الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديقي الحر أحمر اللون

محمد زكريا توفيق

2019 / 3 / 25
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر



منذ مدة طويلة كان لي مكان صيفي في الغابة، أعلى الجبل شمال ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة، يقع في منتجع سكني يسمى بحيرة الانعكاسات، في منطقة بوكونو. على مساحة فدان. به مقطورة، بها مطبخ وصالون وحمام ومكان لنوم 7 أفراد.

باب المقطورة يفتح على غرفة كبيرة، بها دفاية ريفية وصالون ومائدة سفرة. نصف حيطان الغرفة العلوي عبارة عن شبابيك متراصة من الزجاج والسلك. خارج الغرفة، توجد شرفة كبيرة مكشوفة خشبية. باقي المكان، أرض وشجر ونباتات وزهور برية.

عندما كان أولادي صغارا، كنت آخذهم وزوجتي بالسيارة في عطلة الأسبوع وأيام الأجازات إلى هناك، هربا من مدينة نيويورك حيث سكني الدائم. هي رحلة تستغرق ثلاث ساعات ذهابا ومثلها إيابا، بفرض خلو الطريق من الزحام.

عندما أترك مدينة نيويورك، أشعر على الفور بجودة الهواء الغني بالأكسوجين. مدينة نيويورك، مثل باقي المدن الكبيرة، تئن من الزحام والتلوث وعادم السيارات.

في يوم من أيام نهاية الصيف، جلست وحيدا على كرسي هزار في الشرفة المكشوفة بمكاني الصيفي وقت العصاري. أشرب فنجانا من الشاي بالنعناع. زوجتي والأولاد، ذهبوا مع جارتنا لزيارة مزرعة تربية دواجن قريبة من مكاني تقع على بعد بضعة أميال.

الجو كان أكثر من رائع. الحرارة، لا تنقص درجة أو تزيد عما يجب أن تكون عليه. الهواء محمل بالأريج المنعش، والزهور البرية حولي تسر الخاطر وتنعش الفؤاد وتشفي السقيم .

رطوبة الجو في هذا اليوم البديع أقل ما يمكن. السماء زرقاء صافية، يشوبها قليل من الغمام الأبيض الناصع. بين الفينة والفينة، يهب النسيم العليل، فتتمايل أغصان الحور وتصفق أوراقه، يعقبه حفيف أوراق البلوط والقيقب والدردار.

هي أشجار الغابة المحيطة بالمكان والتي تحرص على الاشتراك في هذه السيمفونية الكونية الرائعة. ثم يسكن النسيم، فيطبق الصمت وينشر ربوعه على المكان. الصمت الرهيب، الذي يضخمه أزيز ذبابة هنا، أو أغنية عصفور هناك.

بينما أنا جالس أحتسي فنجال الشاي في مكاني هذا، إذا بطائر أحمر من نوع الكاردينال، يهبط من السماء ويقف على حافة سور الشرفة قريبا مني وعلى بعد عدة أمتار. أعرف ذكور طيور الكاردينال من لونها الأحمر الفاقع وتاجها ومنقارها القصير الأحمر وذيلها الطويل ووجهها المحاط بقناع أسود.

طيور الكاردينال صوتها شجي وحجمها أكبر من العصفور البلدي وأصغر من اليمامة. تتغذى على الحبوب والحشرات. طائر الكاردينال، لا يهاجر، هربا من الثلج وعواصف الشتاء. هو اختيار، يكلفه 90% من تعداده كل عام على الأقل.

لكن ما أثار فضولي، هو اقتراب الطائر مني أكثر من اللازم، وطول مدة زيارته لي. ظل يرمقني بعينيه ويتلفت يمينا ويسارا يراقب الطريق الوحيد الضيق أمام المكان.

وددت لو أن الطائر يتكلم، أو أنني أستطيع فهم لغته، لكي أسأله: لماذا يقترب مني بهذا الشكل، وقد كان في إمكانه، أخذا بالأحوط، الوقوف بعيدا فوق غصن عال من أشجار الغابة الكثيرة المحيطة بالمكان. لماذا يخاطر بحياته ويقترب مني على غير العادة؟

نظرت إلى السماء أبحث عن صقر أو طائر من الطيور الجارحة، يفسر اقتراب صديقي أحمر اللون هربا من خطر داهم، فلم أجد شيئا. ربما يفسر اقتراب صديقي الكاردينال، هو شعوره بالوحدة القاتلة فقرر الائتناس بالضيافة ودفئ الصحبة. أو ربما يكون قد أعجبة لون الشاي الذي أشربه والذي يشبه لون ريشه الفاقع.

فكرت في أن أقوم بواجب الضيافة للقادم العزيز، وأقدم له فتافيت من الخبز أو المكسرات وشربة ماء، لكن خشيت أن يجزع ويهرب من المكان. فجلست أرشف من الكوب بدون صوت وأنظر له وهو ينظر لي.

أحسست أن بيني وبين هذا الطائر ود ومعرفة سابقة. شئ أشبه باتصال روحي أو كوني أو شئ من هذا القبيل. لو كنت أؤمن بتناسخ الأرواح، لقلت أن روح أحد أقاربي أو أصدقائي الذين فقدتهم، قد حلت به، وجاء ليزورني خصيصا. لكن اللحظات السعيدة لا تدوم.

فجأة جاءت زوجتي بالسيارة والأولاد. أزيز موتورها وغازات عادمها وصوت نفيرها ورقع أبوابها، كل هذا قد أخل بسلام المكان وعكر صفو اللحظة. فإذا بصديقي الجميل يفر بنفسه وجسده وريشه الأحمر الجميل ويهرب من المكان، تاركا لي كل هذا الضجيج والتلوث والإزعاج.

جاءت زوجتي وهي في حالة إنهيار عصبي تبكي على حال الفراريج التي رأتها في الأسر في مزرعة الدواجن. الفراريج موضوعة يا ولداه في مكان مظلم كمعتقلاتنا، وغير مسموح لها بالحركة مثل مساجيننا.

أمامها ثقب يخرج منه رأسها للأكل، وخلفها مجرى يسقط فيه إخراجها. ممنوعة من الحركة واللعب والجري والنط. هذا لكي يتحول كل غذائها إلى لحم ودهن. تماما كشعوب الشرق الأوسط.

عندما تبلغ الفراريج الوزن المطلوب باليوم والساعة، تهبط على رقبتها سكينة الجلاد كالقضاء المستعجل. عملية قتل جماعي بدم بارد لها ولرفاقها وأخواتها وأبناء عمومتها المساكين. ثم يلقى بجسدها في الماء المغلي لنزع ريشها، استعدادا لشحنها إلى أقرب سوبر ماركت.

أقسمت زوجتي أن لا تأكل من فراخ السوبرماركت بعد اليوم. لكن بمرور الوقت، نسيت هذا القسم. هي الآن وبعد هذه كل هذه السنين، تسألني من المطبخ، هل تريد تحمير الفرخة أم تريدها مسلوقة. فأجبت عاوزها مسلوقة وكفاها ما مرت به من تعذيب. ثم تساءلت، ماذا فعلت المسكينة حتى تلقى هذا المصير البائس الحزين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. هل سيؤسس -الدعم السريع- دولة في د


.. صحف بريطانية: هل هذه آخر مأساة يتعرض لها المهاجرون غير الشرع




.. البنتاغون: لا تزال لدينا مخاوف بخصوص خطط إسرائيل لتنفيذ اجتي


.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال




.. صوت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مساعدات بقيمة 95 مليار دولار