الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الترييف ”السوري“، هكذا...

فاضل الخطيب

2019 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يحتاج الإنسان الحضاري في هذا العصر إلى رأي شخصي مثل إسمه الشخصي، يتعلق بالموقف والنظرة للعالم. يهمس له عندما يجب اتخاذ أيّ قرار يحتاجه، كي يكون بمثابة تمرين لمقاومة الأخطار والبقاء على قيد الحياة. ذلك الموقف أو وجهة النظر تلك، هي ملكية خاصة غير قابلة للتصرف، لا يمكن مصادرتها أو تأميمها. ومن أجل ذلك، لا يحتاج المرء أن يكون مفكراً فيلسوفاً. كما أنه لا يستطيع المرء "ترحيل" موقفه ذلك لشخص آخر للتخفيف عن نفسه أو حمله، كما أنه لا يمكنه "ترحيل" حبه وموته. ولا يمكن قراءة ذلك القرار أو الرأي الشخصي في كتاب ما للمواعظ والنصائح. أحياناً، من لا تاريخ له، قد يكون أفضل بكثير من الذي يملك تاريخاً طويلاً عريضاً عميقاً في الزمن. بأيّ مُفكّر نقتدي، الذي سخّر فكره لشرح فكر الأسدية بطريقة غير مباشرة، أم الذي صار فكره يشرّح ما كان يشرحه لنا سابقاً؟ أيّ مفكر من الإثنين نختار؟ هناك أفكار قد لا تتقاطع مباشرة مع السياسة، لكن المفكر يستطيع تطويع الفكرة كي تخدم السياسة أو تفضحها. ومشكلة الكثيرون أنهم يملكون أجوبة كاملة متكاملة في السياسة والفن والإقتصاد والفلسفة والتاريخ، رغم أهمية أن يكون لكل واحد معرفة جزئية أو ”سطحية“ عن كل تلك المجالات، لكنه لا يجوز اعتبار نفسه مرجعية في كل شيء، وغالباً ينكر غالبية هؤلاء الكثيرون ”الكماليون“ هذا الاتهام..
أعتقد أن الحديث عن ترييف المدينة وتأثيره على السياسة وترسيخ حكم الاستبداد وما إلى ذلك من قبل الكثيرين غير المختصين في هذا الجانب العلمي الإجتماعي، أعتقد أنه يحرف البوصلة عن البحث عن الأسباب الأكثر أهمية من دور ترييف المدينة/هذا إذا كان هذا التعبير دقيقاً من الناحية العلمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإن كان صحيح هنا استخدامه السياسي "السلبي" الذي ساهم "بتخلف المدينة أو المدنية"، وهذا إن كان ميزة سورية ارتبطت بقدوم البعث ونظام الأسدية، حيث كانت الجامعات وكليات الجيش مفتوحة أو تعطي الفرصة لأبناء أثرياء المدينة أكثر من أبناء الأرياف بشكل عام قبل الوحدة مع مصر، وبعد انقلاب 8 آذار واستلام البعث السلطة وشعاراته اليسارية، فتحت الكليات العسكرية والجامعات أكثر أمام أبناء الريف، وبعد اغتصاب الأسد للسلطة، صار واضحاً علونة الدولة، وخاصة في الجانب العسكري، وهنا نحتاج دراسة علمية حول ذلك، فيما لو كان حافظ الأسد إبن دمشق أو حلب، هل كان حدث هذا "الترييف" للمدينة، أو إلى أي درجة حدث؟! أيّ أن ترييف المدينة، هو نتيجة لعلونة الدولة، أم لكون حاكمها ينحدر من الريف، أو لكون أبناء الريف يمكن تدجينهم بأسرع من أبناء المدن، أم أن "الانتهازية" مرتبطة بعلاقات السوق، والتي تشكل أساس علاقات المدينة؟!. لو كان ذلك الاستنتاج هو فصل أو جزء ضمن دراسة شاملة حول التغيّر الاجتماعي لحياة المدينة السورية أو الحياة الاجتماعية السورية خلال فترة معينة، فقد يكون مقبولاً ويمكن التأسيس عليه من أجل إعادة مدنية أو تمدين المدينة كي يكون هناك توازن طبيعي بين الريف والمدينة لمن يعتقد أن ذلك مهم لنهضة البلد وتقدمه، رغم أنه ومنذ أكثر من نصف قرن يبحث أثرياء المدن في الغرب عن الريف للعيش، وتبقى المدينة مكان عمل ولهو، ورغم أن التطور التقني وثورة المعلومات خلال العقود القليلة الماضية قلّصت جداً تلك الفوارق، بل خلطتها وصار من المفيد البحث عن صيغة جديدة تعكس حقيقة هذا "الانصهار" بين الريف والمدينة، وكيف يمكن فهم النهضة الثقافية في بعض مدن الريف الصغيرة/السلمية مثلاً، والتي أحياناً أعلى من نسبتها في المدينة/العاصمة؟. تبقى الفوارق بين الريف والمدينة أكثر من "بتنام عندنا أو بالفندق؟ بتتعشى أو بتنام خفيف؟"، أكثر من الأكل بالشوكة والسكين أو بالملعقة، أكثر من كرافة وشنتيان، أكثر من "بالروح بالدم، أو بالدم بالروح"، أكثر من بدلة ضابط أو خواجة، خصوصاً، أن هناك عائلات عربية حكمت مثل الأسد تنحدر من مدينة، وتحت حكمها ضاعت المدينة و"تضيعنت" أيضاً. أعتقد أن تناول مسألة ترييف المدن وبُعدها الثوري أو الوطني أكثر تعقيداً مما يطرحها، أو يحاول غالبيتنا طرحه وتشريحه وأخذ العبر والاستنتاجات منه.
قد يريح بعضنا مؤقتاً البحث عن قطة سوداء في غرفة معتمة، لتضيع بين القطط السوداء الأخرى. عندما تم تعيين فارس الخوري مسؤولاً عن الأوقاف الإسلامية قبل حوالي ستة عقود، هل كان شيخ جامع يختم خطبته بالدعاء لله أن "يُيتم أطفالهم ويُرمل نسائهم، وإلى آخر الموعظة الحسنة؟!"، هل كان ابن تيمية يأخذ هذا المجال في فضاء سورية؟!. أعتقد أن وصول أثير قنوات التجهيل والتكفير والبداوة الخليجية كان المحرك الأكبر لنبش ذلك الخطاب التكفيري العدواني القميئ، أعتقد أن الإسلام السوري كان يحمل من الوطنية ومن القدرة على التعايش مع غيره بطريقة جيدة ومقبولة من قبل غير المسلمين!. لكن لماذا نهرب من الاعتراف بذلك؟ بل ينقسم أكثرنا بين حداثة السعودية وحداثة قطر!. عندما يلتقي أحدنا مع الآخر، يسعى لمعرفة دينه وطائفته قبل أن يبدأ الحديث معه وبطريقة سمجة بمجموعة من الأسئلة التي يستخلص منها أحدنا مذهب الآخر. أقرب أصدقائي ومنذ 38 سنة هو ليس من الدين والقومية الذي وُلدت عليهما، وأحقر الناس الذين تعاملت معهم، كانوا من الدين والقومية التي وُلدت عليهما، وأكثر المدافعين عن عائلة الأسد حتى الآن بين الذين التقيت بهم، ليسوا علويين. أعتقد أنه من الواجب معرفة أنفسنا كما هي وليس كما نود أن تكون، كخطوة أولية للانتقال إلى ما نود أن نكون..
موضوع قديم، كتبه عبد القصير، لكنه يا ريت لو ترييف المدينة هكذا حصل ويحصل:April 7, 2015 ((في سلمية يقول لك "أبو ياسين" البسكليتاتي: "بين ما صلحت الدولاب، اسماع هالقصيدة" وإذا سمعتَ قصيدةً أخرى لا يأخذُ منكَ أجرة التصليح.. وعلى بعد مئة متر تقريباً وقبل أن يُحضّر لك حسن الهبيط سندويشتك يقول مازحاً: "تريدها على البحر الوافر أم الكامل؟" إن قلتَ له: الكامل. دَعَمَهَا بكل الخضار والمخلل والتوابل، وإن قلت: "الوافر.. فأنت لا تحب "الحدّ".. ثم يسمعك آخر قصائده على نفس الوزن، في جعبته قصائد بعدد أقراصِ الفلافل التي صنعتها يداه.
في سلمية عندما سُرقتْ دراجة "منذر الشيحاوي" لم يبلّغ الشرطة عنها، بل كتب قصيدة (بين الزقاقِ وأسفل الدرجِ. درّاجتي سُرقتْ بلا حرجِ)، وعندما كان "جلال مقصود" يُنهي عمله على مكبس البلوك مبتهجاً يقول: "اليوم اشتغلت ثلاثة أكياس شمينتو وقصة قصيرة". في إحدى المرات مرّ دون أن يلقي التحية علينا، علمنا بعدها أنه ربح جائزة في إحدى المسابقات الأدبية بقيمة ستمئة ليرة على ما أذكر.
وعلى ما أذكر أيضاً فإن التهم التي اعتقل ثم قُتل بسببها خالد القصير ظلماً كانت عديدة، إحدى الروايات تقول إنه متَهمٌ برسم لوحة مارقة. وقبل التفجير الذي قتل فيه محمد الجرعتلي بأيام قليلة كان يحرق سرير ابنته لدرء البرد عن النازحين الذين استضافهم في بيته من الرستن وقمحانة، ثم يعزف لهم أغنيته "أرواحهن بتضل".
وقبل أن يفتك السرطان ببشار عيسى كان يرسل لي عبر هاتفه الخليوي مع كل جرعة كيماوي من مشفى البيروني مقطعاً من قصيدة (في ولادتي التالية. سأضيف إلى مَهْديْ. نكهة امرأة لا ولاءَ لها سوى.. قداسة آلامي). وبعد أن استسلم النخاعُ الشوكيّ لنصفِ شللٍ في جسد "صدر ديب" أخرج مسرحية "خارج السرب" و"الليلة التي قضاها ثورو في السجن" وباع بينهما أطناناً من الفريز والتفاح والعنب ولا معقول بيكت.
في سلمية تسجلُ هدفاً في مرمى ماهر القطريب فيهجيك ببيت من الشعر، وعندما يعانق رامي الجندي حبيبته يُرَبّتُ على ظهرها إيقاعاً كوبيّـاً، وعندما تشرب الشاي عند نزيه عيسي أبو الطيب، يستحضر لك في مشغل الأعواد فيروز والرحابنة على الفور، ويقاطعك في كل جملة تقولها لينسج على إحدى كلماتك بيت عتابا، فتخرج من عنده دون أن تعلم أيَ شيءٍ أدمنت بالضبط.
في سلمية تُسجّل في دورة لتعلمِ العزف على العود حبّاً بكاسة المتة الصباحية مع أمين الصغير ومن ثم الموسيقا. وتترك دراجتك النارية أمام دكان عبد الله ونوس أمانةً، طمعاً بفنجان قهوة معه، وصورة شعرية.
في سلمية لم يذكر برهان النظامي النصوص التي كتَبها في أرض السبيل، كان يسقي إحدى "المساكب" عندما سرق صديقي دفتره حِبرِيّ الغلاف، وتعلمنا منه النثر.
سلمية. أن تكون طفلاً ويركض وراءك سامي الجندي ليضربك بعكازه، فقط لأنك تجرأت وقلت له: لقد كتبتُ مسرحية. أن تطرق باب مصطفى رستم الذي قضى 23 عاما في المعتقل ليحدثك عن المستقبل.
سلمية. السيدة نعمت عيشة التي أوصت قبل وفاتها أن يكون العزاء مختلطاً في بيت شَعر واحد، ونفذوا وصيتها.
سلمية. محمد القصير الذي أعطاني في الصف الأول رواية لسومرست موم كي أجد سبباً لأسهر معه. وإلى هذه اللحظة لم أنم.
سلمية. يبدو أن رئتيّ لا تصلحان لأوكسجينٍ لم يتلوث بأحبتي فيكِ)).
السوريون الذين كانوا خلال نصف قرن، أو منذ ترعرعوا يؤمنون بالبعث والأسد، هل اكتشفوا اليوم ترييف مدنهم من قبل رفاقهم الريفيين؟! مش غلط تناول أي موضوع كنا نتحرّج الحديث عنه، حتى لو كان غلط بغلط، المهم ألا نترك تلك الجزئيات دون تحريك، ربما نكتشف بعضنا، أو هكذا أيضاً نتعرف على بعضنا، بل على أنفسنا، ربما نكتشف تلك الجزئيات التي في النهاية تشكل الهيكل العام لسورية، البلد الذي نتمنى أن يصبح وطناً..
فاضل الخطيب، شيكاغو، 8 إبريل، 2019...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي


.. فايز الدويري: الهجوم رسالة إسرائيلية أنها تستطيع الوصول إلى




.. عبوة ناسفة تباغت آلية للاحتلال في مخيم نور شمس


.. صحيفة لوموند: نتيجة التصويت بمجلس الأمن تعكس حجم الدعم لإقام




.. جزر المالديف تمنع دخول الإسرائيليين احتجاجًا على العدوان على