الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بكاء إلى الابد

باقر العراقي

2019 / 3 / 22
الادب والفن


بكاء إلى الأبد.
باقر العراقي
خَرجتْ لتوها من محنةٍ جديدة، كادت أن تنهي حياتها البائسة، لكن القدر طلبَ التأجيل، ربما للمرة العاشرة أو أكثر، وقد يكون التأجيل الأخير.
لم تعدْ أم الوحيد "كما يسميها أهل الوادي"، لم تعد تحتمل آهاتها وحسراتها في النهار، وأنينها المستمر طوال الليل، فقد نجت من عظة ذئب مسعور، إفترسها وسط المرج، عندما كانت تحملُ قِدرها الصغير على رأسها، فقد كانت تجلبُ الماء من النهر القريب عن كوخها الصغير.
صرخت بأعلى صوتها، ونادت: إبني وحيد أين أنت؟ وسقطتْ، بينما تمسك الذئب اللعين بساقِها، يَنهشُها ويتلذذُ بطعم الدماء التي تسيل بين فكيهِ.
نجت بأعجوبة، ولم تَعُد تخرج من كوخها الخرب، ساعدتها أمرأه طيبة تسكن بالقرب منها في جلب الماء، ووفرت لها قطع الخبز والحليب الذي لا تستغني عنه.
جَلستْ في باحة الكوخ المحدودب الأمامية، تتراقص أمامها ذكريات الصبا، أيام العز والشباب، حين كان زوجها "سركالاً" للمنطقة وحاكما عليها، تتراءى لها لحظات المخاض والولادة، وكيف كبُر وحيدها وخلصتهُ من الجندية، ودفعت البدل له، ببيع كل ما تملك من مصوغات ذهبية ومواشي وبستان، خلَّفهُ لها زوجها الثري قبل وفاتهِ.
من بعيد صاحت ياسمين، وهي أحدى بنات المرأة الطيبة،: كيف حال جُرحكِ يا أم الوحيد؟
رفعت العجوز رأسَها، ووضعتْ يدها اليمنى بموازاة حاجبيها الأبيضين، إتقاءاً لعينيها الضيقتين من ضوء شمس ما قبل الغروب، ثم عادتْ تُطأطأُ رأسَها نحو الأرض، سحبت العجوز طرف بساطها ذو الألوان الباهتة من تحت قدمها اليمنى، ومسحت فوقه بيدها الرقيقة، وهي تقول بتهكم لا يخلو من الكبرياء : لا بُد لهذه الروح من العروج إلى السماء، بجرح الذئب الغادر أو بجرح الإبن الغائر.
ردت عليها الفتاة بصوت يفيض بالحنان : نحنُ أولادكِ وبناتكِ أتركيهِ للزمن، ربما تاهَ مع التائهين الغافلين عن جنة الأمهات.
قامت بمساعدة عصاها المتعرجة، ودخلتْ كوخها من بابهِ الصغير هذه المرة، نعم من بابهِ الصغير، فبعض الأحيان تصطدم بحيطان الكوخ، بسبب ضعف ِ بَصرها.
تَوضأَتْ وتَوجهتْ نحوَ القبلة، وصَلَّتْ بصوتٍ مرتفع، وعند ساعاتِ المساء الأولى، شربت قدحاً من الحليب البارد، ومدتْ جسمها النحيل على طول سجادتها المتهرئة، وتغطت بغطائها الصوفي الثقيل، أرختْ عيونها ورَددت دُعاءَها الذي تُعيدهُ كل ليلة: اللهم أحفظ ولدي الوحيد، ولا تجازيهِ على ما فعل بي، إنكَ أرحم الراحمين.
أستيقظَ أهلُ الوادي صباحاً على صراخ ياسمين، فقد إعتادت أن توقظ العجوز فجر كل يوم، لكنها لم تستيقظ معها ذلك اليوم، أصيبت الفتاة بالذهول وهي ترى العجوز المرحة، تتحول إلى جثة هامدة متجمدة لا نفس فيها ولا حراك.
إنتشر الخبر بين الناس كالنار في الهشيم، فالعجوز عاشت بينهم ما يقرب المائة عام، وصل الخبر أخيراً الى مسؤول كبير في المقاطعة، فتولى تغسيلها وتكفينها، وعمل مجلس عزاء لها في منطقة الوادي، بناءاً على وصيتها كما قال أحدهم ، إذ حضر إلى الوادي لأول مرة منذ أن أصبح موظفا قبل خمس وعشرين عاما، وبينما هو جالس وسط الناس لتقبل التعازي، دخلت ياسمين الى مجلس العزاء متوشحة ملابسها الداكنة وسط ذهول الحاضرين وإستغرابهم، إذ لا يجوز دخول المرأة لهكذا مجلس، توجهت ياسمين صوب المسؤول، وقالت بصوت مبحوح : أيُعقل أن تلد السيدة النبيلة ولداً عاقاً مثلك، كيف يكونُ الشرُ إبناً للخير؟ كيف يكون اللئيمُ وريثاً للكريم، كيف يلد الجمال قبحاً مثلك، طأطأ المسؤول رأسهُ ثم رفعهُ بتثاقل، وترقرقت من عينه اليمنى دمعة ساخنة، تدرحرجت كأنها صخرة منهارة في منحدر، تبعتها أخرى من العين اليسرى، وأجهش بالبكاء إلى الأبد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى