تعتمل اصوات الريح..والطريق لا نهاية له..ووجه الشيخ مابين المرح والقرح...يحملق تارة فيه..وتلرة في الحد البعيد...لم يكن ليظهر ولو قليلا من الادب..ولا دخل له في الفن ولا الادب ولا الشعر..يقود الزورق..فوق مياه النهر العميق..وظل واثقا من نفسه انه سيصل الى مرماه حتى ولو كان بعيد..ظل ينظر الى الشيخ وهو ينظر اليه..ويتحرك الزورق ببطء شديد..
صاح الشيخ الغريب فجأة..الى اين تريد ان تذهب....ولا تعود..!....
وعندما لم يعثر منه رد على السؤال..عاد الى هدوؤه وصمته..العميق..واخد يجدف لكن ببطء كما كان في البدء..عندما صعد الشاعر الى الزورق المهيب..لم يكن يريد سوى الوصول الى الطرف الاخر من النهر..وبيننا كان الزورق يتابع السير عبر النهر..يقاوم التيار القوي..الدافع الى المصب..الى اين هو ذاهب مع الشيخ..كان الزورق يتمايل ويظهر على وجه الشيخ التغيير..واندهش لذلك الشاعر..فكيف له ان يصل بهده السرعة البطيئة..والليل الاحمرعلى وشك الانتهاء..والفجر على وشك البزوغ..لو اسرع الشيخ ..لكان الهدف قريبا..ولو انه غير محدد..الاصوات الموسيقية تاتي من هناك في الضفة الاخرى..والعبور بدا صعبا..كان الشيخ قرأ ما في ذهن الشاعر..فناوله المجداف والفانوس..وامره بالحلول مكانه ويجدف بالزورق بالسرعة التي توصله الى هناك..وتبادل الاثنان المواقع في غمرة الضباب..والحراك البطيء عل سطح ماء النهر...!!..وفي الحين ادرك المرء ان لافاقدة في الاعتماد على ارادة الاخرين..لبلوغ اهداف ليست لهم فيه اية مصلحة..والظاهر انه لا يسمع ما اسمعه من ضخب الموسيقى الممزوجة باصوات..المخلوقات الغريبة في الغابات المحيطة..لا يسمعني ولا اسمعه..وتبادلنا المواقع ..ولما اخدت في التجديف..احسست بثقل الزورق..وتزحزحه الممل في وسط مياه النهر..ولم يعد يظهر طيف الشيخ..الذي اختفى..في عتمة الضباب..المحيط بالزورق الصغير..وعكس الماء ضوء الفانوس..على جنبات محيط الزورق ..ولم يرى شيئا..على صفحات مياه النهر..انتهت حينها مشاعر الدهشة وفارقته..عواطف الافكار القديمة التي حفها بعقله لينسج منها القصيدة الساحرة..لا شيء منها بقي في عقله منها وكانت كثيرة ولا تنفك عن التناسل والاستكثار..وعوضها..حاصره الشعور بالغبن..والعجز..والخيبة..فهو لا يستطيع التقدم الى الامام..ولا التراجع الى الخلف..ووراء الضباب..لا تزال تلك الطواحين..منتصبة ..في المجال..وتزاول ما هي موضوعة لاجله..كلما طل براسه على الماء..باحثا عن الشيخ المختفي...ترأت له وجوه عديدة في الماء تحف بالزورق..كل وجه بملامحه الخاصة..كانت تصرخ فيه..ولا يكاد يسمع صراخها..وتذكر ما قاله الشيخ..ان لاعودة له بعد الانطلاق..نحو الصخب..والموسيقى والصراخ..وكان يجب ان يحث تلك الوجوه الممدة على الماء ان تفعل شييا..لاجله قبل بزوخ الفجر..وشروق شمس الحقيقة...ولابد لها من فهم مضمون صراخها..والتفاعل والتحاور معها....الا انه تعب في النهاية ولم تجدي ارادته في تململ القارب الصغير ال هناك..تعب من استعادة الامل..في الحصول على تلك القصيدة..وحينها تمسك بدفة القارب..ونصب قربه الفانوس..واطل براسه وعيونه ينهمر منها الدمع..على تلك الطواحين..رافعا صوته بالغناء..بصوت جميل لا يضاهيه فيه احد ..من الذين سمعتهم من فناني عصر التسلية والترفيه..
يغني للموت..وللحياة معا..
قبل يبزغ عليه
فجر هذا اليوم
الطويل....!!!..

عبد الغني سهاد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله