الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدنية السومرية نظرة تاريخية في الأصالة والإبداع (٣)

وليد المسعودي

2019 / 4 / 5
الادب والفن


المدنية السومرية .. نظرة تاريخية في الاصالة والإبداع (3)

نظام الحكم

أما عن نظام الحكم فقد كان نظاما مرتبطا بالدين اشد الارتباط مع وجود مشاعر من الخوف والعنف تحيط الحاكم أو الملك ، وكان الأخير يعيش حالة من السرية والاختفاء في هيكله خوفا من الاعتداء عليه وقتله ، مع وجود المراقبة والمعاقبة المتلازمة لجميع من يحاول الاعتداء عليه ، فقصره منيع وطقوسه سريه بعيدة عن أنظار الناس وأعينهم .
يضاف إلى ذلك إن الملك دائما ما كان يهتم بمسالة الخلود أي تخليد ذكراه عن طريق صناعة التماثيل ، فمن اجلها يخوض الحروب ليستمد القوة من المغانم والثروات من الذهب والفضة ، حيث تدخل الأخيرة في صناعة التماثيل ، ومن اجلها قاد ملك أكد ( منشستوسو ) حربا لغزو بلاد عيلام الفارسية للاستيلاء على مناجم الفضة فيها . (32)
وفي الحروب هنالك الغالب والمغلوب ، حيث يلاقي الأخير سلسلة من المعاملة تبدأ بالعبودية عن طريق بيع الأسرى والذبح أيضا في ميدان القتال ، فضلا عن تقديم البعض منهم كقرابين إلى الآلهة المتعطشة للدماء .
وهكذا لم تكن بلاد سومر خالية من النزعات الانفصالية لدى مدنها ودويلاتها الصغيرة حيث وجود الصراع والتنافس الداخلي من اجل الحصول على السلطة والثروة والمكانة ، ولكن ما كان يجمعها ويوحدها هو نظام الإقطاع المتضمن توزيع الأراضي على القادة والحكام المحليين من اجل ضمان ولائهم وطاعتهم للملك الإمبراطور السومري .
وبالرغم من وجود نظام الإقطاع هنالك أيضا القوانين التي تشمل الحياة الزوجية والجنسية والعلاقات التجارية المتضمنة شؤون القروض والعقود والبيع والشراء والتبني والوصية فضلا عن وجود ما يسمى بنظام التقاضي أي عرض القضية على خبراء عامين ومختصين في شؤون القضاء قبل اللجوء إلى القضاء والقانون ، وهذه تشكل مدنية بدائية لحل المشاكل العالقة بين المتنازعين مع بعضهم ، وهنالك أيضا فقرة في غاية الأهمية تكمن في الشريعة السومرية في مجال العلاقات الزوجية ، حيث أقرت بعدم قتل الزوجة في حالة خيانتها للزوج كما تفعل أكثر الشرائع السامية ، حيث تجيز أو تسمح للزوج أن يتخذ زوجة ثانية ويتم إنزال الزوجة السابقة إلى منزلة اجتماعية اقل مما كانت عليه في المنزلة الأولى ، وبذلك وصلت المدنية السومرية في شريعتها إلى الارتقاء في تطبيق القوانين بعيدا عن حد إلغاء الجسد الأنثوي بالإعدام والقتل كما تفعل أكثر الشرائع السامية قديما وحديثا أيضا على حد سواء ( 33 )

اثر الدين السياسي

أما عن دور الدين في المجتمع السومري فقد كان أكثر التصاقا بالسياسة ، حيث يوجد لدى كل مدينة اله مدبر يعني بشؤونها ، فضلا عن وجود حراس لذلك الإله من الكهنة الذين يعلمون الناس العلوم الدينية وكيفية استخدامها من اجل ضمان طاعتهم وولائهم ، وبالطبع ذلك الولاء كثيرا ما كان مندمجا مع كثرة العطايا والهبات التي يستفاد منها بعض الكهنة ، فكان هؤلاء البعض يبتزون الناس من خلال كثرة الضرائب والأعطيات التي تقدم إلى المعبد ، وصولا إلى درجة الشعور بالحيف والظلم من قبل أهالي مدينة لكش ، الأمر الذي جعلهم يطيحون بنظام الحكم القديم بقيادة " أور – نانشة " واختيار نظاما جديدا قائما على العدل يقوده الحاكم الجديد " أور كاجينو " وهذا الأخير تبنى أول برنامج إصلاحي يقتضي من خلاله التحرر من سيطرة المعبد ، الذي يقوده النائب أو الممثل الشرعي عن الإله ، والذي يدعى ب " الايشاكو " ، إذ توجد وثيقة سومرية تقول " إن جباة الضرائب منتشرون في كل مكان " وكلهم تابعون إلى الايشاكو بدا بمسئولي الصيد والماشية والسفن ، وصولا إلى ابسط ما يملك الإنسان السومري من أغنام ، يدفع عنها الضرائب إن أراد جز صوفها (34)
حتى الميت لم يسلم من الضريبة عليه في حالة دفنه ، حيث يتم الاستيلاء على مختلف المؤن والتجهيزات التي يجلبها أهل الميت من الشعير والخبز والجعة . (35)
وهكذا تضخمت أملاك المعبد بقيادة الايشاكو على حساب أملاك الناس المواطنين وحريتهم ، الأمر الذي مكن الأهالي بالإطاحة بذلك النظام كما أسلفنا ومجيء النظام الجديد بقيادة " الحاكم أور كاجينو " الذي استطاع أن يحدث بعض الإصلاحات التي قلصت من حكم المعبد وجعلته ينزوي ضمن مكانه الخاص أو المعروف دونما القدرة على الامتداد أو الاستحواذ على أملاك الناس وإثقالهم بالضرائب واستعبادهم واستغلالهم أكثر فأكثر .
إن برنامج الإصلاح شكل مدونة في غاية الأهمية ، استطاعت أن تبث للناس القوانين الجديدة التي تراعي حقوق المواطنين وتنصف المظلوم عبر محددات ثابتة ومعروفة تخص شؤون القضاء والضرائب والمعبد حتى بعد أن تم تحريره من كثرة سراقه ومستغليه ، وصولا إلى القوانين التي تحمي الضعفاء من طرق ووسائل الابتزاز ، فضلا عن وضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك (36)

اثر الدين الثقافي

هذه الإصلاحات لم تدم طويلا إذ سرعان ما عادت الجذور القديمة إلى عادتها في استغلال الناس وتثبيت الظلم عليهم باسم المعبد والدين ضمن أشكال مضاعفة ، والذي يتحمل المسؤولية هنا الناس أنفسهم ، حيث تداخلت لديهم الجذور الدينية تلك التي تسلبهم عقولهم وتجعلهم في غاية الإذعان والخضوع بشكل متواصل ومستمر، ليكون المقابل لها الخلود في الحياة الدنيوية ، وما تحمل من مكاسب دنيوية جمة ، أي إن السومري لم يكن يتطلع إلى حياة أخرى ، والحياة الأخرى كانت لدية مليئة بالعتمة والتعاسة بشكل يختلف عن الحياة الآخرة المخيفة لدى الأديان ، حيث لم يكن طموحه مبني على نظرية الخوف الإلهي أو العقاب الإلهي بل كان منصب نحو النعيم المادي في حياته الدنيوية .
أما عن الجنة والنار فلم تكن محسوبة لديه في ثقافته ومعرفته ، وما الإنسان في النهاية سوى مخلوق جبل على السعادة في خلقه وتكوينه ، إلا انه بسبب الأخطاء والذنوب التي ارتكبها بإرادته تم معاقبته بطوفان عظيم لم ينجو منه سوى شخص واحد يدعى( تجتوج ) الحائك ، وهذا الأخير خسر حياته الخالدة أيضا بسبب أكله من الشجرة المحرمة (37)
إن اثر الدين الاجتماعي والثقافي كامن في إنشاء الكثير من المدارس التي ينخرط فيها كلا الجنسين من الذكور والإناث ، يتم فيها حفظ الأساطير الدينية ، للسيطرة عليهم ضمن حدود المستقبل ، فضلا عن تعليمهم مهارات الخط والحساب والكتابة ، وصولا إلى الارتقاء بهم نحو غرس المبادئ الوطنية وحب الخير والصلاح ، وقد خصص لمسالة مراقبة أخلاق الناس وضبطها اجتماعيا وثقافيا عدة آلهة تبدأ باله الشمس " أوتو " والإلهة نانشة ، حيث تكمن مهمتها في مراقبة العدل والصدق والرحمة ، وكذلك الإلهة ندابا المسئولة عن الكتابة والحساب ، إذ توجد وثيقة سومرية تصور الإلهة نانشة وندابا وهن يحاسبن البشر على الأخطاء والذنوب من اجل إحقاق العدل ورعاية الصدق ومحاسبة المقصر والمذنب (38)
وهكذا تبدو الصورة إن الآلهة هم الذين وضعوا الخير والشر لدى الإنسان ، وبالتالي هم من يعاقبوه على أفعاله ، ولكن العقاب هنا لدى السومريون عقابا دنيويا لا يترك بعد الموت أو في الحياة الأخرى ، على عكس ما سيحدث في المستقبل من تطور الأفكار وتناقضها أيضا مع الاستنساخ لبعض مضامينها حول طبيعة خلق الشر والخير من الإله ، ولكن فعل العقاب والثواب سوف يتم إرجائه إلى الحياة الأخرى .

المصادر

32- قصة الحضارة ، الجزء الأول ، ص 223
33- أن أكثر الشرائع السامية القديمة والحديثة على حد سواء ضمن حدود النسبي الاكثري تطبق حد القتل والرجم بحق الزانية والخائنة لزوجها ، واليهودية والإسلام لا يخرجان من ذلك الأمر ، مع اختلاف إن الأخير وضعها ضمن شروط تعجيزية لا يمكن أن تتحقق بالسهولة مع أربعة شهود يضعان شهادتهم بالرؤية العيانية الواضحة دونما لبس أو استيهام .

34- كريمر ، صاموئيل / ألواح سومر / ص 110 .

35- المصدر ، نفسه ، ص 110

36- ديورانت ، ول / قصة الحضارة ، الجزء الأول ، 227

37- المصدر ، نفسه ، ص 228

38- كريمر ، صاموئيل / ألواح سومر ، ص 193 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة