الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلما ازداد اليقين قَلَّت المعرفة

حسن عجمي

2019 / 4 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


اليقين نقيض المعرفة. لذا الصراع لا ينتهي بينهما. فاليقين هو المعتقد الذي لا يقبل الشك و المراجعة و الاستبدال بينما المعرفة تتشكّل من المعتقدات القابلة للمراجعة و الشك و الاستبدال.

إن لم تكن المعرفة نقيض اليقين أي إن لم تكن المعرفة قابلة للشك و المراجعة و الاستبدال على نقيض من اليقين فحينئذٍ هي معرفة ثابتة و أبدية تماماً كالمعرفة التي يمتلكها الإله الحقيقي أو المُتخيَّل. لكن هذا مستحيل فالبشر ليسوا آلهة و بذلك لا يمتلكون معارف ثابتة و أبدية ما يُحتِّم نتيجة أنَّ المعرفة البشرية هي القابلة للشك و المراجعة و الاستبدال. و إن لم تكن كذلك لسجنتنا في معتقدات مُحدَّدة و يقينية لا تتغيّر و لا تتطوّر فمنعت عنا التغيّر و التطوّر في آن.

اليقين قاتل البحث المعرفي و العلمي. فإن كانت معتقداتنا يقينيات بالنسبة إلينا فلا تقبل المراجعة و الشك عندئذٍ سوف نتوقف عند قبول تلك المعتقدات و نرضى بها كل الرضى فلا نستمر في البحث العلمي و المعرفي ما يؤدي إلى عدم تغيّر معارفنا و عدم تطوّرها. لكن المعرفة تتغيّر و تتطوّر لأنها تقبل الشك و المراجعة. أما اليقين فثابت لا يتغيّر لدى مَن تيقّن به ما يجعل صاحب اليقين سجيناً لِما تيقّن به. و بما أنَّ المعرفة قابلة للشك و المراجعة , إذن تحرّرنا المعرفة الحقة من معارفنا الماضوية فتدفع بنا نحو اكتشاف معارف جديدة من خلال استبدال معتقداتنا بأخرى أفضل عملياً و نظرياً على ضوء مراجعاتنا المنطقية و العقلانية لِما نعتقد. هكذا المعرفة الحقة تضمن استمرارية البحث المعرفي لكونها تعتمد على المراجعة الدائمة لِما نعتقد و استبدال معتقداتنا باستمرار.

على أساس هذه الاعتبارات , الحرية و التطوّر و استمرارية الأبحاث المعرفية تشكِّل جمعاء حقل المعرفة الحقة فلا تفترق الحرية و التطوّر و استمرارية البحث المعرفي عن بعضها البعض بل تكوِّن حقلاً واحداً لا يتجزأ ألا و هو حقل المعرفة الحقيقية. المعرفة التي لا تحرّرنا ليست معرفة حقيقية بل هي سجون لنا. و المعرفة التي لا تطوِّرنا ليست معرفة حقة بل هي قبور لنا. إنسان بلا حرية و تطوّر شبه إنسان. و إنسان بلا معرفة إنسان بلا حرية و تطوّر. هكذا حقل الإنسانية يتشكّل من المعرفة الحقيقية و الحقة التي تضمن الحرية و التطوّر و استمرارية البحث المعرفي في آن.

بما أنَّ اليقين نقيض المعرفة , إذن كلما ازداد اليقين قَلَّت المعرفة تماماً كما أنه كلما ازداد اليقين ازداد الإرهاب. من هنا اليقين مصدر الجهل و الإرهاب معاً. فحين يعتبر الفرد أنَّ معتقداته يقينيات يتعصب لها فيرفض الآخرين المختلفين عنه في معتقداتهم ما يؤدي إلى ممارسته للإرهاب ضدّ الآخرين من جراء رفضه لهم. هكذا اليقين أصل الإرهاب تماماً كما هو أصل دمار المعرفة و موتها. فالإنسان معرفة و المعرفة قتال اليقينيات.

ترتبط مسألة اليقينيات و المعرفة بوصف الكون و تفسيره علمياً. فنظرية ميكانيكا الكمّ العلمية تؤكِّد على أنَّ الكون محكوم بقوانين احتمالية و ليست حتمية و تضيف بأنَّ عالَمنا محكوم بمبدأ اللايقين كما عَبَّرَ عنه الفيزيائي هايزنبيرغ. بالنسبة إلى مبدأ اللايقين العلمي , من المستحيل التيقّن بمكان الجُسيم و زخمه (أي كمية حركته) في الوقت نفسه. فعندما نتيقّن بمكان الجُسيم يستحيل التيقّن بزخمه. و حين نتيقّن بزخم الجُسيم يستحيل التيقّن بمكانه. هذه صفة موضوعية للكون نفسه فمن غير المُحدَّد مكان الجُسيم و زخمه في آن. هكذا معارفنا ليست يقينية لأنَّ الكون نفسه محكوم باللايقين.

تعتبر نظرية ميكانيكا الكمّ أنَّ الكون غير مُحدَّد. عَبَّرَ العلماء عن لامُحدَّدية الكون بِطرُق عديدة منها أنه من غير المُحدَّد إن كان الجُسيم كالإلكترون جُسيماً أم موجة. أثبت الاختبار العلمي صدق مضمون نظرية ميكانيكا الكمّ على النحو التالي : الجُسيم نفسه يعبر من فتحتيْن مختلفتين في آن. لكن إن كان الجُسيم جُسيماً فقط فلا بدّ حينها من أن يعبر من فتحة واحدة بدلاً من فتحتيْن في الوقت عينه. هكذا التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو أنَّ الجُسيم هو أيضاً موجة ما يمكّنه من العبور من فتحتيْن مختلفتين في الوقت نفسه. على هذا الأساس , الجُسيم جُسيم و موجة في آن رغم أنَّ الجُسيم نقيض الموجة ما يدلّ على لامُحدَّدية الكون و الوجود. فمن غير المُحدَّد إن كان الجُسيم جُسيماً أم موجة و لذا يتصرّف على أنه جُسيم و موجة في الوقت عينه.

لقد عَبَّرَ العلماء أيضاً عن لامُحدَّدية الكون من خلال قطة شرودنغر. فمن غير المُحدَّد إن كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة ما يؤكِّد على لامُحدَّدية عالَمنا. فاحتمال إصابة قطة شرودنغر بإشعاع قاتل يساوي احتمال عدم إصابتها بإشعاع قاتل ما يتضمن أنه من غير المُحدَّد إن كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. هكذا حقيقة أنَّ عالَمنا محكوم بقوانين احتمالية تؤدي إلى نتيجة أنَّ الكون غير مُحدَّد.

لكن إن كان عالَمنا غير مُحدَّد و قوانينه احتمالية و على رأسها مبدأ اللايقين للفيزيائي هايزنبيرغ فحينئذٍ يستحيل أن توجد يقينيات حقيقية بل حينئذٍ كل يقين هو يقين كاذب. إن صدقت اليقينيات فلا بدّ من أنها تُعبِّر عن واقع الكون نفسه فتُحدِّد ما هو بيقين. لكن الكون غير مُحدَّد. و بذلك تكذب اليقينيات دوماً و يستحيل صدقها.

هكذا عالَمنا اللامُحدَّد دلالة كبرى على كذب اليقينيات ما يُحرِّرنا من سجون معتقداتنا و يضمن وجود المعرفة على أنها نقيض اليقين غير القابل للشك و المراجعة و الاستبدال. عالَمنا اللامُحدَّد ضمانة حريتنا و إمكانية حصولنا على المعرفة القابلة للتغيّر المستمر و التطوّر الدائم. هذا لأنَّ لامُحدَّدية الكون تُنتِج بصدق فقط معتقدات غير مُحدَّدة ما يحتِّم تحررنا من محدَّدية (أي يقينية) أية معتقدات فيضمن استمرارية البحث المعرفي و إمكانية الحصول على معارف قابلة للتغيّر و التطوّر من جراء لامُحدَّدية المعتقدات الصادقة.

إن كان الكون مُحدَّداً فسوف يسجننا بمعتقدات مُحدَّدة أي بيقينيات هي نقائض الوقائع فنخسر الحرية و المعرفة و إمكانية الاستمرار في البحث عن المعتقدات الأصدق. هكذا إنسانٌ بكون ٍ مُحدَّد إنسانٌ سجينٌ و مُقيَّد. إنسانٌ بكون ٍ مُحدَّد إنسانٌ بلا معرفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا