الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن أعراس الوطن العربي الطارئة وأوجاعه المزمنة (الجزائر نموذجا)

محمد عبد الشفيع عيسى

2019 / 3 / 31
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


عن أعراس الوطن العربى الطارئة وأوجاعه المزمنة ..!
(الجزائر نموذجاً)

د. محمد عبد الشفيع عيسى

عُرْسٌ و لِمَ لا ..؟ و قد كنت من شهود العيان عليه خلال الفترة الأخيرة .. فى الجزائر- موطن البهجة والوجع . بهجة تلمع حيث الفرح والسرور، ووجع أو أوجاع تترى حيث يسمع الأنين و تُحَسّ مشاعر الألم . فذلك ما رأيته بين مدينة الجزائر عاصمة الوطن ، ومدينة قسنطينه عاصمة الشرق الجزائرى، وما بينهما على حدود المدن الزاهية وعلى تخوم الجبال الخضراء ، من "البليدة" و "بو مرداس" إلى جوار "سطيف" وطريق "عنّابة" ، مروراً من بَعد إلى طريق "باتنه" حاضرة الهضاب العليا.
شباب من طلبة للعلم ومن غيرهم، وكهول ومن دونهم ، فى بقاع الأرض الجزائرية وأركانها الأربعة ، تدوّى أصواتهم المTجلجلة الحبيبة "نداء بالشعار الأثير" الشعب يريد التغيير" – "فاشهدوا...." ومن حول ذلك عناوين عريضة ، الجزائر تقول لا .. (للعهدة الرئاسية الخامسة) "Non" L Algerie dit .
وهكذا كان .. فما هى إلا عشية أوضحاها حتى وصلت الأصوات إلى بعض المسامع وانفسح طريق للتغيير . فلماذا ؟ وما هذا الذى يجرى وجرى ؟ ذاك حديث الوجع والألم ..
فما الجزائر سوى بلد عربى مثل سائر بلدان الوطن العربى الكبير يمر بمرحلة انتقال طويلة الأمد، ثقيلة الوقّع ، بطيئة الحركة ، لولبيّة المسار بين علوّ وهبوط ، ثم محاولة للقيام مرة أخرى بكل ما فى ذلك من جهد ومن أسى .. وما بين مشاعر اليأس والرجاء ، نعيش الليل والنهار ، نتعلق بأمل يكاد يكون قبضة اليد ثم يروح، وقنوط يطاول الأفق المرئىّ من بعيد ، وبالأحّرى من قريب.
هو "مرض تاريخى" عُضال، عمره قرون ، منذ بدا أفول الحضارة العربية الإسلامية ، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وكقوة عالمية ، ومنذ حل محلها –كونيّاً– الغرب الأوروبى مع مطالع القرن السادس عشر الميلادى ، وران العجز الحضارىّ علينا حتى مطالع القرن التاسع عشر فالقرن العشرين، تحت ظلال التبعية للاستعمار الغربى الحديث .

وها هى الثوارت العربية، الاستقلالية والتنموية، منذ خمسينات القرن المنصرم، قد عجزت عن مقاومة العجز، وإن قاومت قليلاً أو كثيراً ، ولكن "الدول الوطنية" التي أفرزتها ما تزال لا تقوى على مواجهة التهديد الوجودى الذي يتجلّى اقتصادياً وحضارياً، بل وسياسياً وعسكرياً أيضا من بعض الوجوه، وخاصة على وقع اختلال توازن القوة أمام الحركة الصهيونية العالمية و كيانها الماثل من أمامنا ومن خلفنا.
وذلك المرض العضال ليس له عَرَض واحد بل أعراض عديدة ، نراها فى أشكال متنوعة وبدرجات متفاوتة فى مختلف الدول العربية ، وتجد لها تجسيدا ظاهرا فى آخر حالة نعاينها اليوم وهى الحالة العربية – الجزائرية .
منذ استقلال الجزائر فى الخامس من يوليو (جويليه) 1962 و ارتقاء مليون ونصف مليون شهيد، من شعب لم يكنّ يزيد تعداد ساكنته عن ثمانية ملايين نسمة تقريباً ، وعلى مدى أكثر من خمسة عقود، كانت هناك إنجازات وإخفاقات. فى الإنجاز: دولة وطنية تسعى إلى التنمية، بأعلام ظاهرة فى عديد المجالات. ومن الإخفاقات تجد عديداً أيضاً ، ونرصد البعض من هذه وتلك فيما يأتى من سطور .
من إنجازات التجربة الجزائرية عموماً، النجاح فى تعريب "المحيط" الاجتماعى والمنظومة التعليمية حتى المرحلة الجامعية . وقد شبّ جيل أو جيلان حتى الآن خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، يجيد العربية مخاطبةً وكتابةً إلى حد بعيد، بالإضافة إلى اتخاذها لغة الاتصال الاجتماعى الجامع لمكونات المجتمع الجزائرى (مع العلم بالوضع الخاص للأمازيغيه). ومن المعالم المشهودة فى الحياة الثقافية، الإنتاج الدبى والفكرى والعلمى الغزير باللغة العربية حتى تفوقت هذه تفوقاً ظاهراً وحاسماً على الإنتاج المماثل باللغة الفرنسية التى غدت حبيسة بعض التخصصات الأكاديمية ، شأن الجزائر فى ذلك كشأن معظم دول الوطن العربي حيث يتم التعليم العالي فى تخصصات العلوم الطبيعية والطبية باللغة الانجليزية. هذا فى حين أن تدريس العلوم الاجتماعية فى الجزائر على المستوى الجامعى وما يماثله يتم بالعربية ، ومنها الاقتصاد والقانون (الحقوق) والعلوم السياسية و المحاسبة والإدارة والإعلام والحاسب الآلي، بالإضافة إلى الإنسانيات : من الفلسفة والاجتماع والألسنية (اللغات) والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك .
ويرتبط بتعريب دراسة القانون مثلاً تعريب مرفق العدالة والمحاكم على مختلف المستويات، كما يرتبط بتعريب العلوم الإدارية والتجارية تعريب الإدارة العامة، وإن يكن إرث الفرنسية جاثما على دواوين الجهاز الحكومى والمرافق العامة.
و رغم الفساد الذى ينخر في مجالات الحياة الاقتصادية والإدارية والسياسية ، كشأن عموم الدول العربية ، وما يترتب على ذلك من تبديد الموارد وإهدار الإمكانات المتاحة، فقد استطاعت الدولة الجزائرية أن تشيّد شبكة حديثة للطرق التى تربط بين أرجاء أكبر الدول العربية من حيث المساحة ( 2,4 مليون كيلومتر مربع تقريبا)، وأن تقيم أحياء مدينية وقرى كاملة فى جميع ولايات القطر الجزائرى لتلبية الاحتياجات الإسكانية لمختلفة الشرائح الاجتماعية إلى حد بعيد في دولة كبيرة الحجم السكاني نسبيا (أكثر من 40 مليون نسمة)، وإن لم تزل هناك ظاهرة "الأحياء القصديرية" والإسكان (الفوضوى) وسكانها من الفئات المهمشة. كما تقدم معظم السلع والخدمات الأساسية بأسعار مدعمة من قبل الدولة في حدود بعينها، برغم موجة (الخصخصة) التى طالت قلاع القطاع العام ، وترتب عليها دمار واسع للهياكل الصناعية الكبرى التي شيدت وشغلّت من بعد الاستقلال و حتى مطلع الثمانينات .. وهذه قصة تستحق أن تروى فصولها المأساوية ، شأن فصول القصة المأساوية فى مصر على إثر الانفتاح الاقتصادى منذ منتصف السبعينات. ولكن مع فارق رئيسي : أن الدولة الجزائرية تصنّف اقتصادياً "كبلد شبه نفطي" تملك من الموارد ما يمكنها من القيام بالعديد من الوظائف الاجتماعية لمواطنيها ، كما تملك احتياطياً معتبرا من العملات الأجنبية من باطن مواردها الذاتية، برغم ارتفاع مستوى الدين العام ومعدلات خدمة الدين.
غير أن الاقتصاد الجزائرى كبلد شبه نفطي، لم يقم بما يلزم لتحقيق (التنويع) للهيكل الإنتاجى، من خلال توسيع طاقات القطاع التصنيعى بما يكفل التحول من وضعية "الاقتصاد الريعي" أو شبه الريعي إلى اقتصاد إنتاجى مستديم .. بل ربما قد حدث العكس، من خلال ما يسمى بعملية "نزع التصنيع" التى عانت منها – لأسباب مختلفة – اقتصادات عربية ذات شأن سابق فى المجال الصناعى التحويلى وخاصة مصر والعراق ، والمغرب، وإلى حد ما تونس . وارتبط بكل ذلك حدوث ارتفاع شاهق فى معدلات البطالة وخاصة بطالة الشباب وبصفة أخص شباب الخريجين من التعليم العالى والمتوسط ولاسيما من الإناث .
هذا وقد حدث التحول عن النموذج التنموى للسبعينات من القرن المنصرم، والذي ساد في عهد الرئيس الجزائرى الراحل هوارى بو مدين، فيما كان يسمى بنموذج (الصناعات المصنّعة)، كالحديد والصلب والآلات الصناعية والمعدات الزراعية– على غرار القاعدة الصناعية المصرية الكبرى لعقد الستينات خلال العهد الناصرى- إلى نموذج آخر ( غير تنموى – غير صناعى) منذ الثمانينات حتى الآن . هذا النموذج (الآخر) يناظر بدوره نموذج "الانفتاح الاقتصادى" فى مصر، وربما يطلق عليه البعض فى الجزائر نموذج (الحاجات الأساسية) بمعنى السعى إلى إشباع الحاجات الطارئة بديلاً عن إقامة قاعدة إنتاجية حقيقية عبر الزمن.
نموذج (الحاجات الأساسية) ذاك، ربما تمكنت الجزائر من ولوجه نسبياً، بحكم توّفر الموارد المالية من باطن النفط والغاز، وهو ما لم تتمكن منه مصر ، ليس فقط بسبب غياب المورد المالى، ولكن أيضاً بسبب الهوة الاجتماعية المتسعة بين شرائح الدّخل للقوى الاجتماعية فى ظل الانفتاح الاقتصادى وبرامج "التكيف الهيكلي". غياب العدالة التوزيعية للدخل القومى ملمح مشترك بين تجارب عربية مختلفة إذن، وإن يكن أثره على مستوى معيشة الغالبية الاجتماعية متفاوتاً بين بلد وآخر، حسب درجة توفر الموارد التى يتحكم فيها جهاز الدولة : حيث يتسع نطاق الفقر، ويشيع (الإملاق) حين تشح الموارد الإنفاقية للدولة؛ والعكس قريب من الصحة نسبيا إن ظهرت الوفرة النسبية للموارد الطبيعية ومن ثم الإيرادات الحكومية الناجمة عن تصدير سلع الطاقة من البترول والغاز بالذات.
وسواء فى حالة وفرة الموارد نسبياً، أو ندرتها ، فإن البلدان العربية ، شأنها شأن معظم البلاد النامية فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية – عدا قلة قليلة معدودة وذات ظروف معلومة بعينها – تسودها نظم اجتماعية محكمة الإغلاق، تقف على قمة الهرم فيها أقلية تتراوح نسبتها بين 5% و 20% من السكان ، تستأثر بالنصيب النسبى الأكبر من الدخل القومى ، بينما ترزح الأغلبية الشاسعة (80%) تحت وطأة الفاقة البنيويّة ، أو الفقر "الهيكلى" المزمن – كمجتمع فقير على العموم تحكمه أقلية قليلة من الأثرياء. وتدل الدراسات التحليلية والاستقصائية على أن درجة "انعدام العدالة" فى توزيع الثروات والدخول ، تتناسب طردياً – بشكل عام – مع مستوى الدخل القومى ومعدل النمو الاقتصادى: بمعنى أن "انعدام العدالة" يزيد في المجتمعات الفقيرة منخفضة الدخل عنه فى البلاد الأخرى الأعلى دخلاً، على الدرجتين المتوسطة والمرتفعة من الدخل. ورغم ذلك ، فإنه على مستوى العام للبلدان المتخلفة اقتصادياً والآخذة فى النمو البطىء ، مثل البلدان العربية عموماً، نجد أن درجة "عدم العدالة" لا تتأثر فيما يبدو بمستوى الدخل الوطني لدى هذه الدولة أو تلك ، ففى جميع الحالات تسود-بشكل عام- أقلية ثرية محدودة العدد والوزن النسبى من إجمالى السكان . و هكذ، سواء كان البلد العربى نفطياً أو شبه نفطى أو غير نفطى ، فإن تضاريس "عدم العدالة" متشابهة إلى حد بعيد ، من حيث ضيق القمة المدببة ، والاتساع النسبى لقاعدة الهرم .
لا بل إن آليات "عدم العدالة" متماثلة إلى حد كبير بين الدول العربية بفعل تماثل الهياكل الأساسية للمنظومة الاجتماعية والسياسية . ففى بلداننا العربية على العموم نجد نفس الظواهر التى تؤدى إلى "تشرنق" المنظومة الاجتماعية وانغلاقها. وليست الجزائر بدْعاً من ذلك، وإنما هى حالة كاشفة لمرض عضال عربى عام كما سبقت الإشارة: حيث التراتبية (الهيراركية) العالية للسلطة ، والمتجذرة إلى حد بعيد فى أنماط الثقافة السياسية السائدة لدى الجماعات الاجتماعية ، ثقافة الاستئساد بالسلطة، من طرف، والاستسلام لطاعتها، من طرف آخر .
وهناك أيضا "الزبائنية" المجتمعية والإدارية (فيما يسمى باللهجة الدارجة فى مصر : "المحسوبية" ومن ثم اقتصاد المحاسيب من الأقارب أو الأبعدين) حيث حلقات متسلسلة ضيقة من المنتفعين، المستفيدين من القرب إزاء مراكز السلطة و من التقرب إليها والتغلغل فى نسيجها، عبر "تنافع" متبادل بين جهات متساندة، فى مواقع عديدة من الجهاز الحكومى ، وخاصة فى طبقاته القيادية العليا. وترتبط بكل ذلك ظاهرة "المؤسسة الوحيدة" التى يمكن أن ينطبق عليها وصف "المؤسسة" بالمعنى الحديث نسبياً ، وهى مؤسسة الأمن الخارجى والداخلى (الجيش والشرطة)، وإن شئت فقلْ : القوات المسلحة ومعها المؤسسة الأمنية – المخابراتية . و هذا المركب الفريد لجهاز العنف المجسّد يتغلغل فى أحشاء المنظومة الاقتصادية، عبر التمدّد العضوى، انتفاعاً هو الفساد بعينه.و ليست الدولة الجزائرية استثناء من كل ما سبق ، وإنما هى حالة ممثلة للعموم العربى على كل حال.
أضفّ إلى ذلك: التضخم المفرط فى الجهاز الحكومى والأمنى، الذي يرتبط بأوثق الروابط مع ظاهرة جمود النظم السياسية، وتخلف آليات (الخلافة السياسية)، بمعنى انتقال السلطة عبر الأجيال وعبر الطبقات والشرائح الاجتماعية. وبذلك (تشيخ السلطة فى مواقعها) كما قيل، وتصاب المنظومة الإدارية – السياسية بمرض (تصلب الشرايين) إن صحّ التعبير . وفى ظل ذلك تكاد تختفي الآليات المفعّلة للتتابع المنتظم للأجيال والشرائح الاجتماعية على موازين السلطة بمختلف مستوياتها، وتتضاءل وظيفة "التنشئة السياسية" وتكوين "النخب" ، ويصيب الضمور نسيج الوظيفة القيادية السياسية Political Leader Ship .
ويلاحظ أيضا، الضعف الشديد للمجتمع المدنى، بما فيه نقابات العمال والموظفين والمهنيين (استثناء عربى : الاتحاد الوطني التونسي للشغل) ويختفي الوسيط بين نخبة الحكم والجماهير. ومن ثم تسود حالة من الفوضى المنذرة بعدم الاستقرار المزمن حين يحدث غياب مفاجىء للقائد السياسي بحكم المرض أو الوفاة لأى سبب، أو لغير ذلك. وهذه حالة الجزائر فى اللحظة الراهنة.
إن عزوف النظم السياسية العربية عن ترتيب أمر الخلافة السياسية فى الواقع العملي، ودع عنك النص الدستورى أحيانا، كفيل بإحداث فجوات بعضها شديد الخطر؛ وليس ببعيد عن ذلك، ما يحدث من فراغ (دراماتيكى) تملؤه (قوى الفوضى) إلى حدود ممارسة العنف والإرهاب الموسّع كما جرى فى (العشرية السوداء) الجزائرية خلال عقد التسعينات، و كانت (تجربة أولية) -"بروفة" - لما جرى بعد ذلك بعشر سنين فيما أسماه الإعلام الغربى بالربيع العربى .
ولقد نجت الجزائر من أتون المحرقة العشرية وساد "الوئام المدنى"؛ ولكن الآفات الأصيلة فى المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بقيت على حالها، وبقيت على نفس الحال فى دول الجوار العربى والإفريقى، لتبقى النار تحت الرماد، تطل برأسها بين حين وآخر ، وخاصة حال حدوث أزمات طارئة ، كما هى حال الأزمة الراهنة فى الدولة الجزائرية . وقد يتم تفادى الأزمة ، ولكن الأسباب الموجبة لتوالي الأزمات تحتاج إلى علاج ناجع عبر الزمن ، ليس جزائرياً بالذات، ولكن عربياً على كل حال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا