الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في العلمانية – 10 – ما بين بُنى الوعي و القرار السياسي.

نضال الربضي

2019 / 4 / 12
المجتمع المدني


بمراقبة أوضاع البلاد الناطقة بالعربية و تطورات الأحداث على كافة المستويات، نجد أن الحاجة إلى العلمانية قد أصبحت شديدة الإلحاح، من حيث تعريف هذه العلمانية بأنها الثقافة التي تنظر إلى الواقع كما هو، بحسب نفسه، بدون الحاجة إلى العودة إلى أي مصدر آخر غيبي مفارق للواقع، أو أيديولوجية غير دينية فارضة لرؤية ٍ ما غير واقعية، و ذلك بهدف فهم هذا الواقع كخطوة أولى نحو إيجاد الحلول للمشكلات الإنسانية التي يعانيها مجتمع ٌ ما.

و بهذه المراقبة الحثيثة طورا ً، و المترافقة مع محيا هذا الواقع الضاغط على الإنسان الناطق بالعربية، و بالمعاناة الضاغطة على هذا المحيا أطوارا ً أخرى، نجد أن طريق الخلاص من هذا الواقع لا بدَّ أن يمر َّ أولا ً بالاعتراف الواضح و الصريح بوجود الخلل، ثم بالبحث المتجرد من أي اعتبارات مُسبقة عن سبب هذه الخلل، ثم َّ بقبول النتائج المُتأتِّية من هذا البحث، و التي لا بُدَّ أن تتسبَّب للباحث بالكثير من الضيق إذ ستضطره للتجرُّد ِ من مُسلَّمات ٍ و موروثات ٍ و قناعات ٍ و بديهيَّات ٍ تُشكّل بالنسبة له لَبِنات بناء الهوية و الثقافة و المُنطلق نحو الحياة، أو بكلمة ٍ أُخرى: تُشكِّل البرنامج َ الآلي الذي يُسيِّره بتلقائيِّة ٍ و طمأنينة.

يهدف ُ هذا المقال إلى إبراز ِ الحاجة ِ المُلحَّة إلى بناء لبنات جديدة لإنتاح هوية و ثقافة جديدتين، من أجل تحريك المجتمع نحو وضع ٍ جديد يستطيع بواسطته أن يلتحق بالمجموع الإنساني العام الفاعل الحضاري بمنتجات ٍ تمتلك صفتين: الأولى خاصة بفعل كونها مُنتجا ً للمجتمع المُمتلك لهوية ٍ متميِّزة بحكم تاريخه و تفاعله الحضاري، و الثانية عامة بفعل انتمائه إلى المُشترك الجمعي الإنساني.

تعريف بُنى الوعي
-------------------
أقصدُ ببُنية الوعي أي تركيب ٍ نفسي ناتج ٍ عن فهم لظرف ٍ ما من ظروف الحياة، و هو هنا بُنية وعي: لأن الوعي في حدِّ ذاته هو إدراكُ الكائن لنفسه و لمُحيطه و لشبكة العلاقة التي تحكمُ تفاعله مع ذاته و مع مُحيطه، و عليه فإننا نهتمُّ هنا بأربعة ِ أمور ٍ رئيسية: كيف يرى الكائنُ البشري الواقع، و السبب (الأسباب) التي أدَّت إلى هذه الرؤية، و القناعات التي تشكَّلت نتيجة هذه الرؤية، و الأفعال الناتجة عن الرؤية و القناعات.

و أعرضُ هنا أمام القرَّاء الكرام رؤيتي بأنَّ بُنى الوعي مسؤولة عن أمرين: الأوَّل هو مسلك الكائن في المُجتمع أو البيئة التي يحيا فيها، و الثاني هو تشكيل الكائن الجمعي الذي يحملُ المجموع العام على اتِّخاذِ موقف مُعيَّن من قضِّية مُجتمعية تُعرضُ أمام ذلك المجتمع على أيِّ مُستوى ً كان.


تشكيل بُنى الوعي
-------------------
باعتبار الإنسان كائنا ً واعيا ً يتشكَّلُ وعيُه كنتيجة مباشرة لعمل الدماغ، و بالتالي ينمو و يكبُر و يتَّسع و تزدادُ قدراته بنموِّ هذا الدماغ، فإنَّنا مُلزمون بدراسة المراحل التي يمرُّ فيها هذا النُموُّ، باعتبارها مفتاح فهم كيفية تشكيل بُنى الوعي المختلفة، و سنجدُ كنتيجة ٍ لهذه الدراسة اشتراك الجنس البشري في الخضوع لتأثير المؤسسات التالية:

- العائلة.
- الأقران.
- مُنشآت الأدلجة التعليمية(كتاتيب بسيطة، مدرسة، كُلِّية، جامعة، معهد، مراكز تلقين، الخ).
- مؤسسات المُجتمع المُختلفة (عمل، ترفيه: مطاعم فنادق نوادي صالونات الخ، خدمات، قطاع حكومي، قطاع خاص، منظمات مدنية).

تعمل هذه المؤسَّسات جميعها بشكل مباشر و غير مباشر، و عن قصد و بدون قصد، على برمجة الكائن البشري لكي يرى الحياة بطريقة مُعينة، و يتفاعل معها بطرق مُحدَّدة تُصبح: الطبيعي و المقبول، و يُخرج كل ما عداها من دائرة ما يُمكن الرضى بوجوده، فيتحوَّل بالضرورة إلى عدوٍّ من نوع ٍ ما، له وزن ٌ ما، يتحدَّدُ على أساسِه نوع و شدَّه و استمرارية العمل الاستئصالي الذي سيتعرضُ له، أي بعبارة أخرى: يتم ُّ برمجة الوعي ليُعادي ما هو خارج ٌ عن هذه الدائرة، و بالتالي يتم ُّ تحويل مسار بعض (أو كل) قوى المقاومة الجمعية إلى قناة محاربة هذا الخارج.

إن دراسة عوامل تشكيل الوعيَين الفردي و الجمعي، ستقودنا بالضرورة إلى نتيجة ٍ بسيطة ٍ مفادُها أننا مُحتاجون لبناء وعي جديد، و هذه الفكرة على بساطتها هي مُفتاح الباب المؤدي إلى الخروج من عُزلتنا الحضارية و مآزقنا المُجتمعية و الدولية على حدٍّ سواء. هنا أقول بكل وضوح و صراحة أننا بحاجة إلى النظر إلى الحياة كما هي على حقيقتها و بحسب الواقع لنُشكِّل الثقافة الجديدة و الوعي الجديد و بالتالي نأتي بالقناعات الجديدة و الأفعال الحضارية الحداثية التي نستطيع ُ بها أن نُجاري الأمم الأخرى و نساهم معها في بناء الحضارة، و بعبارة ٍ أخرى أرى أننا لن نستطيع أن نتخلَّص َ من ركودنا الثقافي و الإنساني بالعودة إلى أي تُراث ٍ كان أو تاريخ ٍ ما أو باستلهام ِ أي شخصيات ٍ قديمة أو أيديولوجيات ٍ ماضية أو أشكال دُول ٍ أو امبراطوريات ٍ أو خِلافات سابقة من أي نوع.

القرار السياسي في انتقال المجتمع إلى العلمانية
-----------------------------------------------
إن خلق و تشكيل بُنى الوعي الجديدة لا بُدَّ أن يتحصّل من السلوك المُستدام للجماعات المُشكلة للمجتمع ككل، أي كنتيجة لثقافة سلوكية و منهج حياتي، سواء ً كان معلوماً لدى هذه الجماعات، أو مُتَّبعا ً بدون إدراكها لعمله الفعّال في بناء وعيهم. يترتبُ على هذا بالضرورة أن يكون هذا السلوك شموليا ً من جهة هيمنته على الحياة في كافَّة ِ صورها، و جُزئيا ً خاصَّا ً من جهة اعتنائه بتفاصيل كل جزء، و هو الأمر الذي يتحقَّقُ فقط من خلال سياسة شاملة للحياة الفردية تقومُ فيها الدولة بدور المُسهِّل و الضامن لمُتطلبات الوجود الإنساني و استحقاقاته التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المنشور على موقع الأمم المتحدة. (أنظر(ي) رابطه في أسفل المقال)

يُشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان دستورا ً إنسانيا ً من جهة تناوله لطبيعة الإنسان ككائن عاقل ذي كرامة، و أمميَّا ً من جهة تجاوزه للحواجز الجغرافية، و خارطة ً واضحة نحو الوصول إلى المجتمع الإنساني، بحكم تركيزه على الحالة التي يجب ان يكون عليها كل إنسان و الحقوق التي تولد معه، و بالتالي يكفي لأي منظمة حقوقية أو مدنية أو دولية أن تنظر فيه و تقارنه بما لديها و تحدد مكانها الحالي مما جاء فيه، لتعرف َ الفارق و تحدد الناقص و تسعى نحو تأمينه و الوصول إليه.

يستلزم السابق بالضرورة استعدادا ً كاملا ً للانفتاح على التحديات التي ستترافقُ مع التوجهات الجديدة، و تشكيل فرق عمل واضحة الأهداف، و تسهيل عملها، و تزويدها بكل ما يلزم من مصادر و آليات عمل، و استحداث قوانين تستديمها و تحصنها ضد الاستهداف العابث من قوى الرجعية و التزمت و التعصب و الاستبداد أو قوى الفساد و التنفُّع و التربُّح.

و ليس من الصعب الاعتراف بأن قرارا ً سياسيا ً بهذا الحجم هو بمثابة ِ ولادة ٍ جديدة ٍ لأي ِّ أمّة كانت، و أن الوصول َ إليه يبدو للوهلة الأولى مُجرَّد حُلم ٍ رومانسي لا أكثر، لا يمكن أن يتبلور إلى حقيقة أو يتجسد َ إلى تحقيق، خصوصا ً إذا ما كانت الأمَّة ُ التي يسعى هذا القرارُ إلى بناء ِ وعيها لا تفهمُ موقعها من العالم و تعيشُ بين أوهام ِ التفوُّق ٍ و هذيان المظلومية. و تتعمَّق ُ الأزمة ُ حينما يصبح ذات الشعب ِ عدوَّا ً لصاحب القرار المُستنير حينما يبدأ بزراعة الوعي الجديد.

إننا هنا أمام مُعضِلات عدَّة حقيقةً:

- الأولى هي غيابُ رؤيا بناء الوعي الجديد عن القرار السياسي.
- و الثانية هي غياب وعي الشعب ِ عما هو فيه و عمّا يجب أن يكونه.
- و الثالثة هي وجود قوى شدٍّ عكسي تتأصل في الرجعية، ترى في وضع الشعب مُنطلقا ً نحو تحقيق أهدافها التي تحملُ في جوهرها عداء ً لحقوق الإنسان.
- و الرابعة هي وجود قوى شد عكسي نفعي، له هدف ٌ تجاري يريد منه تعظيم َ أرباحِه و تكويم ثرواته، فيستثمرُ في منظومة الفساد و يعاندُ بشدَّة أي محاولة ٍ لتشكيل بنى وعي ٍ ستحدُّ من أطماعه بالضرورة.
- و الخامسة و هي الأهم: التوازنات التي تحافظُ عليها أي ُّ حكومة كانت، و التي تُدير الواقعَ كما هو، بأقلِّ نسبة ٍ من التصادم، و بالكثير من الحسابات الدقيقة التي تُبقي لكلِّ مجموعة ٍ وزنا ً محدَّداً و دورا ً مُعيَّناً و مساحة َ عمل معروفة لا يجوز تجاوزها.

تحليل ختامي
------------
ليس في قدرة ِ مقال ٍ أو أكثر أن يقدِّم حلّاً كاملاً، إنما نستطيعُ بتسليط ِ الضوء ِ على مكاننا، و مواضع الخلل، و طموحاتنا، و محطات الرحلة، و الوجهة ِ النهائية ِ التي نُريد أن نصل َ إليها،،،

،،، أقول: إنما بتسليط الضوء نستطيعُ أن نتجادل َ مع الواقع بديناميكية مُنفتحة على الحياة ِو الإمكانيات، لنمضي نحو المستقبل.

أي أنني أقول ببساطة شديدة:
نحن هنا،
و هناك يجب أن تكون،
و حتى نصل فلنفكر معا: كيف!

أترك لك قارئي العزيز و قارئتي العزيزة، أن تفكرا، لتجدا الحل، و لتصنعا المستقبل، فلا شيء مُحدَّدٌ سابقاً، و لا إطاراً يقيدكما، و لا ينبغي لفكرة ٍ ما أن تستحوذَ عليكما، إنما من عقولنا الفردية سنصنعُ حلولاً!

إنني إذاً أؤسِّسُ لكما منهجاً حرَّاً، تنطلقان منه تفكيراً، و تبنيانه و تصنعان منه و به!

-----------------------------------------------------------------------
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بنسخته العربية، كما هو منشور على موقع ِ الأمم المتحدة:
https://www.un.org/ar/universal-declaration-human-rights/index.html








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بسبب خلاف ضريبي.. مساعدات الأمم المتحدة عالقة في جنوب السودا


.. نعمت شفيق.. رئيسة جامعة كولومبيا التي أبلغت الشرطة لاعتقال د




.. في قضية ترحيل النازحين السوريين... لبنان ليس طرفًا في اتفاقي


.. اعتقال مناهضين لحرب إسرائيل على غزة بجامعة جنوب كاليفورنيا




.. بينهم نتنياهو.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة إسرائيل بسبب حر