الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرؤية الاقتصادية للحزب الاشتراكى المصرى

الحزب الاشتراكي المصري

2019 / 4 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


المحتويات
الرؤية الاقتصادية للحزب الاشتراكى المصرى 1
التنمية المستقلة وأزمة التبعية للسوق العالمية 1
التعريف بالتنمية وهدفها 1
النشأة التاريخية للتخلُّف 2
سياسات مؤسسات التمويل الدولية ودورها فى تعميق التخلف 3
مراحل الانفتاح الاقتصادى الخمس منذ عام 1974 إلى الآن: 5
الحصاد المر لنتائج السياسات الاقتصادية المتخذة منذ الانفتاح عام 1974 8
تدهور الإنتاج، وتراجع الاكتفاء الذاتى الزراعى والصناعى، ومفاقمة التبعية 8
البطالة وقوة العمل: 13
السياسات المالية والضريبية وتدليل الأغنياء: 13
استفحال الفساد: 14
تفاقم الدين العام 15
وهم التعويل على الاستثمارات الأجنبية 16
أزمة الطبقة الوسطى: 17
أزمة المياه ومصيدة "الفقر المائى" 18
الحل البديل الذى يقدمة حزبنا للأزمة الاقتصادية. 19
خاتمة واستنتاجات 21


التنمية المستقلة وأزمة التبعية للسوق العالمية
التعريف بالتنمية وهدفها
إن الهدف الأعز على شعبنا هو تنمية موارده وإشباع احتياجات سكانه ورفع مستوى رفاهية أغلبهم وتحقيق الحياة الكريمة لهم. وشعبنا شعبُ عريق جدير بأن يتصدّر دول العالم فى مستوى معيشتها حينما ينجح فى تنمية بلاده.
والتنمية هى ببساطة إدارة موارد الشعب الطبيعيّة والبشريّة، وبالذات الزراعيّة والصناعيّة من أجل إشباع الاحتياجات الأساسية لأغلبيّة شعبنا، من الغذاء والمصنوعات الاستهلاكيّة، مع تكامل الهيكل الإنتاجى من صناعات خفيفة وثقيلة وصناعة الآلات وصناعات التكنولوجيا المتطورة. وتشمل التنمية أيضا التنمية البشرية للمواطنين، قوام الإنتاج الاجتماعى، والذين تزداد قدراتهم الإنتاجية كلما زاد تعليمهم وتدريبهم، وكلما تحسَّنَ وضعهم الصحى. كما تشمل التنمية حُسن استغلال وإدارة مواردنا من أجل الأجيال الراهنة دون أن يأتى على حساب الأجيال المستقبليّة. وشعبنا يملك مقومات التنمية، وجدير بأن يعيش فى مستوى من أرقى مستويات البشر فى عالمنا.
إن أهم ثروة يملكها شعبنا هى سُكّانه الذين يبلغون المائة مليون الآن، حيث يمثل شعبنا الدولة الخامسة عشرة فى العالم من حيث عدد السُكّان. حقا إن الحكومة تعتبر أن حجم السكان الهائل هو العائق ضد التنمية وفق نظرة قاصرة ترى صعوبة توفير الغذاء والخدمات الأساسيّة من تعليم وصحة وغيرها لكل هذا العدد المتزايد باستمرار، إلا أن تلك النظرة تغفل الحقائق الأساسيّة التى يعرفها جميع المختصين: فالبشر هم أيضا القوة الإنتاجيّة الرئيسة، التى تُنتج الثروة التى تكفل مستوىً لائقاً لكى يحيا شعبنا حياة كريمة، ويرتفع مستوى إنتاجه وخدماته وحياته كلها إلى الوضع المكافئ لحضارة بلادنا العريقة. إن السياسة الاقتصادية الاجتماعية والتنمية، هى ببساطة طريقة إدارة الموارد الطبيعيّة والبشريّة، بما يحولها إلى قوة إنتاجيّة بدلاً من أن تكون عبئاً.
إن منطق الدولة يتناسى الحقائق البديهيّة، التى تؤكد أن السُكّان يكونون رافعة التنمية أو عبئاً عليها كما تدّعى، وِفقا للنظام الاقتصادى الاجتماعى السائد وحسب، الذى يحوّل البشر إلى قوة إنتاجيّة، أو يُبقيهم عبئاً ينبغى إطعامه وتوفير الخدمات له. ألا نرى أن ما يُسمَّى بـ "الدول الصاعدة"، أو "البازغة" الجديدة، مثل مجموعة "البريكس"، الدول الخمس (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا) أربع منها (ما عدا جنوب أفريقيا) تتفوق علينا فى عدد السُكّان، بل إن منها أكبر دولتين فى العالم من حيث عدد السكان وهما الصين والهند، الذين يبلغ مجموع سُكّانهما ثُلث سُكّان العالم؟!
كما يملك شعبنا مساحة واسعة تقدر بمليون كيلومتر مربع تجعله الدولة التاسعة والعشرين بين دول العالم من حيث المساحة، بما يمثل، فى ظل حُسن استثمارها، مصدراً هائلا للثروات التى ينبغى إدارتها الاقتصادية بكفاءة، ووفق نظام يحقق مصلحة أغلبية سكانها، ولا يهدر إمكاناتها الواسعة، ويُركِّز على إبراز مشاكلها، دون النجاح فى تقديم حلول علمية وتكنولوجيّة مبتكرة وممكنة، سبقتنا إلى تنفيذها الكثير من دول العالم.
تركز الحكومة مثلاً على صغر المساحة المزروعة بالنسبة لإجمالى المساحة، وعلى أننا من بلدان الفقر المائى، وبالتالى على أزمة الغذاء. وهذا رغم صحته إلا أنه لا يقوم حائلا أمام جهود تنمية الإنتاج الزراعى وتحقيق الاكتفاء الذاتى الغذائى بتطوير البحث العلمى فى كل مجالاته، بدءًا من استنباط أصناف جديدة أعلى إنتاجيّة، إلى تلك التى تحتمل نسبة عالية من الملوحة، وحتى تحلية مياه البحر، بالإضافة إلى التنمية المشتركة مع دول حوض نهر النيل، والسعى إلى زيادة حصة مصر من المياه بمشاريع على غرار قناة "جونقلى" التى توقّف العمل بها بعد إنجاز ثلاثة أرباعها بسبب الحروب الأهلية عند منابع نهر النيل. ليس هذا بدعة، فهذه هى الطريق التى اتبعتها دول أكثر منا كثافة مثل الصين والهند وإندونيسيا، غير الكثير من بلدان شرق وجنوب شرق آسيا.
كما تمتلك مصر حوالى ثلاثة آلاف كيلومترٍ من الشواطئ، على البحرين الأبيض والأحمر، وثمانى بحيرات، ونهر النيل، ومع ذلك فإنتاجها من الأسماك بالغ التدنى، ونسبة إنتاجنا من المواد البروتينية ككل بالغ التدنى بالنسبة لاحتياجات مواطنينا، كما أن أسعارها مرتفعة.
وكذلك فإن صحراء مصر غنيّة بالمعادن، ومواقع المحاجر، والكثير من المواد الثمينة التى يمكن أن ترتكز عليها صناعات حديثة، وحتى بالرمال، التى تصلح لصناعات عديدة تبدأ بالزجاج ولا تنتهى بالسيليكون والمكونات الإليكترونية.
النشأة التاريخية للتخلُّف
لهذا يثور السؤال المشروع: لماذا لازالت مصر تعانى من التخلف رغم توافر كل تلك الإمكانيات التنموية؟ وما هو التخلُّف أصلا؟
إن التخلّف ليس شيئا سوى توجّه الإنتاج المحلّى أساسا إلى تلبية احتياجات السوق العالمى بدلاً من توجُّهه الأساسى لإشباع احتياجات أغلبيّة السُكّان. إنه نزح الفائض الاجتماعى للخارج مع تشوّه الهيكل الإنتاجى وعدم تكامله، واعتماده على الخارج بدلا من صنع مقوّمات استقلاله. ولا يعنى هذا الاستقلال بالطبع قطع كل علاقات مع الخارج، ولكنه يعنى التوجيه الأساسى للاقتصاد لإشباع احتياجات السُكّان حتى لا نكون تحت رحمة الخارج، مع العلاقة الندّية بالخارج، التى تقوم على فائض تصديرى من المواد التى لا يحتاجها الاستهلاك المحلى، واستيراد مقابلها كل ما يدفع بالتنمية المحلـيّة إلى الأمام. ويرجع سبب التخلف إلى فترة الاستعمار، والارتباط بالسوق العالميّة.
قدر مصر أن تكون فى قلب العالم القديم والحديث، فى ملتقى ثلاث قارات، وموقع تواصل تجارى بالغ الأهمية للعالم كله، منذ اكتشاف التجارة الدوليّة، ومركزاً لثروات ضخمة، سواءً قديماً (سلة غلال الإمبراطورية الرومانية مثلاً)، أوحديثاً (البترول والمعادن، فضلاً عن السوق الهائلة لمائة مليون من السُكّان، التى يتلمظ عليها المنتجون لسلع الاستهلاك من دول العالم أجمع)، وهو مادعى "نابليون بونابارت" إلى التصريح بأن: "مصر أهم دولة فى العالم" (مذكورة فى مقدمة كتاب:”The Most Important Country” . لـ "جون أونيل"، كاسل وشركاه، لندن، 1957). وقد تسبّب هذا الموقع فى طمع الدول الإمبريالية فيها، وتصدّيها لمحاولات تنميتها، وصولاً إلى زرع إسرائيل لاستنزافها.
لقد مرّت مصر، خلال القرنين الأخيرين، بأربع محاولات للنمو، وإن لم تبلغ درجة التنمية المتكاملة لنقائص كثيرة ليس هنا مجال استعراضها. حدث هذا فى عهد "محمد على"، والخديوى "إسماعيل"، وفى أعقاب ثورة 1919 وإنشاء بنك مصر، وأخيراً فى مصر الناصريّة. ونحن نعرف بالطبع تدخل القوى الاستعمارية بعد الهزيمة العسكرية لتجربة "محمد على" وفرض سياسة "الباب المفتوح"، (الانفتاح التجارى والاستثمارى) عليه، وفخ الديون للخديوى "اسماعيل" وفرض الرقابة الاستعمارية على المالـيّة المصريّة، انتهاءً بالاحتلال الانجليزى، وضرب بنك مصر و"طلعت حرب"، فى أعوام 1939- 1941، وفرض تغيير إدارته وسياسته، وهو رمز محاولات الاستقلال الاقتصادى النسبى بعد ثورة 1919، وأخيرا ضرب التجربة الناصرية فى 1967، كل هذا من أجل فرض التبعيّة للسوق الرأسماليّة العالميّة وتدمير مقومات الاستقلال الذاتى.
بالطبع لم يقتصر الموضوع على ضغط القوى العظمى الدولية بالخارج لمنع التنمية المصرية، ولفرض إدماجها فى السوق الرأسمالية العالمية، بل ساعده على ذلك طبقات محليّة، ذات مصالح معادية لجماهير الشعب، وتلعب دور الوكيل أو الشريك للمستغل الاستعمارى.
سياسات مؤسسات التمويل الدولية ودورها فى تعميق التخلف
ونكتفى بتلك الإشارات، المقتضبة بالضرورة، لكى ندخل بقدر من التفصيل فى تجربة مصر منذ سياسة "الانفتاح الاقتصادى" عام 1974، وحصاد خمسة وأربعين عاماً من سياسات التبعيّة، والتعميق المتزايد للتبعيّة للغرب، حيث سادت السياسات التى تنفذ "روشتة" الإمبريالية الأمريكيّة، والغرب، التى فرضوها بالقوة، وبشروط الإذعان، على العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، المعروفة بـسياسات "إجماع، أو توافق واشنطن"، (Washington Consensus)، وهو "التوافق" الذى يتضمن "أوامر"، أو "تعليمات" بتقليص دور الدولة الاقتصادى والاجتماعى إلى الحد الأدنى، وبـ "خصخصة" وحدات القطاع العام، وسد عجز الموازنة عن طريق رفع الدعم عن السلع الأساسية، فضلاً عن إلغاء كل القيود الحمائية المُطبَّقة، بهدف دعم المنتج الوطنى الضعيف فى مواجهة المنافسة غير المتكافئة للبضائع المستوردة، الأعلى إنتاجيّة وذات المستوى التكنولوجى المتقدم، وكذلك إزالة القيود التى تنظم أنشطة الاستثمار وحركة رأس المال، وما سُمِّىَ "بتحرير التجارة استيراداً وتصديراً"، وكفالة الحريّة الكاملة لـ"السوق" وقوانينه، وإطلاق مجالات العمل، بلا قيد أو شرط ، للقطاع الخاص بشقيه: المحلى والأجنبى، وخصخصة الخدمات، التى كانت وقفاً فى السابق على الحكومة والقطاع العام، وانكماش دور التخطيط المركزى، الاقتصادى والتنموى، الذى كانت يتم من خلال أجهزة الدولة، وقصر دور الدولة على توفير "المناخ الاستثمارى" المناسب لتراكم رأس المال، المحلى والأجنبى، والتركيز على تطوير المرافق ... إلخ.
ينطلق منطق "صندوق النقد الدولى" فى علاجه للأزمة الاقتصادية فى مصر من تشخيصها باعتبارها أزمة ماليّة ونقديّة، بعجز داخلى ضخم فى الموازنة العامة للدولة، وعجز خارجى ضخم أيضاً فى ميزان المدفوعات الخارجية. ويقترح سياسات وإجراءات محددة لحل هذا العجز المزدوج، وتقوم الحكومة المصرية بتقديم تلك السياسات المتفق عليها، كخطاب نوايا موقّع عليه من قِبَل الحكومة المصرية، ويقوم الصندوق بناء على ذلك بالموافقة على القرض.
وسياسات الصندوق المسماه بسياسات الإصلاح الاقتصادى تدور فى فلك عقيدة الصندوق ومؤسسات التمويل الدولية، سياسات "الليبرالية الجديدة". ولعل أبرز توضيح لسياسات الصندوق وخطرها هو شروط اتفاقه الأخير مع مصر عام 2016 حول قرض الـ 12 مليار دولار مقابل الاندفاع فى تنفيذ ذلك النوع من السياسات "النيوليبرالية" إلى حدوده القصوى.
يقترح الصندوق سياسات ماليّة ونقديّة إنكماشية معادية للتنمية، تؤدى إلى الإفراط فى قسوة حرمان الجماهير من الدعم، وتقليل نسبة الأجور للدخل القومى، وخصخصة القطاع العام والمرافق الخدميّة، وغيرها من الإجراءات التى تسبب التضخُّم، ويترتب عليها زيادة ثراء الأغنياء بالارتباط مع زيادة فقر الفقراء.
يقترح الصندوق فى السياسات المالية سياسات تقشفيّة انكماشية، تقوم على تقليص الإنفاق الحكومى بتخفيض نسبة إجمالى بند الأجور إلى الدخل القومى، وتخفيض الدعم، وعدم زيادة نسبة ميزانية الخدمات، وزيادة الإيرادات الحكومية أساساً من الضرائب غير المباشرة. تَمَثَّلَ هذا فى رفع أسعار الوقود من كهرباء وغاز وبنزين ومشتقات البترول، على مراحل، بحيث تكافئ أسعار تلك المواد كلها الأسعار العالمية.
ولابد لنا هنا من وقفة لكى نشرح خرافة ما يسمى بالأسعار العالمية، لماذا؟ وما هو المنطق وراء جعل الأسعار عالمية؟ إن المضمون الوحيد لهذه الدعوة الفاسدة هو إدماج الاقتصاد المصرى الكامل فى السوق الرأسمالية العالمية، و"حرية" انتقال السلع والبضائع عبر الأسواق. ويدّعى الصندوق أن هذا المنهج يجعل كل دولة تتخصص فى الأشياء التى تنتجها أرخص، وبالتالى تكون هذه طريقة للتوزيع العقلانى للموارد، وألا تقوم الدول "بحماية إنتاجها القومى" عن طريق عزل سوقها بحواجز جمركيّة، أو تمكين أى دولة من وضع نظام تسعير خاص بها، وإنما يتوجب إطلاق قوى السوق الحر لنهايتها، مع استبعاد كل أشكال الدعم.
لكن الحاسم هنا هو كفاءة الاقتصاد المحلى وإنتاجيته، التى تتخلف بكثير عن إنتاجية الدول المتقدمة، وبالتالى فإن نتيجة فتح الأسواق على السوق العالمى وتوحيد الأسعار،حتماً، هو تدمير الإنتاج المحلى لصالح الدول الإمبريالـيّة التى تسعى إلى تسويق إنتاجها المتراكم. والنتيجة الأخرى الخطيرة لموضوع الأسعار العالمية إنه إذا كانت الأجور المحلية تمثل نسبة ضئيلة من متوسط الأجور العالمية، فماذا تعنى سياسة الأسعار العالمية غير تدهور مستوى معيشة الجماهير، وانتشار التضخم الذى يُعيد توزيع الدخل لصالح الأغنياء، وبما يؤدى إلى التزايد السريع لأعداد الفقراء! وبما يعنى إلغاء الدعم فقط عن فقراء الشعب، مع الإبقاء على "دعم الشعب للحكومة"، بالفرق بين أجوره المحلية الضئيلة والأجور العالمية المرتفعة!
كذلك فرضت سياسات الصندوق الضريبيّة تطبيق وزيادة حصيلة الضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة "القيمة المُضافة"، والضرائب على مبيعات البترول ومشتقاته. وفى الوقت الذى يتحدث فيه الصندوق عن زيادة الضرائب غير المباشرة‘ التى تتحملها جماهير الشعب، فإنه يتغاضى عن رفع قيمة الضرائب المباشرة على دخل الأغنياء، فى تحيزٍ واضح لهم.
كما يقترح الصندوق سياسات نقديّة، تقوم على إجراء تخفيض كبير على سعر الصرف بـ "تعويم الجنيه"، الذى يعنى فى ظل الأزمة الاقتصادية تخفيضاً كبيراً فى قيمة العملة المحلـيّة، بدعوى أن هذا المسلك يحفز الصادرات ويقلِّص الواردات، أى يحل مشاكل عجز ميزان المدفوعات. كما يُطالب برفع سعر الفائدة لمواجهة التضخُّم وامتصاص فائض السيولة. وقد أدى "التعويم"، مع رفع أسعار الوقود والطاقة، ورفع الدعم، وتطبيق المرحلة الأخيرة من "ضريبة المبيعات"، إلى أن قفز التضخُّم فى العام التالى، 2017، إلى نسبة 33% ، بينما ذكرَ الصندوق أنه توقّع ألا يؤدى الاتفاق إلاّ لارتفاع نسبة التضخم إلى 18% فقط؟!
ويطرح الصندوق طرحاً هاماً، فيما يخص سياسات الخصخصة: حيث يتم خصخصة المشروعات الحكومية بدعوى تقليص دور الدولة فى عملية الإنتاج، بل وفى عملية تقديم مختلف الخدمات من مرافق (كهرباء ومياه وصرف صحى وطرق وكبارى) وتعليم وصحة. وبالطبع فإن تقليص دور الدولة يرتبط ببيع تلك الأصول، كما يرتبط تحرير الاستثمار بما يُسمّى "الفرص المتساوية دون تفريق" بين المستثمرين المحليين والأجانب، فى شراء تلك الأصول التى يتم خصخصتها، وهو ما سنعرض له تفصيلا فيما سيلى.
ولعله من المفيد الآن تتبع مراحل تدمير الدرجة المتحققة من الاستقلال الاقتصادى النسبى فى ظل المرحلة الناصرية، عن طريق سياسة "الانفتاح الاقتصادى"، وتطور سياسات التبعيّة للسوق الرأسمالية العالمية، وبالتالى تطور عملية التخلف التاريخية فى مصر.
مراحل الانفتاح الاقتصادى الخمس منذ عام 1974 إلى الآن:
1- بدأت المرحلة الأولى من سياسة الانفتاح الاقتصادى والإدماج التدريجى للاقتصاد المصرى فى السوق الرأسمالية العالمية، وتدمير قدراته الإنتاجية الموجّهة لإشباع احتياجاته الأساسيّة، منذ عام 1974، حيث حددت ملامحها ورقة أكتوبر (يناير 1974).
اشتملت تلك الورقة، والسياسات الاقتصادية التالية لها، على ما يُسمّى بـ "االحريات الأربع": حرية التجارة تصديراً واستيراداً، وحرية الاستثمار لرأس المال المصرى والعربى والأجنبى، وحرية تحويل العملة المصرية للعملة الأجنبية بسماح تبديل الجنيه والدولار، وهو لازمة ضرورية لتحرير تجارة الاستيراد والتصدير وكذلك لتسهيل دخول وخروج الاستثمارات الأجنبية، وتحويل أرباحها للخارج، و"حرية" استغلال اليد العاملة المصرية بتخفيف الضمانات القانونية التى تحمى الحريات والحقوق العمالية.
وبالطبع، فقد تحقّق هذا بالتدرج، عبر زيادة السلع المسموح باستيرادها وتصديرها بقوائم متزايدة الاتساع، حتى وصل الأمر فى النهاية إلى إباحة التجارة كلياً، ماعدا سبع سلع استراتيجيّة مثل القمح وغيرها، وصولاً فى النهاية إلى إلغاء تلك القائمة أيضا. كما أخذ تحرير تبادل العملة هو الأخر منحىً مُتدرجاً ،بدأ منذ يوليو 1973 بإنشاء "السوق الموازية" التى تشترى فيها الحكومة الدولار من المستوردين بسعر 55 قرشاً (وكان سعره الرسمى حوالى 40 قرشاً). كان هذا تخلياً عن سيادة الجنيه المصرى كعملة الدفع الوحيدة فى السوق الداخلية، وهو النظام السائد منذ القانون رقم 80 لسنة 1947 فى عهد حكومة "النقراشى"، والخاص بالرقابة على الصرف. تلك الرقابة التى تم التخفف التدريجى منها، وصولا إلى "التعويم المحكوم" للجنيه، ثم "التعويم الكامل" مع اتفاق 2016، كما رأينا.
2- بدأت المرحلة الثانية بعد اتفاقى "التثبيت الاقتصادى" و"التكيف الهيكلى"، المعقودين مع "صندوق النقد" و"البنك" الدوليين عام 1991. تميّزت تلك المرحلة بالبدء بتخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار، كما اتسمت أساساً ببدء تنفيذ الخصخصة، حيث جرى، فى ظلهما، الاتفاق على إصدار القانون رقم 203 لسنة 1991، الذى حوّلَ "القطاع العام" إلى "قطاع الأعمال العام"، وخَفّضَ قيمة الجنيه أمام الدولار، وأدخل لأول مرة فى الكيان القانونى المصرى "الشركات القابضة"، التى تحل محل المؤسسات العامة (للصناعات المعدنية، والغزل والنسيج....الخ) لكى تتوقف إدارة القطاع العام بسياسة موحّدة، وتتحول إلى شركات منفردة، ضعيفة بالضرورة فى المنافسة مع القطاع الخاص المحلى والأجنبى، كما أباح النظام القانونى المصرى للشركات القابضة بيع الشركات التابعة كأداة للخصخصة.
وصدر أيضا القانون رقم 95 لسنة 1992 الخاص بتطوير "البورصة المصرية"، وتفعيلها لتكون أداة رئيسية لشراء المستثمرين الخاصين، المحليين والأجانب للقطاع العام. ومثلما حدث مع التحرير المتزايد للتجارة ولتحويل العملة فى المرحلة السابقة، والذى بدأ خجولاً ليتوسع تدريجياً، فقد بدأت الخصخصة الخجولة فعلياً منذ العام 1994ولكى تصل إلى قمتها فى المرحلة التالية، فى عهد وزارة "نظيف"، كما سنرى.
3- بدأت المرحلة الثالثة مع إنشاء لجنة السياسات (لجنة "جمال مبارك" وشركائه من رجال الأعمال المصريين والأجانب بصفته رئيسا للجنة رجال الأعمال المصرية الأمريكية)، فى سبتمبر 2002، وكان أول قراراتها فى 30 يناير 2003 هو تخفيض قيمة الجنيه المصرى (حيث وصل الدولار لأكثر قليلا من ثلاث جنيهات) مع التعويم المحكوم للجنيه المصرى. ثم أتت تلك اللجنة بوزارتى نظيف (2004 - 2010)، وهى الوزارة المعروفة بوزارة رجال الأعمال، حيث كان فيها وزير السياحة (أحمد المغربى)، مثلاً، صاحب أحد أكبر الشركات السياحية الخاصة، ووزير الصحة (د. حاتم الجبلى)، صاحب أحد أكبر المستشفيات الخاصة، وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن تلك الوزارة هى التى قامت بخصخصة 69% من إجمالى رؤوس أموال شركات القطاع العام التى تم خصخصتها منذ قانون عام 1991 وحتى نهاية عهد تلك الوزارة مع قيام ثورة 25 يناير. كما بدأ فى ذلك العهد بنشاط خصخصة الخدمات والمرافق مثل الكهرباء والمياه، وحتى محاولات خصخصة التعليم والصحة. وقد نجم عن تلك السياسات، من حيث آثار تخفيض قيمة العملة، وتحرير التجارة والاستثمار على أعلى المستويات، وتطبيق روشتة الصندوق فى السياسات الداخلية التقشفية بتقليص الدعم وتدهور الخدمات وغيرها من الإجراءات، آثاراً رهيبة تبدّت فى خفض مستوى معيشة الجماهير، وزيادة نسبة الاستقطاب المجتمعى بزيادة الأغنياء غِنىً وزيادة الفقراء فقراً، وبالتالى التصاعد التدريجى للسخط وللحركة الاحتجاجية السياسية والجماهيرية التى أصبحت نمطاً ثابتاً للحياة السياسية اليومية، حيث شهدت البلاد ثلاثة آلاف إضراب واحتجاج جماهيرى فى العامين السابقين على ثورة يناير 2011، بحيث كان التطور الطبيعى لهذه التغيرات هو انفجار تلك الثورة المجيدة.
4- عكست المرحلة الرابعة، مرحلة ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ارتباك النظام فى مواجهة الثورة، وشبه توقُّف لتلك السياسات الخاصة بالخصخصة، والتراجع (المؤقت) عن السير قُدماً فى مجال لبرلة (تحرير) الاقتصاد، مع بعض الزيادات فى الأجور والمعاشات، وتجميد الموافقة على قانون رقم 135 لسنة 2010 الخاص بالمعاشات (وهو حلقة فى اتجاه خصخصة مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وتحويل النظام التأمينى التكافلى الاجتماعى إلى نظام إدخار فردى). استمرت تلك المرحلة طوال أربع سنوات من أول يناير عام 2011 وحتى آخر سنة 2014.

5- نأتى إلى المرحلة الخامسة والأخيرة، منذ عام 2015 وحتى الآن. قرر الغرب منذ أوائل عام 2015 تغيير تكتيكه تجاه النظام المصرى لأسباب سياسية، وإنهاء حصاره الاقتصادى، وبالاستفادة من أزمته الاقتصادية من أجل إعادته إلى أبعاد أعمق فى تبعيته للاقتصاد الرأسمالى العالمى، واستغلاله واستنزافه بنزح المزيد من الفائض منه، خصوصا وقد وجد أن النظام قد بدأ يوغل بعيداً عنه نسبياً فى علاقاته الاقتصادية والسياسية بالقوى البازغة الجديدة مثل روسيا والصين، على حساب علاقاته بالسوق الغربية.
وتلقت مؤسسات التمويل الدولية، وبالذات "البنك الدولى" و"صندوق النقد الدولى"، الضوء الأخضر لاستئناف العلاقات الاقتصادية مع مصر. استجابت مصر بحماسة وأقترضت عدة مليارات من القروض لمشروعات من البنك الدولى فى الشهرين الأولين من عام 2015، ومهَّدَ هذا للاتفاق مع المؤسسات الدولية على عقد "المؤتمر الاقتصادى" فى مصر فى مارس 2015.
بناء على تفاهمات مع "البنك الدولى" أقدمت مصر على التحضير للمؤتمر الاقتصادى عن طريق ما يُسمى بـ "تهيئة البيئة التشريعية" المواتية للاستثمار الأجنبى. قامت مصر بإصدار ثلاثة مراسيم رئاسية بقوانين حملت أرقام (16، 17، 18) لسنة 2015 عشية المؤتمر، فى 12 مارس عام 2015، تخص "قانون الخدمة المدنية" بخصخصة هيكل وظائف الدولة تدريجياً (وجرت عليه تعديلات بعد ذلك)، وتعديلات "قانون الاستثمار" لـ "التيسير"على المستثمرين المصريين والأجانب، وتعديل بعض أحكام "قانون الإجراءات الجنائية"، لكى يُبيح التصالح فى قضايا الفساد و العمولات الأجنبية، منعاً لتكرار ما حدث من أحكام قضائية بمحاسبة المسئولين عن الفساد الذى شاب عمليات خصخصة مؤسسة "عمر أفندى" وغيرها من الشركات، والحُكم بعودتها للحكومة.
كان المؤتمر الاقتصادى مؤشراً هاماً على استئناف النظام بنشاط برنامج "حسنى مبارك" المُغرق فى سياسات النيوليبرالية الاقتصادية، برنامج مؤسسات التمويل الدولية.
وكان من ضمن الحصاد المُرّ للمباحثات مع مؤسسات التمويل الدولية تخفيض قيمة الجنيه المصرى بنسبة 14% فى مارس عام 2016. إلا أن الحصاد الأضخم كان فى توقيع قرض كارثى بقيمة 12 مليار دولار على مدار ثلاث سنوات مع "صندوق النقد الدولى"، فى نوفمبر 2016. كانت مقدمة توقيع الاتفاق مع الصندوق فى نوفمبر 2016 هى تعويم الجنيه تعويماً كاملاً بعد سنوات من التعويم المحكوم.
وقد أدى هذا الإجراء إلى تخفيض قيمة الجنيه المصرى فى عام 2016 (مارس ونوفمبر) بحوالى 60% من قيمته أوائل عام 2016 على غرار ما أوضحنا من قبل، وما نتج عن هذا من انفجار فى الأسعار خصوصا مع اعتماد بلادنا على الواردات فى توفير القسم الرئيسى من غذائها، ومن مستلزمات إنتاجها الصناعى. وتم الاتفاق على تُسَلَّم قيمة القرض على دُفعات نصف سنوية، فى أعقاب حضور بعثة من الصندوق لمتابعة التزام الحكومة بتنفيذ الشروط المُتفق عليها.
كان من نتائج التعويم، بالإضافة إلى رفع سعر الوقود والكهرباء والمياه، وتطبيق مرحلة جديدة من ضريبة المبيعات، أن قفز التضخم فى يوليو 2017 إلى 34%. كما فرض الاتفاق خصخصة مشروعات حكومية بنسبة ملموسة من الناتج المحلى الإجمالى، وتشتمل على أجزاء من قطاعى البترول والخدمات المالية. واللافت أن هذا القرض لم يكن قرضاً مفتوحاً، يوفر لمصر رصيد من العملة الصعبة يمكنها استخدامه فى لتدبير احتياجاتها الاستيرادية، بالذات من السلع الاستراتيجية بما فيها السلع الغذائية الأساسية، فهو يفرض على الحكومة توجيه معظم موارد الحكومة من العملة الصعبة، بالذات الآتية من القروض، لسداد أعباء خدمة الديون، كما يفرض على الحكومة الاحتفاظ بها فى بنوك أجنبية وليس فى فروع أجنبية لبنوك مصرية، وهو بهذا يضمن مستقبلاً سداد ديون مصر القديمة والجديدة حتى لو أتى هذا على حساب احتياجات الشعب.
لهذا فهذا فإن الإنجاز الذى تفخر به الحكومة من ارتفاع الاحتياطى النقدى لمصر فى إبريل 2018 إلى 44 مليار دولار، يخدم بالأساس مؤسسات التمويل الدولية، فهذا الاحتياطى مخصص بمعظمه لسداد أقساط الديون وفوائدها.

الحصاد المر لنتائج السياسات الاقتصادية المتخذة منذ الانفتاح عام 1974
تدهور الإنتاج، وتراجع الاكتفاء الذاتى الزراعى والصناعى، ومفاقمة التبعية
كما أوضحنا سابقا فإن التبعية للسوق الرأسمالية العالمية وتعميقها المتزايد هو السبب الرئيسى فى التخلف وغياب التنمية. وكان الشكل الكلاسيكى الأول للتبعية هى محورة إنتاج البلدان التابعة فى مادة أولية تحتاجها الدول المتقدمة وتشتريها بمقابل بخس، كما تجد مجالاً خالياً لتسويق منتجاتها الصناعية فى غياب أى منافسة. وفى محاولة النمو بعد ثورة 1919 وإنشاء "بنك مصر" أخذت مصر فى الدخول فى صناعات استهلاكية أساسا (منسوجات وسلع غذائية).
ومثّلت التجربة الناصرية أكثر محاولات الاستقلال النسبى فى تاريخ مصر، وارتبطت بالطبع بالمعركة السياسية ضد الاستعمار العالمى بزعامة أمريكا وتابعته إسرائيل. قامت مصر الناصرية بتطوير نفس مجالات الصناعات القديمة، وأضافت لها عدداً من الصناعات الإنتاجية الثقيلة وعلى رأسها مُجَمّع الحديد والصلب بحلوان ومُجَمّع الألومنيوم، مع صناعة الأسمنت وغيرها من المواد، التى أتاحت درجة من الاستقلال النسبى لمصر فى إشباع العديد من احتياجاتها. إلا أن مثل ذلك النوع من النمو لا يستطيع الاستقلال عن السوق الرأسمالية العالمية، التى ظل يرتبط بها فى توفير الآلات وقطع الغيار، وأيضا السلع الوسيطة التى يحتاج إنتاجها إلى تكنولوجيا متقدمة لا يمتلكها، فحتى صبغات النسيج، كان يتم استيرادها، لأنها تحتاج إلى نوع من الصناعات الحديثة المتقدمة الخاصة بتصنيع البتروكيماويات.
بالطبع يبدو واضحا أيضا أثر التبعية التكنولوجية فى مجالات كثيرة مثل تلك التى أوردناها، ومثل استخراج البترول، وغيرها. ولكن كانت هناك محاولات هامة لدرجة من التحرر الجزئى من التبعية التكنولوجية عن طريق الجامعات ومراكز الأبحاث التى عملت على إحداث تطورات مهمة فى الإنتاج، كان أبرزها تطور صناعة الدواء، وتطوير أصناف زراعية جديدة فى القمح وغيره من المحاصيل أعلى إنتاجية وأكثر تحملا للظروف غير الملائمة، مع تطوير الإرشاد الزراعى. هذا بالطبع غير الدور الهائل الذى لعبه مشروع إنشاء السد العالى، أكبر مشروع إنشائى فى القرن العشرين عالمياً، وتوفيره إمكانية تطوير الزراعة وزيادة المساحة الزراعية، وبالتالى انعكس أثر كل تلك السياسات الزراعية فى مجال زيادة الاكتفاء الذاتى الغذائى. ليس هذا مقام تفصيل مشاكل مرحلة النمو الناصرية نظرا لتركيزنا هنا كما أوضحنا على تطوير وتعميق التبعية منذ الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادى عام 1974.
وكما هو واضح، فقد ارتبطت سياسات التبعية المتزايدة منذ الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادى بإعادة هيكلة شاملة وتدريجية للهيكل الإنتاجى المصرى لتعميق تبعيته للسوق الرأسمالية العالمية على حساب إشباع الاحتياجات الأساسية للجماهير. بدا هذا مثلا فى تعديل السياسة الزراعية مع دور بارز لبعثات هيئة المعونة الأمريكية داخل وزارة الزراعة المصرية (مثل معظم الوزارات) بتوجيه الإنتاج الزراعى وفقا لسياسة "يوسف والى"، وزير الزراعة الأسبق، التى عُرفت بسياسة الكنتالوب والخيار، وادعائه أن تصدير إنتاج عشرين ألف فدان فراولة يكفى لاستيراد احتياجات مصر من القمح! هذا غير سياسات إلغاء الدورة الزراعية (إلغاء تخطيط الإنتاج لصالح الاحتياجات المحلية) وتركه لقوى السوق. أدت تلك السياسة إلى انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتى من القمح وفق آخر إحصائيات متاحة إلى 49%، وهو الغذاء الرئيسى للمصريين، ونسبة إنتاج الذرة الشامية إلى 56%، والفول إلى 31%، والعدس 2%!، كما تستورد مصر 97 % من الزيت الخام، ونحو ثُلث حاجتها من السكر.
أما فى الصناعة فقد أدى تطبيق هذه السياسات إلى تدهور أرقى قطاعات الصناعات الإنتاجية والثقيلة، والتى كانت تسهم فى تحقيق نسبة من الاستقلال والاعتماد على الذات فى صناعة الآلات والصناعات الثقيلة والصناعات المتقدمة تكنولوجيا. من أبرز الأمثلة على ذلك مُجَمَّع الحديد والصلب الذى تقلصت عمالته لأقل من الثُلث، وتم إغلاق وحدة إنتاج الصلب به، وانخفضت قدراته الإنتاجية إلى 11% من طاقته، ويجرى الحديث عن تقسيم المصنع وعن خصخصته، رغم الإدعاء، طوال سنين عديدة مضت، بوجود خطط ومناقصات لاستعادة طاقته الإنتاجية لم يتم تفعيل أى منها.
ورأينا محاولات متكررة شبيهة لخصخصة مُجَمّع الألومينيوم بنجع حمّادى (قنا). وهناك ملاحظة هامة مفادها أن أول شركة تم خصخصتها ـ بهدف يوقف تفكك آلاتها ووقف إنتاجها ـ هى شركة "شركة المراجل البخارية"، وهى صناعة استراتيجية ثقيلة ذات أبعاد تؤثر على الأمن القومى، وتم رفض تنفيذ الحكم القضائى بإلغاء خصخصتها، ويتم حالياً استيراد 100% من احتياجاتنا من المراجل البخارية التى تدخل فى الصناعات الغذائية ومحطات توليد الكهرباء والطاقة الذرية، وغيرها، بمليارات الدولارات سنويا!
كما حدث مثل هذا التدهور فى صناعات الأدوية، حيث انخفض إنتاجها بالنسبة للاحتياجات الملحّة بدرجة مريعة، وتراجعت نسبة إنتاج شركات القطاع العام، التى كانت تقدم دواءً فعّالاً ورخيص الثمن يغطى حاجة أغلبية المواطنين، من نحو 80% فى منتصف السبعينيات، إلى ما دون 20% فى منتصف السبعينيات، إلى أقل من 5% الآن، وتحولت صناعة الدواء إلى قطاع تجميع عن طريق استيراد المواد الخام من الخارج والاكتفاء بتعبئتها، وإلغاء تصنيع أصناف هامة مثل المضادات الحيوية، وغير ذلك من أمثلة.
أما الصناعات التى شهدت ازدهاراً فى عهد الانفتاح فهى الصناعات التى تلفظها الدول الصناعية المتقدمة لأنها صناعات ملوثة للبيئة، مثل صناعة الأسمنت والأسمدة والسيراميك وغيرها. فضلاً عن عدد من الصناعات الاستهلاكية وعلى رأسها صناعات الغزل والنسيج والصناعات الغذائية، واشتملت اتفاقات تحديث آلات شركات غزل المحلة مثلا على إمدادها بأنوال لا تصلح إلا لنسج الأقطان الأمريكية المستوردة قصيرة التيلة، بينما يتم تصدير القطن المصرى الجيد، طويل التيلة، كـ "خام" للمصنعين الغربيين!
كما تم التقاعس عن دعم القطاعات المحتاجة للدعم منها سواء فى القطاع العام أو الخاص، وجرى إغلاق آلاف المصانع، (قدّرها رئيس لجنة الضرائب باتحاد الصناعات المصرية، عام 2014، بسبعة آلاف مصنع، مابين متعثر ومتوقف).
ولعل النظرة لتصنيف الناتج المحلى الإجمالى ترينا القطاعات النشطة والقطاعات الضعيفة فى الاقتصاد: فنصف الناتج القومى الإجمالى يأتى من الخدمات، والنصف الآخر مُقسمٌ تقريباً بنسبٍ مُتقاربة بين الزراعة والصناعات الاستخراجية والصناعات التحويلية، (16%، 17%، 19% لكل منها على التوالى).
والأنشطة الرئيسية فى قطاع الخدمات هى السياحة والاستثمار العقارى والمضاربة على الأراضى (سواء من جهة الدولة أو القطاع الخاص)، والتجارة والاستيراد والتصدير، والأنشطة الكمبرادورية كالوكالات للشركات الأجنبية وتسويق منتجاتها، والخدمات المالية، وقطاع الاتصالات وغيرها. بينما يتقلص الإنتاج القومى الزراعى والصناعى، ويُعاد هيكلة الصناعات، كما رأينا، وِفقاً لاحتياجات السوق الرأسمالية العالمية، وليس تلبية احتياجات السوق الداخلية وأغلبية السكان.
الانقسام الاجتماعى والتفاوت الطبقى
ويدرك مَن يتابع عواصف الإعلانات، المرئية والمسموعة، فى شاشات التلفزيون وعلى جوانب الطرق، أن مصر قد انقسمت بالفعل إلى قسمين متضادين، فهذه الإعلانات التى تُحاصر ملايين الفقراء بسيل من الصور البرَّاقة، التى تخلب الألباب، وتثير المخيلة، عن "المعازل السكنية"، "الكمباوندات" البازخة، لصفوة الطبقة الحاكمة، والتى تُستنفذ القدرات المادية المحدودة للبلاد، فى بناء منتجعات باذخة، وناطحات سحاب شاهقة، ومدنٍ جديدة لن يُسمح بولوجها إلا لنخبة النخبة، تحوى "أكبر" المطارات، وأعلى الأبراج، وأفخم الكنائس والمساجد ودورالأوبرا، ... إلخ، وأحياء متميزة على غرار"الحى اللاتينى" بباريس، ومولات فاخرة تنتقل إليها عبر بحيرات صناعية (رغم تفاقم أزمة المياه!)، فى حين يعيش الملايين، على الضفة الأخرى، حياة لا تنتمى للآدمية بصلة، فى حزام العشوائيات المُحيط بالمدن، وتتفاقم مشكلة العنوسة وإحجام الشباب عن الزواج، بسبب العجز عن توفير مأوى متواضع، أو تأمين مقومات الحد الأدنى الإنسانى للحياة. وبهذا تتأكد حقيقة الانشطار الطبقى الحاد، والذى يصعب، إن لم يستحيل، رأبه، بين "مصر العشة" و"مصر القصر"، والقائم فى مصر الآن.
كانت مصر قبل عام 1952 يطلق عليها بلد الألف مئذنة، وفى الخمسينات والستينات كان يطلق عليها بلد الألف مدخنة، فى إشارة إلى الحركة الضخمة فى إنشاء المصانع الجديدة، ومنها، كمثال مدينة صناعية كاملة هى مدينة حلوان التى تسود فيها الصناعات المعدنية الثقيلة والمتطورة، فضلاً عن القلاع القديمة، قلاع الغزل والنسيج فى شبرا الخيمة والمحلة. أما الآن فيمكن أن توصف مصربأنها بلد الألف "مول"، و"كومبوند"، و"منتجع"، وفروع لأحدث محلات الحلويات والكافيهات العالمية؟! وتطرح هذه الظواهر أسئلة بالغة الدلالة: كم مصنع كان يمكن بناؤها برؤوس الأموال التى أُنفقت على مظاهر الاستهلاك الترفى السفيه هذه؟ وكم فرصة عمل كان يمكن توفيرها للعاطلين من المواطنين بدلاً عنها؟ وكم من عائد لضرائب المتهربين من كبار رجال المال والأعمال كان يمكن توجيهها للتعليم والصحة؟ غير أن هذا الأمر ليس مجرد صدفة، بل يعود إلى ظاهرتين فى منتهى الأهمية: الأولى هى أن الرأسمالية فى مرحلة البناء الأولى تسود فيها أخلاق التراكم واستغلال الفائض الاجتماعى فى توسيع الاستثمار بالذات الزراعى والصناعى، أى فى التنمية. أما الرأسمالية فى مرحلة هبوطها الراهنة، فتسود فيها أخلاق السفه الاستهلاكى الترفى. ويشير هذا إلى أهمية الظاهرة الثانية: ألا وهى أن نمط التبعية للغرب يتضمن تبعية نمط الاستهلاك السفيه للنخب الغنية المحلية، وسعيها لتقليد السلوك الترفى الموجود فى الغرب، دون أن تستند إلى توافر مثيل للبنية الإنتاجية الاقتصادية التى تشكل جوهر الاقتصاد الغربى. لهذا نرى انتشار اقتناء الأثرياء للفيلات والقصور التى يبلغ ثمنها عشرات الملايين، ولليخوت الخاصة التى تخصص لها مراسٍ عديدة فى معظم القرى السياحية الكبيرة، والسيارات الفاخرة التى يفوق مستوى انتشارها فى مصر انتشارها فى العديد من دول الغرب.
ومع هذا، فمما له دلالة واضحة، أنه فى ظل هذه الأوضاع، لا يجد سدنة النظام حرجاً من زيادة معاشات ومرتبات الوزراء والمسؤلين، فيما يرفضون زيادة معاشات الفقراء بنسبة طفيفة لمعادلة جانب من التآكل المستمر لقدراتهم على مواجهة غول الأسعار، فى حين تعصف المشكلات بالملايين من الشباب، وتزداد الجرائم الاجتماعية التى لم يكن للمجتمع عهد بها، وتتعدد مظاهرها، وتتخذ أبعاداً غير مسبوقة، بسبب الفقر، والانحطاط الاجتماعى، واليأس من المستقبل، وضياع الأمل، وانقطاع التواصل، وغياب المشاركة، والعجز عن التواؤم مع طوفان التحولات العشوائية المتسارع بلا منطق أو غاية إلا مصلحة القلّة الغنية، وتداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة، دون محاولة حقيقية لدراستها وتقديم حلول ناجعة لها!
وكما هو متوقع، فقد كانت الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل، هى أكثر عناصر المجتمع تضرراً من الآثار السلبية لسياسات الحكم الاقتصادية، فقد ازدادت هذه الطبقات فقراً على فقر بعد تقليص الدعم العينى، والرفع المتتالي لأسعار البنزين والكهرباء والمياه والغاز والبوتاجاز ... إلخ، ثم أتى "تعويم الجنيه" لكى يوجه ضربةً قاضيةً إلى آخر ماتبقى من قدرة لديها، وألقى بملايين جديدة إلى مستنقع الأفقار والمعاناة.
فحسب آخر الإحصاءات الرسمية لـ "الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء"، عام 2016، فقد بلغت مُعدلات الفقر إلى 27.8% من إجمالى عدد السُكان فى 2015، مقارنةً بـ 16.7% فى العام 2000، ما يعني؛ أن 25 مليون مصرى كانوا يعيشون تحت خط الفقر، فى تلك السنة، حيث لم يتجاوز دخل الفرد فى هذه الشريحة ماقيمته 482 جنيها شهرياً.
وتحت هذا المستوى المتدنى، يقبع، كما تُشير الإحصاءات، نحو 5.3% من السكان تحت خط الفقر المُدقع، مقارنةً بـ 4.4% فى عام 2012، بما يُقارب 4.7 مليون مواطن مصري، متوسط دخل الفرد فى هذه الفئة نحو 322 جنيها شهرياً، وربما يكون الواقع أسوأ حتى من هذه الحقائق المروعة! ويُقَدِّرُ بعض الاقتصاديين المستقلين أن نسبة الفقر فى مصر قد تضاعفت بعد تطبيق سياسات الاتفاق مع صندوق الدولى أواخر عام 2016.
وتُقدم الحكومة على تنفيذ بعض الإجراءات الشكلية، للتخفيف قليلاً من وطأة الضغوط الاقتصادية وللتحكم فى الأزمات الاجتماعية خشية انفجارها، وفق ما تسميه مؤسسات التمويل الدولية بسياسات "شبكات الأمان الاجتماعى"، عبر برنامج مثل "تكافل وكرامة" (بلغ الإنفاق من خلاله، حسب بيانات كتاب "مصر: التحدى والإنجاز"، الصادر فى سبتمبر 2018 عن مجلس الوزراء، مبلغ 18.4 مليار جنيه لعدد 2.3 مليون أسرة)، وبرنامج قرض "مستورة" لما يقرب من ست آلاف حالة (بإجمالى 86.6 مليون جنيه، نفس المصدر)، وهى إجراءات لاتعدو أن تكون مجرد علاج جزئى محدود الأثر، يُعالج جانباً من مظاهر المشكلة، ويتجاهل السبب الرئيسى، وهو غياب التنمية الإنتاجية، إضافةً إلى غياب العدالة فى توزيع الثروة الوطنية، وفى تحمل الأعباء العاصفة لموجات التقشف، والعجز عن التحكم فى النتائج المريعة للتضخم والارتفاع الجنونى، غير المُبرر، والمستمر فى الأسعار.
وعلى الرغم من أن متوسط دخل الفرد السنوي في مصر، قد ارتفع من 1300 دولار عام 2000 إلى 3400 دولار في 2015، إلا أن معدل الفقر ارتفع من 16.7% إلى 27.8% خلال نفس الفترة، بسبب غياب السياسات الضريبية والتوزيعية العادلة، وأيضاً لأن معدل النمو لم يكن مدفوعا بقطاعات إنتاجية وتصديرية قادرة على فرص عمل جديدة حقيقية، (معدل البطالة خلال عام 2016 بلغ 12.5% مقابل 12.8% خلال عام 2015)، حسب الإحصاءات الرسمية وحسب تعريفها لمفهوم البطالة، ولاشك أن وضع هذه الشرائح الفقيرة قد ازدادت بؤساً على بؤس فى أعقاب تعويم الجنيه، في نوفمبر 2016.
وإضافةً إلى ماتقدم، فقد تصاعدت وتيرة وثقل سياسات الاعتصار والإفقار، التى استمرت تترى، من خلال سلسلة متتابعة من إجراءات رفع أسعار كل أنواع الخدمات وجميع أشكال الطاقة، والتنصُّل من الدور الاجتماعى للدولة بتخفيض كافة مصارف الإنفاق الاجتماعى، وتقليص الأنشطة الإنتاجية فى المجالين: الزراعى والصناعى، والتركيز على مصادر الدخل ذات الطابع الريعى كما أوضحنا مثل: إيرادات القناة (بلغت فى السنة المالية 2017 - 2018 5.585 مليار دولار، حسب بيانات موقع هيئة قناة السويس)، وتحويلات المصريين العاملين فى الخارج (نحو 26.5 مليار دولار خلال العام المالى 2017/ 2018، حسب تقديرات البنك المركزى)، و هى التحويلات الناجمة عن فتح المجال لتصدير قوة العمل بعد عجز التنمية عن توفير فرص العمل لها، واستنزاف أفضل القوى العاملة وأعلاها خبرة وأكثرها كفاءة سواءً من العمالة الماهرة أو من المهنيين من مهندسين وأطباء وغيرهم، وكذلك صادرات السلع البترولية، ومضاربات البورصة، ومردود السياحة، وهى كلها أنشطة هشة، شديدة التأثر بالمخاطر والتقلبات العامة والدولية، على نحو الضرر الجسيم الذى لحق بمجال السياحة، بعد حادث سقوط طائرة "إيرباص" الروسية، فى أكتوبر2015.
البطالة وقوة العمل:
حسب الأرقام الرسمية لـ" الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء"، (15/8/2017)، أفادت نتـائج بحث القوى العاملة للربع الثانى (إبريل - يونيه) 2017، أن مُعَدّل البطالة بلغ 11.98٪ من إجمالي قــوة العمـل، (عاملون ومتعطلون) البالغة نحو 29 مليون فرد. بينما كان 12.0% فى الربع الأول من عام 2017، وبلغ 12.5% فى الربع المماثل من العام السابق.
وتعكس نتائج الأرقام الرسمية، بهذا الصدد، وضع المرأة فى المجتمع المصرى، والذى لازال متراجعاً، حيث يُقَدَّر معدل البطالة بين الذكور بنحو ثلث مثيله بالنسبة للإناث (8.22% مقابل 24.68%)، ومما له دلالة أن النسبة العظمى من المتعطلين، (91.9%)، هم من حملة الشهادات المتوسطة وفوق المتوسطة، والجامعية وما فوقها (40%)! ونضيف تحفظا هنا على أرقام الحكومة التى يبدو أنها تقلل كثيرا من القيّم الحقيقية، على النحو الذى انتقدها منهجياً عدد من أبرز الخبراء الاقتصاديين المستقلين.
ويضاف إلى ماتقدم، ضعف مستوى تأهيل العمالة المصرية، على كل مستوياتها، وعجزها، فى العديد من القطاعات، رغم الإمكانات الكامنة الكبيرة، عن منافسة العمالة المُنَظَّمة، والمؤهلة، والمتقدمة من الدول الأخرى، ويؤكد ذلك المكانة المتدنية للغاية فى مؤشر التنافسية العالمية الخاص بكفاءة سوق العمل (134 من 137)!

ورغم أن البيانات الرسمية للجهاز تُحدد أن نسبة المتعـطلين فى مصر، بلغت عام 2017 مانسبته 11.98%، (3.496 مليون متعطل)، إلا أن مؤشرات موضوعية عديدة، ومنها الآليات المُستخدمة لتحديد أعداد العاملين، أو غير المتعطلين، ترفع من النسبة فى الواقع، وحتى فى ظل هذه الأرقام، تبدو نسبة البطالة كبيرة، وذات تأثيرات سلبية شديدة، خاصةً وأن الأغلبية العظمى من العاطلين عن العمل، هم من الأجيال الشابّة، كما أن نسبة كبيرة من الأعمال المُتعاطاه هى أعمال مؤقتة واستثنائية، وبلا أية ضمانات سواء ضد الطرد والتسريح الفجائيين، أو للحفاظ على حقوق العاملين وضمانات عملهم.
والأهم أن أعداداً كبيرة من العاملين، الذين استُنقذوا من شبح البطالة، يعملون فى مشاريع إنشائية تابعة للدولة، (طرق - كبارى - أنفاق – المدن والعاصمة الجديدة ... إلخ)، أو للقطاع الخاص (كمبواندات – مدن سياحية – مساكن ومُجمعات ترفيهية ..إلخ)، وهى فى أغلبها أعمال غير دائمة، تنتهى بانتهاء المشروع، مايعنى تعرضهم لإمكانية العودة إلى جيش البطالة حال إنجاز هذه الأنشطة العقارية والمدنية.
السياسات المالية والضريبية وتدليل الأغنياء:
ينطلق حزبنا من الالتزام بالمادة 27 من الدستور التى تنص على أن: النظام الاقتصادى "يلتزم إجتماعياً بضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية وتقليل الفوارق بين الدخول والالتزام بحد أدنى للأجور والمعاشات يضمن الحياة الكريمة، وبحد أقصى فى أجهزة الدولة لكل من يعمل بأجر، وفقاً للقانون".
وعبر الممارسات اليومية تُبدى الحكومة عجزها عن حل المشكلات الرئيسية التى أثقلت كاهل المجتمع والمواطن، بل زادتها تعقيداً، فى ظل الانتهاج المُعلن للسياسات الاقتصادية ذات الطابع "النيو ليبرالى" المتوحش، الذى يأبى التدخل، بأى صورة من الصور، للسيطرة على غلواء الاستغلال الرأسمالى العنيف لملايين المواطنين، من الطبقات محدودة الدخل والطبقة الوسطى، أو لمواجهة تغول وفوضى "السوق"، والارتفاعات المستمرة لأسعار السلع الأساسية، ولعل غياب تحديد حد أدنى للأجور فى القطاع الخاص من أوضح الأمثلة!
ووجه آخر من أوجه انحياز السلطة، الاجتماعى، السافر، للطبقات الغنية فى المجتمع، يتبدى فى استمرارها فى فرض سياسات "الجباية" التى لا تألو جهداً فى سحق المواطن، وبالذات عبر أشكال عشوائية للضرائب، التى تترفق بالطبقة الغنية أيما رفق، وتحرص على تجنب تحميلها ولو بالنذر اليسير من كلفة "الإصلاح" الاقتصادى المزعوم، مثلما حدث رفضها المبدئى (!)، لمقترح فرض ضرائب تصاعدية على الدخل كما يحدث فى أعتى النظم الرأسمالية، والتى قد تصل إلى 60% وأكثر، ، والإعفاءات الضريبية بنسبة 50%، التى تُقّدم للمستثمرين فى المجتمعات الصناعيّة الجديدة وفقاً لقانون الاستثمار رقم (72) لسنة 2017، وكذلك إهدار ثروة البلاد العقارية بالسماح للأجانب بتملك الأرض، واستعادة نصف مادفعوه من ثمنها، وتقاعسها عن استيفاء حق المجتمع عبر ضريبة على أرباح البورصة لا تتجاوز 10% من مئات المليارات المنزوحة من اللحم الحى للشعب المصرى، كل عام، والتى ينوء تحت ثقلها المواطن العادى بالأساس، (إجمالى الإيرادات الضريبية المستهدفة (فى موازنة 2018/2019)، تُقدّر بـ 770.280 مليار جنيه، مقابل 624.198 مليار متوقعة فى موازنة 2017-2018، وإجمالى ضريبة القيمة المضافة (فى موازنة 2018/2019) تبلغ 320.148 مليار جنيه، مقابل 255.039 مليار متوقعة فى موازنة 2017-2018)!
إن السياسات الضريبية تلعب دوراً هاماً فى إعادة توزيع الدخل لصالح الأغنياء وعلى حساب الفقراء ومحدودى الدخل، على عكس المتوقع، والحادث فى الدول الأخرى. ولنا أن نذكر أن أعلى شريحة للضريبة الموحدة على الأغنياء بلغت 38% على الشركات حتى عام 2005، و42% على الأفراد، وهذا ليس بمبالغة بالنسبة لمختلف دول العالم حيث تبلغ 40% فى كل من انجلترا وفرنسا وألمانيا، و37% فى أمريكا كضريبة فيدرالية يضاف إليها بين 7 و8% ضريبة ولايات، أى حوالى 45%، بينما تصل فى الدول الإسكندينافية إلى ما يفوق 50%. كان قرار الطبقة الحاكمة أيام "يوسف بطرس غالى" تخفيض الضريبة على الأغنياء إلى النصف، وتخفيض الشريحة القصوى إلى 20%، ولم تزد بعد الثورة إلا إلى 22.5% حالياً. بينما تتفاقم الضرائب غير المباشرة التى يقع عبؤها على الفقراء مثل ضريبة المبيعات التى وصلت إلى 14% حالياً، غير الضرائب على البترول ومشتقاته، وعلى الكهرباء والمياه التى تجاوزت أسعارها كل منطق، وهو مادفع لانتشار حركات للامتناع عن دفع فواتير المياه والكهرباء فى بعض المناطق السكنية! ويتم توجيه حصيلة الضرائب المُحصلة بما يصب فى صالح الأغنياء: الإسكان الفاخر، وطرق السيارات إلى المناطق السياحية، فيما يُضن بها على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، التى يدور الإنفاق عليها حول نصف الحد الأدنى الذى قرره الدستور (رُبع النسب العالمية!) مسبباً تدهور الخدمات الشعبية، والمزيد من إفقار الفقراء.

استفحال الفساد:
ومن جهة أخرى، فحسب تقرير"مؤسسة الفساد والشفافية"، تراجع مركز مصر فى عام 2018، من المركز 108 إلى المركز 117 من ضمن 180 دولة، بمعدل شفافية قدرة 32%.
أصبح معلوماً بالضرورة، أن الفساد البنيوى، "الكبير"، (وزراء، ومحافظين، ومسؤلين كبار، سابقين وحاليين)، و"الصغير" (قطاع ملحوظ من موظفى الجهاز البيروقراطى المترهل)، ينخر فى أحشاء جهاز الدولة، ويُقوض استقرار المجتمع، ويستنزف جانباً هائلاً من قدراتهما، ويبدد جهوداً ضخمة تذهب أدراج الرياح، بلا طائل، خاصةً مع التعديل التشريعى الذى صدر بالقرار الجمهورى رقم 16 لسنة 2015، مُقنناً للتصالح فى قضايا الفساد. ورغم كل العمليات ذات الطابع الدعائى، التى يجرى فيها توجيه ضربة لبؤرة فساد هنا أو هناك، من حين لآخر، ورغم إعلان الحُكم، بين الحين والآخر، عن ضبط مسؤول كبير هنا وآخر هناك، للإيحاء بأنها لا تتردد فى مواجهة هذه الظاهرة المستفحلة، فهى تدور حول المشكلة، ولم تمس العصب الحى لها، الذى يرتع آمناً، لأنه يعرف محدودية وشكلانية مايُزعم أنه "حرب دائمة ضد الفساد"، وتوقفه عند مطاردة بعض الفاسدين، دون توفر إرادة القضاء على ظاهرة الفساد ذاتها! قد رأينا، بالذات منذ إنشاء لجنة السياسات وحكومتها، حكومة رجال الأعمال برئاسة "أحمد نظيف"، زواج الاستبداد والفساد، وزواج رأس المال بالسلطة السياسية، وتستُّر الكثير من المسئولين على الفضائح السياسية، رغم تقديم بعض أكباش الفداء المحدودة، بين الحين والحين، فى محاولة لتجميل الوجه، والتظاهر بمحاربة الفساد، فى استثناءات لا تفعل شيئاً سوى أن تؤكد قاعدة وصول الفساد إلى قمم الجهاز الإدارى للدولة.
تفاقم الدين العام
ويضاف إلى خطورة ماتقدم، أن السنوات الأخيرة شهدت توسعاً غير مسبوق فى الاقتراض المحلى والخارجى، لتعويض عجز الموازنة العامة للدولة، ويشير مؤشر الدين العام المصري إلى أنه تضاعف 5 مرات في آخر 5 أعوام، وحسب الإحصاءات الرسمية فقد بلغ الدين العام المحلى 3.695 مليار جنيه، وبما يمثل نحو 108% من الناتج المحلى الإجمالى، الذى بلغ نحو 3.5 تريليون جنيه، خلال العام المالى 2017 – 2018.
وعلى صعيد آخر، فإن إجمالى الدين الخارجى لمصر، بلغ، فى نهاية شهر يونيو الماضى، نحو 92 مليار دولار، حسب بيانات "البنك المركزى المصرى"، (المصرى اليوم، 26 أكتوبر 2018)، وتتكلف الدولة فوائد باهظة لقاء خدمة هذا الدين المتزايد باضطراد، وقد ارتفعت هذه الفوائد 100% خلال السنوات الثلاث الأخيرة وحسب، وتوقّع مشروع الموازنة العامة للدولة، للعام المالى 2018 – 2019 أن ترتفع فوائد الدين العام الخارجى، خلال العام المالى القادم، بنسبة 15.4%، لتصل إلى 31.4 مليار جنيه، مقابل 27.2 مليار جنيه خلال العام المالى الحالى، وقَدَّرَ البيان المالى التمهيدى لمشروع الموازنة العامة للدولة، للعام المالى 2018/2019، أن تؤدى أى زيادة فى أسعار الفائدة خلال العام المالى القادم بنسبة 1% إلى ارتفاع فوائد الاقتراض بما يتراوح بين 4 إلى 5 مليارات جنيه، وحذَّرَ البيان من أن حتى هذا المنفذ لتمويل العجز فى موازنة الدولة، على خطورته وارتفاع كلفته، ربما لا يكون مُتاحاً، بسبب "السياسة النقدية التقشفية للإدارة الأمريكية، التى قد تؤدى إلى تضييق أوضاع التمويل الخارجى، فى الوقت الذى تتجه فيه مصر لإصدار سندات بالعملة الأجنبية للوفاء باحتياجات تمويل العجز فى الموازنة العامة ولتنويع مصادر التمويل، مما يمثل خطر ارتفاع تكلفة الاقتراض عن المتوقع فى موازنة العام المالى القادم".
وفى كل الحالات فإن إجمالى الفوائد المتوقع سدادها، خلال العام المالى القادم، ستصل إلى نحو 541.3 مليار جنيه، مقابل 437.9 مليار جنيه متوقعة بنهاية العام المالى الحالى، بزيادة قدرها 23.77%.
ويبدو الوضع وكأن الاقتصاد المصرى قد دخل فى دائرةٍ مغلقةٍ: "عجزٌ، فاقتراض من أجل تغطيته، فزيادة لفائدة الدين، فمزيد من الضغط على النفقات، ثم مزيدٌ من العجز، فمزيد من الاقراض"، .. وهلمجرّأ. والمَخرج الوحيد الذى يطرحه "صندوق النقد الدولى" هو ما مضمونه مبادلة الديون ببيع الأصول الإنتاجية والخدمية، الأمر الذى قد يهدد بدفع اقتصاد الدولة للإفلاس، على نحو ماحدث فى دول عديدة، كاليونان، مُؤخراً.
وتستهدف الدولة، فى محاولتها لخفض عجز الموازنة العامة للدولة، بنسب وحدود سنوية، على زيادة موارد الدولة، وكفاءة تحصيل مستحقاتها من الضرائب والجمارك والرسوم المقررة، ومكافحة التهرب الضريبى والجمركى، وطرح الشركات فى البورصة، ورفع الناتج المحلى الإجمالى، لخفض نسبة الدين قياساً له، ويُلاحظ أن كل هذه الإجراءات لا تخرج عن المزيدٍ من إجراءات "الخصخصة" و"الجباية"، وبزيادة الضغط على المواطنين، دون التطرق إلى انتهاج سُبل أكثر إيجابية وفعاليّة بديلة، كالاجتهاد من أجل زيادة حجم الإنتاج، وإعادة تشغيل المصانع المُعطّلة، وضغط النفقات الباهظة لجهاز الحُكم، والحد من استيراد كل مايمكن تصنيعه فى بلادنا، وغيرها من الوسائل.
وهم التعويل على الاستثمارات الأجنبية
ومع أن الحكومة تُعول على جذب الاستثمارات من الخارج، التى قدمت لها، كل أشكال التنازلات والمغريات، دون جدوى حتى الآن، لتفعيل سياساتها الاقتصادية، والخروج من النفق، فالمؤكد أن استفحال أوضاع الفساد، وبيرقراطية الجهاز التنفيذى، وتضارب القوانين، إلى جانب أسباب أخرى عديدة، تعوق خلق بيئة مشجعة لقدوم أى استثمارات ذات بال لمصر، ويكفى مقارنة حجم الاستثمارات الأجنبية للعام المالى 2917 – 2018، (والبالغ 7.5 مليار دولار لاغير، رغم الخضوع الكامل لشروط الرأسمال الأجنبى، منذ بداية سياسة "الانفتاح الاقتصادى، عام 1974، وحتى الآن)، وبين أرباح أى شركة عادية فى أمريكا أو أوروبا أو الصين، لكى نعرف مسؤلية السياسات الاقتصادية العقيمة، وفقر الخيال، وتسلط البيروقراطيةن وغياب القدرة، عن تبديد كل كل هذه السنوات، وتكبيد المواطنين كل هذه المعاناة، فى انتظار رؤوس أموال وهميّة لن تأتى، لكى تساعد السلطة على تحسين الأوضاع، وتحقيق الوعود، ولو بقدر ضئيل ملموس!
لقد أتت الاستثمارات من الاقتصاد الرأسمالى العالمى وهى تعرف جيداً ما تريده من مصر، مثل دول العالم الأخرى. إنها بالطبع لا تريد لتلك الدول التابعة أن تحقق اكتفاءها الذاتى الغذائى والحصول على حريتها فى إنتاج لقمة عيشها، لسبب بسيط وهو وجود فائض فى إنتاج الحبوب فى السوق الرأسمالى العالمى يحتاج للتصريف! كذلك الإنتاج الصناعى الذى بلغ حد التخمة فى السوق الرأسمالى العالمى، ويحتاج إلى التصريف فى أسواقنا. أما رؤوس الأموال التى قَدِمت فمنها نوع من رؤوس الأموال الساخنة التى تأتى لتضارب فى البورصة وتهرب عند أى بوادر أزمة اقتصادية، دون أن تتحمل أية التزامات أو ضرائب، لا هى ولا رؤوس الأموال المحلية، على أرباحها الهائلة من عمليات البورصة. وقد رأينا كيف أن محاولة الحكومة المتواضعة لفرض ضريبة بالغة التدنى على أرباح وتحويلات البورصة، قد ووجهت بتحدٍ شرس من رجال الأعمال، سُرعان ما أجبرها على سحب قرارها، والتراجع المهين عن تنفيذه!
والنوع الثانى من رؤوس الأموال يأتى للاستثمار، سواء بشكل مستقل أو بمشاركة المستثمرين المصريين، فى نمط الصناعة المتروك للدول النامية كدولنا، مثل الصناعات الملوثة للبيئة. وقد رأينا شراء احتكارات الأسمنت العالمية لمعظم شركات الأسمنت المصرية وتصدير إنتاجها للدول المتقدمة التى تحظر فيها مثل تلك الصناعات، كما وتُقدم على بيعه فى السوق المحلية بالسعر العالمى، مما يقع عبؤه على كاهل المستخدم المصرى، برفع الأسعار فى الوقت الذى تتدنى فيه الدخول كثيراً عن الدخول العالمية، الأمر الذى يضاعف من نتائج سياسات الإفقار.
وفى المقابل، فإن قلة محدودة من الاستثمارات الأجنبية هى التى تأتى ببعض الفائدة لنا وللغرب معاً، مثل الاستثمار فى البحث عن البترول والمعادن، وبعض الصناعات القليلة المتقدمة كما رأينا فى الاستثمار الصينى المصرى المشترك مثلا فى تصنيع الألياف الضوئية (Fiber-Optic) فى مصر، أو فى استغلال الرمال السوداء المصرية. وبالطبع فإنَّ السوق المفتوحة بدون قيود، لا تحاول تعظيم تلك الاستفادة بربط السماح للاستثمارات الأجنبية بنقل التكنولوجيا لمصر، وقصرها على مجالات يفتقدها الاقتصاد الوطنى سواء لضخامة الاستثمارات المطلوبة لها، أولاحتياجاتها لتكنولوجيا متقدمة لا نملكها، مثل التنقيب عن الغاز الطبيعى تحت مياه البحر.
إن إنضمامنا لـ "منظمة التجارة العالمية"، فرض علينا فرضاً الانصياع لمفاهيم وشروط والتزامات وقواعد "حرية التجارة والاستثمار" فى كل السلع والخدمات، وهو ما كانت محصلته تعظيم التخلف، ونهب الفائض المصرى لصالح الخارج ولشركائه المحليين، بدلا من إحداث تنمية حقيقية، تعود بالنفع على الوطن والمواطنين!
أزمة الطبقة الوسطى:
تمثل الطبقة الوسطى " رُمانة الميزان"، فى المجتمع المنقسم إلى طبقات اجتماعية متمايزة، ويعكس التحسن فى أوضاع هذه الطبقة، تحسن أحوال سائر طبقات المجتمع، كما يعكس تدهور أوضاعها، أزمة المجتمع ككل.
ورغم إشكاليات تحديد مكونات ومقومات هذه الطبقة، التى تقع بين الطبقتين: العليا والدنيا، وتتكون من تَجَمُّع اجتماعى واقتصادى، ومن ثم سياسى وثقافى، عريض، فهى، بشكلٍ عام، تضم شريحة من مُلاك الأراضى الزراعية الذين يباشرون استغلالها (3 – 5 أفدنة)، وأصحاب المشروعات الرأسمالية الريفية الصغيرة الذين يُستغَلون (أصحاب مزارع الدواجن، ومربى المواشى، وتجار الريف، وأصحاب سيارات نقل الإنتاج الزراعى، ومؤجرى الآلات الزراعية...إلخ)، والحرفيين، وتجار التجزئة، ومتوسطى وصغار المقاولين، ... إلخ، إلا أن أهميتها الاستثنائية، فى بلد كمصر، تراكت بفعل نفوذ وتأثير الشرائح والفئات الأكثر تعلماً وهيمنة ثقافية: أساتذة الجامعات، والباحثين العلميين، والقضاة، والصحفيين، والفنانين، والعاملين بالإعلام والإنتاج الفكرى، وكذلك متوسطى الموظفين الحكوميين، بمختلف مشاربهم، ومتوسطى وصغار أصحاب المهن الحرة: الأطباء، والمهندسين، والقانونيين، ..إلخ، وهى الفئات الاجتماعية التى خرج منها الزعماء والقادة والمفكرين والمبدعين، الذين بسطوا هيمنهم على إدارة البلاد طوال القرن الماضى.
وفى مصر، تعرضت مكانة الطبقة الوسطى إلى هِزة شاملة، وتراجع متواصل، منذ انتهاج سياسة "الانفتاح الاقتصادى" عام 1974، وهذا التراجع لم يكن خصيصة مميزة لهذه الطبقة وحدها، وإنما عَبَّرَ عن أزمة بنيوية فى هيكل المجتمع والطبقة الرأسمالية الحاكمة، والنظام المهيمن.
وإذا كانت أقسام محدودة، من الشريحة العليا من هذه الطبقة، قد استطاعت الالتحاق بالطبقة الرأسمالية العليا، فإن الشريحتين الأخريتين: الوسطى والدنيا، قد شهدتا تردٍ حادٍ وغير مسبوق، فى الوضع والإمكانات والمكانة، بفعل التطورات الاقتصادية المتتالية، وبالذات تلك الإجراءات التى صاحبت تنفيذ شروط "البنك الدولى"، وأبرزها تخفيض قيمة الجنيه المصرى، الأمر الذى انعكس سلبياً، وبشدّة، على أقسام هذه الطبقة ذات المرتبات والدخول الثابتة، كما أثر تأثيراً كبيراً عليها امتناع الجهاز الحكومى عن توظيف كوادر جديدة، واتجاهه لتيسير سبل تقاعد قطاع متزايد من كوادره البيروقراطية.
وحسب تقدريرات بنك "كريدى سويس"، المختص بتقدير الثروات، شهدت مصر أكبر تراجع للطبقة الوسطى على مستوى العالم، منذ بداية الألفية وحتى عام 2017، ويبدو أنها معرضة لمزيد من التدمير، جراء السياسات التقشفية التى تبنتها الحكومة فى إطار برنامج "الإصلاح الاقتصادى"، بعد أن تقلصت نسبة الطبقة الوسطى فى مصر، لأكثر من 48%، لينخفض عددها من 5.7 مليون شخص بالغ فى عام 2000، إلى 2.9 مليون فى 2015، يمثلون الآن 5% فقط من إجمالى البالغين.
وبالتأكيد أدى تعويم الجنيه وخطة الإصلاح الاقتصادى المتفق عليها، إلى المزيد من تآكل تلك الطبقة، وتنذر بالمزيد.
ولأهمية هذه الطبقة، ودورها المؤثر فى صياغة أفكار وتوجهات المجتمع، فإن استمرار تدهور أوضاعها، على النحو الذى نعاينه وأشرنا إليه، يُهدد بمزيد من تدهور أحوال المجتمع كله، ومن تراجع قدراته الفكرية والإبداعية التى شكّلت الثقافة المصرية خلال القرن المنصرم، وكانت عماد قواه الإبداعية الناعمة.
أزمة المياه ومصيدة "الفقر المائى"
قُدِّرت حصة المواطن المصرى من المياه، (يونيو 2018)، حسب بيانات المسئولين الحكوميين، بأقل من 600 متر مكعب سنوياً، والمفترض إلا تقل عن 1000 متر، وتبلغ حاجة مصر إلى 22 مليون فدان، من الأرض الزراعية، لتلبية مطالب النمو السكانى الكبير، يحتاج ريها لحوالى 130 مليار متر مكعب من المياه، طبقاً لعدد السكّان، الذين تجاوز عددهم مائة مليون نفس (أى أن الحاجة الضرورية تصل إلى أكثر من ضعف حصة مصر من مياه النيل، والمُقَدَّرة بـ 55 مليار متر مكعب).
وكان نصيب المواطن المصرى من المياه، فى عام 1959، يبلغ ألفى متراً مكعباً، انخفض فى عام 1985 إلى 1138 متراً مكعباً، واستمر الانخفاض حتى بلغ 555 متراً فى بدايات عام 2018، أى أن مصر"دخلت بعمق فى مرحلة الفقر المائى"، وهذا النصيب مستمرٌ فى النقصان، بسبب مُعدل النمو السكانى الذى ارتفع من 2.04% فى الفترة (1996- 2006)، إلى 2.56% خلال الفترة (2006- 2017)، ومن هنا يبدو التحدى الكبير الذى يمثله "سد النهضة" لمستقبل مصر وشعبها.
وقد حَذَّرَ تقرير أخير لمنظمتى "الأغذية والزراعة"، (الفاو)، و"التعاون الاقتصادى والتنمية"، من أن"المياه والنزاعات تشكلان التهديد الأكبر الذى يؤثر على مستقبل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، ونبّه التقرير إلى مخاطر الآثار المتوقعة "بسبب تغيرات المناخ، وكذا الاستخدام المفرط للمياه السطحية والجوفية، متوقعاً أن تواصل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التى تُعتبر من أكبر مستوردى المواد الغذائية فى العالم، اعتمادها على الاستيراد، مع تسجيل ارتفاع كبير لهذه الواردات خلال السنوات المقبلة"!.
الحل البديل الذى يقدمة حزبنا للأزمة الاقتصادية.
ورغم اعترافنا بأن الاقتصاد المصرى يمر بأزمة شديدة، إلا أننا نطرح برنامجاً بديلاً فى مواجهتها يقوم على المحاور التالية:
• انتهاج سياسات تنموية تكفل، من خلال عملية تاريخية، نفى واقع التخلف، بما يعنيه من تشويه للهيكل الإنتاجى ونزح الفائض للخارج، وتوجيه الإنتاج إلى سد الاحتياجات المطلوبة منه من قبل السوق الرأسمالية العالمية. والتزام سياسة تنموية تقوم على التوجّه نحو الداخل، نحو إشباع الاحتياجات الأساسية للجماهير، وتكامل الهيكل الإنتاجى واستقلاله.
• أولوية البدء بإصلاح السياسات الإنتاجية، والتركيز على الإنتاج الصناعى والزراعى بدلاً من التركيز على السياسات النقديّة والماليّة، لفشل تلك السياسات فى معالجة أسباب المشكلة. يجب أن تتوجه السياسات الزراعية تدريجيا لتحقيق الاكتفاء الذاتى الغذائى كما فعلت الكثير من الدول النامية وليس فقط الدول المتقدمة. كما يجب تطوير الصناعة المحليّة الخفيفة والثقيلة وتطوير التكنولوجيا.
• يقتضى ذلك التركيز على معاظمة دور الدولة فى التصنيع، فمعظم التجارب التنموية بما فيها تجربتنا فى مصر استندت إلى قطاع عام قوى قادر على النهوض بالصناعة، وبالذات الصناعة الثقيلة والصناعات المتقدمة تكنولوجيا.
• التركيز على التنمية البشرية بالذات، بالاهتمام الفائق بالتعليم والصحة، والالتزام بالنسب الدستورية للإنفاق عليهما، والاهتمام بتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن التى أقرّها الدستور، مثل حق الغذاء والسكن وغيرها.
• ولابد من دراسة وتجاوز الخبرة السلبية للسياسات المدمرة لـ "الانفتاح الاقتصادى" التى اتبعتها مصر منذ عام 1974، إذ إن سياسة فتح الأسواق بلا ضابط أمام السلع، لاستيراد كل شيئ من الإبرة للسيارة، قد قوَّضَ جوانب كثيرة من منظومة الإنتاج المحلى، وأعاد هيكلة المتبقى منها لكى يتوافق مع احتياجات السوق العالميّة فى القطاعات الملوِثة للبيئة (حديد التسليح، الأسمنت، السيراميك، الأسمدة...) ورفع الأسعار بشدة.
• كما أن سياسات تحويل كل الأسعار فى الداخل إلى الأسعار العالمية، فى الوقت الذى لا تمثل فيه الأجور المحلية إلا نسبة ضئيلة من الأجور العالمية، قد قادت إلى تدهور مستوى معيشة الشعب وتضاعف الفقر، وتزايد الاستقطاب المجتمعى بزيادة الأغنياء غِنىً وزيادة الفقراء فقراً.
• كما أن تصفية الدور الاجتماعى للدولة، و"تحرير" الاستثمار المصرى والعربى والأجنبى، بزعم أنه القاطرة التى ستقود التنمية قد أثبت فشله، كما ثبت فساد تغليب الطابع العقارى والريعى المُضارب أو الاستهلاكى السفيه على الاستثمارات القائمة، فهو الذى أدى إلى تراجع مؤشرات التنمية عشرات الخطوات إلى الخلف
• فى مجال السياسات النقديّة لابد من عودة الجنيه المصرى لكى يكون هو السيد، ووسيلة المعاملات الوحيدة فى السوق الداخلى، بما يعنيه هذا من الرقابة على الصرف ومركزة موارد العملة الأجنبية وتحديد أولويات إنفاقها. يتكامل معها بالطبع الرقابة على التجارة الخارجية، وتحديد أولويات الواردات، بحيث تكون الاحتياجات الإنتاجية والاحتياجات الاستهلاكية الأساسية للجماهير هى المحدد الرئيسى لنوعها وكمياتها، وليس حافز الربح المطلق لأى مستثمر.
• وفى السياسات المالية لابد من تحميل عبء الأزمة الاقتصادية على الطبقات القادرة وليس على الطبقات الفقيرة، وذلك عن طريق الضرائب التصاعدية، فالحد الأقصى للشرائح الضريبية فى مصر كان 38% على الشركات و42% على الأفراد حتى عام 2005 حينما خفضه يوسف بطرس غالى وسياسات لجنة السياسات إلى 20%. ولم يزد فى مرحلة الثورة إلا إلى 22.5% بينما يبلغ 40% فى كل من انجلترا وفرنسا وألمانيا، ويزيد فى الدول الاسكندينافية إلى نحو 60%. ومن المنطقى أن نرفع الصوت ُمطالبين بإعادة "الضريبة على الدخل"، إلى الحد الأقصى الذى كان موجوداً فى مصر حتى سنة 2005.
• كما نناضل من أجل هيكل أجور عادل لا يزيد فيه نسبة الحد الأدنى للأجور إلى الحد الأقصى عن 1 : 15، علما بأنه فى اليابان 1 : 9 وفى أمريكا 1 : 14. فى قانون الخدمة المدنية تبلغ النسبة بين الحد الأدنى للأقصى للأجور 1 : 50! بل وتوجد 11 فئة مستثناه.
وقد قدَّرت المحكمة، عام 2008، على أساس دراسة موثقة، أن 1200 جنيه، كحد أدنى للأجور، يلزم لتوفير الضرورات فى مستوى حياة فى الثمانينات! بينما قدَّرت "سكرتارية العمل والأجور" بـ "الاتحاد العام لعمال مصر"، بعد ذلك بعشر سنوات، عام 2018، أن الحد الأدنى الواجب توفره للأجور يجب أن يبلغ 3500 جنيه شهرياً.
• ويكفى فى هذا الصدد توضيح أن نسبة عوائد العمل فى مصر تساوى، فى مختلف تقديرات الخبراء، بين 20% و31% من إجمالى الدخل، فى حين تتراوح عوائد الملكية من أرباح وفوائد وريع بين 69% و80%. بينما كانت تلك النسبة فى الثمانينات فى مصر 49% لعوائد العمل مقابل 51% لعوائد الملكية! بينما تصل نسبة الأجور فى الدول المتقدمة إلى 60%. حدد قانون الخدمة الاجتماعية الحد الأدنى للأجور فى القطاع الحكومى فقط، والذى لا يعمل به سوى 21% من العاملين. بينما لا يوجد حتى الآن حد أدنى للأجور فى القطاع الخاص المنظم الذى يعمل به حوالى 32% من قوة العمل، ناهيك عن الوضع المذرى للعاملين فى القطاع الخاص غير المنظم، والذى يعمل به أغلبية العاملين (46% منهم). وفى وضع غير مسبوق فى تاريخ مصر، عام 2012، كان إجمالى بند الأجور فى الموازنة العامة للدولة 136 مليار جنية تقسم بين أجور منتسبى الإدارة العليا، والبالغين حوالى عشرين ألفاً من الأشخاص، يبلغ نصيبهم 54 مليار جنيه، بينما يبلغ أجور 5.9 مليون عامل فى الدولة 84 مليار جنيه! أى أن ثًلث فى المائة من العاملين فى الحكومة، يحصلون سنويا على نحو 40% من مخصصات الأجور، بينما يحصل أكثر من 99% من العاملين على 60% من مخصصات الأجور فى الموازنة العامة للدولة!
• ومن هذا المنطلق، فنحن نطالب بحق الشعب فى التعليم والعلاج، كخِدمات يتم تقديمها من حيث الأساس بالتكلفة من قِبل الحكومة والجهات الأهليّة غير الربحيّة، على أن يكون الالتجاء إلى الجهات الربحيّة أمراً اختيارياً لمن يرغب من المواطنين، إننا نرفض خصخصة الخدمات وتحويلها إلى سلع لا يملك الوصول لها القسم الأساسي من شعبنا، ونطالب بالالتزام بنسبة الإنفاق الدستورية على التعليم والصحة.
خاتمة واستنتاجات
من المنظور الاستراتيجى، فإن حلول معضلات النظام الرأسمالى التابع، المأزوم، لا يمكن أن تجد لها حلاً، إلا فى ظل مجتمع اشتراكى علمى، مستقل الإرادة، يسعى إلى تلبية الحاجات الأساسية للملايين الغفيرة من أبناء الشعب، بكافة طبقاته العاملة والبنَّاءة ، مجتمعٌ قائم على دعائم العلم والمعرفة، وعلى فتح آفاق الوعى على معطيات العقل المنفتح الخلاّق، رافض للطوبويات والخرافة، وقادرعلى تفعيل كل الطاقات الإيجابية للمجتمع، وإدراجها ضمن مشروع كبير، ومستدام، للبناء الاجتماعى والسياسى والثقافى المتناغم، وبالاعتماد على الطاقات الهائلة، الكامنة فى الشعوب، ومستفيداً من المنجز الحضارى الإنسانى، ومن كافة الخبرات المتراكمة لمصر وللدول الأخرى، الناجحة منها والفاشلة، ومن نتائج التطور التقنى العالمى الجديد، بمرونة، وبعيداً عن "الدوجما" والجمود، الذى أدى إلى انهيار بعض التجارب الكبيرة السابقة.
إن البديل الوحيد المتاح أمام شعبنا، والشعوب التى تعيش ظروفاً مشابهة، هو النضال المتواصل، والصعب، والصلب، من أجل مقاومة منظومة التبعية، والحد منها، وتطوير الانتاج الزراعى والصناعى من أجل إشباع متزايد لاحتياجات الجماهير، واعتبار الطاقات البشرية هى الاستثمار الحقيقى عن طريق التعليم، والصحة، والإنفاق السخى على العلم والتعليم، والتمكّن من تحصيل القدرات العلمية والتكنولوجية، اللازمة لتطوير استخدام مواردنا الهائلة، وتسخيرها بشكل متزايد لمصلحة جماهير شعبنا.
ويتضمن هذا بالحتم، نضالاً طويل النَفَس ضد فكر ومنهجية التبعية للغرب، وبالضرورة ضد كل الطبقات المتحالفة معه بالداخل، وهو شرطٌ لازم لتطوير حياة الشعب وتقدمه، ولصنع مقومات الاستقلال الذاتى الزراعى والصناعى، وامتلاك هيكل إنتاجى متكامل يضم الصناعات الثقيلة والخفيفة والتكنولوجيا العالية، ولتوفير مقومات تحرير شعبنا النهائى من كل أشكال النهب، سواء من الغرب، أو من كل تابعية وأصحاب المصلحة المشتركة معه بالداخل.
ويستلزم النجاح فى هذه المسيرة، النضال من أجل إعادة السيادة النقدية لعملتنا الوطنية، ورفض حيازة العملة الأجنبية خارج البنوك، وتحديد أولويات الاحتياجات الإنتاجية والضرورات الاستهلاكية لأغلبية الشعب، ووضع الحدود على نمط الاستهلاك الترفى المُسِف الذى يُقلِّدُ فيه أغنياء وطننا مسلكيات أغنى أغنياء العالم، على حساب إفقار شعبنا. وبالطبع يقتضى كل ذلك نضالاً لا يعرف الكلل من أجل توفير حياة ديمقراطية، لا تقتصر على مجرد الانتخابات البرلمانية، ولكنها تفتح أمام الجماهير أوسع أشكال حريات التعبير والتنظيم: حق الاجتماع، والتظاهر والإضراب السلميين كما ينص دستورنا، كما يفتح الباب أمام الحرية الحقيقية للمنظمات الحزبية والنقابية والجماهيرية من مختلف الأنواع، كأدوات لتحقيق تلك الأهداف.
إن هذا هو الطريق الذى يربط بين تكتيكاتنا للحد من التبعية للمراكز الإمبريالية العالميّة، ومن الاستغلال الداخلى والخارجى، بالاستناد إلى سياسات البناء بالاعتماد على الذات، وباعتباره السبيل الأوحد لتحقيق الهدف الاستراتيجى لحزبنا: بناء نظام اشتراكى عادل، وإقرار استراتيجية وطنية بديلة، ونظام للعدالة الاجتماعية، وديمقراطية شعبية أصيلة، تحقق مطالب شعبنا الجوهرية، وتتقدم به إلى مراقى الازدهار والتقدم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وفسر الماء بعد الجهد بالماء
فؤاد النمري ( 2019 / 4 / 3 - 16:24 )
ما هي التنمية ؟
التنمية هي ببساطة إدارة موارد الشعب
على مختلف الإشتراكيين في هذا الحزب أن يشكروا قيادة هذا الحزب على هذا التبسيط الذي لم يكن يتوقعه أي عضو في الحزب إذ كانزا يظنون أن التنمية هي عدم إدارة موارد الشعب

والشكر مضاعف لهذه القيادة العبقرية التي فضحت ترهات الماركسيين الذين يزعموم أن مخرك التنمية هو سوؤ إدارة موارد الشعب عن طريق تسعير الصراع الطبقي


2 - اشتراكية بدون اشتراكيين
عمرو إمام عمر ( 2019 / 4 / 4 - 11:57 )
فند الحزب الأزمة الاقتصادية و الضغوط الدولية للمضى فى طريق النيوليبرالية بشكل جيد يشكر عليه ، لكنه فى النهاية لم يطرح بدائل حقيقية ، ليس أكثر من جمل إنشائية عن ضرورة النصال ضد منظومة التبعية ، و هنا لا أختلاف ، و لكن فى المقابل ما هى رؤيتكم كحزب للتنمية تحت مظلة للعدالة الاجتماعية و هى اساس الفكر الإشتراكى ، ما هى رؤيتكم للتخلص من البرجوالزية المسيطرة على المنظومة الاقتصادية ، هل أنتم مع تأميم المراكز الأقتصادية الرئيسية أم لا ، القضية ليست مجانية تعليم أو تأمينات أجتماعية و صحية فقط بل هى أكثر عمقا من ذلك بكثير

ولكم التحية و التقدير

اخر الافلام

.. مصادر: مقتل مسؤول في منظومة الدفاع الجوي لحزب الله بغارة إسر


.. قبيل عيد الفصح.. إسرائيل بحالة تأهب قصوى على جميع الجبهات| #




.. مؤتمر صحفي لوزيري خارجية مصر وإيرلندا| #عاجل


.. محمود يزبك: نتنياهو يفهم بأن إنهاء الحرب بشروط حماس فشل شخصي




.. لقاء الأسير المحرر مفيد العباسي بطفله وعائلته ببلدة سلوان جن