الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زينب العسال تكتب.. عندما تتحول القصيدة إلى نبوءة في ديوان -تسيالزم إخناتون يقول- للشاعر طارق سعيد أحمد

طارق سعيد أحمد

2019 / 3 / 22
الادب والفن


تشعبت مسالك قصيدة العامية حينما غزتها النثرية، فأنتجت لنا قصيدة النثر، ومن ثم أفسحت المجال لطرائق السرد كي تحفر مسارات له فى جسد قصيدة العامية، وأضحى للشاعر حرية التغريد فى أكثر من فضاء.
فى الديوان الأول للشاعر" طارق سعيد أحمد"، والذى بدأ بإثارة ذائقة المتلقى أو الناقد، عندما أطلق كلمة "تسيالزم" عنوانًا رئيسًا لديوانه، فحث ذاكرتنا على استعادة مصطلح "مدبولزم" الذى أطلقه د. علي الراعي فى منتصف الستينات من القرن الفائت تعبيرًا عن أسلوب الفنان العبقرى عبد المنعم مدبولى، فى طريقة إخراجه للمسرح، فصار" المدبولزم" اتجاهًا فنيًا.
هل يعلن الشاعر عن طريقة وأسلوب شعرى جديد خاص به؟
فإذا أضفنا لما سبق العنوان الفرعى" إخناتون يقول" فإن الشاعر يستعين بالأحرف الأولى من اسمه طارق سعيد، إضافة إلى اللازمة " لزم" للإيحاء بأنه يبشر بشعر جديد، كما بشر إخناتون بديانة جديدة نافست ديانة آمون الراسخة – آنذاك – فى نفوس المصريين، وأدركنا مدى ثقة الشاعر بأنه سيأتى بالجديد من المعانى والصور والأخيلة الشعرية والتراكيب اللغوية.
الحقيقة أن الشاعر هنا يمارس وظيفة المبشر والمنذر، وكتابته تتكئ على تراكم الصورة الشعرية المختلفة والمعارضة للسائد المطروح، غير أنها لا تتسربل بالغموض أو التعمية الشعرية. إنها تنشئ صلة وثيقة بين حيرة الذات الوجودية والاجتماعية وقلقها المتخفى وراء الرفض الصارم والمغلف ببعض السخرية، إن الذات الشعرية المتضررة والمتصدرة للمشهد الشعرى دائمة البحث عن كينونتها، باحثة عن طريقها للخروج من شرنقة كينونة الاستسلام للمعتاد والمزيف، وضرورة التصدى لهذا الزيف، من ثم يبرز الحلم كحل تتكئ عليه الذات فى بحثها الدءوب عن هذه الإنسانية المفتقدة.
الخطاب الشعرى فى غالبية قصائد الديوان يصدر نغمات جمالية متشكلة عبر فضاء يحاول جاهدًا الانفلات من قيود الواقع، رغبة فى بناء حضور ذاتى متفرد، مستبعدًا أى دور للجمعى، بل مشككًا فى وجوده الإيجابى أصلًا. لا يعنى ذلك أن الذات لا تشعر بالتشظى، فهى فى حالة مستمرة للملمة تلك النثرات الذاتية المتبعثرة خلال قصائد الديوان.
الــ "تسيالزم" مظلة تتخفى فيها الذات الشاعرة، فالعالم الذى تبتعثه قصائد الديوان لا يعبر أبدًا عن اللعبة أو التسلى، إنما هو عالم مؤدلج، يدرك تمامًا كيف يجترح ويشرح الواقع، ويحقق لذاته قدرًا لا بأس به من الحرية، ورفض القبح، وكل ما هو نمطى تقليدى.
يقول الشاعر في احدى نصوص الديوان
"تاريخى مش برواز ولا فاضى أنا لفن النحت
والشعبطه فوق السحاب
وغزل الشعر بالحنة
ولا مشتاق لعرض البحر
ولا مشتاق شكل النجوم
المرُهِقة".
سيظل صوت الشاعر يعلن عكس ما يريد، فى محاولات مستميتة لخلخلة هذه البنى الواقعية الكاسرة للروح، والمحبطة للأمل، لكنه حينما يعيد تشكيل عالم من الأحلام، يستعصى الأمر، فتنعكس على الذات الشاعرة نزعة تشاؤمية، لأن الحلم لا يتحقق:
"لا الحلم يتحقق
كل ليلة هو.. هو
وأنا قررت أنتحر
قصيدة حلم"
وفى قصيدة "9 صور"
بتعيش على حلم
مش فيه
وتمد ببصرك وتمد تمد
لحد ماتجري".
إننا أمام صور وإحالات للحلم تختلف عما تغنى به الشعراء، حيث ارتبط الحلم بالأمل والنصر والظفر، وتحقق الذات.. إلخ
لكن الحلم هنا يستمد نسغه من واقع مؤلم، الذات الشاعرة تحاول تجاوز هذا الواقع، لكن الحلم يقع فى دائرة استحالة التحقق، ومن ثم يستمر إنتاج الخطاب المحبط والرافض فى غالبية قصائد الديوان.
ربما يؤدى كل ذلك إلى مساءلة الذات: ماذا فعلت؟ كيف واجهت العالم؟ ولماذا فشلت؟
ما يزيد الأمور تعقدًا و صعوبة أن العالم – هنا - مفتوح على عوالم زجاجية شفافة، قادرة على إرسال عشرات الصور المتضادة، لكن فعل المساءلة الملح من قبل الذات يجعل هذه العوالم الزجاجية الشفافة تصاب بما يشبه سرطان الزجاج، بحيث يتحول العالم الزجاجى إلى " فتافيت جارحة" فى محاولة الذات الشاعرة اجتراح ذات المتلقى، علها تزيل تلك الطبقة الكلسية المتشكلة من الاستكانة للتقليدى المتصالح مع العالم، طارحة المشاكس، والمقلق، والرافض.
تتشابك الذات الشاعرة مع الفعل المغاير عند إخناتون، فهل صار الشاعر نبيًا؟
إن الذات تتمسك بهذه الروح الهادية، لكنها لا تستسلم لدعة الصلاح، والتعالى على الآخرين. إنها تبحث عن مخرج لأزمتها، فى اكتشاف هذا العالم، لذا جاء تصدير الشاعر للديوان بعبارة "لا أنصح كل من استسلم للنمطية أن يقرأ هذا العمل، فهو لكل حر أراد أن يحقق وجوده، إليك أنت طارق سعيد أحمد"، عتبة نصية تتماهى دلالية القصائد، فبين الضمير أنت وأنا تتشكل قصائد الديوان.
نلمح مثلًا فى قصيدة" ممل"
"بتصنت
وبقرب ودنى
لمست القلب
ناديت لك رن الصدى عالى
ما فتحتيش رموش عينك
عرفت الرد".
إن انشطار الذات الشاعرة إلى ذات تبتدأ الكلام، وأخرى يقع عليها التأمل أو الفعل، كواحدة من الآليات التى يستخدمها الشاعر فينفتح أفق القصيدة، وتتحول القصيدة من منولوج طويل إلى ديالوج، يتعمق فيه الصراع مع الذات أولًا قبل أن يتعمق مع الآخر، كما فى قصيدة" ميت :
"أنا زيك بحن للقديم
الواجع
بهدوئك المدهش
خلينى أقول لك
أنت مت كام مرة
وقد إيه ها تعيش
ميت؟!".
النزعة التحريضة واحدة من ثيمات ديوان "تسيالزم اخناتون يقول" انطلاقًا من المفتتح، مرورًا" بتضمين صور تحريضة فى نسيج قصائد الديوان، وانتهاء بإطلاق "تحريض" عنوانًا لإحدى القصائد، قصيدة: صور:
"حرك عيونك
الساكته
وكلمنى بأى حروف
وما تسبنيش
يطوف جوايه صوت الصخر".

"انت كل اللى بتعرف تعمله
تاخد خطوه
لقدام".
وفي قصيدة : موسم حصاد:
"تمهيد طريق
للريح
وفتح أربع شبابيك
فى جدران وجدانك
أسهل كتير
من فقع عينك
الشمال".

هذا الدال المركزى يلعب على المفارقة بين الذات وما يرغبه الآخرون ويمارسونه، فوعى الذات الشاعرة يلتف حول أفكارها وآرائها ورؤيتها للعالم، وهى فى سعيها الدءوب نحو تحققها تستعيد وترتكن إلى ما هو مثير للذاكرة: إخناتون، وسط البلد، سيمون دي بوليفار، ضحكة المادوزا.. إنها تحيلك إلى رموز يمكن مساءلتها، ولم لا:
" هو اللى هايم فى الفضا
زى اللى مشدود للمدار"
الخطاب الشعرى يعرف طريقه نحو المساءلة، لكنه يتعثر فى طريق للخلاص، وتنشأ الإشكالية، فالمسألة ليست خلاص الذات الفردية، بل خلاص الذات الجمعية مما تعانيه من كسل فى البحث، والتنقيب عن وجودها الفاعل، بدون ذلك لن يكون الشاعر نبيًا، يبشر بواقع جديد يحلم به، لكن الأحلام تتحول إلى كوابيس، وهنا تتكثف الصورة وتتلاحق مؤكدة على حيرة الذات وقلقها المخبوء وراء الرفض المغلف ببعض السخرية كميكانيزم دفاعى تمارسه الذات لترميم ما علق بها جراء هذا الإخفاق.
ثمة تعددية للفضاء المكانى، المنفتح على اتساع الكون والأرض والقمر والشمس والفضاء والمدار والسحاب والبحر والنجوم والصخر والشجر والنيل والطين والغرفة الحارة والجبال واللوفر ووسط البلد والشوارع، يأتى الفضاء المكانى ليس كمحتوى للقصيدة، لكنه جزء من نسيجها، فالشاعر يوظف المفردة الفضائية فى صور تخيلية جمالية، تحاول دائمًا كسر رتابة ونمطية اليومى المعاش، لهؤلاء البسطاء:
"وشط منحوت على صخرة وشها عرقان"
" والشعبطة فوق السحاب"
3 شوارع
ماشى فيهم كل يوم
ومش زقهان " قصيدة وشوش"
الصورة الجمالية المعتمدة على السردية كثيمة يعتمد عليها الشاعر طارق سعيد أحمد، يخلق لنا مشهدية سردية كاسرة للشعرية المحلقة التى لا يرتضيها الشاعر أبدا، فالمشهدية السردية تؤطر حكاية الإنسان البسيط فى تفاصيل حياته اليومية، للتأكيد على أن الذات الشاعرة هى وجه آخر للمتلقى، فيتورط فى صنع هذه المشهدية:
"اخرج من هذا الجسد المرعب
وادخل من الورقة".
من هنا لا يكون عنوان الديوان تفسيريًا بقدر ما هو عنوان إيحائى له تماثلاته داخل بنية القصائد التى تكشف عن نفسها عبر تراكم صور، يخرج من إطار البرواز المؤطر للذات إلى رحابة الفضاء والأفق، لكنه ما يلبث أن يره عاديا ومعتادًا، يظل فى حالة من المد والجذر، اليقين وعدمه، التشظى ومحاولة رأب الصدع، الحلمى والكابوسى، يراوح بين تقديس التقليدى وعدم الإيمان به، هذه المراوحة هى اللعبة الأثيرة فى قصائد ديوان " تسيالزم"
أجاد الشاعر "طارق سعيد أحمد" جعل الذات الواعية محركة للراكد عبر الجمالى المشغول طيلة الوقت على تحميل الذات وتذكيرها بدورها المؤثر فى الجمالى والوجودى والاجتماعى والسياسى، وما يبعثه من إيحاءات دالة ملموسة ومبثوثة داخل القصيدة، وهذه هى مهمة الفنان والشاعر الملتزم بقضايا مجتمعه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى