الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شام-الفصل الرابع

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 3 / 20
الادب والفن


لمحت دمشق من أعالي الهضبة وهي تعوم على غيوم حليبية، ثم بدا الباص وكأنه يتفكك حينما نزلنا باتجاه ضواحي العاصمة.

كم تأوي من الناس؟ فدمشق لم يكن لها أبداً إحصاء دقيق، لكنني، أنا الآتي من القامشلي، أراها كبيرة وواسعة.
أثارني منظر البيوت التي تسلّقت وتعلّقت بجبل قاسيون كخفافيش بلون الخبز من ساحة الحجاز، الموقف الأخير لرحلة الباص من حلب، والتي توّقف فيها عدّة مرّات، تعرّفت حينها، قليلاً، على المعرّة وحماة وحمص.

محطة الحجاز ذات البناء البهي والتاريخ البائد، التي كان قطارها الضيّق يربط الشام بالحجاز، تسهيلاً للحجيج الذين كانوا يقضون بالمئات جرّاء رحلة مرعبة كانت تستمر أكثر من شهر، وسرعان ما دُمّر وصار خراباً إبّان الثورة العربية على الخلافة العثمانية، قُبيل الحرب العالمية الأولى، فغطّت السكك اللامعة، تحت أشعة الشمس الحارقة، رمال البوادي والصحارى وعشّشت فيها العقارب بعد تسع سنوات فقط من تشغيلها.

بعدئذ اقتصر دور قطارات المحطة على نقل المسافرين والمتنزهين إلى ضواحي دمشق ومصايفها، مُصدرة الصفير الذي يجب على القطارات إطلاقه، وذاك الدخان القاتم تاركاً خلفه كومة من التلوّث.

وضع حَمّالٌ فرشيتنا، صبحي وأنا، وحاجياتنا على عربته التي كان يدفعها بقوة ساعديه، وأوصانا بفندق قريب في المرجة.

كانت غرف الفندق البسيطة تطلّ على فناء توسطته بركة دمشقية لها أضلاع، وفي كل أرجاء الفناء تنكات صفيح غطاها الصدأ وجرار مليئة بالريحان الأخضر والنبيذي، وعدد كبير من الزهور والورود، رغم أن برد تشرين كان يتسرب بهدوء إلى كل مكان.

لم نستطع البقاء في الفندق طويلاً. أردنا أن نتعرّف إلى دمشق الشام،
فخرجنا في جولة حرصنا أن لا نبتعد عن الفندق كثيراً كي لا نتوه في هذا الحجم اللانهائي.

كان الضجيج جحيمياً، وروائح عادمات الديزل تخنق الناس. أصوات الموسيقى والمذيعين وأبواق السيارات تملأ الفراغ. لماذا كل هذا الولع بالضجيج؟ سألت نفسي.
مررنا قرب مطعم شممنا منه رائحة الفول المدمس المغناجة فلم نستطع المقاومة. فاجأتني الطريقة الدمشقية بهرس الفول، وأنا الذي عشقت دوماً الفول على الطريقة الحلبية: وضوح الحبة التي تسبح يداً بيد مع البقدونس المفروم في صلصة جعلتها الطحينة والثوم والليمون بيضاء تاركة بحيرات صغيرة من زيت الزيتون العفريني الذهبي تظهر هنا وهناك.

وقفنا على طرف ساحة فيكتوريا مستغربين شكل ذاك الجدول الناحل الملئ بنفايات من كل نوع يمّر بكسل في أخاديد طينية ومتشققة. سأل صبحي أحد المارة، وكنّا نتمنّى أن يجيب بالنفي: «هل هذا بردى؟». قال وهو يرمقنا بطرف عينه وبلهجة ساخرة: «نعم».

إذاً، بردى ليس كل تلك القصائد والأغاني التي قيلت عنه، بردى هو مجرد قليل من الماء يمّر في قاذورات.
هل أنهكنا منظر بردى أم الضجيج؟ لا أدري، لكننا عدنا إلى الفندق ونمنا حتى شروق شمس اليوم التالي.

خصّصنا اليوم كله نبحث عن غرفة للإيجار. مررنا على عشرات المكاتب العقارية، إلى أن قال صاحب المكتب العجوز ببرود: «عندي غرفة تناسبكما!».

كان للرجل صلعة كبيرة الحجم بيضاء محمّرة مبقّعة بنقاط بنيّة، وفم مزموم خالٍ من الأسنان ومُجعّد يشبه فتحة شرج.

قادنا إلى شارع الصالحية، وأشار إلى بناء البرلمان حينما مررنا قربه. اجتزنا شارع العابد وأدخلنا زقاقاً ضيقاً وأشار إلى بناء من أربع طوابق مازالت جدرانه عارية.
صعدنا الدرج الذي لم يكن منتهياً أيضاً، وفوق السطح، كان هناك غرفتان يفصلهما مرحاض.

«البناية كلها يسكنها طلاب الجامعة»، قال العجوز.
عند حلول المساء كانت فرشتينا تحتلّان أرضية الغرفة بالكامل.
انتفضت مذعوراً على صوت أذان المغرب الآتي من مئذنة جامع على بعد أمتار قليلة، فسخر مني صبحي.

جاء يوسف، جارنا القاطن في الغرفة المجاورة ورحبّ بنا. بعدها تناولنا معه عشاءً من خبز وزيتون وشاي وشنكليش. «من صنع الوالدة»، قال يوسف بلهجة أهل الساحل التي تشبه الأغاني.

في تلك الليلة بدأتُ فترة جديدة من حياتي، وحينما وضعت رأسي على المخدة المُطرزّة أطرافها، لم يكن الشنكليش الحرّيف هو الشيء الوحيد الجديد عليّ، بل هوجمتُ من كل جهة، حالما أطفأنا اللمبة الصفراء الخافتة، من بقّ الفراش.

لم أنم إلا لحظات قليلة طيلة الليل، بينما كان صبحي يغطّ في نوم مريح غير عابئ بللسعات. وحينما وصل ضوء الشمس بمشقة مجتازاً كل هذه العوائق التي بناها الناس، اختفت الحشرات، إما لأنها شبعت من دمائي أو لأنها تكره الضوء كأي مصّاص دماء.

قُرع باب الغرفة، وحينما فتحته وقفت إمرأة ملفّعة بالأسود تحمل طفلاً على كتفها، وقالت «جديد؟». وقبل أن أجيب، ظهر يوسف، وطلب منها أن تنصرف.
«عاهرة». أخبرني يوسف حين انصرفت. «إنهّن في كل مكان، فقيرات نازحي الجولان البؤساء. خاصة البناء هذا له شعبية كبيرة، لأنه يشبه مدينة جامعية لا رقابة عليها».

استيقظ صبحي وقال لي أنه سيزور أخاه الذي يؤدي خدمته العسكرية في مؤسسة الإسكان، ويسكن، مع زملاء له، في المهاجرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن