الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورات العربية وأوهام التغيير

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2019 / 4 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


الثورات العربية وأوهام التغيير

احتفالات لا تنتهي في السودان. بعد يوم واحد من عزل الطاغية عمر البشير الذي حكم البلاد بيد من حديد طيلة ثلاثة عقود، خرج السودانيون للتهليل بتنحي خلفه ووزير دفاعه عوض بن عوف من رئاسة المجلس العسكري. لم يُعرف بعد سر هذا التبدل السريع والمفاجئ في سلوك بن عوف، غير أن ذلك لن يغير من الطابع التاريخي لما حدث ويحدث في السوادان وحق الجماهير بالاحتفال به. لكن ماذا بعد نشوة الانتصار؟ هل سينجح السودان في تجاوز الديكتاتورية والمضي بخطوات ثابتة على طريق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة؟ أم أنه ومعه المنطقة على موعد مع خيبة أمل تاريخية جديدة؟
نفس هذه التساؤلات تواجه عمليا الثورة الجزائرية التي أطاحت برئيس مريض متمسك بكرسي السلطة "المتحرك" حتى الرمق الأخير. صحيح أن الجزائر تبدو أفضل حالا من السودان بحكم ثورتها النفطية والغازية واحتياطاتها المالية الضخمة ودرجة تطور المجتمع وتماسكه، إضافة الى أن سلمية الحراك الشعبي وعدم لجوء السلطات للعنف السافر كانا حتى الآن من أهم سمات الانتفاضة ضد نظام بوتقليقة ورموز حكمه. مع ذلك لا تقتصر العلاقة بين الثورتين على تزامنهما فقط، وإنما كلاهما تواجهان تحديات صعبة متشابهة بخصوص آفاق التغيير.
لا يوجد بالتأكيد سيناريو حتمي، لأن هذا هو ببساطة منطق التاريخ حيث لا توجد قوانين صارمة لتطور المجتمع من مرحلة إلى أخرى، كما توهم مفكرون كبار، وإنما يبقى التطور اللاحق مفتوحا على احتمالات مختلفة، وبما فيها الانتكاس، وستعتمد النتيجة على تفاعل عوامل عديدة ترتبط بتوازن القوى وتركيبة المجتمع وثقافته المتراكمة على مدى قرون. من المؤكد أن هناك ثمة تغيير حقيقي وجذري، ولكن السؤال الذي يصعب الإجابة عليه: هل سيكون نحو الأفضل أم الأسوأ؟ ألا يجدر بالباحثين والمحللين السياسيين قراءة تجربة ثورات الربيع العربي التي احتفل بها التونسيون والمصريون والليبيون واليمنيون والسوريون وأدت في نهاية المطاف إلى شتاء قارس وطويل؟
في كل الأحوال لن يقتصر التغيير في السودان والجزائر على تبديل الوجوه، كما يخشى كثيرون، وإنما ستنشأ نخبة سياسية جديدة وقوى جديدة. كما أن المجتمع المدني شهد خلال أسابيع الانتفاضة القليلة تحولات ما كانت لتحدث في عقود من الزمن. لكن كل هذه التغييرات - مع أهميتها القصوى - لن تعني تلقائيا تحولا في البنية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وبما يمهد لإصلاح حقيقي ومستدام. كما أن النخب والقوى الجديدة يمكن أن تعيد إنتاج أساليب الحكم القديمة، طالما أن الثقافات والقيم والسلوكيات السائدة في المجتمع بقيت على حالها أو أن التغيير اقتصر على السطح. من جهة أخرى تعول أوساط شعبية واسعة على تحسن أوضاعها المعيشية سريعا. وبطبيعة الحال فإن ارتفاع سقف التوقعات والخوف من ضغط الشارع سيشكلان عائقا كبيرا أمام أي إصلاحات جدية.
من المؤكد أن هناك اختلافات عميقة بين السودان والجزائر من جهة وبلدان الربيع العربي من جهة أخرى، لكن في نفس الوقت تظهر المقارنة تشابها في جوانب كثيرة، ووجود اختلالات وتناقضات أدت إلى وصول الثورات في مصر وليبيا واليمن وسوريا إلى طريق مسدود.
يعاني العالم العربي عموما من ظاهرة التشظي السكاني والسياسي والاجتماعي التي تتجلى على شكل حروب أهلية وصراعات فئوية ودينية ومذهبية وعشائرية ومناطقية طاحنة. ويوفر العامل الديموغرافي المتمثل في الانفجار السكاني الأرضية الخصبة لحالة التشظي والتمزق ولاندلاع موجات نزوح يمكن أن تأكل الأخضر واليابس. في السودان أيضا تضاعف عدد السكان عدة مرات في العقود الماضية جراء استمرار معدل نمو السكان العالي والذي يقارب حاليا 2,5 % بحسب بيانات الأمم المتحدة، بينما لا يزال معدل الخصوبة يزيد عن أربعة أطفال لكل سودانية. وبطبيعة الحال فإن هذه الأرقام مؤشرات متوسطة، وتخفي التباين الشديد بين مختلف الفئات. فهذا النمو السريع يتركز عادة في الفئات الفقيرة والمهمشة والتي لا تحظى فيها المرأة على وجه الخصوص بنصيب من التعليم. ومن دون شك يساهم الفائض في الشباب الساخط في تأجيج الصراعات ودورات العنف، بينما يتضاءل دور الطبقة الوسطى التي تمثل عادة صمام الآمان لتجاوز المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر.
من جهة أخرى ساهمت القنبلة الديموغرافية في تفاقم أزمة الدولة الريعية في كل من السودان والجزائر والتي شكلت عاملا جوهريا لاندلاع الثورات الحالية. غير أن تجاوز الطابع الريعي للاقتصاد يبقى مجرد شعار فارغ دون تبنى إجراءات سريعة لتطوير اقتصاد السوق واعتماد نظام ضريبي عادل وكفوء. وكل ذلك يصعب تمريره إذا ما استمرت حالة الغليان الشعبي ووجود قوى وأوساط شعبوية تسعى للوصول إلى السلطة عبر المزايدات وطرح شعارات رافضة لأي جهد إصلاحي.
لا أحد ينكر أن الفضل في الإطاحة بالنظام الاستبدادي يعود بالدرجة الأولى إلى غضب الشارع ، إلا أن المتظاهرين وبغض النظر عن عددهم لا يمكن أن يصبحوا بديلا للإرادة الشعبية المتمثلة في انتخابات حرة ونزيهة. بعيدا عن الادعاءات ذات الطابع الدعائي عن المسيرات "المليونية"، يبقى المحتجون في نهاية الطاف أقلية في المجتمع وغير مخولة ديمقراطيا بتمثيل الشعب. كما يتعين على منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها النقابات تجنب الانخراط المباشر في الصراع على السلطة وعدم تناسي وظيفتها الأساسية وهي الدفاع عن حقوق منتسبيها. من دون ذلك يزداد خطر ظاهرة دكتاتورية الشارع عندما تحاول أقلية نشطة فرض آرائها على الأغلبية بعيدا عن الآليات الديمقراطية. في هذا الخصوص يتعين استذكار أفكار الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" عن أهمية ضبط العلاقة المعقدة بين الحرية والقانون والسلطة من أجل الوصول إلى الجمهورية، أي دولة القانون. لقد ميّز فيلسوف التنوير البارز أربع حالات مرت بها البشرية حتى الآن:
الأولى: الفوضى عندما تسود الحرية والقانون وتغيب السلطة.
الثانية: الاستبداد عندما يسود القانون والسلطة وتغيب الحرية.
الثالثة: البربرية عندما تسود السلطة فقط مقابل غياب الحرية والقانون.
وأخيرا الديمقراطية عندما تسود السلطة والحرية والقانون على حد سواء.
ويبدو أن المجتمعات العربية لا تزال تدور في فلك الحالتين الأولى والثانية وتتنقل بينهما مع وجود مظاهر للحالة الثالثة، بينما تواجه صعوبة كبيرة في مراعاة العلاقة العضوية بين العناصر الثلاثة لتجاوز الاستبداد دون الدخول في الفوضى أو البربرية.
على الرغم من المآلات المأساوية لثورات 2011 لم تتعظ بعد الكثير من القوى والتيارات السياسية العربية ومعها منظمات للمجتمع المدني ومنابر إعلامية عديدة والتي لا تزال تمجد الثورات وتهلل لعنف الشارع كمحرك التغيير. لا يمكن وصف ذلك بـ"الرومانسية الثورية"، بل هو توجه شعوبي واضح لتملق الجماهير ومحاولة استمالتها بهدف القفز إلى السلطة. ومن الغريب أن هذه النظرة السطحية للثورات واعتبارها الوسيلة الوحيدة للتغيير نحو الأحسن لا تراعي النتائج الفعلية لما يدعى بثورات التحرر الوطني في مصر والعراق وسوريا وغيرها ودورها في إقامة نظم استبدادية وفشل عملية التنمية وتراجع المجتمعات نحو الوراء. كما يبدو أن المهللين للثورات يتناسون ما آلت إليه الثورة الشعبية الإيرانية عام 1979 والتي انتهت بإقامة نظام ثيوقراطي فاشي لا يزال يلقي بظلاله على المنطقة برمتها.
من جانب آخر تتجلى هذه "الروح الثورية" في العالم العربي في انتشار عقلية رافضة للتغيير عن طريق الإصلاحات التدريجية. ومن دون شك فإن إخفاق عملية الإصلاح جراء المزاج الشعبي السائد وفساد السلطات وعجزها كان أحد الأسباب الرئيسية لدخول السودان في أزمة اقتصادية خانقة تلو الأخرى وركود الاقتصاد الجزائري.
حتى لا تنتهي أجواء الفرح والاحتفال بالثورتين السودانية والجزائرية إلى مأزق تاريخي يتعين على القوى الديمقراطية الحية قطع الطريق على القوى الشعبوية المتربصة للقفز إلى السلطة، والانحياز إلى نهج التغيير وطريق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية. ولكي لا ينطبق على الثورتين التعريف الساخر للكاتب الأيرلندي المعروف أوسكار وايلد عندما قال: "الثورة جهد تكلل بالنجاح من أجل التخلص من حكومة سيئة وإقامة حكومة أسوأ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الثورات والإنتفاضات خياران عند الضرورة
حميد فكري ( 2019 / 4 / 14 - 20:13 )
حتى لو فشلت كل من الإنتفاضتين الشعبيتين -ولا أقول الثورتين - في الجزائر والسودان ,في تحقيق أهدافهما وطموحاتهما .فهذا لا يعطي مبررا للتشكيك في فعالية الثورات والإنتفاضات ,باعتبارهما أشكال للتغيير عند الضرورة .
الشعوب تثور وتنتفض ,لأنها لم تجد على أرض الواقع خيار أخر .
فهي قد سئمت خلال عقود من التزييف والمراوغات , ,بخطابات الوعد بالإصلاحات ولكن شيئا من هذا لم يتحقق على أرض الواقع .
والأن إختارت مجبرة طريق الثورات والإنتفاضات ,- مكره أخاك لابطل - وفي حال فشل هذا الخيار ,فالفشل يعود إلى تلك القوى الرجعية التي ترفض وتخشى التغيير ,لأن في التغيير يكمن موتها .
بكلمة الأنظمة هي من تتحمل مسؤولية فشل كل تغيير وكل إصلاح وليس الشعب ,لأنها رفضت الإصلاح بالأمس ,وترفض التغيير اليوم .
إذن علينا ,أن نفضح ونعري حقيقة هذه الأنظمة المتهالكة ,بدل التجريح في الشعب .


2 - الثورة والإصلاح
ناجح العبيدي ( 2019 / 4 / 14 - 23:26 )
كأي حدث تاريخي يجب تقييم الثورات بنتائجها العملية ودورها في تحسين أوضاع الشعب وليس انطلاقا من الشعارات أو التمنيات. ويجب القول بإن الثورات في منطقتنا أدت في معظم الحالات إلى مآسي كبيرة آخرها ما يحدث في اليمن وليبيا وسوريا نتيجة ثورات ما يدعى بالربيع العربي وفشلت في تقديم البديل. انا أعتقد بان طريق الإصلاحات التدريجية يؤدي على المدى الطويل إلى نتائج أفضل ويجنب الشعوب هزات عنيفة والصراعات الدامية


3 - الفارق بينهما
متابع ( 2019 / 4 / 15 - 07:07 )
الثورة في السودان تقضي على نظام اخواني عسكري فاسد فهي ذات طبيعة مدنية وللسودان ارث في الديمقراطية لاباس به
الثورة في الجزائر ضد نظام عسكري فاسد لكن الحركات الاسلامية قوية ومتخفية الان وهذا مكمن الخطورة
شكرا للكاتب المحترم
شكرا للحوار المتمدن

اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل