الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد شعار ”المَلَكِيَة البَرْلَمَانِيَة“

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2019 / 4 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


أثناء "حركة 20 فبراير" بالمغرب، أي في سنة 2011، رَفَعَ بعض المناضلين المتظاهرين شعارَ «إسقاط النظام» السياسي القائم بالمغرب. وعَارَضَهم مناضلون آخرون، يَنْتَمُون على الخُصُوص إلى «حزب الاشتراكي المُوَحَّد». وأراد أنصار «حزب الاشتراكي المُوَحَّد» تَحْجِيم هذا التوجُّه الجَذْرِي. ودَافَعُوا عن ضرورة «تَسْقِيفِ» مَطَالِب "حَركة 20 فبراير"، عبر مَنْع تَجَاوُز «سَقْف المَلَكِية البرلمانية». وغاية هذا «التَسْقِيف» هي منع رَفْع شعار «إسقاط النظام»، وحَصْر الطُّمُوحَات في حُدود تحويل «المَلَكِيَة المُطلقة» إلى «مَلَكِيَة برلمانية».
وأُطْرُوحَة «سَقْف المَلَكِيَة البَرْلَمانية» فيها جانبان. الجانب الأول هو مشكل «التَّسْقِيف»، والجانب الثاني هو مشكل مَدَى قَابِلِيَة شعار «الملكية البرلمانية» للإِنْجَاز.
في الجانب الأول، يُرَادُ من «التَسْقِيفُ» منعَ خَوض أيّ نضال يتجاوز «سَـقْف» المَلَكِية البرلمانية. كما يعني «التسقيف» مَنْعَ الطُمُوحِ الرَّادِيكَالي (أو الجَذْريَ) في النضال الجماهيري المُشْتَرك. فَـ «التسقيف» يريد منع تجاوز درجة مُحَدَّدَة في خوض النضال المُشترك. وفي الماضي، كانت هَرَاوَات القوات القمعية هي التي تمنعنا من أن نكون «جَذِْرِيين» أو «رَادِيكَالِيين» في نضالاتنا. والآن تأتي أَبَوِيَة "الحزب الاشتراكي المُوَحَّد"، وَتَصْفَعُنَا بِـ «التَّسْقِيف»، وتمنعنا من الطموح إلى مَا هو أكثر من هذا «السَّقْف» المفروض. وكل «تَسْـقِيف» في مجال النضال الجماهيري المشترك هو كَبْتٌ، وخَنْقٌ، ومَنْعٌ، وقَمْعٌ. وعكس «التَسْقِيف» هو تشجيع حُرِّيَة الإبداع، وتحرير الطُّمُوحات، ودَعْم الجُرْأَة، ومُنَاصَرَة الثَّوْرِيَة، والتَفَهُّم لِدَوَاعِي الجَذْرِيَة.
وفي الجانب الثاني، إذا حاولنا تحليل شعار «المَلكية البرلمانية»، سنجد أن طُموحه يَنْحَصِرُ في حُدود تغيير شكل النظام السياسي المَلكي. ولا يَجْرُؤُ هذا الشعار على الطموح إلى استبدال النظام المَلَكِي بنظام آخر. حيث يبتغي هذا الشعار الانتقال من مَلَكِية «مَخْزَنِيَة»، أو «تَنْفِيذِيَة»، أو مُطْلَقَة، إلى مَلَكِيَة تُمارس المُلْكَ، دون أن يتدخّل فيها المَلِكُ في تسيير وتقرير شؤون البلاد. ويهدف شعار «المَلكية البرلمانية» إلى نَـقْل الصَّلَاحِيَّات السياسية، المُخَوَّلَة حَالِيًّا لِمَلِك وِرَاثِي، وغير قَابِل للنَـقْد، وللمُراقبة، وللمُحاسبة، ونَـقْل هذه الصلاحيات إلى رَئيس حُكومة، يَتَمَيَّزُ بكونه مُنْتَخَبًا، خلال عُهْدَة (mandat) مُحَدَّدة (غير قَابِلَة للتَّمْدِيد)، وخاضعًا للنَّـقْد، وللمراقبة، وللمحاسبة، ولِلْإِقَالَة.
وَلَم تكن «المَلكية البرلمانية» فقط مرْفُوضة من طرف مَلِك المغرب، خلال العُقُود التي تَلَت استقلال المغرب في سنة 1956، بل كان الكلام عنها ممنوعا، ويُعَاقِبُ القانون عليه بالحَبْسِ (مثلما حدث للمناضل النقابي نُوبِير الأَمَوِي الذي حُكِمَ عليه بِسَنَتَين من الحبس انتقامًا على كلامه عن «مَلِك يَسُود ولَا يَحْكُم»، أثناء استجوابه مع جريدة "إِلْبَايِيسْ" الإسبانية في سنة 1992).
ونلاحظ اليوم أن أنصار شعار «المَلكية البرلمانية» لم يطرحوا على أنفسهم الأسئلة التالية: هل يمكن حَقًّا للمَلَكِية بالمغرب أن تتنازل عن صلاحياتها المُطلقة لصالح حكومة، أو رئيس وزراء، مُنْتَخَبِين؟ وما هي العناصر الجديدة في الوضعية السياسية في البلاد، التي تُثْبِتُ أن «المَلكية البرلمانية» أصبحت اليوم مُمْكِنة التحقيق؟ وهل يمكن فرض «المَلكية البرلمانية»، بينما مجمل الأحزاب والنُّخَب السياسية، التي تُنْتَخَبُ في البرلمان، وفي المجالس المحلية، تُعارض هذه «الملكية البرلمانية»، وتُدافع على ضرورة بقاء الملكية المُطلقة العَتِيقَة؟ وهل أَوْجَدَت الحركة التقدّمية بالمغرب (بما فيها قوى اليسار) ميزانَ قِوَى جديد وَكَافِ لِدَفْع المَلك إلى التنازل عن صلاحياته المُطلقة؟ وهل يمكن أن يقبل المَلك التنازل عن سلطاته في مجالات قِيَادَة الجَيش، وِأَجْهِزَة الأمن، وِوِزارات السِّيَادة، والعلاقات الخارجية؟ وهل يمكن أن يقبل الملك التَخَلِّيَ عن تـقرير السياسات الاستراتيجية للبلاد في المجالات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والثقافية والإعلامية؟ وهل يمكن أن يقبل المَلك أن يصبح البرلمان هو الذي يُصَوِّتُ بحرّية بالقَبُول أو بالرّفض على ميزانيات مُؤسّـسة المَلك، بما فيها ميزانيات قُصُوره وحَاشِيَاتِه؟ ومن سَيَتَـفَاوَضُ مع المَلك حول نَـقْـل سُلُطَاتِه إلى حكومة مُنْتَخَبَة؟ وخلال كَمْ سَنَة ينبغي أن نُطالب بِـ «مَلَكِية برلمانية» قبل أن يَحِقَّ لنا أن نَسْتَنْتِجَ أن المَلكية بالمغرب مُتَعَنِّتَة في رفض هذا المطلب؟ وما العمل في حالة إذا استمرّت المَلكية بالمغرب في الرّفض التام لهذا المطلب؟
وعلى خلاف بعض الظُّنُون، لَا يكفي أن نتّـفق (في قوى اليسار) على رفع شعار «الملكية البرلمانية»، أو على خوض مظاهرات تُطَالِبُ بتحقيقه، لكي يُعلن المَلك بِسُهُولة استبدال «المَلَكِية التنفيذية» بِـ «مَلَكِية برلمانية». كما أن الأشخاص الذين يعتبرون أن المطالبة بِـ «المَلكية البرلمانية» هي حيلة ذكية لِتَلَافِي عناء تهيئ ثورة مُجتمعية، أو لِتَجَنُّب أخطار خوض ثورة مُجتمعية، لَا يُدْرِكُون أنه يستحيل الانتـقال من مَلكية مُطلقة إلى «مَلكية برلمانية» بدون إنجاز ثورة مُجتمعية تاريخية، تكون عَمِيقَة وشَامِلة. فَلَا يمكن التحايل على قوانين تطوّر المجتمع، كما لا يمكن أن نَخْدَع التاريخ لكي نَتَجَنّبَ بَذْلَ المجهودات والتضحيات الضرورية.
ويعتـقد حَامِلُو شعار «المَلكية البرلمانية» أنه يَكْفِي أن نَنْزَع بعض الصَّلَاحِيَات السياسية من يَد مَلِكٍ وِرَاثِيٍ، يَحْكُمُ على مَدَى الحَيَاة، وأن نُعْطِيَ هذه الصَّلَاحِيَات لِرَئِيس حُكُومة مُنْتَخَب ومُتَغَيِّر، لكي تُصبح فَوْرًا الإصلاحات (الاقتصادية والسياسية والثقافية) المَرْفُوضَة في المَاضي مُمْكِنَة الإنجاز في الحاضر. وهذا التصوّر ليس مُثْبَتًا بِالبَرَاهِين، ولَا مَضْمُونًا بِحُجَج كافية. ولماذا؟ لأن تغيير النظام السياسي القائم لَا يخضع لِنَزَوَات الأشخاص أو الجماعات، ولا يمكن أن يتم بشكل تِلْقَائِي، أو صُدَافِي، أو عَشْوَائِي، أو اعْتِبَاطِي. بل لَا بُدُّ له من الخُضُوع لِقَوَاعِد مُجتمعية دقيقة. فَلَا يمكن تغيير النظام السياسي القائم إِلَّا في إطار ثورة مُجتمعية عَميقة وَشَاملة. ولَا يمكن أن تحدث هذه الثورة المُجتمعية إِلَّا إذا نضجت بما فيه الكِفَايَة شُرُوطُهَا الشعبية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والنضالية. ودرجات نُضج هذه الشروط المُجتمعية، هي التي تُحَدِّد حُظُوظ نجاح أو فشل هذه الثورة المُجتمعية.
وهل يأخذ أنصار شعار «المَلكية البرلمانية» بالحُسْبَان، أن العناصر المُجتمعية التي تُحدّد طبيعة النظام السياسي القائم، لَا تنحصر فقط في نوعية اقتسام «السُّلطات السياسية» فِيمَا بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة؟ فَمِنَ المُسْتَبْعَد أن يُمْكِنَ تغيير توزيع السُّلُطَات السياسية بشكل اعْتِبَاطِي، نتيجة لِمُجَرَّد ضغوط ظرفية، أي في غياب ثورة مُجتمعية عَمِيقَة وشَامِلَة.
وما هي العناصر المُجتمعية التي تُحَدِّدُ نَوْعِيَةَ النظام السياسي القائم في أيّ بلد كان؟ أهم هذه العناصر هي: طبيعة التَشْكِيلَة المُجتمعية، والبنية الطبقية القائمة، ونوعية الطبقات السَّائِدَة، ومستوى تطوّر الصراع الطبقي، والتَشْكِيلَة الاقتصادية، والبِنْيَات التَحْتِيّة، والبِنْيَات الفوقية، ونوعية العلاقات السياسية والمجتمعية القائمة، والأيديولوجية السائدة في المجتمع، ومُستوى تَـثْـقِيف الشعب، ورُتْبَة تَعْبِئَة الجماهير الكادحة والمُهمّشة، ودرجة الفصل بين الدِّين والسياسة، والتقاليد والمعتـقدات المُتَوَارَثَة، إلى آخره. وكل هذه العناصر المذكورة، ليست جامدة، وإنما تظل مُتَرَابِطَة فيما بينها، وفي حالة تطوّر مُستمر.
ومَا دَام انسجامٌ مُعَيّنٌ موجودًا بين هذه العناصر (المذكورة سابقًا) وَنَوْعِيَّة النظام السياسي القائم، فإن هذا النظام السياسي سَيَسْتَمِرُّ في الوجود، وسَيُقاوم مُجمل الضُّغُوطات، ولَن تـقدر المُعارضة السياسية على تغيير هذا النظام السياسي. وعلى خلاف ذلك، حينما تحدث تطوّرات عميقة، أو نوعية، أو كَافِيَة، في تلك العناصر (المذكورة سابقًا)، يصبح النظام السياسي القائم مُجْبَرًا على أن يتطوّر هو أيضًا. فيصبح تغيير هذا النظام السياسي مطلوبا، ومُمكنا، بل مَحْتُومًا. فلا يمكن تغيير نوعية النظام السياسي القائم إذا لم نُحْدِِث تطوّرات عميقة، أو دِينَامِيَةً شَامِلَةً، في تلك العناصر المُجتمعية (المُحَدِّدَة لِنَوْعِيَّة النظام السياسي القائم). وعلى العُموم، لا يمكن تغيير طبيعة النظام السياسي القائم إلَّا إذا نَضَجَت بما فيه الكفاية تَطَوُّرات مُسَاعِدَة، ومُنْسَجِمَة، وَمُتَضَافِرَة، في تلك العناصر المذكورة (المُحَدِّدَة لِنَوْعِيَّة النظام السياسي القائم).
وفي تصوّر الكثيرين من بين المُنَاصِرِين الحاليين لشعار «الملكية البرلمانية»، فإنهم يُرَدِّدُون هذا الشعار دون أن يُنَاضِلُوا بهدف إحداث تغييرات جِدِّيَة في تلك العناصر (المُحَدِّدَة لِنَوْعِيَّة النظام السياسي القائم). وفي هذه الحالة، يمكن لهؤلاء المُناصرين لشعار «المَلكية البرلمانية» أن يُطَالبوا بهذا التغيير، خلال سنوات، أو عُقُود، لكنهم لن يستطيعوا إنجاح مَطلبهم.
وعندما نُنَاقِش فكرة المطالبة بِـ «مَلَكِيَة برلمانية» مع بعض المواطنين البُسَطَاء، يقولون بِحَدَسٍ مَوْضُوعِي: «معظم أفراد النُّخْبَة، وكذلك الطبقة السياسية، هم انتهازيون، وغشّاشون، ومُعْتَادُون على نَهْبِ الثَّـرَوات العُمومية. ولا ينشغلون سوى بتنمية ثَـرَواتهم الشخصية. فإذا مَنَحْنَاهم سُلطات الملك، أو إذا زِدْنَاهُم نُـفُوذًا أكثر مِمَّا كان لَدَيْهِم في السّابق، فإنهم سَيَنْهَبُون بسرعة فائـقة كل ثروات البلاد، ولن يتركوا لنا مَا نعيش به. لِذَلك سيكون من الأحسن أن نَتْرُك سُلطات المَلك بين يَدَيِّ الملك». ومغزى هذا التعليق هو أنه لَا يكفي أن نَنْـقُل سلطات المَلك إلى الحكومة، وإلى الوزراء، لِكَي يَزُولَ فجأةً الفساد والاستبداد والاستغلال المُفرط. وإذا لم نَـقم في نفس الوقت، بإصلاحَات جذرية في الدولة، وفي مُجْمَل آلِيَاتِهَا، وكذلك في الدستور، وفي القضاء، وفي القوانين، وفي الضّرائب، وفي المُحاسبة، وفي الاقتصاد، وفي الشعب، وفي تعبئة الجماهير، وفي الثـقافة، وفي الأيديولوجية السائدة، وفي التَـقاليد والمُعتقدات، وفي العَلاقة بين الدِّين والسياسة، إلى آخره، فإن نَـقل سُلُطَات المَلك إلى الحكومة لن يَـكُون لَا سهلًا، وَلَا كَافِيًّا، للخلاص من الفساد، والاستبداد، والاستغلال الرأسمالي المُفرط.
ولَا يتساءل حَامِلُو شعار «المَلكية البرلمانية» عَمَّنْ هي الطبقة السائدة حَاليًّا؟ وهل ستبقى هذه الطبقةُ سائدةً بَعْدَ تنـفيذ هذه «المَلكية البرلمانية»؟ وفي حالة بقاء نفس البنية الطبقية قائمة بَعْدَ إنجاز «المَلكية البرلمانية»، فَسَنَكُون بِصَدَدِ "تَرْمِيم" في شكل النظام السياسي القائم، وليس بِصَدَد "تَغْيِير" نَوْعِيَةِ هذا النظام السياسي القائم. ولا يضمن هذا "التَرْمِيمُ" إمكانية إنجاز إصلاحات سياسية عَمِيقَة، أو شُمُولِيَة، أو كَافِيَة، من مستوى التخلّص من الاستبداد، والفساد، والاستغلال الراسمالي المُـفرط.
وفي حالة إذا ما تَمَّ نَـقْلُ صَلاحيات المَلك إلى وزراء ينتمون إلى نفس الطبقة السائدة الحالية، أو إلى خُدَّامِهَا الأوفياء، مَا الذي يَضْمَنُ لنا أن هذه الطبقة السائدة سَتَـقْبَلُ فَوْرًا إنجاز الطُموحات (الاقتصادية والسياسية والثقافية) التي كانت ترفضها في الماضي؟ وإذا ما بقيت هذه الطبقة السائدة الحالية في موقعها السَّائد بعد إنجاز «المَلكية البرلمانية»، مَا الذي سيجعلها فجأةً تـقبل بإنجاز الإصلاحات التي ظَلَّت بالأمس ترفضها؟ فَلَا تـقدر على إنجاز تغييرات مُجتمعية من نوع جديد، إِلَّا طبقة (أو تحالف طبقي) من نوع جديد. ويُشْتَرَطُ في هذه الطبقة الجديدة (أو التحالف الطبقي الجديد) أن تكون هي الأكثر تَـقَدُّمًا في المُجتمع. أما إذا لم نُـغَيِّر شيئًا في ميزان القوى الطبقي، وفي الأدوار التي تـقوم بها مختلف طبقات المُجتمع، فالاحتمال الأكبر هو أننا سَنَبْقَى عند نفس النقطة من تطوّر التاريخ، وسنبـقى نُدُور في حلقة مُفْرَغَة، دون القُدرة على الخلاص من الاستبداد، والفساد، والاستغلال الرأسمالي المُفرط.
وَنَسْأَلُ أنصار شعار «الملكية البرلمانية»: في حالة فَرَضِيَة تحقيق «المَلكية البرلمانية»، وحتى إذا أعطينا سُلُطَات المَلك إلى رئيس الوزراء، ما هو السِرُّ (في شعار «المَلكية البرلمانية») الذي سَيُعَالِجُ فجأةً كل المشاكل البِنْيَوِيَة، وكل المُعَوِّقَات المَأْلُوفَة، في النظام السياسي القائم؟ وكيف سَتَـتَـحَـقَّـقُ فَجْأَةً مطالب «الحُرِّية»، و«العَدالة المُجتمعية»، و«دولة الحقّ والقانون»، و«ربط المسؤولية بالمُحاسبة»، و«مُكَافَحَة الفساد»، و«استقلال القضاء ونزاهته»، و«محاربة نهب ثروات البلاد»، إلى آخره؟ ومَا الذي سَيُحَوِّلُ فَجْأَةً المسؤولين الكبار من فَاسِدِين إلى نَزِيهِين؟ ومَا الذي سَيُحَوِّلُهم من مُسْتَبِدِّين إلى دِيمُوقراطيين؟ ومَا الذي سَيُطَوِّرُ الرأسمالية في بلادنا من حالة الإِفْتِرَاس والتَبَعِيَة لِلْإِمْبِرْيَالية، إلى حالة المُوَاطَنَة والوَطَنِيَة؟ وكيف يمكن أن تتغيّر نوعية التنمية الاقتصادية؟ وكيف ستزول هَيْمَنَة الإمبريالية الغربية، وهيمنة الرجعية العربية البترولية، على البلاد؟ لَا نجد، إلى حَدِّ الآن، أجوبة واضحة لَدَى أصحاب شعار «المَلكية البرلمانية». ولَا يتعمّق أنصار شعار «المَلكية البرلمانية» في تحليل طبيعة النظام السياسي القائم. ولَا يُوجد في شعار «المَلكية البرلمانية» مَا يَضْمَن التَخَلُّص من مِيزَات الاستبداد، والفساد، والتَبَعِيَة، والرأسمالية المُفْتَرِسَة، والتي هي مِيزات متجذِّرَة في طبيعة هذا النظام السياسي القائم.
وحتى في حالة افتراض النَّجاح في إعلان مُفَاجِئ لِقِيَام «المَلَكِية البرلمانية» (دون إحداث تغييرات كافية في تلك العناصر المُحَدِّدَة لنوعية النظام السياسي القائم)، سَتَنْحَصِرُ تأثيراتها في حدود إعادة توزيع بعض السُّلَط فيما بين المَلِك وفِئَات متنوّعة من الطبقة السَّائدة حاليًّا، والتي هي مُنَاصِرَة له، أو حَليفة له. كما ستنحصر في حدود إعادة توزيع السُّلط فيما بين المَلك (باعتباره رئيس الدولة)، وَوُزَرَاء الحكومة المُعْتَادِين، والذين هم كُلُّهُم مُخْتَارِين من بين «خُدَّام النظام» الأوفياء. مَعْنَى ذلك أن شعار «المَلكية البرلمانية»، في حالة إذا مَا نجح تطبيقه، فإنه لن يَتَـعَدَّى حُدود تَعْوِيض رئيس دولة مُطْلَق، وَوِرَاثِي، ورأسمالي، بِرَئِيس حُكُومَة مُطْلَق، ومُنتخب، ورأسمالي، ومُتَغَيِّر (تَبَعًا لِتطوّر الانتخابات البرلمانية). بينما الآلِيَات التي كَانت تَتَحَكَّمُ في انتخاب، وفي تَعْيِين، هؤلاء الوزراء، ”خُدَّام النظام“، سَتَبْقَى كما كانت في الماضي. بالإضافة إلى أن الطبيعة المُفْتَرِسَة لأفراد النُخْبَة، ولأفراد الطبقة السياسية، ستبقى هي أيضًا كما كانت في الماضي. لأن شعار «المَلكية البرلمانية» لَا يتطرّق إلى مَوْضُوع تغيير الآلِيَات (القانونية وغير القانونية، الظاهرة والسِرِّيَة) التي تُسْتَعْمَلُ عَادَةً في تَحْدِيد الوزراء، ورئيس الوزراء.
ونسأل أنصار شعار «الملكية البرلمانية»: ما هي المهام السياسية التاريخية التي يجب على القوى التقدمية أن تُنجزها في المرحلة التاريخية الحالية؟ ومن هي الطبقة (أو التحالف الطبقي) التي هي مُؤَهَّلَة لِتَحْـقِيق هذه المهام التاريخية المَرْجُوَّة؟ وكيف تَتَوَزَّعُ مُختلف الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، والتيارات، والمُؤسّـسات، في مجال خِدْمَة مصالح مُختلف الطبقات المُجتمعية؟ وهل يلزم أن نذكّر أن مهمّة التحرّر من مَوْرُوث القُرون الوُسْطَى، ومن رَوَاسِب الإقطاعية، ومُهمّة تغيير النظام المَلَكِي المُطلق، أو دَمَقْرَطَتِه، هي مُهِمَّات مطروحة أساسًا على طبقة «البرجوازية الوطنية». لكن هذه «البرجوازية الوطنية» تظهر إلى حدّ الآن أنانية، أو انتهازية، أو تَبَعِيَة، أو مُسْتَلَبَة، فتعجز على تحقيق هذه الطُمُوحَات. كما تظهر «البرجوازية الصغيرة»، وكذلك «الطبقة العاملة»، مُشَتَّتَيْن، ومُسْتَلَبَتَيْن، وفَاقِدَتَيْن للحدّ الكافي من الوعي الطبقي اللازم. ويظهر أن الإمبريالية (خاصة الفرنسية والأمريكية) لَا تَتَحَمَّلُ بأن تتحرّر شعوب شمال إفريقيا من التَبَعِيَة للإمبريالية. فما هي الطبقة (أو التحالف الطبقي) البديلة القادرة على تحقيق هذه المهام التاريخية؟ نَرَى أن أصحاب شعار «الملكية البرلمانية» لَا يُجِيبُون بَعْدُ على مثل هذه التساؤلات.
ويُوَافِقُ على «سقف المَلكية البرلمانية» الأحزاب الثلاثة في «فِيدِيرَالية اليسار». وهم: «الحزب الاشتراكي المُوَحَّد»، و«حزب الطليعة»، و«حزب المؤتمر الاتحادي». ويظهر أن «حزب الاشتراكي الموحد» يُراهن أكثر من باقي أحزاب «فيديرالية اليسار» على شعار «الملكية البرلمانية».
وفي الساحة السياسية، تَتَـفَاوَتُ المَواقف السياسية من «المَلكية البرلمانية». فَمثلًا عبد الإله بنكيران، زعيم «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي، يرفض أي تَقْلِيص للصلاحيات الحالية المنسوبة للمَلك. ونبيل بن عبد الله، الكاتب العام لِـ «حزب التقدم والاشتراكية»، لَا يقبل «الملكية البرلمانية» إِلَّا إذا بقيت فيها ”وزارات السيادة“ تحت الرِّئَاسَة المُباشرة والفعلية لِلْمَلك. [ومن أبرز و”زارات السيادة“: وزارة الداخلية، والأمن، والخارجية، والدفاع، والعدل، والأوقاف الإسلامية]. بينما «حزب الاشتراكي الموحّد» يُعطي لِمْفُهوم «المَلكية البرلمانية» معنى نقمل مجمل سُلطات المَلِك إلى الحكومة.
وما دام حَامِلُو شعار «الملكية البرلمانية» يَنْفُرُون من استعمال المناهج الماركسية في تفكيرهم السياسي، سَيَصْعُبُ عليهم استيعاب مُعطيات الواقع المُجتمعي الطَّبَقِي. وكل من يظنّ أن المُجتمع مُحَرَّك فقط من طرف أشخاص وجماعات، وليس مُهَيْكَلًا ومَسُودًا من طرف طبقات مُجتمعية، سَيَسْتَعْصِي عليه تصوّر وتطبيق استراتيجية نضالية تأخذ بعين الاعتبار الواقع الطبقي للمجتمع. ولَا يُعْـقَل أن يَظُنَّ بعض الفاعلين السياسيين أنهم «اشتراكيون»، وأن يرفضوا في نفس الوقت دراسة المناهج الماركسية، والاسترشاد بها. وإذا مَا وُجِدَ أشخاص يعتبرون مناهج الماركسية غير مُكْتَمِلَة، فَمَا عليهم سِوَى تَطْوِيرها وإغناءها. ومن لَا يعمل بمناهج ماركسية، يُحْتَمَل أنه يعمل بمناهج أخرى، قد تكون ”لِيبِيرَالِيَة“ أو بُورْجْوَازِيَة. ومن يتناول قضايا المُجتمع بِمَنَاهِجَ بُورْجْوَازِية، يُحْتَمَل أن يَسْقُطُ في تصوّرات سطحية، أو عَدِيمَة المَنْفَعَة، في مجال تغيير المُجتمع وتَثْوِيرِه. وهدفنا في المرحلة التاريخية الحالية، ليس هو استبدال أشخاص مسؤولين بأشخاص آخرين، يُفْتَرَضُ فيهم أنهم سيكونون أحسن مِمَّنْ سَبَقُوهم، بل الغاية هي تغيير «النظام السياسي»، بمعنى تـغيير المُجتمع في مُجْمَل مُكَوِّنَاتِه. وإلَّا بَـقِينَا نُدُور في حلقة مُفرغة.
واستفادةً من تجربة ”انتفاضة“ تُونس التي انطلقت في يناير 2011، نلاحظ أن هذه ”الانتـفاضة“ تعرّضت لِلتَحَايُل والمُرَاوَغَة وَالاِنْتِكَاس. حيث أسقطت ”الانتـفاضة“ رأس النظام السياسي التونسي (زين العابدين بن علي)، لكنها لم تنجح في إحداث تغيير جذري في نوعية النظام السياسي القائم. لأن الطبقات الشعبية لم تكن بما فيه الكفاية لَا وَاعِيَة، ولَا مُنَظَّمَة، ولَا مُعَبَّئَة، ولَا مُبَادِرَة. ولأن أفراد الطبقة السائدة القديمة في تونس بَقُوا هم المُؤَهَّلِين للسيطرة على الإعلام، والبرلمان، والحكومة، والمجالس المحلية. فاستمرّ النظام السياسي القديم بفاعلين سياسيين جُدد. وتغيّر شكل النظام، دون أن تتـغيّر طَبِيعَتُه العَمِيقة. وانتقلت تُونس من «جُمهورية اسْتِبْدَادِيَة» إلى «جُمهورية هَجِينة»، مَا هي جمهورية «بَرْلَمَانِيَة» مِئَة بالمِئَة، ولَا هي جمهورية «رئاسية» مِئَة بالمِئَة. واستمرت تُونس في نَوْع نَاعِم من الاستبداد، والفساد، والتَبَعِيَة للإمبريالية. وَوَاصَلَت الحُكومة الجديدة تقريبًا نفس السياسات الاقتصادية الرأسمالية المُفْتَرِسَة والتَبَعِيَة. ولاحظنا حُدُوثَ انْتِكَاسَة مُشَابِهَة في تجربة "انتـفاضة" مصر. حيث أطاحت "الانتفاضة" في مصر برأس النظام (حُسني مبارك)، لكن، بعد صراعات مُعَـقَّدَة، بعضها ظاهر وبعضها خَفِيٌّ، عاد النظام السياسي القديم بِفَاعِلِين سياسيِّين جُدُد (يَتَرَأَّسُهُم عبد الفتاح السِّيسِي)، في شكل «جمهورية رئاسية» استبدادية، تحت نفس الهيمنة القديمة للجيش. وقد كان الحراك في مصر (في بداية سنة 2011) أضخم وأعنف من الحراك في تونس، لكن نتائج الحراك المُحَصَّلة في مصر بقيت أقل من مثيلاتها في تونس. لأن الطبقات الشعبية في مصر لم تكن مُؤَهَّلَة (بما فيه الكفاية) لَا ثـقافيا، ولَا تنظيميا، ولَا نضاليا. ولأن الجيش يُهيمن على الدولة في مصر أكثر مِمَّا هو الحال في تونس. وَيُحْتَمَل أن تُؤَدّيَ نفس الأسباب إلى نفس النتائج، في الحِرَاكَ الجماهيريَ الثوريَ الذي اشتعل حديثًا في كلّ من الجزائر والسُّودَان، خلال شهر أبريل 2019. حيثُ يُخَيِّمُ خطر حُدُوث اِنْتِكَاسَات في كلّ من الجزائر والسودان، تكون شَبِيهَة لِتلك التي حدثت في تونس ومصر. وأتمنى أن تُلْغِيَ الأحداث المقبلة مثل هذه التخوّفات.
وقد حرصنا هنا على نَـقد «سقف المَلكية البرلمانية»، لأنه يختزل استراتيجية كاملة غير مُصَرَّح بها. ويمكن لهده الاستراتيجية أن تَرْهَنَ مصير البلاد خلال عقود طويلة.
ما هي الخُلاصة؟ «تَسْقِيف» النضال الجماهيري المشترك بِـ «سَقْف المَلَكِية البرلمانية»، يؤدي موضوعيا إلى تَأْبِيد النظام السياسي المَلَكِي، وذلك بِغَضِّ النظر عن الظروف أو التطوّرات التاريخية المُحتملة. بينما لَا شَيء (إلى حدّ الآن) يُثْبِتُ أن هذا الخيار الاستراتيجي هو الأفضل. هل يمكن إخراج المُجتمع من التخلّف، والاستبداد، والفساد، والرأسمالية المُفترسة، دون إخراجه من النظام السياسي المَلكي؟ هذه الأطروحة ليست مُثْبَتَة، ومن المُسْتَبْعَد أن يمكن إثباتها. و«التَسْقِيف» المُسْبَق والدَّائِم للنضالات الجماهيرية المشتركة بِـ «سَقْف الملكية البرلمانية»، يَكْبَتُ الطاقات الثورية للشعب، ويُغْلِقُهُ في عُلْبَة تَاريخية ضَيِّقَة، أو خَانِـقَة. بينما الخِيَار الأحسن هو تحرير الطاقات الثورية لَدَى الشعب، وترك الآفاق السياسية مفتوحة على جميع الاحتمالات الممكنة. والتطوّر التاريخي الأكثر احتمالًا في المُستقبل هو أن تحرّر الشعب من التخلّف، والاستبداد، والفساد، والرأسمالية المُفترسة، سيمرّ عبر تجاوز الملكية. (ويمكن قَوْلُ أشياء مُمَاثِلة عن «الجمهورية الرئاسية»، لأنها تظهر مثل «مَلَكِيَة» غير وِرَاثِيَة، حيث يُخْتَار فيها «مَلِك» مُسْتَبِدّ [الرئيس] بالانتخاب العام).
رحمان النوضة (18 أبريل 2019).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط