الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شام-الفصل السادس

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 3 / 28
الادب والفن


ظلّت صورة تلك الإمرأة الجولانية تُطاردني ساعات النهار، بينما أنا في طريقي إلى الجامعة لأتمّم أوراقي وثبوتيّاتي، وتحديد موقع مدرج كلية الهندسة الذي أشعل، بعد سنوات، الطلاب الجامعيين في أمسيات شعرية تاريخية أحياها محمود درويش ومظفر النواب وآخرون. المدرج الذي سوف أتابع فيه محاضرات هاني الراهب، ومجموعة من المدرسين، عن پاوند وإليوت.

أنا الآن طالب سنة أولى، كلية الآداب، قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق.
صبحي كان هناك أيضاً، وقال أنه سيبقى لدى أخيه.
في الأشهر والسنوات التالية تباعدنا بهدوء مُنهينَ، بدرجة ما، صداقة استمرّت سنوات الطفولة والمراهقة.
أذكر، على وجه الخصوص، أننا اجتمعنا في الصيف التالي، مع مجموعة من الأصدقاء، في مطعم الموظفين الصيفي القامشلاوي، وبعد أن ضرب العرق برؤوسنا، قال صبحي أن صداقته معي مُستمرّة لأنه يعرف أنني سأصبح شيوعياً يوماً ما! حينها قلتُ بسخرية: «يجدر بك أن تُنهي هذه الصداقة إعتباراً من اليوم».

في طريق العودة، من كليّة العندسة، قابلت، بالصدفة، علي محمود، زميل الدراسة في القامشلي، الذي انتسب إلى كلية الحقوق. تلك الكلية البائسة التي كانت تقبل الطلاب الذين لا تُخوّلهم علامات الثانوية الإنتساب إلى الكليات التي يرغبونها، تماماً بشكل معاكس لشروط كليات الحقوق في باقي أرجاء العالم. ثم التقيت بيوسف الذي رافقني إلى مطعم الجامعة في الشعلان، جلّ زبائنه، بطبيعة الحال، طلاب الجامعة الفقراء.
وفي المساء كنت أقف في صف طويل أمام سينما الكندي، هاني الراهب كان يقف هناك أيضاً منتظراً دوره، لإبتياع تذكرة إفتتاح أول عروض أسبوع الفيلم الفرنسي، وحينما عدت إلى بقّ الفراش في غرفتي، انكببت على الكتابة عن فيلم «ركبة كلير».

بق الفراش يُفضّل منطقة الرقبة، لماذا هذا الجزء من الجسم؟ رقبتي كانت مثقوبة كالمنخل بعضّات هذه الحشرة الفظيعة.
تمكّنت من سرقة غفوة، أخيراً، مُسلّماً نفسي لحشرات الظلام، مصاصي الدماء.

استيقظت وانتفضت عدة مرات كمجنون.
هذا سيكون حالي حتى نهاية هذا الشهر. اللعنة.

مضى الأسبوع الأول بين محاضرات الجامعة، الجلوس في الكافتيريا ومراقبة فتيات جميلات أنيقات وكأنهن خرجن من مجلات موضة، بعضهن يلتصقن بشبان وسيمين، بتسريحات شعر ساحرة، يُثيرون غيظنا وحسدنا، نحن، القادمون من المحافظات السورية الاخرى.

ثمّ تعرّفت على «عامر»، الزميل الأردني الناعم واللطيف كفتاة خجولة.
أما الأمر الأكثر إثارة فكان متابعة عروض مهرجان الأفلام الفرنسية.
في اليوم الأخير ساعدني، وأنا مندهش من سهولة هذا التعاون، عامل قطع التذاكر الجالس في كوّته الضيقة المدفّأة بجهاز كهربائي صغير، باقتناء صور فوتوغرافية لبعض أفلام الأسبوع، بعد أن شرحت له السبب، شريطة أن أعيدها إليه في أقرب فرصة.
حملت تلك الصور، ورزمة من الصفحات مكتوب عليها مقالتي وذهبت إلى مقر جريدة الثورة، قرب مدخل سوق الحميدية.
«هل أستطيع أن أقابل الأستاذ محمود السيّد؟». سألت البواب الذي كان يجلس، أيضاً، في كوّة بين مدخل البناء الرئيسي والدرج. «الإسم؟». سألني بدوره دون إهتمام.
رفع سماعة الهاتف الأسود الثقيل وأدار القرص مرة واحدة، دمدم ببعض الكلمات، ثم طلب مني أن أصعد إلى الطابق الثالث.
طرقت على باب كُتب عليه رئيس التحرير، فسمعت صوت «أدخل». وحين وقفت أمام محمود السيد، قال «نعم؟ ماذا تريد؟». ارتبكت وتلعثمت وذكرت اسمي. وقف من على كرسيه خلف طاولة كبيرة، ماداً لي يده مصافحاً مبستماً، وقال أنه لم يتوقع أن أكون هكذ،ا في مقتبل العمر.

كيف تذكرّ اسمي، هذا الرجل المنشغل، وأنا لم أنشر في جريدته سوى مقالين عن السينما، محاولاً تقليد طريقة رفيق الصبّان في كتابة النقد السينمائي، وقصة قصيرة كانت، بدورها، تقليداً تافهاً لقصص زكريا تامر؟ أستغرب كيف تمّ قبولها ونشرها في الصفحة الأدبية.
طلب لي فنجان قهوة، وتصفح مقالتي بسرعة، ثم طلب مني أن أكتب باستمرار، فالجريدة تفتقر إلى ناقد سينمائي، ومن حسن الحظ، أني أعيش في دمشق الآن.

كنت، ماأزال، مراهقاً، وهذا، دون منازع، نصر مُبين.

بعد يومين كانت مقالتي تتصدر الصفحة الثقافية، وفيها كل الصور التي أعارني إياها موظف بيع تذاكر سينما الكندي.
يوسف أبدى سعادة بعد أن قرأها، وقال «اليوم نسكر. عندي عرق من صنع البيت». «والدتك أيضاً؟». ضحك عالياً وقال «الوالد».

قبل العشاء مشينا نحو شارع ٢٩ أيار، لأنه أراد أن يريني الطريقة التي تعمل فيها عاهرات دمشق، «إحدى معالم المدينة التي يتوّجب على كل وافد جديد التعرف عليها». قال ضاحكاً.
تجلس الواحدة منهن في المقعد الخلفي في سيارة تاكسي، تدور حول السبع بحرات، ثم تسير بهدوء نحو ساحة يوسف العظمة، لتتاح للزبائن المحتملين، الذين يقفون على طرف الرصيف المحاذي لمطعم أبو كمال، رؤيتها من النافذة التي أُنزل زجاجها، والتفاوض على السعر. إن تمّ الإتفاق، يدخل الزبون ويجلس معها في المقعد الخلفي، فيختفي التاكسي في بعض الشوارع الجانبية المعتمة، ريثما يفرغ صاحبنا.

لكن الشارع كان مكتظاً بعدد كبير من الرجال وقليل من الفتيات من مختلف الأعمار، وكانوا يصرخون بعبارات كثيرة غير مفهمومة، استطعت إلتقاط بعضها بصعوبة «لا، لا، للإنقلاب».
فجأة، هاجمت الجموع سيارات جيب من جانب سينما الفردوس، ورأيت بعضهم يسقط بسبب الإرتطام، وخلال لحظات كان الجمع قد تفرّق وتلاشى.
التاريخ ١٦ تشرين الثاني. الجنرال حافظ الأسد وزير الدفاع قاد، مع صديقه ورفيقه مصطفى طلاس وبعض الضبّاط، إنقلاباً أطلقوا عليه اسم «الحركة التصحيحة».
أرادوا سوريا دولة حزب البعث، واضعين حداً بذلك للصراعات الداخلية التي تضاعف بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧.

ثم صار لسوريا رئيس جديد مؤقت أسمه «أحمد الحسن الخطيب».
في تلك الأمسية، لم يكن هناك سيارات تاكسي تسير بهدوء في شارع ٢٩ أيار، ولا زبائن شبقين منتصبة قضبانهم كبيارق ينتظرون أمام مطعم أبو كمال، إلا أن عرق والد يوسف كان لذيذاً وقوياً وأبعد عني مصاصي الدماء حينما ترنحت ساقطاً على فرشتي العملاقة.
بق الفراش لا يستسيغ عرق جبال الساحل السوري. هكذا فكّرتُ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر


.. وصول نقيب الفنانين أشرف زكي لأداء واجب العزاء في الراحلة شير




.. عزاء الفنانة شيرين سيف النصر تجهيزات واستعدادات استقبال نجوم


.. تفاعلكم : الفنان محمد عبده يطمئن جمهوره على صحته ويتألق مع س




.. المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق يكشف عن أسباب اعتماده على ق