الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)

ناصر بن رجب

2019 / 4 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


• في البحث عن "سيرة" عروة: بعض المسائل المنهجيّة في البحث عمّا هو "صَحيح" في سيرة محمّد.
• Stephen J. Shoemaker, In Search of Urwa’s Sira: Some Methodological Issues in the Quest for “Authenticity” in the Life of Muhammad. In Der Islam, 85, S. 257–344, 2011.
الجزء الثاني

الأحاديث حول الهجرة
في مقالهما الذي أشرنا إليه والذي تناول مرويّات عروة المتعلِّقة بالسّيرة، قدّم شولر وغوركه تحليلا موجزا لمجموعة كبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى عروة والتي تنطلق من استجابة قريش لدعوة محمّد لتَبْلُغ ذروتها عند بداية الهجرة. يدافع المؤلِّفان هنا على صحّة هذه الرّوايات، على غرار فون شتولبناغل، بحجيّة الرّوابط العائليّة التي تربط عروة بعائشة واعتبراها ضمانة كافية لأصالة إطارها العام وفي خطوطها العريضة. هذا التّحليل للأحاديث المتعلّقة بالهجرة هو بلا أدنى شكّ أكثر طموحا من كلّ محاولاتهما الأخيرة الهادفة إلى إسناد عناصر من حياة محمّد إلى عروة، وذلك من حيث أنّ هذه الدّراسة تبحث ليس فقط في كيفيّة تحديد صحّة حديث واحد ولكن مجموعة كاملة من الأحاديث تشتمل على وقائع هامّة جدّا مأخوذة من السّرد التقليدي لبدايات الإسلام. يعتقد غوركه وشولر أنّ مجموع الأحاديث هذا كان يشكّل في الأصل رواية واحدة موَسَّعة ألّفها عروة تبدأ بمعارضة المكيّين لدعوة محمّد وما تبعها على التّوالي هجرة بعض من أوائل المسلمين إلى الحبشة (بما فيها حكاية أبي بكر مع ابن الدُغُنّة)، انتشار الإسلام في مكّة، عودة المهاجرين من الحبشة، تعرّض المسلمين من جديد لأذى قريش، مبايعات العقبة، رحيل كثير من المسلمين إلى المدينة يُتوَّج بهجرة محمّد إليها صُحبة أبي بكر. ومع ذلك، قد يكون من المؤسْف أن يكون شولر وغوركه قد حاولا إنجاز الكثير في مقالة موجزة نوعا مّا، حيث أنّهما قاما بضغط حجَّتهما على صحّة الأحاديث في خمس صفحات فقط من المقالة. فكانت النّتيجة حجَّة تبدو أحيانا مُضَلِّلة وذلك بلا شكّ بسبب تقديمها بهذا الشّكل المكثّف جدّا. وقد يبدو جليّا أكثر من خلال المخطّط الذي قدّماه في مقالتهما أنّ العديد من الأسانيد ترقى إلى عروة بعرض نموذج نَقل متشعِّب لهذه الأحاديث. ويظهر أنّ هذا المخطّط يشير إلى أنّ كلّ الأحاديث محلّ البحث رُوِيَت بكامل أسانيدها، ولكن في الحقيقة لا يوجد هناك أيّ جزء من هذه المادّة يشتمل على مجموع الأسانيد التي يقدِّمها المخطّط، فقط الحديث المتعلِّق بهجرة محمّد إلى المدينة صحبة ابي بكر يقترب من ذلك بعض الشّيء. والمقال، مع الأسف الشّديد، لا يشرح هذه الظّاهرة مخلِّفا انطباعا جليّا بأنّ كلّ واحد من هذه الأحاديث يعود إلى عروة من خلال شبكة واسعة من الرّواة. ولكنّ بكلّ بساطة الحالة ليست كذلك هنا.

أ- "رسائل عروة: اضطهاد قريش للمسلمين، الهجرة إلى الحبشة ومبايعة العقبة الثّانية
إنّ غالبيّة الموادّ قيد النّظر التي أسنِدَت إلى عروة جاءت في حقيقة الأمر من مرجع واحد، هو الطّبري الذي أسند، بعد قرنيْن من الزّمن، الجزء الأهمّ من الأحاديث إلى عروة سواء في تاريخه أو تفسيره. في رواية طويلة، منقولة في شكل "رسالة" بعثها إلى أحد الخلفاء الأمويّين، زُعِم أنّ عروة كان قد دوّن أهمّ الأحداث لبدايات تاريخ الإسلام في مكّة بطلب من البلاط. الرّواية تتعلّق بفترة الإضطهاد الأولى الذي سلّطته قريش على المسلمين كردّة فعل على دعوة محمّد، ممّا أدّى إلى هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، ثمّ عودتهم إلى مكّة، وبعد ذلك فترة الإضطهاد الثّانية ولقاء محمّد مع بعض أهل المدينة الذين بايعوه في العقبة (المبايعة الثّانية)، ثمّ تنتهي القصّة بأخبار عن هجرة محمّد. ومع ذلك، وباستثناء الهجرة التي ستتمّ مناقشتها بشكل مفصّل أدناه، فإنّ كلّ هذه الأحاديث لا ينسبها إلى عروة إلاّ الطّبري في تاريخه بإسناد واحد من طريق هشام بن عروة (ينتهي إلى عبد الوارث وعليّ بن نصر)، ويضيف تفسيره بأنّه سمع شيئا مماثلا من طريق آخر عن ابن الزّناد (ينتهي إلى يونس بن عبد الأعلى). وبالرّغم من أنّ هذا المجموع من الأحاديث ينقسم إلى جزأين منفصليْن في التّاريخ، فإنّ التفسير يرويهما كَوِحْدَة سرديّة بذاتها يُشخِّصها الطّبري كرسالة بعث بها عروة إمّا إلى الخليفة عبد الملك (حسب رواية هشام) وإمّا إلى لإبنه الوليد (حسب إسناد أبي الزّناد). وهذا الإختلاف في شخصيّة المُرْسَل إليه هو مؤشِّر هامّ، بالرّغم من أنّه غالبا ما يقع إهماله، يدلّ على أنّ هذه الرّسائل ربّما ليست كما تَدَّعيه أي عبارة على مراسَلَة حقيقيّة تمّت بين عروة وأحد خلفاء بني أميّة.

لقد وضع الباحثون في تاريخ الإسلام المبكِّر، لسبب يظلّ مجهولا، درجة عالية من الثّقة في صحّة هذه الرّسالة واسانيدها، وهذا ربّما يُفسِّر لماذا سارع غوركه وشولر في التّسليم بأنّ هذه المادّة صادرة حقيقة عن عروة وذلك دون توفير حُجَج كافية. ومع ذلك، فإنّ القبول الواسع لهذه الرّسالة يتمّ بالرّغم من واقع أنّها وردت من مصدر وحيد هو الطّبري الذي لم يدعمها إلاّ بسنديْن فقط مع أنّهما يختلفان حول من هو بالضّبط المتلقّي المزعوم لهذه "الرّسالة". والأغرب من كلّ هذا أنّنا نلاحظ أنّه لم يقع مطلقا الإفصاح عن الأسباب التي دفعت مثل هذه القناعة بصحّة هذه الرّسالة ورسائل أخرى نُسِبت لعروة، وأشمل تحليل لهذه المسألة، إلى يومنا هذا، يوجد في العرض المقتضب الذي خصّصه فون شتولبناغل، والذي لم ينشر للأسف، لأحاديث هذه الرّسالة. كان جوزيف هوروفيتس، وربّما على نحو مستغرب نوعا مّا، ليون كايتاني المتشكِّك، من بين أوائل المدافعين عن هذه الرّسائل على الرّغم من أنّ الإثنيْن معا أبديا موقفا افتراضيّا من صحّة هذه الرّسائل بدلا من البحث على إقامة الحّجة على ذلك. يبدو أنّ كايتاني وهوروفيتس كان يعتقدان أنّ الطّبري ينقل هنا وثيقة حقيقيّة، الشيء الذي قد يفسّر قوّة المرجعيّة الخارقة التي أعطياها لهذه الأخبار: كان هذا في نهاية الأمر العصر الذي ساد فيه "أمير المؤرِّخين" ليوبولد فون رنكه Leopold von Ranke عندما أوصى بأن على المؤرِّخ أن "يُطفِئَ ذاته" [بمعنى يترك ذاته ومشاعره جانبا] أمام الوثائق التّاريخيّة استعدادا لكي يفهما "كما ينبغي الفهم". كان موتغومري واط أيضا يعتقد في وجود وثيقة حقيقيّة ملموسة، رسالة عروة مكتوبة بالفعل والتي "احتفظ لنا منها الطّبري بنسخة مكتوبة تعود إلى تاريخ مُبكِّر تتمتّع بكلّ المواصفات التي تدلّ على صحّتها". يلاحظ شولر في كتابه حول محمّد أنّ صحّة هذه الرّسائل، بالرّغم من المحدوديّة الفائقة في طرق روايتها، غير قابلة للنّقاش وأنّه لا يوجد أي واحد من الباحثين النقّاد كان قد أثار بشكل أو بآخر الشّك في صحّتها. ويضيف شولر، في نفس التوجّه، بأنّ رسائل عروة إلى عبد الملك يمكن مقارنتها بدستور المدينة [صحيفة المدينة]، التي اعتبرها الباحثون بمن فيهم التشكيكيّون مثل باتريشيا كرونه، على حدّ قوله، وثيقة من وثائق الإسلام المبكِّر بالرّغم من أنّها لم ترد إلاّ في مصدريْن وحيديْن.

وقد يكون من المستَغرَب أنّ يبدو شولر مُحقًّا حينما يقول بأنّ لا أحد على الإطلاق فكّر في التّشكيك في صحّة رسائل عروة. إلاّ أنّ مقارنته بدستور المدينة، التي قد تكون ناجعة على المستوى البلاغي، تبدو فاقدة لكلّ حجّة تدعمها وتبرّرها. صحيح أنّ دستور المدينة، كرسائل عروة، ليست موثَّقة على نطاق واسع بالرّغم من أنّها على العموم يُعتَرف بها كوثيقة أصليّة صادرة عن الجماعة الإسلاميّة المبكِّرة. ومع هذا، فإنّ وجه الشّبه بين الرّسائل وبينها يتوقّف عند هذا الحدّ. مثلا، توثيق دستور المدينة من مصدريْن مستقلَّيْن هو شيء هامّ جدّا ووجودها في مُصنَّفيْن يوحي بأنّ هذا المأثور سابق على سيرة ابن إسحاق، بغضّ النظر عن النّقل الشفوي للدّستور في بعض الأحاديث. فلو كانت هذه المجموعة من الأحاديث قد وصلتنا من مصدر آخر مستقلّ على أنّها رسائل عروة، فهذا من شأنه أن يجعلنا نعتقد بأنّنا نمتلك هنا قصّة تاريخيّة مبكِّرة بالرّغم من أنّ هذا يظلّ غير كافٍ للإقرار بأنّها فعلا من تأليف عروة. مثل هذه الأدلّة، وبدرجة أكثر تواضعا، قد تسمح لنا بتتبّع مسار تشكُّل هذه المجموعة من الأحاديث طيلة القرن الذي سبق الطّبري. حتّى لو تحقّق هذا الشرط، وجود مصدر آخر لرسائل عروة، فإنّ هذه الرّسائل تظلّ مفتقِرة إلى الشّيء الوحيد الذي يُنزِّل بقوّة كبيرة دستور المدينة ويُثبِّته في إطار الأحاديث الإسلاميّة المبكِّرة، أي اختلافها الصّارخ قِياسا بعمليّة تشكِّل الأحاديث في الفترات المتأخِّرة.

ولكنّ مقارنة شولر تُهمِل هذا الإختلاف الرّئيسي بين محتوى الدّستور والرّسائل في علاقتها مع التّقليد المعمول به. فكما لاحظت كرونه وكوك، على سبيل المثال، ما يُرسِّخ دستور المدينة في مرحلة مبكِّرة جدّا من نشوء الإسلام، هو طابعه "الشّاذ بصورة واضحة". يقول واط ملخِّصا ما أورده فيلهوزن: "لا أحد من المُدلِّسين [الوضّاعين]، سواء منهم الذين كانوا يكتبون تحت حكم الأمويّين أو العبّاسيّين، كان باستطاعته أن يتجرّأ على إدراج غير المسلمين داخل الأمّة، وأن يحتفظ بأحاديث ضدّ قريش، وأن يولي محمّدا مكانة ضئيلة". بالإضافة إلى ذلك، مثل هذا التّنافر مع التّقليد اللاّحق يفسّر بسهولة التّناقل المحدودة للدّستور في المصادر الإسلاميّة: فمن السّهل علينا إذن تَصوُّر أنّ السّلطات عمدت لاحقا إلى فرض رقابة على هذه الوثيقة التي كانت تُناقِض تناقضا شديدا الكَثيرَ ممّا كانت هذه السّلطات "تَعْرِفه" حينئذ كحقيقة ثابتة فيما يتعلّق ببدايات الإسلام. إنّ الإحتفاظ بصحيفة المدينة في مصدريْن مُبكِّريْن فقط، بالرّغم من قطيعتها مع طابع التّقليد السّائد، يُرجِّح أكثر انتماءها إلى فترة نشوء الإسلام. لا يمكننا بالتّأكيد قول الشيء نفسه بخصوص رسائل عروة التي لا تتعارض بايّ حال من الأحوال مع الوضع القائم. فإذا كان من السّهل تفسير شُحّ المصادر التي أوردت صحيفة المدينة لشذوذ محتواها، فإنّه ليس من البديهي تقديم تفسير مقنِع لماذا لا نعثر على وجود رسالة عروة هذه ورسائل أخرى له إلى عبد الملك إلاّ في مؤلَّفات الطّبري. فإذا كان عروة قد كتب حقيقة هذه الرّسائل إلى الخليفة، فإنّه من الصّعب أن نفهم لماذا فشلت كلّ المصادر المبكِّرة الأخرى في الإحتفاظ بها: فقد كانت بالتّأكيد روايات متدَاولة على نطاق واسع، يعرفها ابن إسحاق وآخرون من طريق الزّهري، ومع ذلك فإنّ هذيْن المصدريْن المبكِّرَيْن يتجاهلانها تماما. بالإضافة إلى ذلك، نرى أنّ هذه القصص حول بدايات بعثة محمّد، المنقولة في شكل رسائل عروة، تتماشى تماما مع الأصول السنيّة اللاّحقة ممّا يدعو إلى الإعتقاد بوجود إمكانيّة حقيقيّة بأنّ الأمر لا يتعلّق بكتابات من تأليف عروة، بل هو عمل قام به المصنِّفون المتأخِّرون أو حتّى من طرف مُصنِّف واحد نسج عدّة أحاديث كانت منفصلة بعضها عن بعض ليعطي لهذه القصص الموسَّعة إطارَ مراسلةٍ بين عروة وعبد الملك. وبالفعل، وكما سنرى لاحقا، هذه الرّسائل الموضوعة تشكِّل نوعا أدبيّا شائعا في المأثور التّاريخي الإسلامي ورِثَه عن مؤرِّخي العصور القديمة في منطقة البحر المتوسّط. وبالتّالي، حان الوقت، أكثر من أيّ وقت مضى، أن نطرح بصورة جديّة السّؤال لمعرفة ما إذا كانت رسائل عروة إلى عبد الملك في حقيقة أمرها رسائل صحيحة، وهي مسألة، رغم موافقة واسعة النّطاق، من الصّعب اعتبارها حقيقة لا يتطرّق إليها الشّك.

وكما يلاحظ فون شتولبناغل عن حقّ، فمن شبه المؤكَّد أنّ الطّبري لم تكن أمام ناظريْه وثيقة فعليّة تحتفظ برسالةٍ منسوبة إلى عروة. فالإختلافات في الرّواية بين تاريخ الطّبري وتفسيره من شأنها أن تحول دون الاعتقاد بأنّ الطبري كان ينقل عن وثيقة مكتوبة. ثمّ أنّ وصف الطّبري للأسانيد الذي مفاده أنّ هذه الأحاديث وصلته من طريق عروة تشير أيضا أنّه لم يكن يعرف هذه الأحاديث ولم تصله إلاّ شفاهة. يتوصّل فون شتولبناغل، في تحليله للفوارق بين الرّوايتيْن، أنّ الطبري كان قد دوّن في البداية الرّواية الواردة في تفسيره عن هذه الأحداث على أساس الخبر الذي جاء من طريق عبد الوارث، ثمّ عندما شرع في تدوين نفس الأحداث في تاريخه كان قد سمع رواية ثانية للرّسالة من طريق عليّ بن نصر، فتكون الإختلافات بين التّاريخ والتّفسير عبارة عن شواهد للجهود التي بذلها الطّبري للتّوفيق بين الرّوايتيْن. إلاّ أنّ هذه الفرضيّة تمرّ مرّ الكرام بصورة غريبة أمام نسخة ثانية يوردها الطّبري في تفسيره تروي نفس الأحداث في شكل "رسالة" مُوجَّهة إلى شخص آخر وبسلسلة إسناد من طريق مختلف تماما، ومن العجيب أن يكون هذا الخبر غائبا تماما في تاريخ الطّبري. هذا الفارق يمكن أن يوحي بأنّ الطّبري لم يؤلِّف نسخة التّفسير إلاّ بعد أن اكتشف خبرا ثانٍ كان يجهله عندما كان بصدد كتابة هذا الجزء من تاريخه. فإذا كان فون شتولبناغل لم يفكِّر في هذا الاحتمال، فهذا دليل على اهماله التّام (ومعه باحثون آخرون) لطريق النّقل البديل عن أبي الزّناد الذي يشير إلى الوليد كمُستَلِم للرّسالة: فهو يحدّد هذه الموادّ مرّات متعدِّدة على أنّها تنتسب إلى رسالة عروة إلى عبد الملك دون أن يتعرّض على الاطلاق للمشاكل المعقّدة التي يطرحها الإسناد الثّاني الذي جاء في التّفسير. وأيّا كان الحال، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ الطّبري إمّا أن يكون قد طَمَس رواية عليّ بن نصر في التّفسير، أو طمس رواية أبي الزّناد، مع الوليد كمتلقّي للرّسالة، في تاريخه؛ وحقّا يبقى السّببُ في أنّ يكون الطّبري قد اختار أيًّا من الحالتيْن أمرا غير واضح تماما.

تاريخ الطبري:
الرّواية الأولى: "حدثنا عليّ بن نصر بن عليّ الجهضميّ، وعبد الوارث بن عبد الصمد ابن عبد الوارث؛ قال عليّ بن نصر: حدّثنا عبد الصّمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدّثني ابي، قال: حدّثنا أبّان العطّار، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنّه كتَبَ إلى عبد الملك بن مروان: أمّا بعد...".

الرّواية الثّانية: "وحدّثني عليّ بن نصر بن عليّ، وعبد الوارث بن عبد الصّمد بن عبد الوارث، قال عليّ بن نصر: حدّثنا عبد الصّمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدّثني أبي، قال: حدّثنا ابّان بن العطّار، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن عروة؛ أنّه قال...".

تفسير الطّبري:
الرّواية الأولى: "حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك به..."
الرّواية الثّانية: "حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير: أنه كتب إلى الوليد: "أما بعد، فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وعندي بحمد الله من ذلك علم بكل ما كتبتَ تسألني عنه...".

ومع ذلك، فإذا دقّقنا قليلا في الأمر فإنّنا نرى أنّ طريقة نقل الطّبري لرسالة عروة المزعومة لا يمكن أن يحظى بتلك الثّقة العمياء التي منحتها إيّاها الدّراسات السّابقة. في نهاية المطاف، هاتان الرّوايتان تمثّل حديثا، على غرار عدّة أحاديث أخرى، لم يقع تدوينه إلاّ متأخّرا من طرف مصدر واحد، الشّيء الذي لا يترك أيّ مجال لتحليله من خلال "حلقة مشتركة" يسمح بتحديد درجة مّا على امكانيّة انتشاره في تاريخ مبكِّر. في خضمّ هذه الظّروف، ليس هناك أي سبب يُبرِّر حقيقةً أن نمنح هذه الأحاديث أو أسانيدها موثوقيّة أكثر من تلك التي يمكن أن نمنحها لغيرها من الأحاديث المماثلة. إنّ مجرّد تصريح الطّبري بأنّه كان قد سمع (يبدو أنّه الوحيد الذي سمع) أنّ عروة كان قد كتب رسالة إلى أحد خلفاء بني أميّة بخصوص هذه المواضيع، لا يسمح لنا لأن نستنتج بأنّ الأمر يتعلّق بما حبَّره عروة بقلمه (أو نطقه بشفتيْه). في الواقع، هناك العديد من العوامل تدفعنا إلى توخّي الحذر والحيطة تجاه هذه الأحاديث عوض التّأكيد على صحّتها.

هناك قبل كلّ شيء مشكلة الأسانيد في حدّ ذاتها، والتي تطرح بصورة أو بأخرى بعض المعضلات. فبالرّغم من أنّ البحوث تشخّص بشكل واسع هذه الرّسالة على أنّها موجَّهة إلى عبد الملك، فإنّ مثل هذه النّقاشات تتواصل أساسا بخصوص تغاضي فون شتولبناغل على الإسناد الثّاني الذي أورده الطّبري في تفسيره والذي يفيد بأنّ رسالة عروة كانت موجّهة إلى الوليد. فمسالة ما إذا كان عروة قد كَتب الرّسالة إلى عبد الملك أو الوليد هي مسالة موضع نقاش جوهري، طالما أنّ وجود مثل هذه الرّسالة في حدّ ذاته أمر مشكوك في صحّته. والأهمّ من كلّ ذلك هو الاختلاف بين مصْدَريْ الطّبري: فإذا اختلفا في نقطة جوهريّة مثل هويّة المرْسَل إليه، فكيف يمكن للمرء أن يثق في صحّة جوانب أخرى من هذا الحديث الضّعيف؟ فكما لاحظ مايكل كوك في دراسته المتعلّقة بالرّسائل الدينيّة الإسلاميّة المبكِّرة، فإنّ أي رسالة منقولة تحتوي على حُجج متعارضة هو أوّل دليل على أنّها موضوعة [مزيَّفة]. زيادة على ذلك، محتوات الرّواية الثّانية التي سمعها الطّبري من طريق يونس بن عبد الأعلى مجهولة، إلاّ أنّه يعتبرها مماثلة لما جاء في رواية عبد الوارث، على الأقلّ عندما كان يؤلِّف تفسيره! هذا الإشكال يثير نقطة أكثر أهمّية تناولها غوركه في مقال مستقلّ يتعلّق بالأسانيد المركّبة [على أحاديث صحيحة]: عندما يروي لنا مصدرٌ حديثا بسلاسل إسناد بهذا الشّكل، فهذا ببساطة لا يمكِّننا، كما يستنْتج غوركه نفسه، من معرفة ما إذا كانت الأحاديث في الحقيقة متطابقة أو فقط متشابهة بمعنى الغموض والابهام. إنّ الاختلاف بين هذين الخبرين بخصوص مُتلقّي الرّسالة بالإضافة إلى غياب الإسناد الثّاني من تاريخ الطّبري يمثّل بالتّأكيد حافزا للإعتقاد بأنّ اختلافات مهمّة كانت موجودة بين الأثريْن. من جانبه، كان فون شتولبناغل ينظر إلى هذه "الأسانيد المركّبة" بريبة، مُقترحا أنّ جامع الأحاديث يقدِّم سلسلتيْن من طريقيْن عندما يعتريه الشّك حول حديث مُعيّن أو بخصوص موثوقيّة رُواتِه، آملا بذلك تحصين أحاديث ضعيفة بواسطة المزيد من الرّوايات. قد تكون نفس المشاغل هي التي تكمن وراء إضافة الطّبري للإسناد الثّاني عن يونس بن عبد العالي في تفسيره أو تعيينه عليّ بن نصر كمصدر ثانٍ للحديث الذي سمعه عبد الوارث في تاريخه: هناك تفسير محتمَل أنّ هذه التّضاربات تعكس استراتيجيّتيْن مختلفتيْن غرضهما تقويّة حديث كان الطّبري نفسه يعتقد أنّ بحوزته رواية ذات تاريخ ضعيف.

علاوة على ذلك، صياغة هذه الأحاديث في شكل رسالة يدعو إلى الشّك، إذ أنّ الرّسائل، كما برهن على ذلك ألبريخت نورث Albrecht Noth، تمثّل واحدا من "العناصر الشكليّة" للمأثور الإسلامي المبكِّر. فهذه الرّسائل، بصورة عامّة، ليست وثائق تاريخيّة ولكن تمثّل نوعا أدبيّا استُنْبِط للإجابة على شتّى أغراض القصّة التّاريخيّة بمعناه الأوسع التي تظهر فيها. وبالفعل، لقد كان استعمال رسائل مُخْتَلَقة أو المبادلات البريديّة عَرفًا جارٍ للتّقليد الهستوريوغرافي الكلاسيكي كان يُمارس منذ أكثر من ألف سنة قبل ظهور الإسلام، وعليه فليس من المستغرب أن نرى التّقليد التّاريخي الإسلامي مليئا بمثل هذه الرّسائل. فالتّواريخ الإسلاميّة المبكِّرة مُشْبَعة بمثل هذه الرّسائل الموضوعة إلى درجة، كما استنتج نورث، أنّ "مهمَّتنا الأولى (...) لا تتمثّل في تحديد ما إذا كانت مثل هذه الرّسائل هي وليدة التخيّلات الأدبيّة، ولكن بالأحرى معرفة ما إذا كانت وثائق أصليّة (...). ولكن إذا أردنا استخدام شهادة الرّسائل المنقولة فإنّه يجب علينا حينئذ أن نبدأ بافتراض أنّها غير اصليّة". إلى حدّ الآن، هذه المقاربة لم يقع اعتمادها لتحليل رسائل عروة؛ بل بالعكس، نرى إجماعا واسع النّطاق على صحّتها. في حين أنّه إذا طبّقنا هذا المعيار النّقدي لمجموع الأحاديث الواردة في مؤلّفات الطّبري، يبدو لنا من الصّعب جدّا إيجاد أسباب للدّفاع عن أصالتها كرسائل كتبها عروة حقيقة، كما هو الحال عليه إلى حدّ هذه السّاعة. وكما لاحظ مايكل كوك، كان عبد الملك هو الوِجهَة المفضَّلة لرسائل المأثور الإسلامي الموضوعة حتّى صارت "الرّسالة إلى عبد الملك تمثّل في حدّ ذاتها تقريبا شبه نوع أدبيّ".

يورد الطّبري في تفسيره وتاريخه أحاديث أخرى في هيئة رسائل كتبها عروة أين نجد العديد من "الرّسائل" الإضافيّة بعث بها عروة إلى عبد الملك، معظمها يحتوي على نفس إسناد الأحاديث المتعلّقة بالهجرة. هذه "الرّسائل" تصف هجرة محمّد إلى المدينة، معركة بدر، فتح مكّة، معركة حُنَيْن، معركة الطّائف، فراق خُوَيْلة، حديث الإفك، ابتداع الحُمُس ثمّ موت خديجة. الرّوايات المتعلّقة بمعركتيْ حنين والطّائف وأحداث الهجرة لم يقع تقديمها في الواقع على شكل رسائل، ولكنّ فون شتولبناغل يشخّصها كذلك لأنّها تحمل نفس الإسناد الذي يعطيه الطّبري لرسائل عروة. إلاّ أنّنا لا نعثر على أيّ واحدة من هذه "الرّسائل"، باستثناء أحاديث الهجرة التي سنتعرّض لها بالتّفصيل لاحقا، فيها مصدر إسلامي مبكِّر آخر، كما أنّ محتواها لا يُنسَب إلى عروة، ممّا يجعل من الطّبري المؤلِّف الوحيد الذي نقل هذه الرّسائل المزعومة لعروة من طريق عبد الوارث (وأحيانا عليّ بن نصر أو يونس بن عبد العالي). هذه الشّهادة المحدودة لا تتحدّث كثيرا عن أصالة هذه الموادّ، وعلى غرار الرّسالة المذكورة في مقال غوركه وشولر، هناك رسائل أخرى منسوبة إلى عروة تروي أحداثا وقعت بعد الهجرة يمكنها أن تكون قد أُلِّفت في أيّ وقت من الأوقات بين الفترة التي عاش فيها عروة والفترة التي عاش فيها مصدر الطّبري.

ومع ذلك، فإنّ الطبري يورد أيضا رسالتيْن أخرييْن لعروة من طريقين مختلفيْن ذكرتهما مصادر محدودة عدا مؤلّفات الطّبري. أولاّ، يذكر الطّبري في تاريخه رسالة قصيرة لعروة موجّهة إلى عبد الملك تتعلّق بقصّة "فراق قُتَيلة"، وهي تحمل إسنادا مختلفا قصيرا: عبد الرحمن بن أبي الزّناد → هشام بن عروة → عروة. نفس الرّسالة التي توضِّح علاقة محمّد بقُتيْلة رواها أيضا بن سعد في طبقاته بنفس الإسناد مع إضافة وحيدة تتمثّل في إدراج أستاذه الواقدي في الإسناد: محمّد بن عمر → عبد الرحمن بن أبي الزناد → هشام بن عروة → عروة. إنّ إدراك ابن سعد لهذه "الرّسالة" يبدو وكأنّه يؤكِّد أنّ هذا الحديث يمكن أن يعود في الحقيقة إلى عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، مصدر الطّبري المفتَرَض، بالرّغم من أنّ الطبري نفسه يمكن أن يكون قد أخذ هذا الحديث من الواقدي أو من ابن سعد، بالنّظر إلى إسناده القصير. ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه الأدلّة الهزيلة يصعب عليها نسبة هذه الموادّ على عروة.

قد تكون رسالة عروة عن "هجرة النّساء"، التي أوردها الطّبري في تفسيره من طريق ابن حُميْد → سلمة → محمّد بن إسحاق → الزّهري، أكثر دلالة. فهذه الرّسالة التي تُجيب على أسئلة ابن أبي هُنيْد بخصوص الآية 10 من سورة الممتحنة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ..."، توضِّح وضعيّة نساء قريش اللاّتي أسْلَمْن دون إذن أوليائهنّ. نفس الرّسالة ترد في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق → الزّهري، وفي مغازي الواقدي من طريق محمّد بن عبد الله → الزّهري، وكذلك في طبقات ابن سعد الذي ينقل الحديث عن الواقدي بنفس الإسناد. وبالرّغم من سلاسل الإسناد القصيرة هذه، يبدو من المرجّح أن يرقى هذا الحديث إلى الزّهري الذي قدّم هذا التّوضيح للآية القرآنيّة ونشره في شكل رسالة بعث بها عروة إلى صاحب الوليد (وليس إلى عبد الملك وحتّى إلى الوليد نفسه): "فَحَدّثَنِى مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ للهِّ، عَنْ الزّھْرِىّ، قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَھُوَ يَكْتُبُ إلَى ھُنَيْدٍ صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِّ عَزّ وَجَلّ : "يَا أَيّھَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُھَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوھُنّ"، فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنّ رَسُولَ للهِّ صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ إلَيْھِمْ مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ...". وخلافا لرسائل أخرى لعروة أوردها الطّبري، نجد هنا قطعة من التّفسير القرآني في شكل رسالة عروة يمكن أن يعود تاريخها إلى بداية القرن الثّاني هجريّة. ولكنّ هذا لا يعني أنّ الحديث ينقل لنا مُراسلة لعروة: من المرجّح جدّا أن يكون الزّهري نفسه هو الذي اختلق إطار المراسلة، وبالرّغم من أنّ نسبة ذلك إلى عروة لا يمكن إقصاؤها إلاّ أنّها ليست مؤكّدة البتّة. إلاّ أنّ ما هو أهمّ في كلّ هذا أنّ هذا الحديث يؤكِّد وجود مأثور مبكِّر ينسب رسالة إلى عروة، وهو ما جعله على الأرجح الوِجهة التي تُنسَب لها "الرّسائل" من طرف المحدّثين اللاّحقين. وبعبارة أخرى، إذا كان عروة قد اشتهر مبكِّرا بالكتابة إلى حاشية الخليفة في موضوع سيرة محمّد، فمن السّهل أن نتخيّل أنّ وثائق أخرى وَجَدت طريقها إليه، وبالخصوص في شكل رسائل، بفعل أوائل المؤرِّخين المسلمين: والأمثلة في المأثور المسيحي بهذا الصدد غزيرة جدّا منها على سبيل المثال، لا الحصر، الرّسائل الموضوعة المنسوبة زورا إلى بولس، إغناص الأنطاكي وكليمنت روما.

زيادة على ذلك، يتساءل المرء ما إذا لم تكن هذه المكاتبَة بين عروة وعبد الملك قد اختُلِقت جزئيًّا منها "لإعادة تأهيل" سُمعَة عروة في عيون المحدِّثين المتأخِّرين بربطِه بهذا الخليفة عوض أن يُقْرَن بأخيه عبد الله بن الزّبير المنافس السّياسي الرئيسي لعبد الملك. فحسب الرّواية الشّائعة، كان ابن الزّبير قد ثار على عبد الملك أثناء الفتنة الثّانية وطلب الخلافة لنفسه. مع أنّ عبد الله بن الزّبير، كما أوضح ذلك مؤخّرا Chase Robinson، يبدو أنّه كان حقيقة، خلال الفترة بين 683 م و692 م، يحظى بتأييد أوسع لاعتلائه الخلافة. وبناء على هذا، كان من الأحرى اعتبار عبد الملك، الذي كانت سلطته في البداية محصورة في الشّام ودائرة ضيّقة من افراد أسرة بني أميّة، هو المتمرِّد على الخليفة ابن الزّبير، على الرّغم من أنّه استطاع في النّهاية التغلّب على هذا الأخير. ومهما يكن من امر، كانت سلطة عبد الله بن الزّبير على الحجاز في تلك الفترة مٌعتَرفا بها على العموم، ويمكن أن نتصوّر أن أخاه عروة، المقيم في المدينة، كان يدعم قضيّة أخيه السّياسيّة بدلا من الدَعِيّ عبد الملك، وهو انحياز تؤكِّده بعض الأحاديث. وبالمقابل، نجد أحاديث أخرى تشدِّد على إعلان عروة ولاءه لعبد الملك بعد هزيمة أخيه، ولهذا يبدو من المرجّح جدّا أنّ هذه المراسلات تشكّل جزءًا من حملة التّقليد الإسلامي المتأخِّر في سعيه إلى إعادة ترميم صفوف المسلمين وإقامة علاقة منسجمة بين الزّبيريّين والمروانيّين من خلال عروة. فإذا كان فون شتولبناغل قد أشار إلى أنّ عروة كان قد قَبِل بكتابة هذه الرّسائل مع بعض التردّد، بعد إلحاح عبد الملك عليه، يمكن أن يكون المأثور المتأخِّر قد حاول القيام بمصالحة للوصول إلى هدنة رمزيّة بين الفريقيْن الرّئيسيّيْن اللّذيْن تناحرا خلال الفتنة الثّانية وذلك باختلاق مراسلة نَشِطة وفعّالة بين عبد الملك وشقيق خصمِه الأساسي، عروة بن الزّبير. هذا الاحتمال يعطي سببا إضافيّا للشّك في صحّة رسائل عروة إلى عبد الملك (أو الوليد)، والتي تكون قد اخْتُرعت، على الأقل في جزء منها، بهدف خدمة هذا الهدف الأشمل.

إذا أخذنا بعين الاعتبار نزوع التّقاليد الإسلاميّة والغربيّة نحو الرّسائل الموضوعة، فإنّه من الصّعب على المرء أن يثق في صحّة "رسائل" عروة الأخرى التي تستند على حجّة الطّبري الواهية. ثمّ أنّ اختلاف مُستَلِمي هذه "الرّسائل" يمكن أن يشير إلى انّ الشّكل هو عامل ثانويّ، وأنّ تعيين الخليفة كمُرسَل إليه، عوضا عن صاحب خليفة بسيط، من شأنه أن يدعم الطّابع "الرّسمي" لهذه المراسلة المُتخَيَّلة. علاوة على هذا، من المؤكّد أن عدم إدراج ابن إسحاق ورُواة آخرين مبكِّرين هذه "الرّسائل"، ناقلين أخبارهم عن هذه الأحداث انطلاقا من مصادر مختلفة، له دلالة فائقة. وبالرغم من أنّ الدّليل المأخوذ من صمت الرّواة لا يمكن ان تكون له إلاّ قوّة محدودة، فإنّه من المحيّر أن تكون سيرة ابن إسحاق وسِيَر أخرى مبكِّرة لا تعطي أيّ انطباع بمعرفتها بهذه "الرّسائل"؛ فلو كانت صحيحة، فمن الصّعب تصوّر أنّه لا يوجد أيّ مؤرِّخ لبدايات الإسلام (قبل أو حتّى بعد الطّبري) يكون قد استعان بوثائق بهذه الأهميّة الاستثنائيّة. وبالتّالي، يبدو أنّ "رسائل" عروة ليست حريّة تماما بالثّقة في صحّتها التي منحها إيّاها بعض الباحثين. ما عدا الرّسالة المتعلّقة بهجرة نساء قريش إلى المدينة، لا يوجد أيّ دليل على صحّة وأصالة الأحاديث محلّ الدرس هنا. وفي نهاية الأمر، لم يُوثِّق هذه الأحاديث إلاّ مصدر واحد، وبالتّالي فإنّ قيمتها يجب أن تُقاس بنفس الطّريقة وعلى حدّ سواء كبقيّة الأحاديث الأخرى، أي بجرعة كبيرة من الشكّ.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah