الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسار- العدد 26

الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي
(The Syrian Communist Party-polit Bureau)

2019 / 4 / 1
مواضيع وابحاث سياسية



العدد26- آذارمارس2019
-------------------------------------------------------------------------

بيان من الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي )
حول الجولان العربي السوري
لم يكتف الرئيس الأميركي دونالد ترامب "بإهداء" القدس كاملة لدولة الكيان الصهيوني في كانون أول2017 ، بل بادر،أيضاً في آذار2019، وبكل عنجهية وصلافة،إلى "اهداء" الجولان السوري المحتل منذ هزيمة العام1967 لدولة الاحتلال الإسرائيلي، واعتباره جزءاً لا يتجزأ منها.
ما كان يمكن حدوث كل ذلك، لو كانت الأوضاع في الوطن العربي غير ما هي عليه من تفكك وصراعات داخلية،ولولاسيطرة أنظمة عربية رجعية تدعوا علنا للتحالف مع إسرائيل وتطلب الرضى يوميا من سيد البيت الابيض.
ما قام ويقوم به الرئيس ترامب يعتبر تحدياً للعرب جميعاً بالدرجة الأولى، ولكل المجتمع الدولي ومنظماته وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وقرارته المتعددة بشأن الجولان السوري المحتل.
وتتحمل السلطة القائمة في دمشق مسؤولية تاريخية منذ اتفاقية فصل القوات في العام ١٩٧٤ إلى اليوم في عدم السماح لكل السوريين الذين أرادوا اجتياز الحدود للقيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال، ولأنه في الوقت نفسه لم تقم بالجهود اللازمة بمساعدة سكان الجولان البواسل في نضالهم المستمر والرافض للاحتلال الصهيوني.
وتبقى مهمة تحرير الجولان بكل الوسائل المشروعة في ميثاق الأمم المتحدة،بمافيها المقاومة المسلحة ضد المحتل، مهمة قائمة أمام الشعب السوري، لا يمكن انجازها، وهو يعاني من فقدان حريته، وسيطرة أجهزة الامن على إرادته. إن التغيير الديموقراطي في بلدنا سوريا يعتبر الخطوة الأولى على طريق تحرير كافة الأراضي السورية المحتلة.

الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي )

25آذار2019
-------------------------------------------------------------------

الافتتاحية:
المهمّات المرحليّة للماركسيين العرب
تتحدّد المهام المرحلية من خلال طبيعة المرحلة، ومن خلال رؤية التّيار السّياسي لمهام المرحلة. كان لينين في «خطّتا الاشتراكية -الديموقراطية في الثورة الديموقراطية» (1905) يرى طبيعة المرحلة بأنّها ذات طابع بورجوازي ديموقراطي في بلد خرج من القنانة عام 1861 وما زالت العلاقات ما قبل الرأسمالية سائدة فيه.
من هنا رأى بأنّ المهام ديموقراطية وليست اشتراكية، وإن اختلف مع المناشفة حول قدرة البورجوازية الروسية على القيام بدور البورجوازيتين الانكليزية والفرنسية في ثورتي 1688 و1789، حيث رأى أنّ حزب الطبقة العاملة، وبالتحالف مع الفلاحين والراديكاليين الثوريين، هو من سيقوم بذلك. بعد وصول لينين إلى نظريته عن الامبريالية عام 1916 اختلفت نظرته، وهو ما تجسّد في «موضوعات نيسان» عام 1917، عندما رأى بعد اسقاط القيصرية بأنّ المهام أصبحت مختلطة بين بورجوازية ديموقراطية وبين مهام اشتراكية، وأنّ الأولى طريقاً إلى الثانية في مهمّة واحدة هي الاستيلاء على السّلطة عبر السوفيات من خلال استغلال الحزب البلشفي لشعاري «السّلم» والأرض». نجح لينين في الاستيلاء على السّلطة عبر ثورة أوكتوبر1917، ولكنَ البلاشفة لم يستطيعوا ادخال روسيا في الاشتراكية، بل قادوا ثورة بورجوازية عبر ثلاثة أرباع القرن كانت نهايتها «اقتصاد السوق» بديلاً من «رأسمالية الدولة» والتعددية السياسية» بديلاً من «الحزب الواحد».
منذ نشوء الأحزاب الشيوعية العربية في العشرينيات لم تكن تحديدات المرحلة واضحة المعالم، وكذلك المهام، وقد اختلطت وتداخلت كثيراً مع الاستراتيجية السوفياتية تجاه المنطقة العربية، وكان السوفيات على الغالب هم من يحدّد طبيعة المرحلة، كما جرى عام 1964 عندما حدّدوها بأنّها في «مرحلة التطور اللارأسمالي»، وبالتالي فإنّ المهام تتطلب لإنجازها نشوء «تحالف القوى التقدميّة» مع عبدالناصر والبعثيين وعبدالسلام عارف، وهو ما قاد إلى ضغط موسكو لحل الحزب الشيوعي المصري واندماج الشيوعيين في «الاتحاد الاشتراكي»، وإلى «وثيقة آب 1964» الشيوعية العراقية التي كادت أن تقوم بما فعله الشيوعيون المصريون مع عبدالناصر، ولكن تجاه حليفه عارف في بغداد، وإلى الضغط على سكرتير الحزب الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب للتّعاون مع النميري حيث قاد رفضه لذلك إلى انشقاق الحزب عام 1970 عبر كتلة «معاوية ابراهيم - أحمد سليمان» ومن ثمّ اعدام محجوب بعد فشل انقلاب 19 تموز 1971 ضدّ النميري، ثمَ إلى الضغط على الحزب الشيوعي السوري للدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية» عام 1972، وهو ما جرى أيضاً من قبل موسكو عام 1973 حين أجبر الشيوعيون العراقيون من قبل السوفيات للدخول في «الجبهة الوطنية القومية» مع حزب البعث الحاكم. تحرّر الماركسيون العرب من هيمنة الكرملين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولو أنّهم لم يستطيعوا بعد الوقوف لوحدهم على أرجلهم في مرحلة «ما بعد موسكو». لم يقوموا حتّى الآن بتحديد طبيعة المرحلة العربية الراهنة مع خصوصية كل بلد، ولا بتحديد المهام.
يمكن تحديد المرحلة العربية الرّاهنة بأربع قضايا:
1-كلمة «الامبريالية» هي مفتاح تحديد المرحلة العربية منذ قرنين من الزمن: هناك جهد غربي أوروبي ثم أميركي، للسيطرة على المنطقة العربية بدءاً من حملة نابليون بونابرت عام 1798. أخذ هذا أشكال احتلال، وسيطرة وهيمنة على القرار السياسي وعلى المقدّرات الاقتصادية من دون احتلال، وزرع كيان استيطاني أخذ دور المخفر الأمامي للغرب الأوروبي منذ نشوئه عام 1948، والأميركي بدءاً من عام 1964، وتكبيل دول داخلياً وخارجياً من خلال اتفاقيات (مصر عبر كامب ديفيد والعراق من خلال الاتفاقيات مع واشنطن قبيل الانسحاب العسكري بنهاية عام 2011)، واستغلال الأزمات المحلية، المنفجرة عبر أسباب داخلية مثل الأزمة السورية منذ درعا 18 آذار 2011، من قبل قوى دولية واقليمية للوصول إلى تحكّم مستقبلي بالأوضاع الداخلية وبالسياسات الخارجية للبلد، كما يمكن أن تأخذ عملية الهيمنة والتحكم بالقرار الوطني من الخارج (الدولي أو الاقليمي أو كلاهما معاً) شكل محاولة اللعب بمكوّنات داخلية، دينية أو مذهبية أو إثنية، من أجل استخدامها للتأثير الداخلي لصالح الخارج أو من أجل رسم خرائط جديدة أو التهديد بذلك. هذا يجعل من مهام المرحلة أن تأخذ طابعاً وطنياً عربياً، لمقاومة وإفشال كل ذلك وللتحرّر الوطني وامتلاك القرار المستقل. يمكن أن يأخذ هذا طابعاً قومياً عربياً عندما تكون «الوحدة» أو «الاتحاد» أو «التكامل» بين دول عربية من أجل شروط أفضل لمقاومة الهيمنة الغربية والاسرائيلية أو الآتية من دول الجوار الاقليمي الصاعدة حالياً (إيران، تركيا، إثيوبيا، السنغال).
2- الديكتاتوريات العربية: منذ الخمسينيات فشلت في تحقيق التحرّر الوطني وفي مهام تحرير فلسطين وفي مهمّة الوحدة العربية. بل إنّها أنتجت بنى داخلية متخلّفة ومفوّتة تاريخياً والأكثر من ذلك بنى غير مندمجة داخلياً بحيث أصبح الانتماء الديني أو المذهبي أو الإثني هو الأسبق من الوطني أو القومي، أو من إيديولوجيات حديثة عابرة لتلك الانتماءات، عند فئات واسعة من مجتمعات عربية عديدة في تحديد الانتماء الفكري-السياسي وفي رؤية البلد وفي رؤية المواطنين الآخرين. بعد ستة عقود من الواضح أنّ «الديموقراطية» هي وصفة علاجية تترابط مع «الوطنية» لتمتين الداخل وتوحيده لذاته ومن أجل مقاومة «الخارج» والتحرّر منه أيضاً، ومن أجل أن يشعر المواطن بالمساواة مع المواطنين الآخرين في الحقوق والواجبات. تترابط الوطنية والديموقراطية هنا وتكوِّنان خطّاً واحداً هو (الخط الوطني الديمقراطي)، بالقياس إلى ديكتاتوريات وطنية أو قومية وإلى ديموقراطيين غير وطنيين راهنوا على الخارج الأجنبي لتحقيق هزيمة الديكتاتوريات بدءاً من تجربة المعارضة العراقية في غزو واحتلال 2003 ومن تبِع المعارضين العراقيين، من سوريين وسودانيين وغيرهم، على هذا الخط عربياً.
3- الانقسام الطبقي: الاقتصادي- الاجتماعي، يمكن تلمّسه بوضوح في عواصم «طريق التطور اللارأسمالي»، والذي كان طريقاً بامتياز نحو رأسمالية جديدة نجد فيها أنّ الانقسامات والفروق الطبقية أكثر حدّة من التي نراها في الغرب الرأسمالي وأكثر قوة من الرأسماليات المحلية العربية القديمة في النصف الأوّل من القرن العشرين. هناك إرهاصات على أنّ هذا الانقسام الطبقي سيبدأ في ترجمة نفسه إلى السياسة العربية في بلدان عدة عابراً المذاهب والأديان والإثنيات للتحدّد فكرياً -سياسياً عبر إيديولوجيات عابرة لتلك التحديدات.
4-التّحديث»: قامت أنظمة «طريق التطور اللارأسمالي» بعمل صفقات مع رجال الدين قادت إلى عدم التحديث في «الدستور» وفي القوانين ومنها قانون الأحوال الشخصية. هناك تمييزات دستورية وقانونية ضد المرأة والأقليات الدينية والمذهبية والإثنية. وهناك عدم تناسب بين الواقع الدستوري -القانوني وبين الواقع الثقافي والتقني للمجتمعات العربية (ما عدا تونس). كان أتاتورك وشاه إيران وبورقيبة أكثر تطوّراً من العروبيين في هذا الصدد. هناك حاجة إلى علمانية تحدد الفصل بين الدولة والدين، ولكن ليس السياسة والدين حيث يمكن تحت خيمة الدستور العلماني أن يسمح لأحزاب ذات إيديولوجية تستمد من الدين منهجها الفكري -السياسي، مثل الأحزاب الديموقراطية المسيحية أو حزب العدالة والتنمية في تركيا أو حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي في الهند، بالنشاط سياسياً.
هذه القضايا الأربع: «الوطنية» – «الديموقراطية» – «الاقتصادية-الاجتماعية» – «التحديث» تحدّد طبيعة المرحلة عربياً ومن ثمّ تتحدّد المهام وفقاً لطبيعة المرحلة. وبالتالي الوظيفية السياسية المرحلية للتّيار الماركسي العربي: هذا التّيار هو التّيار السياسي الوحيد الذي يمكن أن يتبنَى هذه المهام الأربع معاً.
الاسلاميون يتبنّون المهمة الأولى، ولو أنّهم في حالات معينة تجاه الخارج الدولي والاقليمي يستعينون بالخارج كما في سوريا 2011-2015 وليبيا 2011، ولكن يترددون تجاه الثانية أو يتعاملون معها بمصلحية ، فيما هم ليبراليون في الاقتصاد، ومحافظون وغير حداثيين في مجالي الدستور وقانون الأحوال الشخصية. الليبراليون حداثيون وديموقراطيون ولكن غالباً غير وطنيين في طبعتهم القديمة (النحاس باشا لما فرضه الانكليز رئيساً لوزراء مصر يوم 4 فبراير 1942 ضدّ إرادة الملك فاروق عندما اقتحمت الدبابات الانكليزية قصر عابدين من أجل ذلك) وفي طبعتهم الجديدة (ليبراليو الدبابة الأميركية في بغداد 9 نيسان 2003 وأصحاب نظرية «الصفر الاستعماري»)، ومناصرون للفروق الطبقية وضدّ الحقوق الاقتصادية -الاجتماعية للفقراء والفئات البينية. العروبيون المعارضون وطنيون وهم مثل الاسلاميين تجاه الديموقراطية ومحافظون في وجه التحديث وغامضون في المجال الاقتصادي -الاجتماعي فيما الذين في السلطة وطنيون ولكن يفتقدون النزوع الديموقراطي والحداثي ووحشيون في رأسماليتهم.
يحدّد هذا تلاقيات الماركسيين مع التّيارات الأخرى والتباعدات حسب المرحلة وحسب تطورات اللحظات السياسية للمرحلة. أيضاً المرحلة عربياً في طبيعتها ومن خلال المهام المتحدّدة عبر طبيعة المرحلة تقول بأنّ المهام أمام الماركسيين ليست ذات مهام اشتراكية، وبأنّ ما قام به لينين في «موضوعات نيسان» كما كان غير صحيح روسياً، كما أظهرت مسيرة 1917-1991، فإنّ مهام الماركسيين عربياً لن تتجاوز مرحلياً، زائد المهمة الوطنية – القومية، ما طرحه ماركس في «البيان الشيوعي» (1848) لألمانيا وما طرحه لينين لروسيا في «خطتا الاشتراكية – الديموقراطية".

انتهاء الاستثناء الجزائري

محمد سيد رصاص- جريدة"الأخبار"اللبنانية،7آذار2019

بين يومي 17كانون الأول/ ديسمبر 2010 و18 آذار/ مارس2011 انفجرت البنية الداخلية لخمسة بلدان عربية جمهورية على التوالي: تونس، مصر، اليمن، ليبيا، سورية. كانت تجمع هذه الجمهوريات النزعة الراديكالية عند اليسار القومي بطبعتيه الناصرية (مصر وليبيا) والبعثية (سورية)، بعد وصول هذا اليسار إلى الحكم في القاهرة ودمشق وطرابلس الغرب، وعند رئيس ذي توجه علماني أقرب إلى أتاتورك (بورقيبة) وراديكالية جمهورية معادية للحكم الإمامي في اليمن أسقطت الأخير في يوم 26 أيلول/ سبتمبر 1962. أنتجت الانفجارات المذكورة نتائج متباينة، حيث نتج عنها ثلاث أزمات (سورية - يمنية - ليبية) ذات طوابق ثلاثة في أبعادها: محلية - إقليمية - دولية، فيما أنتجت مصر انقساماً داخلياً عميقاً بين معسكري المؤسسة العسكرية والاسلاميين بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي في 3 تموز/ يوليو 2013، يحوي، باستقطابات المعسكرين لكتل وازنة اجتماعياً، جنيناً لحرب أهلية مصرية. كانت تونس هي الوحيدة التي نتج عن انفجارها الداخلي عملية تغيير سلمي ومسار ديمقراطي ما زال صامداً. حصلت إرهاصات في الربع الأول من عام 2011 من أجل حراكات داخلية معارضة في بعض الدول العربية ذات النظام الملكي (الأردن والمغرب والبحرين) ولكن سرعان ما خمدت تلك الحراكات.
في العهدة الرابعة عادت المؤسسة العسكرية لكي تدير الأمور من خلف ستارة الرئيس المريض، وازداد الفساد في جهاز الإدارة

إذا استثنينا العراق الذي خضع للاحتلال الأميركي عام 2003 والسودان الذي شهد عملية انفصال الجنوب عام 2011، ما أنشأ فيهما أوضاعاً خاصّة، فإنّ الجزائر كانت استثناءً جمهورياً عربياً في انفجارات 2011، من حيث استمرار الوضع القائم وعدم انفجار البنية الداخلية المجتمعية. على الأرجح أنّ ذلك الاستثناء الجزائري كان ناتجاً عن انعكاسات عشرية الحرب الأهلية الجزائرية بين المؤسسة العسكرية والاسلاميين التي نشبت عقب انقلاب 11كانون الثاني/ يناير 1992وألغى فيه العسكر المسار الانتخابي البرلماني الذي كانت تتجه "الجبهة الاسلامية للإنقاذ"، وفق مؤشِّرات الجولة الأولى من الانتخابات، للفوز بأغلبية المقاعد فيه. كان مجيء عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة الجزائرية ناتجاً عن عدم قدرة العسكر على الحكم المباشر، رغم انتصارهم الميداني على الاسلاميين، لذلك أتوا ببوتفليقة من المنفى في عام 1999وأصعدوه إلى الرئاسة، وقد استطاع الرئيس الجديد خلال ثلاث سنوات أن ينهي الحرب الأهلية، وأن يحجّم المؤسسة العسكرية، التي كانت حاكمة منذ انقلاب بومدين على بن بيلا في 19حزيران/يونيو 1965، وأن يدخل الجزائر في استقرار نسبي ترافق مع طفرة في أسعار النفط، مع ديمقراطية محدودة مُنع فيها الاسلاميون من أن يكون لهم سوى تعبيرات "مدجّنة" بخلاف "الجبهة الاسلامية للإنقاذ" التي ظلّت محظورة. من هذا الاستقرار النسبي، وبسبب تبعات الانفجار الجزائري الداخلي العنيف والمدمِّر (1992-2002)، ظلّت الجزائر مستقرَّة في عام 2011 ولم تحذُ حذو جارتيها التونسية والليبية. بالتأكيد فإنَّ الوضع الاقتصادي الجِّيد ساعد الجزائر على عدم الانفجار، ولكن وفي نفس القوة فإنّ النزعات المحافظة على الوضع القائم التي تنشأ عند كتل اجتماعية كبيرة في أعقاب هزات اجتماعية كبرى مدمِّرة وفاشلة، مع الاتجاه نحو نبذ النزعات الثورية، كانت دافعاً كبيراً لكثير من الجزائريين لعدم النزول إلى الشارع في عام 2011. نذكّر بأنَّ الجزائر كانت قد سبقت الجميع في الانتفاض على حكم العسكر المغلّف بواجهة الحزب الواحد في تشرين الأول/ أوكتوبر 1988، لتلحق بها في العام التالي وارسو وبراغ وبودابست وبوخارست. رأينا تلك النزعات المحافظة والركون الاجتماعي إلى الهدوء في أعقاب فشل مسار ربع قرن من الثورة الفرنسية إثر هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو عام 1815، ولكن عندما عاد آل بوربون إلى الحكم، وهم الذين قال عنهم الفرنسيون: "لم ينسوا شيئاً، لم يغفروا شيئاً، لم يتعلّموا شيئاً"، فإن ممارساتهم التي كانت نسخة عن حكمهم في مرحلة ما قبل 14 تموز/ يوليو 1789 قد أجبرت الفرنسيين على النزول إلى الشارع في ثورة ثانية في تموز/ يوليو 1830واقتلاع آل بوربون من الحكم.
خلال "العهدة الرابعة"لعبد العزيز بوتفليقة منذ عام 2014، كانت هناك أوضاع جزائرية جديدة: رئيس مريض لم يعد مؤهلاً ذهنياً وجسدياً لممارسة مهامه، تدهور في أسعار النفط ما أنتج أوضاعاً اقتصادية مأزومة في بلد ما زال من "بلدان الاقتصاد الريعي النفطي". في العهدة الرابعة لم تعد الجزائر كما كانت في مرحلة العهود الثلاثة السابقة لبوتفليقة، حيث انقسمت السلطة من جديد إلى أجنحة متصارعة، وعادت المؤسسة العسكرية لكي تدير الأمور من خلف ستارة الرئيس المريض، وزاد الفساد في جهاز الإدارة. من المؤكَّد أنّ صراع الأجنحة في السلطة الجزائرية لم يحسم في مسار محدَّد، لذلك هناك اجتماع عند أطراف السلطة على ترشيح رئيس هو ميت سريرياً لولاية رئاسية خامسة، كحلّ مؤقت. هذا الترشيح يعبّر عن أزمة جهاز السلطة الجزائرية أكثر من تعبيره عن أي أمر آخر.
على ما يبدو أنَّ انتفاض الجزائريين وكسرهم للاستثناء الجزائري لعام 2011 هو تعبير عن انتهاء النزعة المحافظة التي ولدتها عشرية الحرب الأهلية وتعبير عن عودة الجزائريين إلى تثنية ثانية لتشرين الأول/ أكتوبر 1988التي أطاحت بنية السلطة الجزائرية التي كانت حاكمة منذ 5 تموز/ يوليو 1962وقادت إلى ديمقراطية عربية جديدة أطاحها انقلاب 11كانون الثاني/ يناير 1992 ولكن ليس انقلاباً قاد إلى استقرار بل إلى اضطراب دموي ذهب ضحيته مئة ألف جزائري. ما يبدو من التظاهرات الجزائرية ضد "العهدة الخامسة"، وهي واسعة ومنتشرة في عموم الجزائر وتشمل الفئات العمرية الشابة من الجنسين، يؤشّر إلى تململ اجتماعي كبير من جهاز السلطة الحاكم وإلى أنّ الأوضاع الجزائرية لم يعد ممكناً أن تعود إلى حكم العسكر المباشر ولا إلى رئيس مدني يتنازع معه العسكر ثم يطيحونه (تجربة أحمد بن بيلا) أو يحكم من ورائه العسكر ثم يغتالونه (مثل محمد بوضياف)، ولا إلى واجهة رئيس مريض غير قادر على ممارسة مهامه تحكم من خلف ستارته المؤسسة العسكرية.
هنا: أليس ملفتاً ترافق الانفجار السوداني مع الانفجار الجزائري، والبلدان كانا في حالة سكون عام 2011؟
الأخبار اللبنانية 7آذار2019

سحرُ الماركسيّة في القرن الواحد والعشرين

الاخبار اللبنانية- موقع "الحوار المتمدن"-25آب2018
أسعد أبو خليل


يذكرُ كلُّ مَن مرَّ في الماركسيّة كيف كانت تجربته الأولى معها. يذكرُ وقع كلماتها وفكرها الخاص عليه: هي ليست كملامسة أوّل حبيبة لكنها تبقى محفورة حتى في ذاكرة مَن يتخلّى عنها لأسباب انتهازيّة. وهي في المجتمع العربي كانت، حتى سنين خلت، من المُحرّمات، وكان حاملها يتعرّض لعقوبة السجن والتعذيب. هي لم تعدْ مقبولة (نظريّاً وعن بعد) إلّا بعد أن زالت الأنظمة التي حكمت باسمها، خصوصاً بعد زوال الاتحاد السوفياتي. أذكر في صيف ١٩٨٢، كان جنود الاحتلال الذين يقعون على كتابات ماركسيّة في المنازل في القرى والبلدات في الجنوب يتعرّضون لأصحابها بالاعتقال (تحضّرَ كثيرون لذلك بأن أفنوا مكاتبهم من الآثار الماركسيّة وحرقوا ما لديهم. أذكر في بلدة القليْلة أنهم سألوا شاباً بسبب صورة للينين في غرفته). خطورة حمل فكر ماركس لم يردع ملايين في العالم العربي من اعتناق فكره. الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوداني كانا من أكبر الأحزاب الشيوعيّة العربيّة —لا بل مِن أكبر الأحزاب العربيّة. وفي السبعينيّات من القرن الماضي، كانت معظم التنظيمات الفلسطينيّة تدين بالماركسيّة، كما أن اجنحة ماركسيّة تشكّلت في داخل «فتح» نفسها. والعلاقات بين الاتحاد السوفياتي وبين حلفاء في الأنظمة العربيّة لم تنقذْ الماركسيّين: فُرِض على الحزب الشيوعي المصري أن يحلَّ نفسه في مرحلة ذهبيّة من العلاقات بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتي (كان الراحل سمير أمين من القلّة التي وقفت ضدّ الحلّ)، كما أن الأنظمة البعثيّة في سوريا والعراق نكّلت بالشيوعيّين في مراحل مختلفة (وإن رعت الشيوعيّين المطيعين جداً لها). لكن صعوبة تقبّل الفكر الشيوعي يتحمّل مسؤوليّته أيضاً الشيوعيّون العرب، والقادة منهم بشكل خاص. الولاء لموسكو كان مطلقاً (والتشنيعات عن أن نايف حواتمة أو جورج حاوي كانا يحملان المظلّات عندما تمطر في روسيا كانت مثالاً على النظرة تلك). والمساومات والتنازلات الفظيعة التي أجراها الشيوعيّون العرب —إن في علاقاتهم مع الأنظمة أو في علاقتهم مع العقيدة الشيوعيّة ومحاولاتهم المصطنعة والكاذبة في تطمين جمهور المؤمنين أن العقيدة لا تعارض الدين، أو أنها لا ترفض المؤسّسات الدينيّة عرّض الشيوعيّين لانتقادات صائبة حول لين الالتزام المبدئي واستسهال الانتهازيّة. وتقلّب الولاءات لبعض القادة الشيوعيّين في لبنان أو العراق، من الستالينيّة الصارمة إلى الحريريّة أو إلى التواؤم مع مجلس بريمر في بغداد، أسبغ على الشيوعيّة صفاتٍ شنيعة ليست هي بالضرورة منها.
لكن للماركسيّة سحرها عند الماركسيّين كما للأديان سحرها عند المؤمنين. في عام ١٩٠٧ أبحر لويس ماسينيون نحو العراق حيث قضى فترة من الزمان متدثّراً بالرداء العربي ومتجنّباً الاختلاط مع الجالية الفرنسيّة. احتضنته عائلة الألوسي هناك (بعد أن حذّرته من إقامة علاقات جنسيّة مثليّة، ربما لعلمها بعلاقته المعروفة مع المستشرق الإسباني، لويس دو كودارا، الذي كان قد عرّفه على «المشهد المثلي» في القاهرة). كان ماسينيون قد غادر الكاثوليكيّة، ورافقه بعثة تنقيب أركيولوجيّة في جنوب العراق، حيث أصيب بالملاريا. وعندما عاد إلى بغداد في أوائل أيّار ١٩٠٨، انتابه شعورٌ غريبٌ وأصبح خائفاً على قواه العقليّة. بلغ من خوفه الحدّ الذي جعله يسلّم مسّدسه لقائد البعثة. ورُبطَ ماسينيون في الزورق لكنه حرّرَ نفسه منه. وهناك في الرحلة النهريّة، اختبرَ ما أسماه في ما بعد بـ«زيارة الغريب». شعر إن الله —الذي غادره على مدى خمس سنوات— عادَ إليه. كتب عن تجربته تلك: «ليس هناك من اسم بقي في ذاكرتي (ولا حتى اسمي) كان يستطيع أن يصيح به كي يحرّرني من مخطّطه ويجعلني أفلتُ من فخّه» . اعترفَ ماسينيون بفضل عدد من «الوسطاء الشهود»، وكان بينهم الحسين بن منصور الحلّاج. وأصرّ على مدى سنوات أن الحلاّج هو الذي توسّط له عند الله كي يعيده إلى الإيمان (الكاثوليكي).
لم تنتَبْ رالف ميليبند العوارض (المرَضيّة) نفسها التي انتابت ماسينيون. لكن هذا اللاجئ اليهودي القادم من بلجيكا إلى بريطانيا مرَّ على ضريح كارل ماركس في لندن عام ١٩٤٠. وهناك أقسمَ يمين الولاء لـ«قضيّة العمّال» (2). وميلبند وفى بوعده لماركس كما يفي المؤمنون بنذور دينيّة. كرّس كل حياته (الشخصيّة والأكاديميّة) لقضيّة العمّال، وأسس «السجل الاشتراكي» ونشرَ في عمل الاجتماع الماركسي. لا يجمع بين الحدثيْن —بين ماسينيون وبين ميلبند- إلا اللحظة الدراميّة التي أثّرت في مسار شخصيّة على تباعد أفكارهما. ليس كل الماركسيّين متساهلين في إيمانهم العقائدي. القائد الشيوعي السوداني، الشفيع أحمد الشيخ، مشى إلى حبل المشنقة أبيّاً، وربط بنفسه الحبل حول عنقه وصاح: «عاش الشعب السوداني، عاشت الطبقة العاملة». الجاسوس البريطاني، كيم فيلبي، جلس على مقعد في حديقة ريجتنس بارك في الثلاثينيّات، حيث أعلن تكريس نفسه للشيوعيّة العالميّة، وكان أن طلب منه المندوب المخابراتي السوفياتي أن يخترق صفوف النخبة في بريطانيا، وهذا ما فعله. لم يكن دافعه (على عكس الجواسيس الأميركيّين —بما فيهم الصهيوني جوناثان بولارد— الذين يتجسّسون لأهداف مالية محض) إلا خدمة قضيّة وعقيدة آمن بها. هذا هو تأثير الماركسيّة على أشخاص لم يلتقوا حول العالم.
وسحر كارل ماركس العالمي، وتأثيره، لا يزال غير معروف في العالم العربي. لم يحظَ العالم العربي بتقدير متجرّد لشخص كارل ماركس وفكره. المنطقة العربيّة كانت مركزاً عالميّاً لضخّ الفكر اليميني الديني الرجعي: إذ تحالفت الحكومة الأميركيّة مع قوى الرجعيّة الدينيّة لمحاربة الشيوعيّة واليساريّة في كل مظاهرها. لم يجدْ تجّار الدين ما يحاربون به كارل ماركس إلا إلحاده (ويهوديّته — أو يهوديّة مولده، لكن ذلك المولد بقي عند أعداء الماركسيّة قضيّة هامّة لا تُحلّ إلا باعتناق الفكر الرجعي). وبينما كانت المنظمّات اليهوديّة تحارب كارل ماركس وترميه بتهم معاداة الساميّة (غالباً بسبب سوء فهم كتابه في «المسألة اليهوديّة»، فإن القوى الاسلاميّة الرجعيّة لم ترَ في ماركس إلا يهوديّاً صهيونيّاً مساهماً في احتلال فلسطين). هذه حالة ماركس: يهودي عند أعدائه من المسلمين ومعادٍ لليهوديّة عند أعدائه من اليهود، ومُلحدٌ عند المؤمنين.
الحرب الباردة كانت مستعرة جدّاً في عالمنا العربي. أنفقت أميركا وحليفاتها في العالم العربي الكثير لتشويه الماركسيّة وتقويض الحركات والنظم (مثل اليمن الجنوبي) التي اهتدت بفكره. وركّزت أميركا على إبراز عامل الإلحاد في مواجهة تلقّي الماركسيّة بين العرب والمسلمين. كانت أوّل إطلالة أكاديميّة للراحل حنا بطاطو (وكان باحثاً زميلاً في جامعة هارفرد بعد نيله الدكتوراه) في مؤتمر عقدته «مؤسّسة دراسة الاتحاد السوفياتي» في مؤسّسة كارنغي في نيويورك في عام ١٩٦٠ عن «الإسلام والشيوعيّة». وهذه الزاوية من الدعاية الأميركيّة هي ربطت بين دول الغرب وبين الرجعيّة الإسلاميّة العالميّة —والتي لم يكن أسامة بن لادن إلا نتاجاً طبيعيّاً لها. والدعاية الغربيّة-الإسلاميّة ضد الماركسيّة فعلت فعلها لأنها جعلت من ماركس غير مقبول من الناحية الدينيّة ومن ناحية المدنيّة الغربيّة المزيّفة التي قابلت بين ديموقراطيّة الغرب وبين الاستبداد في دول المعسكر الشيوعي
لكن العربي (والعربيّة) لم يكن محظيّاً في تلقّي الماركسيّة من الاتحاد السوفياتي. كان نشوء الماركسيّة العربيّة نتيجة تفاعل جنيني بين تيّارات وأفراد يحملون فكراً إنسانيّاً رومنسيّاً حالماً (غالباً بزيّ الأدب الرومنسي الفرنسي، كما حالة يوسف إبراهيم يزبك) وبين مبعوثي الكومنترن الذين لم يريدوا للماركسيّة العربيّة (أو لأي ماركسيّة في البلاد النامية) أن تنمو متحرّرة من السيطرة السوفياتيّة. هذا منعَ تبلور ماركسيّة محليّة مستقلّة، وهذا أحد أسباب سرعة تدهور أحزاب الشيوعيّة العربيّة بعد اندثار الاتحاد السوفياتي: زال رابط الرحم. والأحزاب التي نشأت من رحم الأحزاب الشيوعيّة الستالينيّة العربيّة —خصوصاً في حقبة الستينيات— لم تعمّر طويلاً إما لأنها لم تجد راعياً وإما لأن بعض أقطابها اتجهوا نحو اليمين. والماركسيّة العربيّة لم تنتج أدباً سياسياً خاصّاً بها، ولم ينتج حتى ترجمات عربيّة خاصّة. كان «دار التقدّم» السوفياتي هو الموزّع الرسمي (الوحيد) للتراث الماركسي - اللينيني، مع ما لحقه من تشويهات. أصدر العفيف الأخضر في عام ١٩٧٥ أوّل «ترجمة عربيّة غير محرّفة»، لكنه ترجمها عن الترجمة الفرنسيّة للكتاب. ليس هناك من حركة ترجمة لأمهات الكتب الماركسيّة عن أصولها في اللغات الأجنبيّة، وترجمات دار التقدّم (مع الحواشي التي وضعها الدار) لا يمكن أن تفي بغرض فهم واستيعاب الفكر الماركسي (من دون خضوعها لتحرير «الماركسيّة السوفياتية").لكن افتقار العالم العربي إلى تراث ماركسي خاص به يعود أيضاً إلى عدم وجود أرض خصبة لنموّ الماركسيّة ليس فقط بسبب القمع المحلّي والخارجي بل بسبب أمراض شابت التجارب الأحزاب الشيوعيّة العربيّة: من القبول بتقسيم فلسطين إلى الدعوة إلى الصراع السلمي المبكر ضد الصهيونيّة إلى التلكؤ في المساهمة في المقاومة العسكريّة ضد إسرائيل إلى التكلّسات الستالينيّة في بنية الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. كل ذلك لم يعطِ صورة حسنة للناس عن الشيوعيّة. أما الأحزاب الشيوعيّة العالميّة فكانت إما ملتزمة بالموقف السوفياتي من حصر المطالب العربيّة بـ«إزالة آثار العدوان» والتعايش السلمي مع العدوّ أو هي كانت أحزاب مستقلّة عن موسكو لكن غارقة في الصهيونيّة، مثل الأحزاب الشيوعيّة والاشتراكيّة في أوروبا الغربيّة.
والأحزاب الشيوعيّة كانت تُحارَب بالإسلام من دون أن تردّ عن موقف الماركسيّة الحقيقي —وليس التلفيقي— من الدين، كل الأديان وليس بعضها، على طريقة الإلحاد الغربي الجديد المُصاب بالإسلاموفوبيا. وأعداء الشيوعيّة لم يروا فيها إلا إلحاداً كأن ثراء الفكر الشيوعي يُختزل بما يوافق الدعاية ضدّه. تشكّل في عام ١٩٢٨ في بيروت، وفي عام ١٩٢٩ في البصرة تنظيم «الأحرار»، لكن التنظيم لم يُعرف إلا بالاسم الذي أطلقه عليه أعداؤه، أي «الحزب الحرّ اللاديني»، والذي يصفه حنا بطاطو بأنه أوّل تنظيم سياسي للشيوعيّين العرب في المشرق.
البيان الشيوعي مكتوب كقطعة أدبيّة وقد طُبع ووزّع ونُشر ربّما أكثر من أي كتاب آخر ما عدى الكتب الدينيّة المقدّسة. وقد ألهم البيان ملايين البشر وأدّى إلى نشوء حركات وأحزاب واشتعال ثورات في كل أرجاء الأرض. والكتاب الصغير كان مقرّراً في كل الأحزاب والتنظيمات الشيوعيّة حول العالم، وكان أيضاً معتمداً في أجهزة الشرطة السريّة التي شكّلت هاجساً —كما توقّع البيان— لدول الراسماليّة الغربيّة، وفي كل دول العالم في ما بعد. وقع كلمات البيان تصديق لنبوءة ماركس في «نقد فلسفة الحق عند هيغل»، بأن النظريّة تصبح قوّة ماديّة متى تلقّفتها أيدي الجماهير. والبيان ساهم بصورة مباشرة في إرشاد ملايين البشر للأمل في تغيير جذري في الحياة الماديّة. لكن السؤال الذي يطرحه أعداء الماركسيّة، خصوصاً من معتنقيها السابقين، يكمن في راهنيّة الماركسيّة في القرن الواحد والعشرين. وكلٌّ يجد طريقته للحكم بعقم الماركسيّة: كريم مروّة مثلاً ينصح بالركون إلى الدولة الرأسماليّة نفسها كـ«ناظم للمجتمع» وأن لا حاجة لثورة اشتراكيّة لأن الدولة —هو يعني فؤاد السنيورة على الأرجح— تقوم بالحد من الجشع والاحتكار الحاد .أما فالح عبد الجبّار، فهو بعد أن يشكو من القصور النظري للينين، وأنغلز، وستالين (لا يؤاخذه لينين وأنغلز وستالين)، يلومُ الماركسيّة الميّتة ويرى أن الرأسمالية العالميّة باتت تتصف بـ«العمل الجماعي»، أي إن الكل يتعاون لإنقاذ الجزء، ولو في العالم الثالث، ما يعطي للرأسماليّة الحديثة طابع الجمعيّة الخيريّة . وفي نظر عبد الجبّار إن الجانب غير الاقتصادي من العولمة يعطي الشركات العملاقة سلطة «فوق سلطة الدولة»، لكن هل سلطة الدولة الرأسماليّة في المركز الغربي لا تتطابق مع مصالح تلك الشركات ولا تنسّق سياساتها معها؟ وهل الشركات العملاقة تتناقض مع جمهور الرأسماليّة ونمط سيطرتها الطبقي؟
إنَّ راهنيّة الماركسيّة باتت مطروحة اليوم على الصعيد الغربي بسبب الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وبسبب تخفيض منسوب الرعاية الاجتماعيّة في كل الدول الرأسماليّة الغربيّة. والدراسات الجديدة عن التفاوت المتزايد في مستويات الدخل أعاد طرح مفاهيم اشتراكيّة مرّة جديدة، كما فعلت الأزمة الاقتصاديّة العالميّة في عام ١٩٢٩، والتي ولّدت دولة «الصفقة الجديدة»، كما يصفون دولة الرعاية الاجتماعيّة في أميركا. وكتاب توماس بيكيتي لم يفاجئْ قرّاء الغرب بسبب إشاراته إلى الأزمات الاقتصاديّة المتكرّرة للرأسماليّة، بل لأنه أظهر أنَّ الرفاه الاقتصادي والتخفيف من مستويات الدخل بين الطبقات كان الاستثناء وليس القاعدة في تاريخ صراع الطبقات في الغرب (مع أنَّ بيكيتي ليس ماركسيّاً البتّة وأخذ على ماركس، من جملة ما أخذ، أنَّ تجميعه للمعلومات في البحث الأكاديمي في القرن التاسع عشر لم يراعِ معايير البحث الأكاديمي في القرن الواحد والعشرين). لقد دمّرت الحرب العالميّة الأولى طبقة كبيرة من الأثرياء في أميركا وفي العالم، كما حصل أيضاً بعد الحرب العالميّة الثانية. وزيادة حصّة دخل الطبقة المتوسّطة كان استثنائيّاً بعد الحربيْن أيضاً. وزيادة الريع على الثروات بالنسبة إلى زيادة الأجور تبقى مطردة حسب دراسة بيكيتي التاريخيّة.
أمَّا أكاديميّاً، فتأثير الماركسيّة هائل في الجامعات الغربيّة والشرقيّة إلاَّ في العالم العربي. في الجامعات الغربيّة، بقي تأثير الماركسيّة كبيراً في الجامعات منذ أوائل القرن العشرين. أذكر أنَّنا سألنا مرّة ألبرت حوراني وهو في زيارة إلى جامعة جورجتاون عن تأثير الماركسيّة عليه فقال: كلّ الذين درسوا في جامعة أوكسفورد أو كمبردج من أبناء جيلي تعرّضوا على أقل تقدير إلى «رشّة» من الماركسيّة بسبب نفوذها. وتدور اليوم في الجامعات نقاشات مستجدّة حول الماركسيّة، وترى في أميركا مثلاً أنَّ تأثير الماركسيّة لا يزال كبيراً في دوائر: اللغات الحديثة، النقد الأدبي، الفلسفة السياسيّة، التاريخ، الانثروبولوجيا، وقد يكون الأكبر في علم الاجتماع (حضرتُ قبل سنوات مع صديقة المؤتمر السنوي لاتحاد علماء الاجتماع وكان مذهلاً أنَّ ماركس أو فروع الماركسيّة كانت موجودة في كل الحلقات الدراسيّة في المؤتمر). صحيح، لا تزال الماركسيّة مُحاربة في كليّات الاقتصاد والقانون والسياسة (مع بعض الاستثناءات في الأخيرة). أما في بريطانيا، فتجد أنَّ الماركسيّة لا تزال ذا سحر في الأكاديميا وحتى في فروع الاقتصاد. وقد يكون تأثير الماركسيّة في العلوم أكبر إذ تجد —في الحالة الأميركيّة— أنَّ نفوذ اليسار في فروع العلوم أقوى منه في فروع العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة (في الحرب ضد فييتنام، كانت الدوائر العلميّة أكثر تحرّكاً من الفروع الاجتماعيّة). حتى مجليّة «إيكونمست» المحافظة اعترفت بصوابيّة بعض من أفكار ماركس، وقالت إنَّنا نتعلّم منه مثلاً أنَّ الطبقة الرأسماليّة لا تتكوّن بالضرورة من مراكمي الثروات بل من «سعاة الريع» —أي الذين يسطون على عمل الآخرين ويقدّمونه على أنّه منهم .
لكن من معالم ضعف الماركسيّة في عالمنا العربي، أنَّ الفرد هناك لا يتلقّنها في الجامعات لأنَّ نفوذ الماركسيّة في الجامعات العربيّة منعدم. وليس ذلك بسبب رجعيّة كل الحكومات من دون استثناء، بل بسبب سطوة القوى الرجعيّة الدينيّة على الثقافة السياسيّة والشعبيّة، كما أنَّه ليس للماركسيّة من رعاة في مراكز الأبحاث. إنَّ مراكز الأبحاث العربيّة التي استقطبت الأكاديميّين العرب على مرّ العقود كانت مموّلة من العراق وليبيا والكويت والسعوديّة وقطر، وحاليّاً باتت دول الخليج تحتكر رعاية المراكز البحثيّة إلاَّ أنَّ إنفاقها زاد في الغرب وقلّ في الشرق لأنَّها تركّز على التأثير على عواصم الغرب. أي إنَّ الفرد العربي يعثر على الماركسيّة فرديّاً ومن دون تأثير خارجي، ومع العلم الأكيد أنَّ ذلك له مضاعفات شخصيّة ومهنيّة. يذكر المرء الذي شعر بوطأة الماركسيّة عليه لحظاته الأولى. أذكر أنَّني في سنوات الصبا سمعتُ بعض مصطلحاته، وأثار ذلك فضولي. قصدت مكتبة «أديسون» في شارع بلس ببيروت وابتعتُ كتاب أوغست كارنو (وهو معروف في ألمانيا أكثر مما هو معروف في الدول الناطقة بالإنكليزيّة) عن ماركس وانجلز في أجزائه الأربعة. وكان كتابي الثاني مجلّداً ضخماً عن لينين. وليست المعرفة إلاَّ اكتشافات لمكامن الجهل، وإدراك طرق سدّ بعضها. وكتاب يجرّ إلى آخر، وهلّم جرا. لكن المرور في التجارب الحزبيّة الشيوعيّة لم يكن يثري كثيراً في الثثقيف الشيوعي. كان العضو الحزبي يقرأ نتفاً من البيان، ونتفاً من «١٨ برومير» ونتفاً من «ما العمل». أمَّا التقارير الحزبيّة الطويلة (والمملّة) فكان يُقرأ منها الكثير الكثير، خصوصاً أنَّها كانت من إعداد الأمين العام بنفسه.
مرّت قبل أسابيع فقط ذكرى مرور قرنيْن على ولادة ماركس والذكرى لم تحظَ بما تستحقّ، خصوصاً في العالم العربي. رسم ماركس لنا عالماً جميلاً وإن اتصف بالخيال (بمعيار الزمن الرأسمالي): صوّرَ لنا عالماً حيث «يمكن لي أن أفعل شيئاً اليوم وآخر غداً، أن اصطاد في الصباح وأن اصطاد السمك بعد الظهر، وأن أرعى الماشية في المساء، وأنتقد بعد العشاء... من دون أن أصبح صيّاداً أو راعياً أو ناقداً» . لم يرسم لنا ماركس طرق الوصول لكن ذلك لا ينتقص من واقعيّة الحلم. وقد عكّر عليه يوماً مُعترض عند إلقائه لخطبة وصاحَ به: «ومَن ينظّف المراحيض» في عالمك الشيوعي؟ «أنتَ تنظّف المراحيض»، أجابه ماركس وبغضب..

-------------------------------------------------------------------------------------
خصائص الرأسمالية المعاصرة

للرأسمالية المعاصرة خصائص أهمها:
_الرأسمالية الاحتكارية: إنَّ الرأسمالية الحديثة طبقاً لشومبتير لها مفهوم يختلف عما عرفناه من الفكر التقليدي، فهي لا تتمثّل في ذاك النوع من المنافسة الكاملة، التي تتعادل فيها قوى العرض والطلب بطريقة ميكانيكية وتقوم فيها الأثمان بتوزيع الدخل، وتخصيص الموارد، وإنَّما هي منافسه من نوع جديد، منافسة حول إنتاج سلع جديدة واستخدام فنون إنتاج حديثة والاستفادة من التجديدات
_الفنية والسيطرة على مصادر الموارد الأولية:
فالحقيقة الأساسية لهذا النوع من التنظيم الاجتماعي هي التركيز الفني والمالي في البلاد المتقدمة صناعياً، وعلى هذا التركيز يترتَّب كثير من التغيرات الجوهرية في الأبنية الاقتصادية للصناعات التقليدية والحديثة والصغيرة على السواء، وإذا كانت ظاهرة التركيز لرأس المال الصناعي ليست بالظاهرة الجديدة، إلاَّ أنَّها اكتسبت مظهرين جديدين في هذا العصر، كان الأول سيطرة المجموعات المالية الضخمة(رأس المال المالي والمصرفي) على المشروعات الصناعية الضخمة ،فالمجموعات المالية هي وحدة التجمّع والفئة الأم لمجموعة من الصناعات المتكاملة، والمظهر الثاني يتمثّل في تدخّل الدولة بمختلف الوسائل الاقتصادية والمالية والسياسية لتشجيع هذا التركيز.
_رأسمالية النمو التكنولوجي والنقابات:
يُجيب جالبيرت على التساؤلات حول النمو التكنولوجي والنقابات بقوله: أنَّ الاقتصاد الرأس مالي المعاصر هو اقتصاد النمو التكنولوجي، فالمجموعات شبه الاحتكارية والسلطات التي تتمتّع بها، تعتبر في الظروف الحالية من التقدم الفني من أنسب الأوضاع لتحقيق الابتكار والتجديد والاختراع، وهي كلّها عوامل تؤدي إلى تخفيض النفقات وزيادة الإنتاجية، وتؤكّد هذه الحقيقة العوامل النفسية، حيث أنَّ المجموعات الضخمة تحاول أن تحافظ على هيبتها، فتقوم بالكثير من الأبحاث الفنية، وتعمل على إشباع الطلب وتنميته، والمشكلة بالنسبة لجالبيرت تتمثّل في كيفية تجنّب الأخطار الناشئة عن تزايد سلطات المشروعات الصناعية شبه الاحتكارية وسيطرتها على الأسواق، ففي الرأسمالية التقليدية كانت آلية الأسواق تقوم بعملية التعادل في حال المنافسة، أمّا هنا في حال المنافسة الاحتكارية فقد انتهى كل دور يمكن أن تقوم به الأسواق، لكن تصو ّر جالبيرت لمدى تأثير هذه القوة الثالثة منتقد من وجوه عدة، فالسلطات الثالثة أي النقابات لا يمكن أن تدافع عن مجموع المستهلكين ،ما دامت كل نقابة باعتبارها وحدة اجتماعية متميّزة تبحث عن مصالح أعضائها الخاصة، بل وقد تتعارض المصالح الذاتية بين النقابات المختلفة، كالتعارض بين نقابات العمال اليدويين ونقابات المهندسين مثلاً، ولا تستطيع أيّة واحدة منها أن تقف أمام ارتفاع الأسعار.
_الرأسمالية الحديثة: يعدُّ تحليل باران للرأسمالية المالية والصناعية المتقدمة كما هي مطبقة في المجتمع الأمريكي على سبيل المثال، أكثر المحاولات شمولاً وعمقاً، فالرأسمالية الاحتكارية المتقدمة تبعاً لهم قد بلغت مستوى كبير من النضج بالنسبة للبناء الاحتكاري الإنتاجي والتوزيعي، فقد تجمّعت رؤوس الأموال الضخمة في وحدات مالية ضخمة مسيطرة على المشروعات الصناعية والتجارية، وكذلك على القوى الاستهلاكية المقابلة، فالوحدات الأساسية للثروة لا تتمثّل في الثروات الفردية الكبيرة، وإنّما في المشروعات الكبيرة، وهذه التطورات صاحبتها تغيرات هامة في البناء الصناعي، وفي أهداف المشروعات وعلاقات التنافس بينهم، وفي القانون العام للتراكم الرأسمالي، فبالنسبة للبناء الصناعي استطاعت الوحدات المالية أن تسيطر على مشروعات صناعية متكاملة أو متناثرة، و أن تحقق لهذه المشروعات الاستقلال المالي نتيجة تراكم رؤوس الأموال والأرباح الخاصة بها، وما زال الربح هو المعيار الأساسي و الجوهري، الذي يحدّد مدى نجاح المشروعات و إدارتها، و قد انتقد البعض معيار الربح بالصناعة، فتحقيق الحد الأقصى من الأرباح لم يعد المبدأ القيادي في إدارة المشروعات الصناعية الضخمة، والمشروعات لا تسعى إلى تحقيق الحد الأقصى، وإنّما تسعى الى تحقيق النتائج المرضية لإثبات كفاءة الإدارة والتنظيم الداخلي، وبالرغم من كل هذه المحاولات، فما زال الواقع يبرهن على عكس ذلك، فالرأسمالية الحديثة هي رأس مالية المشروعات الكبيرة، وتحمّل الخطر المشترك، والتي حلّت محل الرأسمالية القديمة رأسمالية الازدواج بين شخصية المالك والقائد الإداري، في نفس الوقت فالقيادة في المشروع الحديث يقوم بها طبقة من الإداريين والفنيين المحترفين، تعمل على تقويم المشروع وزيادة الثروة للملاك، وهكذا فقد تمّ استبدال الرأسمالية الفردية بالرأسمالية الجماعية عن طريق المشروعات الكبيرة.
_الرأسمالية الجماعية والفائض الاقتصادي:
البناء الصناعي في الرأسمالية الصناعية أساسه الفائض الاقتصادي، والرأسمالية الاحتكارية هي نظام متكامل مكوّن من عدد من المشروعات الضخمة، تزيد من الفائض من خلال تخفيض نفقاتها عن طريقين الأول: يحقّق ديناميكية حركية الأسواق بتقسيمها والثاني: من خلال بذل المجهود من أجل البيع وخلق سلع جديدة وتغير أشكال السلع وتخفيض النفقات وتحسين الإنتاجية، كما أنَّ مبدأ زيادة الفائض الاقتصادي من خلال طريقة الإنتاج الرأسمالية الاحتكارية قد تعرَّض لنوعين من الانتقادات الأول من جانب القوى الماركسية والثاني انتقاد من جانب القوى الكينزية.
---------------------------------------------------------------------------------
ملف:
السيل التركي (توركيش ستريم)
هو مشروع لبناء خطوط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى تركيا ودول أوروبية، مروراً بالبحر الأسود إلى البر التركي، لينتهي عند الحدود التركية اليونانية، حيث يفترض إقامة مستودعات ضخمة للغاز، ومن ثمّ توريده للمستهلكين في شرق ووسط أوروبا.
تمَّ الإعلان عن "السيل التركي" رسمياً في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2014 من طرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء قيامه بزيارة إلى تركيا.
يتألّف المشروع من أربعة خطوط تبلغ قدرتها الإمدادية الإجمالية 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، وتقتصر المرحلة الأولى من المشروع على مد خط وحيد من الخطوط الأربعة بطاقة استيعابية تناهز 16 مليار متر مكعب سوف تذهب كلها لسد احتياجات تركيا من الغاز الطبيعي.
ويبلغ طول المشروع 1170 كيلو متر، 910 كيلو متر تحت قاع البحر الأسود و260 كيلو متر فوق سطح الأرض.
يبدأ مشروع خط أنابيب السيل التركي من الأراضي الروسية ويعبر أسفل قاع البحر الأسود، ليدخل الأراضي التركية عبر ولاية قرقلار إيلي الشمالية الغربية ومن ثمّ إلى الأراضي اليونانية التي ستكون خزاناً للغاز الروسي عند نهاية المشروع.
تتكفّل شركة غاز بروم الروسية بإنشاء القسم الذي يعبر من أسفل قاع البحر الأسود بمفردها، فيما سيتم إنشاء القسم العابر للأراضي التركية بالتشارك بين الدولتين، في حين يُنتظر أن تصل التكلفة الإجمالية للمشروع قرابة 19 مليار دولار أمريكي، وبموجب الاتفاق المبرم بين أنقرة وموسكو، أعلن رئيس شركة غاز بروم ألكسي ميللر في أيار/ مايو عام 2015 عن بدء الطرفين التركي والروسي بإنشاء المشروع.
في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2015 أعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك تعليق المفاوضات بخصوص تنفيذ المشروع بسبب توتر العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وأنقرة عقب إسقاط الجيش التركي مقاتلة روسية قرب الحدود التركية مع سوريا.
لكن فيما بعد وبتاريخ 10 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2016 وقّعت الحكومتين التركية والروسية على اتفاقية مشروع خط الغاز الطبيعي "السيل التركي"، لنقل الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية عبر الأراضي التركية بشكل رسمي، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين على هامش اللقاء الثنائي الذي جمعهما في إسطنبول، والتي كان يزورها الرئيس الروسي للمشاركة في مؤتمر الطاقة العالمي، ووقّع على الاتفاقية من الجانب التركي وزير الطاقة والموارد الطبيعية "بيرات ألبيراق"، ونظيره الروسي "ألكسندر نوفاك" من الجانب المقابل.
نظرة أعمق
كانت أوكرانيا البلد الرئيسي الذي تمر عبره الأنابيب التي تمد أوروبا بالغاز الروسي، حيث إن أكثر من 80% من واردات أوروبا الغازية من روسيا في السنوات الأولى للألفية الثانية كانت تعبر من الأراضي الأوكرانية.
لكن تأزم الأوضاع بين موسكو وكييف جعل روسيا تُقدم على قطع إمدادات أوروبا من الغاز بضعة أيام في يناير/كانون الثاني 2009، مما حرم عدة بلدان أوروبية مثل: بلغاريا، وصربيا، وكرواتيا، واليونان من الغاز الضروري للتدفئة في فصل الشتاء.
ومن أجل التقليل من أهمية أوكرانيا كبلد عبور رئيسي للغاز الروسي لأوروبا، عمدت روسيا عام 2011 في شراكة مع ألمانيا إلى بناء خط أنابيب بحري "نورث ستريم" يمر عبر بحر الشمال ويسمح بتوريد 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويا إلى ألمانيا مباشرة.
وبهذا أصبحت كمية الغاز الروسي التي تنقل عبر أوكرانيا أقل من 49% من الكمية الإجمالية للإمدادات الروسية لأوروبا.
كما سبق أن اقترحت روسيا بناء أربعة خطوط أنابيب جديدة على مسافة 2.300 كيلومتر تمر عبر البحر الأسود وبلغاريا، ومن ثم تصل إلى البلدان الأوروبية، وحمل هذا المشروع اسم "ساوث ستريم"
لكن المفوضية الأوروبية أبدت اعتراضها على المقترح الروسي، ووجدت بلغاريا -البلد العضو في الاتحاد الأوروبي-نفسها أمام ضغوط بروكسل بالإضافة إلى الضغوط الأميركية التي أرادت إفشال المشروع والدفع بأوروبا إلى التقليل من تبعيتها الطاقية لروسيا عبر توريد الغاز من بلدان آسيوية أخرى مثل (أذربيجان وتركمنستان وإيران)
وفي الأول من ديسمبر/كانون الأول 2014 وبعد سنوات من المفاوضات مع الطرف الأوروبي، التي باءت بالفشل وإيقاف بلغاريا أشغال تنفيذ المشروع على أراضيها في يونيو/حزيران 2014، أعلن فلاديمير بوتين في مؤتمر صحفي أثناء قيامه بزيارة عمل إلى تركيا موت مشروع "ساوث ستريم" نهائياً، واقترح مشروع "السيل التركي" بديلاً عنه.
يكتسي مرور أنابيب الغاز الطبيعي عبر أراضي بلد ما أهميّة بالغة، فبالإضافة إلى تأمين هذا البلد إمدادات ثابتة ومنتظمة من هذه المادة الطاقية بأسعار تفضيلية، وتحقيق مكاسب اقتصادية تتمثل في تنمية مداخيل الدولة من خلال العائدات المتأتية من عبور الأنابيب بالأراضي الوطنية، ينطوي الأمر أيضا على بعد استراتيجي وجيوسياسي؛ حيث يكتسب البلد قيمة وقدرة تفاوضية أكبر أمام جيرانه وأمام البلد المورد وباقي البلدان المستهلكة للغاز المار عبر أراضيه.
كما ستستفيد تركيا من تنفيذ المشروع المتمثل في خط الغاز العابر للأناضول الذي سيرى النور في هذا العام 2019، والذي سينقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر جورجيا وتركيا.
ولقد أدى إلغاء مشروع "ساوث ستريم" سابقاً إلى خسارة بلغاريا أكثر من أربعمئة مليون دولار سنوياً كعائدات محتملة من عبور الغاز الروسي لأراضيها، بالإضافة إلى باقي المكاسب التي كان من الممكن تحقيقها لو كُتِب للمشروع أن يرى النور.
افتتاح المرحلة الأولى
شارك الرئيسان أردوغان وبوتين، في مراسم احتفالية بمناسبة إتمام الجزء المار من البحر الأسود، في مشروع خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز، وأعطى الرئيسان التعليمات بإنزال الأنبوب الأخير من خط نقل الغاز.
قال الرئيس أردوغان، في كلمته بحفل الافتتاح "المشروع سيكون جاهزاً وسيدخل الخدمة عام 2019"
كما أثنى الرئيس بوتين على الشجاعة والإرادة السياسية التركية لتنفيذ المشروع، وقال "خط الغاز الطبيعي الروسي الجديد توركيش ستريم الذي سوف يمر في تركيا سوف يساعد في ضمان أمن الطاقة الأوروبي ويعزز من التنمية الاقتصادية التركية، وأنَّ تركيا سوف تصبح مركزاً أوروبياً رئيسياً لقطاع الطاقة " وأعرب عن ثقته في أن يصل التبادل التجاري بين روسيا وتركيا إلى 100 مليار دولار سنوياً.
من جانبه قال الرئيس التركي أردوغان "إنَّ خط أنابيب الغاز توركيش ستريم الجديد القادم من روسيا سوف ينقل ما لا يقل عن نصف شحنة الغاز عبر تركيا إلى الأسواق الأوروبية، وأنّه لدى بدء التشغيل سوف يتم نقل 5.31 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً"
وأضاف "تركيا وصلت إلى المرحلة النهائية لمشروع السيل التركي، والعلاقات التركية الروسية ستشهد خطوة جديدة من التعاون بمجال الطاقة للمضي في الارتقاء بالعلاقات الثنائية.
وشدّد أردوغان على أن مشروع السيل التركي لن يعود بالفائدة على تركيا وشعبها فحسب، بل على جيرانها ومنطقتها أيضاً. ولفت إلى أنَّ تركيا اشترت من روسيا 387 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي منذ عام 1987 وهذا دليل على اجتياز العلاقات الثنائية كافة التحديات في مجال الطاقة، وتابع أنَّ روسيا بالنسبة لتركيا مصدر مهم للغاز الطبيعي، ودولة صديقة نثق بها ويمكننا التعاون معها على المدى الطويل.
----------------------------------------------------------------------------------------

تشظي الهوية السورية بين ثالوث الاستبداد والفساد والعنف الهمجي الممنهج( )

الكاتب: محمد شيخ أحمد

مدخل:
أصبح سؤال الهوية من أكثر الأسئلة بداهة والتباساً، ما تصدم المواطن السوري في كل لحظة، وأمام كل حدث، على السواء بشكل مباشر أم غير مباشر، أكان مهتماً شخصياً به أو ليس مهتماً، ومع كل يوم يزداد إلحاحاً، بازدياد أزمته الوجودية على الصعد كافة، سواء الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والفكرية والثقافية.إلخ.
لم تعد حالة “جحا” (فخار يكسر بعضه) شعاره اليومي. تلك اللامبالاة التي وسمت الشارع السوري ما ينوف على ثلاثة عقود من الزمن، نتيجة مصادرة كل بادرة حرّة وإبداعية وحق ورأي في رسم مستقبله الإنساني، عبر سياسة التدجين .
أين المفر هل بالاستمرار في التقوقع، أو بالانتكاسة والعودة إلى الماضي، أو بالانغلاق على الذات كحائط من الفولاذ، أو بالتحوّل إلى عجينة تتشكل بالأيدي التي تتلقفها، أو بالتماهي والتعلّق بالأيديولوجيات والقوالب الجاهزة والمنجزة، سواء منها الوضعية أم الغيبية.
امتلك السوري بحكم الضرورة آلاف الأرواح، كل يوم يولد من جديد، وآخر النهار ينام نومته الأبدية. يولد ليواجه جحيمه (المعتاد) سواء في تأمين لقمة العيش، أو مراجعة المؤسسات، أو دفع الفواتير، أو سائق أرعن، أو شبيح، أو بلطجي، أو حاجز، أو قذيفة، أو خطف. إلخ، ليعود آخر النهار -إن عاد-ليضع رأسه على الوسادة لينام نومته الأبدية.
من بين ذلك الركام، انبثق سؤال الهوية والانتماء وتعملق، لعل وعسى يكون الرافد، أو المنقذ من مصير مجهول، أو لعله ومضة أمل لم تخبُ بعد في ليل دامس، طال وسيطول.

في نشوء الهوية
لتكوّن الهوية امتداد عبر التاريخ البشري، انتقل فيه من الحالة البسيطة، غير المعقّدة أو المركّبة (للمحافظة على البقاء، ضمن جماعته الصغيرة، في مواجهة العالم الخارجي)، إلى الحالة المعقّدة والمركّبة، نتيجة تراكم الخبرات والمعارف، الذي أدى به إلى قفزات نوعية في مجال وجوده الإنساني، مكنته من التمايز عن الطبيعة من جهة، والتحكّم في بعض الظواهر الطبيعية من جهة أخرى، كما نقلته من تجمّع بشري في حالته البدئية ( ) الأولى إلى تجمّعات أرقى وأعقد.
ونستطيع تلمّس التعقد والتركيب في الهوية البشرية، بدءاً من الانتقال من المرحلة المشاعية إلى المرحلة العبودية للمجتمعات الإنسانية، إذ انقسمت تلك المجتمعات إلى طبقات عدّة، بحسب موقعها من عملية إنتاج الخيرات المادية، وامتلاك أدواتها ووسائلها، والقوّة والسّلطة، ولكلّ منها فضاؤها العام والخاص.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نتلمس في تكوين الهوية سمتين أساسيتين؛ الفردية والجمعية. الفردية أيضاً لها خصائصها الفيزيولوجية والنفسية، الأولى تلعب بها جملة المورثات التي يتشاركها الفرد مع أسرته وعشرته، على السواء من جهة الأم أم الأب، والنفسية هي الاستعدادات والقابليات التي تميّزه عن بقية أفراد هذه الأسرة، وتفاعل تلك القابليات سلباً أو إيجاباً ضمن محيطيه الاجتماعي والطبيعي.
أما الجمعية فيلعب في تشكّلها -إضافة إلى ما يسمى روح العصر أو الفضاء العام-الاستعدادات النفسية للأفراد، وتجاربهم وخبراتهم الفردية، ضمن المحيط الاجتماعي والمحيط الطبيعي. وهذا العامل يلعب دوراً حاسماً في تعقيد تلك الهوية أو تسطيحها لدى الفرد والجماعة على السواء، في التمايز أو الانجراف مع التّيار أو المتعارف عليه، أو روح القبيلة أو الجماعة. إلخ.
فما بالنا الآن، ونحن في الألفية الثالثة بعد الميلاد، بينما الحضارة البشرية على هذه الرقعة الجغرافية (سوريا) تمتد آلاف السنوات قبل الميلاد، تعاقبت عليها حضارات عدة ما زالت آثارها إلى اليوم كالسومرية والأكادية والكلدانية والكنعانية والآرامية والآشورية والحثية والرومانية والنبطية والبيزنطية والفارسية والعربية، والإسلامية، يضاف إليها خضوعها للإمبراطورية للعثمانية ما ينوف على أربعة قرون (انتصار السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق شمال حلب على المماليك آب/ أغسطس 1516، حتى انسحاب العثمانيين عقب الثورة العربية الكبرى تشرين الأول/ أكتوبر 1918 إبان الحرب العالمية الأولى (28 تموز/ يوليو 1914- 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918)، وكحّلها الاحتلال الفرنسي والبريطاني، هذا كله ترك بصمات لا تمحى في تشكيل الهوية السورية. وكان لرواد النهضة العربية (منذ عصر محمد علي، مؤسس مصر الحديثة الذي عيّن والياً لمصر بفرمان سلطاني في 9 تموز/ يوليو 1805، واستمر حتى 1848)، في مصر وبلاد الشام بصمتهم أيضاً، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين.
جرى الانعطاف الحاد باستيلاء البعث على السلطة في سوريا (انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في الثامن من آذار/ مارس سنة 1963(( )، وما واكبه من أحداث، إذ طفت على السطح بقوّة السلطة الهوية الإسلامية والقومية العربية، بوصفهما هويتين جامعتين على الرغم من الفروقات بينهما، ووسمتا المجتمع بسمتيهما العامتين والشاملتين، طاغيتين على السمات الأخرى، الخاصة والمميزة والثرة للشعب السوري، بينما تلك السمات الخاصة بالأساس تغني هاتين الهويتين وتبلورهما.

في سؤال مفهوم الهوية وضرورته
على الرّغم من التضليل الكبير الذي يقودنا إليه هذا السؤال، وعلى الرغم من خلطه لكثير من الأوراق (سنعود إليه لاحقاً)، وعلى الرّغم من الهزائم التي تلاحقنا كلها، والنزيف الحاد الذي نعانيه منذ بداية الانفجار السوري الذي أطاح الأخضر واليابس كما يقال، وعلى الرغم من الكارثة التي سيقودنا إليها، والتضليل بين ثناياه، وبأن كثيراً ممن تصدوا له يريدون به باطلاً، وعلى الرّغم من أنّه يساوي (بيني، وجامعٍ للقمة العيش من القمامة، على الأرض السورية) وبين مليارديرات الحرب على الأرض السورية كلّها، والبلطجية كلهم، وأصحاب الرايات السود، والملالي الصفر، وعابري الجغرافيا، وأمراء الحرب في الساحة السورية كلّهم، من سوريين وغير سوريين( )، إلاّ أنّ هناك ضرورة للتصدي له، من زوايا حادة وعدة.

الزاوية الأولى في المستوى الفكري
في مستوى الفكر الفلسفي تعبّر عن تساوي وتماثل موضوع أو ظاهرة مع ذاتها، وهي ليست مجرّدة بل متعيّنة ونسبية، لأنّها في تطوّرٍ وتغيّرٍ وإغناءٍ مستمرٍ. وفي مجال العلوم الاجتماعية فهي تعبّر عن “نسق المعايير التي يُعرف بها الفرد ويُعرّف، وينسحب ذلك على هوية الجماعة والمجتمع والثقافة”
إثارة هذه الإشكالية على صعيد النخب، له ما يسوّغه من جهة، فهو ذلك الفوات الحضاري بين عالمين، أحدهما يعبّر عن دينامية تطورية مذهلة، والآخر عن جمود وتكلّس وتقوقع حول زمن مغرق في التاريخ البشري، هرباً من واقع أمرّ من المر وهذا يخلق إشكالات عدة على الصعيد النفسي وإحساس بالدونية والصدمة. والانصياع لأصنام ذهنية ما زالت تهوم في فضاءاتهم، ينساقون معها محاولين إيقاف الزمن عند حدود تلك الأصنام، ومن ثم الانتكاسة بمجتمعاتهم إلى حقبة زمنية تجاوزتها الحضارة الإنسانية ما يزيد على ستة قرون. ومن جهة أخرى، إثبات وجود على صعيدين، صعيد الأهلية والانتماء إلى هذه الحضارة على المستوى العالمي، وصعيد يحمل اتجاهين: الأول لتأكيد أهلية هذه الأصنام الذهنية، والآخر للتخلص من حال التكلّس والتقوقع التي تدمغهم بها تلك الأصنام الذهنية، وهذا يؤدي إلى ازدواجية في الشخصية والعلاقات والانتماء.
من هنا تأتي مشروعية النخب في مساجلة الهوية، ولكن أغلبهم عند تصديهم لهذه الإشكالية غيبوا جانباً أساسياً يجب أن يكون حاضراً وهو الجانب السلطوي السياسي.
وكما يقول هيراقليطس : “لا يمكنك السباحة في مياه النهر مرتين”.
نحن الآن ما بعد وليس ما قبل
لا بد إذاً من توجيه الانتباه إلى نقطة جوهرية وأساسية، هي الهوّة الواسعة بين الخطاب الرسمي العربي -وبالأخص الوجه السياسي منه، مع حوامله الفكرية والثقافية والإعلامية والأيديولوجية- والواقع العربي (سواء في مستوى الشارع الشعبي اليومي، أم النخبوي غير الملتحق بالسياسي الرسمي)، بكل ما يحمله من إخفاقات وانتكاسات وزيف وتهويل، ونكران لواقع أو تعليق الأخطاء كلها على “مسمار جحا”، وأنّ الشعارات والمبادئ التي يستنير بها هؤلاء (المتحكمون في مصيرنا) ستبقى مثالاً وراية للطريق، أي مطلقة لا تشوبها شائبة صالحة لكل زمان ومكان.
وما ذلك إلاّ برهان على مدى استخفاف الأنظمة بشعوبها، وعلى أنّ هدفها ليس بناء مجتمع إنساني والارتقاء به، أو بناء دولة متمأسسة، ضرورتها نابعة من صون حقوق مواطنيها وعيشهم المشترك، بقدر ما هو تثبيت واقع حال وإدامة التحكّم في السلطة وخيرات بلدانهم ومقدّراتها.
عودة على المفهوم، إذ يعتبر مفهوم الهوية من المفاهيم الأساسية في مجال الدراسات الاجتماعية، لأنّه يتغلغل في كافة جوانب الفاعلية البشرية الخلاقة والمبدعة على السواء. في الجوانب الأكثر تعقيداً والأكثر بساطة. وبالتالي فعند التعامل مع موضوع الهوية، وتحديد السمات، يواجهنا عدد من الصعوبات، ويعود ذلك إلى التنوع الكبير في مكوّنات الفرد أو الجماعة سواء في المستوى المادي، أو النفسي، أو التجربة والخبرة والتربية والفضاء العام، ويتمثل ذلك في عدد من العناصر كالأصول المغرقة في الماضي والمراحل التي مرت بها، والعقائد والعادات والأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافة واللغة …إلخ .

الزاوية الثانية الفردي (ذات ضمن الجماعة)
بالنسبة إلى الفردي بوصفه ذاتاً تشكلها جملة المورثات الخاصة بالفرد، وتلعب دوراً أساسياً في تشكيل الشخصية وحضورها الاجتماعي سلباً وإيجاباً، وهذه الخصائص بدورها يعاد تشكيلها بالفضاء العام لهذه الشخصية، وأكثر ما يؤثر فيها مرحلة البناء التي تؤدي فيها التربية والتعليم دوراً أساسياً، وهو ما تتحكم فيه المؤسسات في البلد المعني، وتعيد تشكيل الشخصية بناء على سياساتها العامة، وبدورها تؤسّس لتشكل الزاوية الثالثة. أما ضمن الجماعة، فتتحدّد بالجماعة التي ينشأ في كنفها، ودورها ومكانتها الاجتماعية على كافة الصعد، وأيضاً علاقتها ودورها في عملية إنتاج الخيرات المادية، وامتلاك أدوات الإنتاج ووسائله والقرار السياسي.

الزاوية الثالثة الفردية (الخاصة) من منظور الجماعة
هي كيف يراه الآخرون ، كيف يتعاملون معه، سواء الأسرة، أو وسطه الاجتماعي الخاص والعام وبيئته الريفية أو المدينية. قدراته وطاقاته وإمكاناته وتَميّزه، وهذه النظرة أو التعامل هل يحبطه أم يحفزه، أم يعانده ويواجهه.
هنا نجد بأن الفضاء العام، الذي يتحكم فيه في المجتمعات الحديثة، ويشكله بشكل رئيس هو السلطة السياسية، وبما يتوافق مع سياساتها العامة وأهدافها ويخدمها، إن كان في المستوى الاقتصادي أو الفكري أو التربوي أو السياسي أو الثقافي أو الأكاديمي أو الإعلامي...، عن طريق أدواتها (مؤسساتها) كل بحسب اختصاصها، بدءاً من المؤسسة التشريعية والقضائية والتعليمية والإعلامية والمالية والخدماتية …إلخ.

الزاوية الرابعة الاجتماعية (الفردية والجماعية)
الفرد في المستوى البيولوجي (الاجتماعي والفردي)، يلعب هنا الجنس دوراً أساسياً فيه ذكراً أو أنثى (بوصفه مجتمعاً ذكورياً متخلفاً، ومغرقاً في ذكوريته بامتياز)، وهو يؤثّر بدوره في نشاطه وانتماءاته الاجتماعية، ويلعب الوضع الاجتماعي (سواء الطبقي أو البيئة الاجتماعية الطبيعية، ريف ومدينة) دوراً مهمّا في خياراته المستقبلية ويتحكم فيها إلى حد ما. والجماعي يتحدّد من خلال موقع الجماعة في عملية الإنتاج المادي وصنع القرار السياسي ومواقع السّلطة والقوّة والمال …إلخ.

الزاوية الخامسة العولمة والفوات الحضاري
إنَّ مفهوم العولمة اصطلاحاً يعبّر عن أسلوب علاقات تطال مختلف جوانب الفاعلية الحضارية للمجتمعات الإنسانية سواء المادي أم غيره، هنا يمكن سحبه قياساً حتىّ عصر الإمبراطوريات، ومفهوماً نظرياً ظهر في القرن الثامن عشر عصر الثورة الصناعية الأوروبية، وظهور القوميات، وتشعّب أذرع الأخطبوط الاستعماري، بحثاً عن أسواق جديدة، إضافة إلى البحث عن مصادر المواد الأولية والخام، ومع تطوّر التكنولوجيا وبالأخص التكنولوجيا الرقمية والنانوية معاصراً( ) وتأثيرهما في الاقتصاد، كما في الإنتاج وأسواق العمل والاتصالات والذكاء الاصطناعي، وتغيير نمط الحياة والتمدّن وتغيير المناخ. أصبحت العولمة عنواناً لاستراتيجيات العصر المعبّرة عن تلك القفزات الحضارية في عالم اليوم.
وما شهده القرن العشرين من سقوط قطب عالمي واستفراد القطب الآخر، وانعكاس ذلك في العلاقات الدولية لبلدان العالم جميعها، وعلى الصعد كافّة، من سياسية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وازدياد الهوّة التي تفصل ما بين الدول التي تأخذ بناصية العلم والقوة والمال والتسلح، وما بين (الدول) التي ما زالت على الضفة الأخرى، ومن بينها الدول العربية (إن تعاملنا مجازاً مع مصطلح الدولة)، من هنا كان تصدّي بعض الرواد في الفكر والثقافة العربيين ، ولكن بمنهجيتين مختلفتين، وأرضيتين مختلفتين. هدف الأولى منهما، نقل العصر الإسلامي التأسيسي بمسلّماته ومرجعياته كلّها إلى دخول هذا العصر ومحاولة إرجاع منجزات الحضارة الحديثة كلّها إليه، واعتباره معياراً لها. والآخر مع العقبات والاضطهادات كلّها حاول استيعاب المرحلة بكلِّ ما فيها ومحاولة الاندماج فيه أو استيعابه أو اللحاق به على الصعد كافّة، وبعقلية منهجية علمية، وليس عقلية مفارقة.
الإشكالية ليست هنا وليست مع هؤلاء الرّواد وإن كانت مشكلة معرفية علمية بامتياز، الإشكالية في النظم التي تربّعت على عروش هذه البلدان وظلّت تستنسخ الماضي، ليس عن إيمان وقناعة بهذا الماضي، بل لأنّه يؤمِّن لها مواقعها ويؤبّدها، كونه خير سلف لخير خلف، ويسوّغ (هذا الماضي) لها استنزاف خيرات البلدان التي يتحكّمون بها. وفي المقابل اندفعت باتجاه العولمة كمظلّة أيضاً تقيها من انتفاضات شعوبها من جهة، ومن جهة أخرى تفكّك هذه الشعوب وتشظّي هوياتها عن طريق الصدمة الحضارية والفوات الحضاري، وتجعلها تعيش حالة من الانفصام ما بين واقعها (أي الشعوب) وطموحاتها وآمالها. وفي الحصيلة تصبح هذه الشعوب عاجزة عن إحداث أي تغيير في واقعها الملموس.

في مفهوم الأزمة للهوية
تمثّل الأزمة نقطة تحوّل مفصلية وحاسمة، يحدث فيها صراع أو تضارب في الأهداف أو المصالح ، موسومة بالغموض والتوتّر. وتتصاعد فيها وتيرة الأحداث ويصعب التحكم فيها، أو تخرج عن نطاق السيطرة والتوقعات، ما يتسبب بحالة من الذعر، والتوتر العصبي، والتشتت الذهني بسبب عنصر المفاجأة فيها، فتؤدي بدورها إلى مزيد من التخبط في اتخاذ القرارات، نتيجة تضييق الخناق على أصحاب القرار، وغالباً ما تكون تلك القرارات كارثية لأنها تصعّد من وتيرة الحدث وتعمّقه. ويقع أطراف الأزمة كلّهم سواء في مواقع القرار أم الآخر تحت رحمة الحدث منقادين بما يسمى (روح القطيع أو غريزته) .
وإن دلّت (الأزمة) فعلى أزمة نفسية وجودية كبيرة، لها إرهاصاتها في السياسات الاستبدادية التي مورست بحق هذا المجتمع عبر قرون، ما أدّى إلى تخلخل القيم والمرجعيات التي وسمت الفرد والمجتمع بطابعها العام. وكذلك نتيجة للفوات الحضاري بين الواقع الذي يعيشه هذا المجتمع والعولمة التي قلبت المفاهيم كلها.
هنا لعبت وسائل الإعلام بأشكالها كافّة ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في رسم مساراتها ، ولا أدلّ على ذلك من مراجعة الإعلام العربي عبر الثلاثين سنة الماضية، وتبعيته المطلقة للأنظمة الحاكمة، سواء في تمرير سياساتها أو انتكاساتها أو هزائمها، والتّعامل مع المواطن بوصفه خامة بيضاء يلوّذثها كيفما شاء، وعجينة يشكلها كما يريد، وبالوناً ينفخ فيه متى أراد، فقط لتنصيع جباه أسياده، وكأن هذا المواطن لا يمتلك فكراً وعقلاً يستطيع من خلالهما تمييز الغث من الثمين، الكذب والنفاق من الحقيقة، وكأنه غر لا حول له ولا قوة، وما عليه سوى الطاعة، والعمل، ليترك التفكير لهم، كما التخطيط ورسم مستقبله ومساراته وخياراته.
أصبح (الفرد والمجتمع) سلعة تتلاقفها مواقع التواصل الاجتماعي. وعمّقت العولمة من الهوة الفاصلة بين مجتمعه والمجتمعات الأخرى، بين سقف طموحاته وما تقدّمه وتسوّقه له عبر مختلف وسائل الإعلام . ومن خلال المنجزات الحضارية لزمن العولمة سواء في المستوى التقني والتكنولوجي، أو في مستوى الفضاء الفردي لتلك المجتمعات. أزمة في المستوى القيمي، وهو ما يتجلّى في سخرية الكاريكاتير السياسي عن المجتمع العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص، بتصويره لواقع المطالبة بنصب الخيمة الإسلامية، والانتقال إلى العيش في خيمة العولمة، هذا التناقض والازدواجية في الشخصية يعبّر بشكل صارخ عن عمق الأزمة في الهوية.

في تشظّي الهوية السورية
في جذور الأزمة وعواملها
إنّ الفشل الذي مني به أطراف الصراع السوريين ليس ناتجاً من فراغ، بل هو بنيوي يمتدُّ إلى البدايات. هذا من جهة ومن جهة ثانية، أطراف الصراع السوريين منهم، وأصحاب الرايات السود، يعبّرون عن حالة ما دون مفهوم الدولة، يَسِمها ما يسم النظام الاستبدادي الشرقي. وبالتالي لفهم المآلات التي وصلت إليها الحالة السورية من ذلك التشرذم للمجتمع السوري، ولذلك التصدّع والتشظّي للهوية السورية، لا بد لنا من العودة إلى تشكّل ما يسمى تجاوزاً (الدولة) السورية بعد الاستقلال وباقتضاب بقدر ما يسمح لنا به البحث، مع الوقوف بتأنٍ إلى حد ما على مرحلة ما بعد 1970.
• اتّسمت المرحلة بين 1943 و1947 بتولي ثلاثة من أعيان الكتلة الوطنية رئاسة الحكومة، وهم سعد الله الجابري وجميل مردم بك وفارس الخوري.
• توالت الانقلابات على سوريا بدءاً من الانقلاب الأول لحسني الزعيم 29- 30 آذار/ مارس 1949، والانقلاب الثاني بقيادة سامي الحناوي في 14 آب/ أغسطس 1949، والانقلاب الثالث بقيادة أديب الشيشكلي كانون الأول/ ديسمبر 1949، والانقلاب الرابع (الثاني للشيشكلي) 28- 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1951، والانقلاب الخامس 24شباط/ فبراير 1954، وفي إثره تنحى الشيشكلي عن الحكم وغادر إلى لبنان، والانقلاب السادس في 28 أيلول/ سبتمبر 1961 قاده ضباط سوريون ساخطون على سياسة الوحدة مع مصر التي وضعتهم تحت رحمة استبداد نظام دكتاتوري عسكري مركزي همّش الإقليم السوري لمصلحة المركز. والانقلاب السابع في 28 آذار/ مارس 1962، اعتقل فيه رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب وعدد من السياسيين، وأعلن الانقلابين بأنّ هدفهم هو تصحيح الأخطاء وإنقاذ الوحدة المقدسة .
على الرغم من قصر المدة الزمنية ما بين الاستقلال وتتالي الانقلابات العسكرية إلاّ أنِّ هذه التجربة تركت بصمة لا تمحى في مستقبل سوريا.
وفي 8 آذار/ مارس 1963، وقع انقلاب قاده حزب البعث العربي الاشتراكي، تميّز هذا العهد بالتخلّص من الانفصاليين وداعميهم والشركاء . وآلت فيه مقاليد الأمور إلى الفريق لؤي الأتاسي والفريق أمين الحافظ واللواء محمد عمران واللواء صلاح جديد. ولم يدم حكمهم طويلاً إذ حصل انقلاب من داخل الحزب في 23 شباط/ فبراير 1966، تزعمه كل من صلاح جديد ونور الدين الأتاسي وحافظ الأسد. وتميز هذا العهد بديمومته عن باقي الانقلابات. كما تميّز بازدواجية السلطة، العسكرية التي يقودها حافظ الأسد والمدنية التي يقودها صلاح جديد.
واختتم البعث سلسلة انقلاباته بما سماه “الحركة التصحيحية” التي قادها الفريق حافظ الأسد وزير الدفاع ، واعتقل فيها اللواء صلاح جديد الأمين العام المساعد لحزب البعث ومجموعته ، لتطوى صفحة الانقلابات من تاريخ سوريا، وتبدأ مرحلة الاستفراد في السلطة.
إنّ أهم الدروس المستقاة لسلطة بعث (الحركة التصحيحية)، كانت بالدرجة الأولى السيطرة المطلقة على الذراع الانقلابي الأساسي والمتمثل في الجيش، ومن ثم تطوير الأجهزة الأمنية، وهيمنتها على مناحي الحياة كلّها في المجتمع السوري ومؤسساته، لتحل محل الجيش في فرض الطاعة والولاء، مستعيناً في المرحلة الأولى بالجهاز الحزبي، لوسم المجتمع بطابع أحادي الجانب والرؤى والتوجه. ومن ثم وجّه اهتمامه إلى ناحية الإعلام، ليعيد تشكيل الرأي العام، ويرسخ النظام الأبوي من الأسفل إلى الأعلى (مع الأخذ بعين الاعتبار ما يعنيه النظام الأبوي، الإرث الاستبدادي الشرقي منذ القديم)، في مستوى الأجهزة كافة، ومن ثمّ البنية المجتمعية لسورية بتنويعاتها كلّها، هذه الحالة أسّست لفكرة الولاء المطلق للرئيس التي مهد لها بتصفية المعارضين والمناوئين كلهم، وهو ما ساهم في استمرار حكمه في مدى ثلاثين عاماً .
وترى ليزا وادين بأن ظاهرة تقديس الأسد هي استراتيجية للسيطرة القائمة على المطاوعة بدلاً من الشرعية. وينتج النظام المطاوعة من خلال المشاركة الإجبارية في أشكال الامتثال الزائفة الجلية، سواء لأولئك الذين يخترعون هذه المظاهر وأولئك الذين يستهلكونها. تعمل ظاهرة تقديس (الرئيس) أداة ضبط، تفرز سياسة الخداع العام التي من خلالها يتصرف المواطنون كما لو أنهم يحترمون قائدهم.” .
ولم يغفل النظام الجانب الاقتصادي، إذ أولاه عناية خاصة، لأنّه الجانب الذي استطاع به أن يتحكّم في رقاب (العباد) وحياتهم، ذلك كلّنه قاد إلى اختزال (الدولة) والمجتمع وتاريخ سوريا وخيراتها وجغرافيتها في شخص واحد، حوله النظام إلى رمز، وقاد إلى ترسيخ نظام استبدادي شمولي.

الاستبداد
تعريفاً: هو تفرّد في الرأي بما يخص شؤون الجماعة، واحتكار واغتصاب لحق هذه الجماعة إن كان في إبداء الرأي أو خلافه. وهذا ليس حكراً على سوريا، (يا للسخرية) بل يمكننا أن نجده عاملاً مميزاً ومشتركاً لدى الدول العربية، ذات الجذر المشترك منذ عصور الإسلام الأولى . ولكن هذا لا ينفي أنّ للاستبداد أسباباً أخرى، لا ترتبط بهذا الجذر، سواء في المستوى الذاتي أو الموضوعي، حديثاً ومعاصراً. من بينها غياب العقلانية لدى بعض القوى السياسية والأحزاب في ظل الاستبداد، والقمع والتنكيل بأخرى، والاستناد إلى خطابات شعبوية بقيم الماضي التليد ومنطق القبيلة، والاحتماء به والاحتكام إليه عند الأزمات، وطبعاً هذا ما نلمسه عند أي صدمة، من خلال عدم الفصل ما بين الديني والدنيوي، ما بين الواقع المعاش والروحي، ما بين الزمني والمطلق. وله ما يسوّغه في المستوى الاجتماعي بأنّه أسلوب يُلجأ له، بالنسبة إلى الفرد أو الجماعة، كشكل من أشكال الحماية والاستنجاد، للمحافظة على البقاء، ليس أكثر.
ولا رابط ما بين تلك القوى السياسية والأحزاب (والمقصود هنا التي قبلت بوصاية البعث عليها)، صاحبة التجربة والخبرة والمعرفة والنظرية والفكر الحديث والمعاصر التي تفاخرت بأنها تتتلمذ في مدرسة (الأب)، وذلك الماضي التليد إذ ألغت مبرر وجودها الفعلي عندما جعلت نفسها محض إكسسوارات لا أكثر لنظام سلطوي.

العامل البشري الاجتماعي
تركّزت سياسة النظام بشكل أساسي خلال سبعينات القرن الماضي وثمانياته على حد الكفاية بالنسبة إلى الشعب، أي ما يسد رمقه، وربطه بعامل الولاء والطاعة، وهو ما تلمّسه المواطن منذ البداية من خلال فرض الهوية البعثية جواز مرور للدخول في كثير من مؤسسات (الدولة) إضافة إلى التقرير الأمني، ومن ثمّ الامتيازات لمن يقدمون فروض الطّاعة العمياء. وانصب قمع النظام على التيارات العلمانية والقومية المعارضة، من الماركسيين والبعثيين والناصريين والاشتراكيين العرب، حتّى طال أوساطهم الاجتماعية، بينما ترك المجال مفتوحاً للتيار الإسلامي حتّى نهاية السبعينات، وفي حوار لتمام برازي مع حمود الشوفي السفير السابق لسورية في الأمم المتحدة ، يرى الشوفي أنَّ النظام أدار البلد بطريقة أمنية وليس دولتية أو مؤسسية، وبأنَّ النظام يدّعي بذلك استناداً إلى التأييد الشعبي المطلق، وبأنّ التعامل مع المجتمع جرى على أساس مجموعة أفراد .
سعى النظام منذ بداياته لتعبئة كافة الموارد والطاقات البشرية والمؤسسات والمنظمات الشعبية التي شكّلها، على مقاسه، لتصبَّ في خزّانه، للمحافظة على سلطته وضمان استقراره واستمراره. وما ساعده على ذلك، التّعامل مع المواطنين على أساس شخصي وفردي، وليس على أساس عقد اجتماعي بين مواطنين ودولة. وقس على ذلك مؤسسات ما يسمى (بالمجتمع المدني) كافة في سوريا التي من المفترض أن تلعب دوراً وسيطاً ما بين مؤسسات السلطة التنفيذية والمواطنين. واعتماداً على اقتصاده السياسي حدّد طرائق توزيع الثروة وعوامل الإنتاج وعلاقاته، كما حدّد العلاقات الاجتماعية، على أساس الطّاعة، والطّاعة فقط، ومن يكسر عصا الطاعة فالعقاب بانتظاره سواء بالحرمان من الحقوق أو الاعتقال أو الموت في أقبية المخابرات، التي امتدت أذرعها في مفاصل المجتمع السوري كلّه، حتى وصل الأمر بالمواطن حيث أصبح يخاف من صورته في المرآة وهيأ ذلك لنشوء علاقات اجتماعية جديدة، ونشاط اقتصادي وتجاري وخدمي يرسخ هذا التوجه، ويشيّئ المواطن، وبالتالي جرّده من القيم الإنسانية الراقية، وأصبحت القيم السائدة تدور حول النفاق والرشوة والفساد، بل أصبح الفساد عنواناً لكل من يريد أن يتسلق السلم الاجتماعي ولو على حساب العائلة أو الأسرة الصغيرة، كأصغر لبنة في السلم الاجتماعي، فما بالنا بالأكبر، الذي يشمل كامل الجغرافيا السورية.

العامل الاقتصادي والتنموي
كان للعامل الاقتصادي دور حيوي في اندلاع البركان السوري، وكان له أيضاً دور جوهري في تشتت الروابط الاجتماعية وتمزيقها، وبدوره انعكس على الهوية السورية.
ففي السنوات الأخيرة للقرن العشرين دخلت سوريا في مرحلة ركود اقتصادي، ليبدأ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسيادة الفساد الذي وسم عمل المؤسسات الحكومية، وارتفاع معدلات الفقر نتيجة سياسات النظام الليبرالية لتحديث الاقتصاد وسياسات الانفتاح الاقتصادي، والتوجه إلى وصفات البنك الدولي، وخصخصة قطاعات واسعةّ لمنشآت حكومية بعد إطلاق رصاصة الرحمة عليها، عبر مخططات مسبقة مدروسة وممنهجة، بتسليم تلك المؤسسات وإدارتها لمن له باع كبير في الفساد.
وفي تعريف الفساد يورد الباحث سمير التنّير في كتابه الفقر والفساد في العالم العربي : “تُعرّف منظمة الشفافية العالمية الفساد بأنّه “استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة”. أما البنك الدولي فيعرف الفساد بأنّه “إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عادة عندما يقوم موظف بقبول ابتزاز أو رشوة أو طلبهما لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمنافسة عامة، كما يجري عندما يعرض وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة تقديم رشى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسين وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية. ويمكن الفساد أن يحصل عن طريق استغلال الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال الدولة مباشرة”.
والفساد بأشكاله المختلفة ومظاهره وتجلّياته ما هو إلاّ الوجه الآخر لسياسات (دول) الضفة الأخرى في عصر العولمة، الوجه الآخر الذي يتجلّى في سرقة ثروات الأمة، ومن ثمّ سرقة مستقبل أبنائها، ويلعب دوراً كبيراً في تشويه البنية الاقتصادية، وهو ما نلمسه في مفاصل المؤسسات الحكومية كافة في سوريا، ودوره في تفاقم الفقر والبطالة، وإعاقة النمو وتخريب التنمية الاقتصادية، وغسيل الأموال المرتبط بالجريمة المنظمة.
إنَّ لإعادة هيكلة البنى الاقتصادية في سوريا وجهاً يعبر عن تلك العلاقة الجديدة ما بين القوّة والسّلطة، وإعادة توزيع الأدوار، ما بين القطاع العام والخاص، وإفراغ القطاع الحكومي من محتواه الأساسي، لمصلحة الكبار، ويمثّله من الجانب الحكومي كبار البيروقراطيين، ومن الجانب الآخر كبار المستثمرين. شراكة أنتجت ما يسمّى بالشركات القابضة (حوتاً) ابتلع المقومات الاقتصادية كلها لسوريا، في سبيل ربح سريع، وتركّز نشاطها على المجالات الخدمية الضخمة، تلك المشروعات الموجهة نحو تلبية متطلبات الفئات الأكثر غنى وقوة، انصبّت سياسة النظام على حماية تلك الاحتكارات بذريعة تحسين مزايا الاستثمار.
وكان من نتائج تلك السياسات انتشار الفقر المدقع، بشكل غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط، وتشوّهات في توزيع الدخل وتشرذم في المستوى الاجتماعي والبيئي والعلمي والقانوني.

العامل المؤسساتي
لا شك في أنّ للمرحة الأولى من سيطرة البعث على السلطة في سوريا -المتمثلة في مرحلة 1963-1970-دوراً أساسياً في صوغ الأطر المؤسسية لنظامه التسلطي واستمراره، من خلال توجهه إلى إعادة هيكلة المؤسسات، بدءاً من الحزب الحاكم إلى الجيش والاستخبارات، مروراً بالجهاز البيروقراطي والنقابات والاتحادات ووسائل الإعلام. عمل نظام البعث ما بعد السبعين على قولبتها بما يتلاءم مع استفراده بالحكم ويدعمه ويقويه، ومن ثمّ استطاع إلباسها لبوس النظام الأبوي، وأصبحت تدين بالطاعة المطلقة للنظام، وما استمرار النظام في سيرورته إلاّ دليل على مرونته وقدرته على التكيّف مع المستجدات سواء في الساحة المحلية أو الخارجية، وتحديث مؤسساته، بما يتواءم مع عملية تحديث تسلطيته، بعمليات التكيف من أعلى الهرم إلى أسفله .
وما ساعد النظام على ذلك هو:
• تركيزه على الجمع بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
• التراتب الهرمي الممركز للسلطة من الأدنى إلى الأعلى.
• إضفاء الطابع البعثي على مؤسسات (الدولة)، أو بعثنة مؤسسات (الدولة).
ذلك كلّه انعكس على أداء تلك المؤسسات، بحيث تكون نتيجته في النهاية ترسيخ أسس النظام السائد وزيادة سطوته على مفاصل الحياة كلها للمجتمع السوري. رسخ دستور 1973 تلك الهرمية وتركيز السلطة في قمة الهرم، عندما قَنن صلاحيات رأس الهرم ومنحه صلاحيات تطال الجيش والجبهة الوطنية التقدمية ومجلس الشعب. فضلاً عن كونه الأمين العام لحزب البعث القائد (للدولة) والمجتمع.
الجبهة الوطنية التقدمية
ائتلاف ضمَّ في مرحلة التأسيس ستة أحزاب ذات أيديولوجيات قومية واشتراكية وشيوعية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي.
مجلس الشعب
هو الهيئة التي تتولى السلطة التشريعية في البلاد منذ 1971، وينتخب بالاقتراع العام السري والمباشر كل أربع سنوات، ويحتفظ البعث بالأغلبية المطلقة فيه. يتقاسم ورئيس الجمهورية السلطة بموجب الدستور عبر إصدار المراسيم التشريعية.
الجيش
بحسب الدستور السوري رئيس (الدولة) هو القائد الأعلى لجيش والقوات المسلحة.
الأجهزة الأمنية
وهي الاستخبارات العامة (أمن الدولة)، والأمن السياسي، والاستخبارات العسكرية، واستخبارات القوى الجوية. ويشرف على هذه الأجهزة مكتب الأمن الوطني منذ دستور2012(وقبله مكتب الأمن القومي الذي كان من مؤسسات القيادة القطرية لحزب البعث).
الإدارات الحكومية
في مستوى المحافظة يكون كلاّ من المحافظ وأمين فرع حزب البعث، ممثلاً للسلطة المركزية وتخضع الإدارات كافة في المحافظة للمراقبة والمتابعة من قبل الأجهزة الأمنية.
فهل يعول على عمل مؤسسات ولدت تابعة وملحقة بالقرار من أعلى الهرم السلطوي في سوريا، ألم يكن هناك اختلال في عمل هذه المؤسسات، ما بين اختصاص كل منها، والمستجدات التي تفرضها الحركة المجتمعية في سياقها الحضاري، إن كان في المستوى المادي أو المعرفي أو المجتمعي.
النتيجة المنطقية لسيرورة المؤسسات والأجهزة الحكومية، ما عدا الأمنية هو الخواء المطلق، في العمل المؤسسي، وهو بالتالي ما قاد إلى حالة من الفساد غير مسبوقة، ساهم فيها بشكل أساسي الهرم السلطوي، عبر تضييق الخناق بطرائق شتى، وفي المستوى المجتمعي وصل الأمر إلى حالة استنقاع الذي لا فكاك منه.

الخاتمة
هذا التشظي الذي آل إليه المجتمع في سوريا، على الصعد الإنسانية كافة، ما هو إلاّ نتيجة لسياسات ممنهجة ومدروسة، مورست عليه خلال عشرات السنين من التجاهل والتغييب المتعمد، لإيصاله إلى الحالة التي هو عليها.
وبالتالي فإن ّأي أصوات تطلق للمحافظة على الهوية السورية من التشتت والتمزق، في هذه المرحلة التي أصبح فيها أكثر من ثلثي الشعب السوري خارج الفضاء الإنساني، إن كان في الوجود على الأرصفة أو حاويات القمامة أو البيع للجسد بأشكاله الكثيرة أو بالرشوة أو بعصر البطون أو بإلغاء الحواس الخمس، أو بالتغييب القسري أو النزوح أو الهجرة، لمن لم يطالهم العنف الهمجي، هي أصوات ليست على (كوكب) سوريا، هي أصوات من خارج هذا الفضاء، هي أصوات على بعد من هؤلاء، أصوات على إحدى الضفاف، التي ما زالت متمسكة بالنظام سفينة إنقاذ لها من العنف الهمجي من قبل الرايات السود، أو ضفاف الإسلام التأسيسي الأول، الذي لم ولن يشهد الفارق الحضاري بين ما يدعو إليه وما آلت إليه الإنسانية، أو التي كانت هذه المآسي هي المركب الذي أخرجها من القاع، أو التي نمت في قاع المستنقع والآن طفت على السطح.
إنَّ أي مجتمع يوضع في حالة ركود عشرات السنين، لا بد أن يُستنقع، ولإعادته إلى حالته الإنسانية الخلاقة المبدعة، يجب أن يرى نور الشمس، ويتنفس هواء الحرية، عندها لن يفكر بتحجيم نفسه وتأطيرها بهويات تعزله وتقزّمه في المستوى الإنساني، بل سيفتخر بإنسانيته مع محافظته على خصوصيته في هذا الفضاء الإنساني ويبدع بحيث يقدّم خصوصية ناصعة مزهرة يعتز بها، وتغني الفضاء من حوله.

__________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم