الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اذاعة فاس..شامخة مفعمة بايقاع تفاعلي مجالي جهوي متميز

عبد السلام انويكًة
باحث

2019 / 4 / 9
الصحافة والاعلام


ضمن ما هو ترابي جهوي في مغرب ما بعد الاستقلال كثيرة هي جوانب مسار راهن البلاد وأوراشها، بكيفية خاصة فترة ستينات القرن الماضي التي كانت بحمولة طموح عالٍ في البناء والتغيير على أكثر من واجهة. بحيث بقدر ما كان عليه رهان التنمية من إعادة توجيه وفق الخيار الوطني، بقدر ما رافقه من رغبة تدبير وفق مغربة محضة بعد حوالي نصف قرن من الحماية.
ولعل من وعي مغرب فجر الاستقلال بقيمة إعلام الجهة في إنجاح هذا الورش وترسيخ هويته ومعالمه وموارده، إحداث اذاعات جهوية لمِا كان عليه المذياع من قوة سلطةٍ وتوجيهٍ وتأطير وإخبار. وكان ورش إعلام الجهة بعد استقلال البلاد بسنوات قليلة، قد اختار فاس لِما كانت عليه المدينة من رمزية روحية فكرية ووطنية، وذلك من أجل انشاء أول اذاعة جهوية وفي زمن قياسي باشراف ملكي، من خلال حفل تدشين رسمي أعْطِيت فيه انطلاقة بثٍ فعلي للمحطة صبيحة ثامن عشر أبريل ألف وتسعمائة وواحد وستين، جاء ذلك في اطار أول زيارة قام بها الملك الحسن الثاني رحمه الله لفاس بعد تولية العرش بحيث أفردت له فاس استقبالا حماسياً رفيعاً.
وكان توسيع وعاء الاعلام السمعي مع بداية ستينيات القرن الماضي خياراً حكومياً، لِما كان عليه من نفوذ في الرأي العام كآلية جديدة جاذبة أكثر حضوراً في انشغالات الفكر والفن والخبر والسياسة... بل كان رهان المغرب آنذاك انشاء اذاعات جهوية وتحقيق مشروع تلفزة مغربية، حتى يكون ثاني بلد عربي يحقق رهاناً كان البعض يفضل تسميته بالمعجزة.
وسعياً من قطاع البريد بالمغرب للانتقال بهذه الاحلام الوطنية الكبرى، الى انجازات على أرض الواقع تعميماً وتقريباً للخبر والتواصل والثقافة والمعرفة...، ووعياً بما يمكن أن يسهم به المذياع والشاشة في تأطير المجتمع، أقدمت الحكومة المغربية على شراء محطة التلفزة بالدار البيضاء بكلفة بلغت آنذاك مائة مليون فرنك. ولعله إجراء أبان عن درجة الانشغال بما هو إعلام باعتباره مجالا استراتيجياً وحيوياً، وأبان عن رغبة البلاد في تحقيق انفتاح وانخراط فيما هو حديث وجديد، والذي بات فيه إعلام الصوت والصورة أداة أساسية مؤثثة لاهتمامات المجتمع وانشغالاته النمائية.
سياق تحولات في مغرب ما بعد الاستقلال مع بداية ستينيات القرن الماضي، والتي اعتُبرت فترة وعود وطموح وطني عميق على أكثر من صعيد بعد صدور ظهير 1958 للحريات العامة، سياق تحولات جاء فيه مشروع إحداث المحطة الجهوية لإذاعة فاس، تجاوباً مع مكانة المدينة الحضارية وما كانت عليه من إشعاع يضرب به المثل في الفكر والفنون والثقافة وغيرها "فاس والكل في فاس"، فضلا عما تعنيه هذه الالتفاتة من رمزية وطنية،
ولعل من جميل الاعتبار لمدينة كان لها وقعها وموقعها المعبر في ملحمة الحركة الوطنية، وعلى أساس ما انفردت به من اسهامات واسعة على عدة مستويات، منها اسهامات صحافة مكتوبة ببعد وطني منذ ثلاثينات القرن الماضي، وعلى أساس أيضاً جملة مبادرات ومحطات فاصلة ومؤثرة سياسياً، فضلا عن حجم تضحيات كما باقي جهات البلاد، كان حدث وموعد إنشاء اذاعة جهوية بفاس إشارة قوية لقيمة الاعلام الجهوي، ولمِا يمكن أن يسهم به في بناء ورسم معالمِ أوراشِ تنمية مغرب ما بعد الاستقلال.
وكان ملك البلاد هو من أشرف على انطلاق عملية البث من خلال حفل تدشين رسمي ارتبط بأول زيارة له للعاصمة العلمية. ولعله حدث اعلامي جهوي يحضر في أرشيف يوميات عدة مغربية مواكبة آنذاك، منها "العلم" التي تناولت في مقال لها ما كانت بصدده فاس من مشاريع هامة بطابع ثقافي علمي واجتماعي من ضمنها محطة للاذاعة. أما يومية "التحرير" التي كان يرأس تحريرها عبد الرحمن اليوسفي، فقد أوردت في صفحتها الأولى، مقالا افتتاحياً رصد أجواء رحلة الملك من الرباط الى فاس وما لقيه بها جلالته من ترحيب باطلاق المدافع لإحدى وعشرين طلقة. وتحدثت في مقال ثان عن مشروع اذاعةٍ بفاس ضمن برنامج الزيارة، وهو ما تم تدشينه من قِبل الملك رفقة وزير البريد ومدير الإذاعة الوطنية.
خبر إحداث اذاعة بفاس خلال ربيع 1961 أوردته أيضاً جريدة "الشعب" التي كانت تصدر من طنجة، كذا جريدة "الفجر" التي كانت تصدر من الرباط وقد أشارت هذه الأخيرة في تغطية خصصتها للحدث أن جلالة الملك انتقل الى مقر اذاعة فاس الجهوية بعدما دشن المقر الجديد للجامعة بفاس ولعل الموقع هو "ظهر المهراز"، وقد استقبل في مدخل الاذاعة من قِبل وزير البريد والبرق والتليفون ووزير الأنباء والسياحة ومدير الاذاعة الوطنية، وأنه بعد تلاوة آيات من الذكر الحكيم والانصات لوصلات جوقي طرب الآلة وفن الملحون غادر جلالته مركز الاذاعة بنفس ما استقبل به من حفاوة وترحاب.
ومن اليوميات الفرنسية التي كانت لسان حال المعمرين زمن الحماية بالمغرب والتي استمر صدورها لسنوات بعد استقلال البلاد، أوردت la vigie marocaine في صفحتها الاولى مقالا حول حدث انشاء اذاعة جهوية بفاس، وهو ما اعتبرته بقيمة هامة ضمن رهانات النماء المحلي وسياسة اللامركزية في مغرب الاستقلال. نفسها اليومية أفادت حول تدشين الملك لاذاعة فاس أن من الشخصيات الحكومية المسؤولة عن قطاع الاعلام التي كانت في الاستقبال، هناك وزير البريد "الشرقاوي" ووزير الاعلام والسياحة "أحمد العلوي" ثم المدير العام للاذاعة المغربية "محمد المختار ولد البا" اضافة للمهندس الرئيسي المسؤول بالإذاعة "عبد الحق بن كيران".
ومن التجارب الصحفية الأولى بالمغرب على عهد الحماية منذ عشرينات القرن الماضي نجد "le petit marocain"، التي خصصت سلسلة تغطيات لحدث تأسيس وتدشين الاذاعة الجهوية لفاس أشارت فيها لِما كان عليه حفل استقبال الملك من حفاوة وباقات ورود وثمر وحليب، ومن ترحيب على ايقاع طرب الآلة الذي كان يطبع المدينة ويميزها، حيث تم اعطاء انطلاقة البث رسمياً بضغط جلالته على زر التشغيل الخاص بجهاز الارسال الاذاعي Emetteur .
هكذا تمكنت اذاعة فاس بايقاع جهوي جديد منذ بداية ستينات القرن الماضي، من بناء ونسج ونحت موقع متميز لها، ومن بلوغ وتحقيق عمر اعلامي زاخر بحوالي ستة عقود من الفعل والتفاعل والانجاز والعطاء والوصل والمودة والخبر والقرب والبهاء والأرشيف..، ما يذكره ويشهد به كبار المثقفين والمبدعين والاعلاميين المغاربة. ويكفي أن جل من أثث زمن الأغنية المغربية الذهبي وصنع مسارها الحديث وتميزها الشامخ خلال ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي كانت اذاعة فاس مدرسته الأولى، ولعل الزائر لاذاعة فاس يجد نفسه وهو في بهو هذه المحطة الاعلامية المغربية التاريخية، محاطاً بما يحتويه ويحفظه المكان من صور مبدعين ومطربين وموسيقيين تراثيين مغاربة كبار، هم برمزية خاصة في ذاكرة اذاعة فاس. بل كانت هذه الاخيرة بفضل في ابراز مواهب أصوات فنية طربية مغربية صنعت ربرتواراً غنائياً وطنياً خالداً، من عيار عبد الهادي بالخياط ،عبد الوهاب الدكالي، عبد الرحيم السقاط، محمد المزكًلدي، محمد فويتح، المعطي بلقاسم، أحمد الشجعي،فتح الله المغاري، عبد الرفيع الجوهري، محمد بوزوبع، الطيب العلج، عبد الكريم الرايس، مولاي احمد الوكيلي..، وغيرهم كثير ممن كانوا بأثر معبر في مجد الأغنية المغربية وهيبة مقامها ومقاماتها وبهاءها عزفاً ولحناً وزجلا غنائياً عميقاً. ويكفي التأمل في ذخيرة ما لا تزال تحتويه خزانة اذاعة فاس، وما يحفظه أرشيفها الفني من تسجيلات نادرة لأروع ما أغنى به السلف المغربي مجال الطرب والغناء وموسيقى التراث بشتى ألوانها وأصنافها، لمعرفة ما كانت عليه هذه الدار وعلى امتداد عقود من الزمن من ديناميةٍ واشعاعٍ ودفئ لابداع حقيقي ومبدعين.
مغردة إذن كانت ولا زالت اذاعة فاس شامخة متألقة مفعمة بحيوية على ايقاع نغم مجالي جهوي متميز، لمِا هي عليه من تراكم وتجارب وخبرات وإرث مهني وما كانت عليه ولا تزال من كفاءات مؤطرة لفعلها وتفاعلها، مستحقةً أسرةً إعلاميةً وذاكرةً معاً وقفةَ إجلالٍ وإكبار في ذكرى تأسيسها وبمناسبة مرور ثمانية وخمسين ربيعاً من بثها وأثيرها وتألق إعلامييها وتفرد وتنوع عطاءها وغنى ذاكرتها.
ولعل ذكرى تأسيس اذاعة فاس الجهوية قبل حوالي ستة عقود، مناسبة لاثارة ما ينبغي من عناية وإلتفاتٍ للاذاعات الجهوية المغربية قديمها وحديثها، وما ينبغي من إنصاتٍ لحاجياتها المادية التقنية والتدبيرية والبشرية، للقيام بما هو منوط بها من أدوار حفاظاً على مسارها وسيرها ورسالتها الاعلامية، وتناغماً مع مبدأ القرب وما هو منشود من جهوية متقدمة وتدبير واستثمار واشعاع وتنافسية ترابية.
عبد السلام انويكًة - باحث









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيل في شمال قطاع غزة هو الأعنف منذ إعلان خفض القوا


.. طفل فلسطيني برفح يعبر عن سعادته بعد تناوله -ساندويتش شاورما-




.. السيناتور ساندرز: نحن متواطئون فيما يحدث في غزة والحرب ليست


.. البنتاغون: لدينا بعض المخاوف بشأن مختلف مسارات الخطط الإسرائ




.. تظاهرة مؤيدة لفلسطين في بروكلين للمطالبة بوقف تسليح إسرائيل