الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في عالم السخرية والنقد السياسي الساخر

نسيب عادل حطاب

2019 / 3 / 29
الصحافة والاعلام


ربما شكلت الحسجة الجنوبية بما تحــمله من عناصر التورية والايحاء نوعا من أدب السخرية والنقــد في لــغة أهل العراق. قساوة الحاكم وبطشه ورفضه للنقد دفعت العراقيين للاختباء خلف المفردة وتوظيف الرمز والنكتـة والحكاية الشعبية وابتكــار هذا النوع من أدب التهــكم والوخـــز لتشكل هذه اللغــــة لاحقا المادة الرئيسيــة التي قامـــت عليها الصحـــافة الســاخرة في بداياتها الأولى. أغلـــب المصادر تشير الى ان صــحيفة مرقعــة الجندي البصــرية وجه كباز الموصلية والنوادر البغدادية كل هذه الصحـــف اللاتي صــدرت بأزمان متقــاربة بين سنتي 1909-1911 كانت البداية الحقيقية للصحافة الســــاخرة ومع بداية عصر تكوين الدولة والنهوض التي أعقبت قيام الحكم الوطني شــهد هذا النوع من الصحــافة أقبالا من جـــمهور القــراء فظهرت صحف كناس الشوارع و أبـــو أحمد تلتـــهما في الصدور صحيفة حـــبزبوز لصاحبها نوري ثابت التي شكلت علامة بارزة ونقلة نوعـيـة في تاريخ الصحافة الســـاخرة حيث نشـــرت هذه الصحيفة عام 1931 أول رسم كاريكاتيري للفنان عبـد الجبـار محمـــود. لكن مسيرة هذه الصحيفة لم تستمر طويلا أذ توقفت عن الصـدور بعد وفاة صـــاحبها عام 1938 أثـر أصابته بالســل ...وبحلول عام 1941 أصدر صـادق الازدي جـــريدته الساخرة قرندل التي استـمـرت بالصــدور حتى قيــام ثـــورة تمـــوز 1958 ... لم تشــــهد فتـــرة حكم عبد الكــريم قاســم بين 1958- 1963 صـــدور أية صحيفــة ســــاخرة جديدة ربـمــا يرجـــع هـــذا الأمـــر الـى طبيعـــة المرحـــلة السياسية والحمــاس الشــعبي والتأييـــد الجـارف للثورة وانجـــازاتها في السنة الأولـى وربما لاحقا لحالة الشــــد والصـراع السياسي الحـاد وانتشــــار الصحافة الحزبية التي اخذت على عاتقها هذه المهمة وسـد الفراغ من خلال الرسوم الكاريكاتيـــرية والاعمــدة الصحفية فالعمود الصحفي السياسي الســـاخر الذي كان يكتبــه الصحفي اللامــع الشهيد عبد الجبار وهبي أبـو سعيد في صحيفة اتحاد الشعب آنــذاك كان يستقطب جمهــرة كبيرة من القــراء والمتابعــين حتى ان القارئ كان يبدأ بالقراءة من الصفحة الأخيرة حيث يكتب أبو سعيد عموده الصحفي تحت عنوان كلمــة اليــــوم . في الفتـــرة الأولى من حكم البعث التي أعقبت انقلاب 8 شباط 1963 فان المجازر والتصفيــات لم تقتصــر على البشر والمناضلين آنذاك وانما طالت الصحافة والكلمة الناقدة والساخرة. كان مجرد الإشارة أو توجيه النقد ولو بشكل خجول لسلطـــة الانقلابين أو لآمر ما كفيل بتصفيـــــة الصحــفي أو رميه بالسجن في أحســـن الأحـــوال. والحادثة المعروفة التي أدت لاعتقال السياســـي الفلســـطيني وعضـــو قيادة حركة القوميين العرب آنذاك نايف حواتمه مثيره للسخرية والضحك معا وتعبر بوضوح عن الطبيعة الفاشية للانقلابين فقد لجأ حواتمة إثر رفــض رقيب الانقلابين مقاله الافتتاحي في الجريدة التي يحرر بها الى مجموعة كتب كانت تحت يده ليستعير مــن كــل كتـاب جمـــلة او أكـثر ويشكل بعد لصقها ببعض مقالا خــال من المعنـى غيــر مفهــوم أستـفز الانقلابيــن وأثار شكوكهم ليلقى بحواتمة في السجن ويتذوق بعضا من معاناة العراقيين .على ان جماهير الشــــعب البسيـطة في تصديها آنذاك لإرهاب سلطة الانقلاب الفاشية وميليشيات الحرس القومي التي طالت عامة الناس لجأت في ظل غياب حرية التعبير وصحافة النقد الى لغة التعليق والغمز واستخدام الرمز والاسماء المستعارة وتحوير المفردة الشعبية لتشكل نوعا من الكاريكاتير المحكي والمتداول ليبتدع العراقيون شخصية حاج مشن في إشارة لشخص عبد السلام عارف ومشــن هـذا مشروب غازي معـروف آنذاك كان العراقيـــون يعتبرونه في مسـتوى ادنى من مشــروب الكوكا والبيبسي وربما في ذيل قائمة المشـــروبات المتنوعة التي كانت تنتج وهكذا بدأت الجمـــاهير تؤلف وتتــداول جمل الســـخرية والشتيمة المــقذعة لحاج مشن بإيقاع شعــــري يــردده الصغــار قبل الكبـــار لازالت ذاكرتـــي تــحفظ بعضــا منهــا مثل.. بيبسي وكوكا بالسجن العب بكيفك يامشن... حجـــي مشن ســــفن اب راح لمــصر جاب جلاب... حجي مشن ما نريده نــريد اللي كســـرنه ايده. في اشـــاره الى عبد الكريم قاسم وهكـــذا على هذا المنوال وليستمر الناس بملاحقته حتى بعد مقتله في حادثة سقوط الطائرة ولتنتشر الحـزورة الشعبيـة آنذاك صعد لحم نزل فحم كنوع من التشفي وفش الغيض ... ومع الانفراج النسبي للوضع السياســي للبلد أيــام حكم عبد الرحمن عارف استعادت الصحــافة الســـاخرة بعضا من عافيتها فصدرت عام 1965 مجلة المتفـرج لصاحبها مجيب الحسون الذي كان احـد أعضـاء فرقــــة الزبانيـــة للتمثيـــل تبعتـــها مجلــة الفكاهــة لصــــاحبها حميد المحــل عام 1966
. على ان ضعف السلطة العارفية وارتخاء قبضتها شجعت الصحف الساخرة على تخطي حاجز الخوف ومنحت نفسها هامشا اكبر من الحرية لتبتكر مجلة المتفرج شخصية ابي فرهـــود التي وجدت لها صدى فـي الشــــارع العراقي واعطتها رسما كاريكاتيريا شبيها لشخصية رئيس الوزراء آنذاك المرحــوم طاهر يـحي ..رجـــل قصير بدين أصلع ذوو كرش .. اشاره لفساده او فســاد الطبقة السياسية واثرائها على حساب الشعب ليتضح لاحــقا انه كان بريئا مما الصق به. حينما أطل البعث برأسه من جـــديد وأستلم الســــلطة عام 1968 كان قد أعاد صياغــة وجهــــه بمكياج جـــديـد وأستبدل أســــلوبه فلم يلجأ لخنــق الصحافة الساخرة مباشـــرة الا أنه بدأ بنزع اظافــرها وتجريدها من لغتـــها السياسية تدريجيا الى ان استطاع خنقها والتخلــص منـــها نهائيا في بداية الســــبعينات الا ان معاناة النظام مع الصحـــافة الحــــرة والساخرة استمـرت ولكن هـــذه المــرة مــن خــلال صحافــة الأحــزاب الأخــرى وتحــديدا صحيفـة طـريق الشعب لسان حال الحزب الشيوعي العراقي أذ كان العـــمود الصحفي للراحـــل شمران الياسري ابو كاطــع في هــذه الصحيفة تحت عنــوان بصراحـــة يماثل في تأثيــره ووقعه ما كان يكتبـــه أبو ســـعيد في صحيفة اتـحاد الشعب ابان الحكم القاسمي. لقد شـــكلت كتابات هذين العملاقين بصـدقها وواقعيتها التي تلامـس معاناة الناس ولغتها الشـــعبية البســـيطة الساحرة واللاذعــة مما يمكن ان يدخـــل تحت باب الســـهل الممتنع وتوظيفها للحكاية الشعبية والحسجة ظاهرة صحفية فريدة أوجعت الحاكــمين ونغصــت عليهم حتى قيل ان عبد الكريم قاسم كان يردد ..رصـاص رأس القرية ولا كثبات عبد الجبار وهبي .وبغض النظر عن مدى صحــة هــذه المقولة أو المبالغة فيها فأنها تعبــر بوضوح عن وقع هذه المقالات القاسي على الســلطة وفضحها لســـياسـة النظام المعادية لتطلعات الجماهير وبإمكاننا تصور مثل هذا الامر حين يختار أبو سعيد لعموده اليومي عنـــوانا مثل.... أسال الشـــرطة ماذا تريد--- عبد الاله ونوري الســـعيد... وذلك يماثل تماما ما كانت تحدثه لاحقا كتابات خلفه أبو كاطــع في طريق الشعب ابان حقبة البعث الثانية فمن يتذكر أو يقرأ مقالاته الموسومة زاير منصور وفهم حميد وغيرها الكثير بما تحمله من نقـد وتعـريض لسياســـة الدولـة العليا آنذاك ابتــداء من رأس النـظام البعثي يدرك كم كانت موجعه ومستفزة هذه المقالات للنظام بحيث كان يلجأ الى تعطيل الصحيفة أحيانا وربمـا الضغط على قيادة الحــزب الشيوعي حليفه فيما ســمي بالجبــهة الوطنيـــة وقتها .لقد كان الكاتب العراقــي عبد الحسين شـعبان مصيبا حينما قال ان عمــود ابي كاطع يماثـل في وقعـــه وتأثيره رسومات الشهيد ناجي العلي الكاريكاتيرية . على ان الراحـــل مؤيــد نعمه شكل بتحديه وجـرأته في التعبير من خلال كاريكاتيرية السياســـي المتميز في الصحيفة ذاتها آنذاك الطرف الثاني من هذه الثنائية النقدية المؤثرة التي كانت بحق محطة مضيئــة في تاريخ الصحافة العراقية الحرة ففي واحده من رسوماته الرائعــة يدور حوار بين مواطن ومسؤول يقول فيه على لســان الأخـــير...الكهرباء مقطوع والعتب مرفوع. الماي خابط ماكو ضوابط ..المجاري مجاري محفــورة ومســـتــــوره ومحسوبك ماشي كلــــشي وكلاشـــي .
بانتهاء فترة السبعينات وقيام صدام بتصفية القوى المعارضة والتنكيل بها ودخول العراق مرحلة الديكتاتورية الرســـمية والحروب الصدامية الدون كيشوتية اختفى كل إثر لصحافة النقــد والكاريكاتير السياسي الســــــاخر واستبدلتها الصحافة الموجهة بكتابات ورسومات تمجد القائد البطل الهمام والمنقذ المخلص وبات الكاريكاتيــر السياسي فاهيا فارغا من لغته الساحرة غلبت عليه لغة الدعاية المباشرة للنظام ورأسه. اللافت للنظر انــي لـم اشهد يومـا رسما كاريكاتيريا للقائــد حتى في تلك الرســــــــومات الكاريكاتيرية المصممة خصيصا للدعاية لـه او لتمجيده ولا اظن ان الذاكرة الصحفية تحفظ مثل هذا الرســم. لا أدرى ان كان هذا الامر يقتصـر على قائـــدنا الأوحد ام يمتد ليشمل كل الديكتاتورين لكني ما أعرفه ومتأكد منه ان الرسم الكاريكاتيري بمبالغتـه في اظــهار وتحريف الملامح الشخصية لا يروق لشخصية نرجسية مثل شخصية الديكتاتور يرى نفســه الاجمـل والاحلى والاعظم او كما قيل...
وأحسن منك لم تر قط عيني...وأجمـــل منك لم تلد النساء
ما يؤكــد صحة هذه الحقيقـــة تلك الواقعــة التي حــدثت في تسعينيات القـــرن الماضي ولا تــزال طـــرية فــي ذاكرتـــي حينما القى صدام بكبير مصـــوريه في السجن لمـــجرد ان الكاميرا صـورته من الخــلف حيث ابــرزت صـــلعته الصغيرة في أم رأسه تماما مثلما حمـلت اخبار الأســــبوع الماضي عن ديكتــــاتور كـــوريا الشمـــالية طـــرده مصــــوره الخاص لأنه لم ينجح في اتباع وصايا القائد واختيار البعد والزاوية المناسبة لتصويره. يبـدو ان للديكتاتوريين شكل واحد وان اختلفت زوايا التصوير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب